الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكرى فنان عظيم

سميح مسعود

2021 / 11 / 15
الادب والفن


كانت مدينة ملاهي الكويت في ذلك اليوم الربيعي مكتظة بالأطفال والأهالي ، تزهو بألعابها، وتنبعث من اقسامها العديدة موسيقي عالية ... توقفت مع أولادي الثلاثة في قسم لعبة "الإنزلاق" المائي ... الإنزلاق فوق سطح الماء الجاري عبر قناة طويلة على درجة عالية من الارتفاع تتدفق منها أصوات المياه ، وهي تنحدر من علٍ كانحدار السيول الهادرة ... دخل أطفالي الثلاثة هذا القسم ، انضموا الى صف طويل من الاطفال بانتظار دورهم للصعود على سلم الى أعلى نقطة في القناة ... يتوالى عادة حشد الاطفال في هذا القسم ، تمتلئ القناة بهم ، ينزلقون فيها على إيقاع اصواتهم العالية ممزوجة بصوت جريان كميات ضخمة من المياه .
طالعت عن بعد أولاد ي وهم ينتظرون دورهم للصعود إلى أعلى القناة ، وجدتهم يتجاذبون اطراف الحديث مع أطفال يقفون على مقربة منهم … في تلك اللحظة توقف بصري عند شخص كان يقف على مقربة مني ، عرفته لتكرار ظهور صورته في وسائل الاعلام العربية ،إنه ناجي العلي ،الذي كنت أحمل صورته في ذاكرتي لإعجابي بفنه ،ولتقديري الكبير لجرأته في التعبير عن مواقفه الوطنية... اقتربت منه ثم حييته بتحية فبادلني التحية باحسن منها … انتقيت كلمات قلتها له تتناسب مع لقائي بفنان فلسطيني كبير ، عبرت له فيها عن إعجابي برسومه الموشومة بالحرارة والصدق والمعاني الوطنية السامية .
هكذا تعرفت عليه بالمصادفة … تجاذبنا أطراف الحديث ، علمت منه انه يزور مع أولاده مدينة الملاهي بين الحين والحين في عطل نهاية الاسبوع … أسعدني وهو يحدثني عن أهمية الألعاب في حياة الاطفال ، تابعت باهتمام كلماته عن اهمية إدخال السعادة في نفوس الأطفال … كانت كلماته متاّلفة من غير مغالاة مع فهم الفنان الحقيقي للحياة ، ينسجها من منوال محكم الأوصال، وتعبر عن مشاعر انسانية داخلية هادئة ،وعن قرب الاطفال من قلبه وأحاسيسه العميقة .
تطرقنا في حديثنا بحرارة وانفعال شديد إلى أيام ما قبل النكبة في فلسطين ، أعلمني أنه نزح عن فلسطين عندما كان مثلي في العاشرة من عمره ، لديه ولدي الكثير من الذكريات عن أيام الطفولة في فلسطين ، تثير في النفوس البهجة والسعادة ، كان حديثنا عن أيام طفولتنا قبل النكبة على صورة واحدة، عبرنا بها عن لحظات عزيزة غالية تدفء القلوب .
أثرت انتباهه عندما سألته عن قريته الشجرة بالجليل الشمالي ، وهذا هو ما أردت ، حدثني عنها بشغف كبير ، وعاطفة عميقة … وجدتها قابعة في أعماق روحه ، وفي سياق حديثه سألني عن اسم بلدي ، أجبته ان حيفا هي مسقط رأسي ، وقريتي اسمها بُرقة ، تنحدر منها أسرتي وأهلي وأ جدادي .
عندما سمع اسم بُرقة قال لي وقد غلبته نشوة الفرح :
- أهم استاذ من أساتذتي في مدرسة الشجرة من بُرقة اسمه حسين الدسوقي ، لم تستطع الأيام أن تمحيه من ذاكرتي ، إنه ذكرى مهمة من ذكريات وعيي الأول على الحياة الدراسية في سنواتي الباكرة .
أجبته بحماس واضح :
إنه أستاذي ايضا ، علمني بعد النكبة في مدرسة بُرقة ،وهو من أقاربي ، أمه بنت عم والدي وأكن له تقديرا خاصا بين الاساتذة الذين علموني في صغري .
ذكرت له ان استاذنا المشترك كان يحدث طلبته كثيرا عن قرية الشجرة وأهلها ، وعن معركتها التي استشهد فيها الشاعر الفلسطيني الكبير عبد الرحيم محمود ، وكان يكرر على مسمعنا بنغمة واحدة لا تتبدل ، قصيدة الشاعر الشهيد الشهيرة " ساحمل روحي على راحتي "، استطاع بها أ ن يرسخ في نفوس وعقول طلابه قاعدة وطنية صلبة .
أسعدني كثيرا استشعار حياة ايامنا الماضية من ذكرى استاذ مشترك لنا …



للأسف لم أتمكن من إبلاغ أستاذي حسين الدسوقي بأنه ساهم في تعليم تلميذ في مدرسة الشجرة من أعظم رسامي الكاريكاتير في العالم … كان استاذي يعيش في بُرقة ، وانا أعيش خارج الوطن في منافي الشتات ، وعندما زُرت بُرقة في عام 1995 لأول مرة بعد احتلالها ، كان استاذي حسين الدسوقي قد فارق الحياة ...عدم إخباره عن تلميذه ناجي تثير في نفسي حتى الان قدرا كبيرا من الاضطراب .
قبل سنوات قليلة شعرت برغبة للكتابة عن الراحل الكبير ناجي ، ولا أدري لماذا وجدتني أكتب عن حنظلة ، الذي ابتدعه ناجي في رسومه ، واستمر بالتعبيرعن الحقيقة الخالدة لناجي بعد استشهاده ورحيله … بحنظلة نحس بالأثر الذي تركه ناجي كفنان كبير ، وهو أثر يصعب على الباحث ادراك ابعاده وسبر أغواره لأنه الأعمق في تجربة ناجي الإبداعية .
نشرت مقالتي عن حنظلة في كتاب لي صدر عام 2012 عن دار فضاءات في عمان بعنوان " رؤى وتأملات " ونشرتها ثانية في كتاب جماعي صدر عام 2012 في عمان عن دار البيروني والصالون الثقافي الأندلسي بعنوان " نبضك ما زال فينا " بمناسبة مرور 25 عاما على رحيل فقيدنا الكبير ناجي ، شارك فيه مجموعة كتاب وشعراء من محبيه .
نعم ، نبض ناجي ما زال فينا بعد مضي سنوات طويلة على رحيله ، لان ناجي يعبر عن دلالات وطنية ، مؤثراتها في رسومه باقية حتى الآن ، وهذه معجزة فنية لا مثيل لها في مسيرة أي فنان اّخر ، ستتوالى إيحاءاتها في أذهان أجيال كثيرة قادمة الى ما لا نهاية ، ولن تنالها مخالب النسيان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني