الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية حاكم….حفريات ادبية في اغوار التأريخ

محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)

2021 / 11 / 12
الادب والفن


رواية حاكم.....
حفريات أدبية في أغوار التاريخ
ليس سهلاً الغوص في أعماق التأريخ وتشخيص طبقاته وتحديد فقراته ومن ثم التعرف على سماة ما يتخذُ الروائيّ منها أبطالاً لمشروعه السردي والتنقيب في سمات العصر المُحَدّد إعادة إحيائه. سهّل لنا يوسف زيدان في روايته "حاكم...جنون إبن الهيثم" العودة الى ماضٍ بعيد وإستدرج القاريء معه الى غياهب الأزمان وإستنطاق كائناته البشرية والعيش بينهم دون إظهار حالات الغربة ومشاعر الإغتراب في مسايرتهم.
رواية حساسة وذات هارمونية متجانسة من حيث التنظيم الزمني والتحولات المكانية ووحدة الفكرة الرئيسية المقصودة معالجتها في النهاية. صادفتُ الكثير من الأعمال الروائية لكُتّاب عِدّة إستخدموا تقنية التناص والتزاوج الزمني والتقارن الحقبي للأزمان، ولكن ما لاحظتها في ال"حاكم" تقنية مختلفة عن كل هذه، حيث الزمن الحالي(الزمن الأول) هو البناء الفوقي لتلك السنوات الأربعين أو الخمسين(الزمن الثاني) التي غاص بنا الدكتور زيدان معه اليها والتي أصبحت أركيولوجياً طبقة من طبقات التأريخ لشعب مصر وشعوب المنطقة، هذا ما أسميه أنا كسيكولوجيّ بتقنية النماذج البدئية التي تناولها كارل يونغ في تحليلاته النفسية.
لم يعد التأريخ عند الدكتور زيدان مختزلاً في السرد الحكائي بقدر ما هو تفحيص دقيق لمكامن الماضي ودهاليزه، والأعقد من ذلك هو إقحام التأريخ أدبياً بحيث يجعل منه كروائي مواضيعَ ذات صلاحية للتعاطي معها من جانب ومن ثم العمل على إعادة الهيبة له من خلال الرواية من جانب آخر، أو بالأحرى صناعة نوع من اللذة في مجريات الماضي السحيق وذلك بإعادة إحياء أبطاله وأشخاصه بغية إكمال صورة التأريخ بحيث تضم وحدة موَحّدة بين وحدات الزمن(الماضي-الحاضر-المستقبل).
"راضي" وهو البطل المقدم للدراسات العليا-ماجستير في دراسة المخطوطات التأريخية تناسخ روح "مطيع" كي يعود الى الأجداد ويعيش بينهم بغية إكتشاف عصر بأكمله قد حكمه الفاطميون بحيث يتقصي في هذه العودة الواقع السياسي لأهل مصر وكذلك الحالة المجتمعية من تقاليدٍ وأعراف وتعايشٍ بين مكونات هذه الأمة في حينها، ولا يكتفي بهذا وذاك حيث ينتقل الى البنى النفسية لشخصية اصحاب السلطة والجاه والتكوين السيكولوجي للفرق والطوائف الإجتماعية والدينية والمذهبية، الى أن يصل بنا زيدان في غوصه هذا الى النظم الإقتصادية وكيفية إدارة المال والأسواق والنظام الصحي المبتلي بأمراض وجوائح فتكت أهل ذلك الزمان.
راضي أول مَن وصل من قرية"نجع العِزوة" من قلب الصعيد الى الجامعة دخل تجربة العشق التعلقي الحاد مع "أمنية" فتاة من أهل المدينة بحيث وصلت به الحال الى نوع من اللاتوازن النفسي بحيث أنهكه التعلق هذا، ولكن بتركه للحاضر والبدء في رحلته التنقيبية لروح الأجداد غيبه عن العشق الذي كاد أن ينسيه ماضيه وأدخله في روحانية "مطيع" وجعل منه ثانية متيماً ل"تمني" و"صفا" والتحول من الحالة العشقية هذه الى عشق الأرض والناس والنظام ومن ثم التعلق بإبن الهيثم المرمز زيدانياً للنفوس الطاهرة التي تسعى الى سيادة العلم وكونيته وكونية البشر.
رواية ال"حاكم" هي نص أدبي في تماسكه ولغته الشعرية ولحمته الرومانسية، وهي نص تأريخي أيضاً وذلك في إحضاره حقبة زمنية بكامل موجوداته وجعل أفرادها أبطالاً وشخصيات لهذا العمل الروائي بحيث لم يعد مستوراً على القاريء معرفتهم. أدب يقتحم أغوار التأريخ ويعيد إستنطاقه، ويقدم لأهل الأكاديميا درساً من نوع آخر يُصَرِّح بأن التأريخ بلغة الأدب والأدب بلغة التأريخ هو أسلوباً راقياً لإعادة الروح الى النص الروائي التقليدي وإعادة الروح الى المادة التأريخية كمواضيع قابلة لعلم التأريخ الوصول اليها.
ينقل لنا ال"حاكم" دروساً غير متعضة منها الأجيال، سواء في الحكم وإدارة السلطة والتلذذ بها، والإنزلاق الى ظلمات الطغيان والتمثيل بالإنسانية وقيمة البشر، أو يصور لنا النظام البدائي من القيم السائدة آنذاك وجوازها بالتمييز بين الأرواح والإستخفاف بهذا المخلوق المسمى إنساناً. عِبَر الرواية هي العقلانية وصناعة بشرٍ من نوع آخر يمكنه العيش في الحاضر والرضا عن الماضي الذي لم يعد بإمكاننا إنتاجه والبقاء في أوحاله الى الأبد بقدر ما نسافر من خلاله الى المستقبل.
رواية في غاية الروعة والجمال الصوري واللغوي والنسج السردي المتناسق، اسلوب كتابي جذاب بحيث يجبرك على أن تراقب الجديد من أعمال الدكتور زيدان وكذلك العودة الى الوراء بحيث يبحث بك هذا الأسلوب عن أعماله السابقة من رواياته (فردقان ونور وغوانتانامو ومحال وظل الأفعى والنبطي وعزازيل).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع