الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطوفان والدورات الكونية

احمد البرهو
باحث

(Ahmad Barho)

2021 / 11 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يمثل حدث الطوفان احد اهم العناصر المكونة للبناء العام للاساطير في ثقافات العالم حيث يتكرر ذكره في النصوص الرافدينية والهندوسية والزردشتية والمندائية والنصوص الابراهيمية ويمثل هذا الحدث نهاية فصل وبداية فصل جديد في تاريخ البشرية

والطوفان ليس إلا جزء من صورة اكبر لمايعرف بالدورات الكونية

ولو أخذنا النصوص الرافدينية والهندوسية كنموذج للمقارنة بين حدث الطوفان يمكن أن تتوضح علاقته بالدورات الكونية وموقعه فيها

في البدايه فأن اسطورة اتراحاسيس(نوح) الرافدينية تخبرنا ان الالهة الكبار الانوناكي بعد أن شقيوا بالأعمال التي كانت موكلة إليهم قرروا ان يلقوا بهذا العبء إلى الايجيجي السبعة والذي يعني اسمهم المراقبون أو عيون السماء ولكن أيضآ بعد مدة من الزمن انهكتهم تلك الأعمال بدورهم فثاروا على الانوناكي

ولتحريرهم من تلك الأعمال اجتمع الالهة وقرروا خلق الانسان ليحمل تلك الأمانة والقاء هذه الأعمال عليه فذبحوا احد الالهة وخلط دمه بالطين ثم قامت الالهة مامي بعجن ذلك الخليط وقطعته إلى اربع عشر قطعة سبعة ذكور وسبع إناث من الحكماء

وأرسلت للبشرية النواميس والمعارف من خلال الحكماء السبعة (الاومانو أو الابكالو) الذين علموا الناس الحكمة واسطورة الخلق عندما في الاعالي وهؤلاء الحكماء السبعة لهم أشكال هجينة كنصف انسان ونصف سمكة أو برأس طائر

وبعد مدة 1200سنة حيث تكاثر البشر وازداد عددهم بدأ ضجيجهم يزعج الالهة فقرروا إنهاء الجنس البشري

ولكن الاله الحكيم ايا الذي يسكن في عمق محيط الابسو قرر ان ينقذ الجنس البشري بطريقة غير مباشرة حتى لا يخون الالهة الاخرين فظهر في الحلم لاتراحاسيس واخبره بما قررته الالهة وطلب منه أن يقوم بصناعة سفينة ويضع فيها من كل بذرة حية من حبوب وحيوانات واهله واقاربه ونفذ ماطلبه منه الاله ايا
وعندما بدأت الأمطار بالهطول وغطت المياه وجه الأرض حتى أهلكت كل الأحياء كان هو ومن معه بأمان في السفينة وانتظروا حتى استقرت السفينة على قمة جبل وبدأ يرسل الطيور ليستكشف فيما اذا ظهرت اليابسة وعندما ارسل غراب ولم يعد علم ان المياه قد انحسرت فاخرج من معه في السفينة من حيوان ونبات واهله واصبح بذالك هو الأب الجديد للجنس البشري بعد أن هلك الاخرون

اما النصوص الهندوسية فتخبرنا عن اسطورة الطوفان

بأن الافتار الاول (السمكة ماتيسا) للاله الحافظ فيشنو ظهر لاحد الملوك وهو يغسل يديه في النهر وطلبت السمكة من الملك ان يساعدها فاشفق عليها ووضعها في جرة ماء ولكن السمكة نمت بشكل اكبر مدة فوضعها في وعاء اكبر ثم زاد حجمها فوضعها في بئر ثم نمت اكثر فوضعها في خزان كبير ثم نمت اكثر فوضعها في النهر حتى أصبح النهر غير كاف فوضعها في المحيط حتى كاد ان يملأ حجمها المحيط عندها قرر الاله فيشنو ان يكشف عن نفسه للملك وابلغه بأن طوفان مدمر سيأتي وسيهلك البشرية قريبا وأمره ببناء السفينة
فبنى الملك السفينة ووضع فيها تسعة انواع من البذور والحيوانات وعائلته والحكماء السبعة
وعندما بدأ الطوفان ظهر الاله فيشنو على هيئة سمكة لها قرون ومعه افعته شيشا التي ربطها كحبل إلى قرونه والى السفينة واخذ يجرها حتى رست على قمة جبل وعندما انحسر الماء خرج الملك وعائلته والحكماء السبعة(المانو) لإعادة إسكان الأرض واعمارها من جديد وصار هذا الملك هو الأب أو (المانو) الجديد للسلالة البشرية

وهكذا فأن النقاط التي نجدها مشتركة بين الاسطورتين

اولآ: نلاحظ في الاسطورتين ان الاله الذي انقذ البشرية لم يظهر بصورة مباشرة للاب الجديد للسلالة البشرية

ثانيا: كل من الاله ايا وفشنو الذي ساعد بانقاذ البشرية نجد انه يسكن ضمن نفس الجزء من البناء الكلي للكون

حيث يقسم الكون في الاساطير الرافدينية إلى السماء العليا التي يسكنها (انو) ووسط العالم حيث جبل الالهة يسكن ملك الالهة (انليل) وفي قاع العالم يسكن الاله (ايا)

نفس البناء يتكون منه الكون الهندوسي حيث في السماء العليا يسكن (براهما) وفي وسط العالم يقيم ملك الالهة (اندرا) وفي قاع العالم يجلس الاله فيشنو على افعته شيشا

وهنا نشير إلى أن جميع هؤلاء الالهة ليسوا الهة بالمعنى الذي نفهمه والكلمة الاصح لوصفهم انهم أرباب فهم مجرد كائنات بقدرات فائقة ويعيشون لفترات أطول مقارنة بالجنس البشري حتى يبدون وكأنهم خالدون ولهم وظائف خاصة ضمن بنية الوجود

اما الاله الحقيقي فهو كما تسميه النصوص الهندوسية (البراهمن) أو المطلق والذي تخضع له كل العوالم السبع السماوية والسبع الأرضية بما فيها هذه الكائنات الفائقة القدرة أو الأرباب

ثالثا: ان البداية الجديدة للبشرية في الاسطورتين ترتبط بوجود سبعة من الحكماء سمتهم النصوص الرافدينية (الاومانو) أو الابكالو وهم بدورهم من قام بنقل المعارف والعلوم للبشرية وعلموا البشر اسطورة الخلق "عندما في الاعالي"

وسمتهم النصوص الهندوسية (مانو) وهم الذين كتبوا نصوص الفيدا وعلموا البشرية الحكمة والعلوم أيضآ

ولكن للحكاية تتمة في النصوص الهندوسية حيث أن هولاء المانو الذين يتم تمثيلهم ببنات نعش السبعة يتغيرون ضمن دورات زمنية اكبر تكون حياتنا بالنسبة لهذه الدورات على الأرض مجرد ثواني

إذا ان هناك مايعرف بيوم الرب براهما (كالبا) وخلال هذا اليوم يوجد اربع عشر عصر وفي كل عصر هناك مانو جديد

ففي بداية كل يوم من أيام براهما يقوم بخلق اول مانو والذي يعادل (ادم) ليكون اب للبشرية ثم مع كل عصر يتم افناء البشرية ويكون هناك مانو جديد حتى اكتمال يوم براهما

اي ان هناك 14 عملية إفناء للبشرية خلال كل يوم من أيام براهما و14 بداية جديدة

تسمى عملية التدمير هذه بال(برالايا) اي الانحلال ويتم فيها تدمير العوالم العشر الدنيا جميعها بما فيها عالم الهة الجبل اي (السبع عوالم السفلى واول ثلاث عوالم عليا) وتبقى فقط العوالم الاربع العليا

وهنا نجد إشارة في ملحمة جلجامش عن صعود الالهة الصغار الذين يسكنون السموات الأدنى إلى سماء الاله(انو) اي السماء العليا عند حدوث الطوفان

"فذعر الالهة من هذا الطوفان
وابتعدوا وصعدوا إلى سماء انو
والالهة ركعوا كالكلاب وباتوا خلف جدار هذا العالم"

و بالإضافة لهذه الدورة فإنه توجد دورة كونية كبرى توازي مفهوم القيامة في الاديان الابراهيمية تسمى بالانحلال العظيم (ماها برالايا) وهذه الدورة تحصل في اليوم العظيم (ماها كالبا) حيث يتم تدمير العوالم الاربع عشر جميعا(السبع سماوات والسبع اراضين)

وهنا فأن مفهوم الدورات الكونية كان أيضآ معروف في بلاد الرافدين وعرفت تلك الدورات (بالسار) حيث يحدث في نهاية الدورة طوفان او حريق

وذالك اذا اجتمعت الكواكب السبعة في برج السرطان فتعود عندها كل الأشياء إلى أصلها المائي

اما اذا حدث الاجتماع في برج الجدي فأن كل الأشياء تتحول إلى نار وتفنى

أيضآ نجد ذالك الارتباط بين البداية الجديدة للبشرية والحكماء السبعة الذين علموا البشرية المعارف والحكمة

يظهر في الموروث الابراهيمي حيث أن النبي إدريس وهو (السابع بعد ادم) والذي يعرف بأنه اول من خط بالقلم وعلم البشرية علوم الحكمة والحساب والفلك والخيمياء
قد أقام يدور في فلك السماء السابعة ويراقب مادونها من الافلاك وزمن اكتمال دورة كل فلك منها

فعلم ان طوفان عظيم قادم سيهلك البشرية وينسى فيه العلم فنزل واختار بعض الناس وعلمهم تلك المعارف والعلوم وامرهم بنقشها على الحجارة والصخور

واخبرهم ان زمن حدوث هذا الطوفان يكون عند اجتماع الكواكب في برج السرطان ثم رفع إدريس إلى السماء الرابعة (اي ضمن العوالم الاربع العليا) التي لا يتم تدميرها الا في اليوم العظيم (ماها كالبا)

ويتضح من تلك الاساطير أن حدث الطوفان حدث دوري ليس فقط في تاريخ البشرية بل جزء من دورات كونية أعلى وأدنى تهلك فيه حتى الهة الجبل

فكان مهلك للعالم الذي يسكنه (نوح/اتراحاسيس) بكليته ولما دونه وفوقه من العوالم ولم يبقى الا العوالم الاربع العليا

وهذا ما تشير اليه أيضآ ملحمة جلجامش فعندما ذهب في رحلته للبحث عن الخلود وقابل اتراحاسيس كان يقيم في عالم غير الذي أتى منه جلجامش في مكان خلف الجبل الذي تصل قمته إلى قبة السماء وينحدر للعالم الاسفل والذي يحرسه الرجل العقرب (وهذا الجبل هو الجبل المسمى بجبل الاوليمب في الاساطير اليونانية وجبل البورز في الزردشتية وجبل ميرو في الهندوسية وجبل صافون في الاوغاريتية) الذي يقيم فيه الالهة الصغار

وفي النهاية نذكر شيء من سفر نوح لابن عربي حيث يقول

" ثم إن نفسك الامارة بالسوء وشيطانك ودنياك وهواك لم يزالوا يسخرون بك مادمت تنشئ هذه السفينة نشأة النجاة"

فإلى أين كان سفر نوح بتلك السفينة ومما صنعها وماسر ذلك الماء؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا