الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة هي التي ستنقذنا

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2021 / 11 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


فتحت ثورة الإتصالات والمعلومات آفاقا واسعة لتداول الأفكار الفلسفية المجردة في الفضاء العمومي لاسيما في المجتمعات العربية الإسلامية التي وجدت في العالم الافتراضي متسعا من الحرية للتأمل والتفكير والكتابة والبوح بخواطرنا وآمالها ومخاوفها وأحلامها. فعلى مدى السنوات القليلة المنصرمة من ثورة الاتصالات والمعلومات لاحظت زخما مستمرا للقول الفلسفي وبالمقارنة مع زمن التواصل والاتصال التقليدي يمكن القول أن ثمة ثورة فكرية شاملة أخذت تزدهر في فضاء الفكر العربي الراهن إذ باتت صفحات الفلاسفة والكتاب الكبار محط استحسان الفاعلين الاجتماعيين في الفضاء العام من كل مكان ومن مختلف الأجيال فضلا عن الحضور المتزايد للمؤسسات الفكرية والمواقع الالكترونية والمنصات الفلسفية التي سهلت تواصل المشتغلين في حقول العلوم الإنسانية من مختلف التخصصات هذا الحضور المتزايد بأهمية الفكر والتفكير الفلسفي العقلاني لم يقتصر على الرأي العالم والأفراد والدوائر الثقافية والإعلامية والأكاديمية بل أضحى من اهتمامات النظم والمؤسسات الرسمية في مختلف الأقطار العربية فها هي المملكة العربية السعودية التي كانت الفلسفة وتدريسها عندها من المحرمات الكبرى تفتح المجال واسعا لممارسة التفكير الفلسفي للنخب والجمهور في منتديات تحمل اسماء رموز فلسفية ومنها منتدى سقراط الثقافي في الاحساء وكذلك أقرت وزارة التربية والتعليم السعودية كتاب التفكير الناقد مادة اساسية في منهج التدريس الاعدادي والثانوي وهناك دول عربية اخرى حذت حذوها وفي الدول التي كان للفلسفة حضورا رسميا فيها مثل مصر والجزائر وتونس والمغرب آخذت تخطو خطوات نوعية إلى الأمام فلم تشهد الجزائر في تاريخها لحظة ازدهار الفلسفة والتفكير الفلسفي كما هو حادث الآن.
فما الذي يفسر هذه الظاهرة النوعية في يقظة الوعي الفلسفي في المجتمعات العربية؟ وجوابي هو الإحساس بالحرية التي سنحت بها ثورة المعلومات والاتصالات الفضائية. الحرية تلك الكلمة المكتوبة على مركبة العواصف هي مفاتح السرد في ازهار الفكر والحوار والحلم والإبداع في كل مجالات الحياة إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، كما يقول كروبر "إن حاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية" وتلعب الحرية الأكاديمية دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتغييره وتقدمة وازدهاره.وهذا ما أوضحه امارتيا صن في كتابه (التنمية حرية)(مؤسسات حرة و إنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر) بقوله"أن الحرية هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع " وبدون أن تأمن الجامعة بيئة مناسبة للأساتذة والطلبة في ممارسة نشاطهم التعليمي والعلمي، فلا يمكن لها النمو والتطور والازدهار.هكذا نلاحظ أن حرية الجامعة واستقلاليتها المالية والإدارية والأكاديمية ليست من الأمور التكميلية والثانوية، بل هي أس الأسس ولب المسألة برمتها.لكن كيف يمكن للجامعة أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة؟!
تلك الحرية التي ارتبط حضورها بازدهار الإعلام الرقمي بوصفه: مجموعة من الأساليب والأنشطة الرقمية الجديدة التي تمكننا من إنتاج ونشر المحتوى الإعلامي وتلقيه، بمختلف أشكاله من خلال الأجهزة الإلكترونية (الوسائط) المتصلة بالإنترنت، في عملية تفاعلية بين المرسِل والمستقبِل. بحيث تكون جميع الوسائل والأدوات المستخدمة في إنتاج المحتوى الإعلامي من صحافة وأخبار وغيرها من الأدوات ومصادر المعلومات هي بشكل رقمي ومخزنة على وسط الخزن الإلكتروني وظهور المرحلة التفاعلية وتتميز بوجود نوع من التحكم الانتقالي من جانب أفراد الجمهور في نوعية المعلومات التي يختارونها، أي ان الفرد يمكن أن يكون رئيسا لتحرير المجلة التي يختارونها، مثل الفيس بوك والمدونات بأنوعها والفديوتيكس والتلفزيون الرقمي، أي أصبح الجمهور مشاركا في وسائل الإعلام بدلا من أن كونه متلقيا في الإعلام التقليدي.
لا شك أن وظائف الإعلام الجديد قد تنوعت واكتسبت أبعادا جديدة، إذ يرصد بعض الباحثين أربع عشرة وظيفة أو مهمة رئيسة أو فرعية لوسائل الاتصال الجديدة وهي: “مراقبة الناس والتعلم منهم، توسع آفاق التعرف على العالم، توسيع التركيز والاهتمام، رفع معنوية الناس، خلق الأجواء الملائمة للتنمية، يساعد بصورة غير مباشرة على تغيير الاتجاه، يغذي قنوات الاتصال بين الأشخاص، تدعيم الحالة الاجتماعية، توسيع نطاق الحوار السياسي، تقوية المعايير الاجتماعية، تنمية أشكال التذوق الفني والأدبي، يؤثر في الاتجاهات الضعيفة ويقويها، يعمل مدرسا ويساعد في جميع أنواع التعليم، وقد وّلد تطور الحاجات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات المختلفة”.
من نافل البيان إن خطاب الإعلام الجديد بما هو تعبير عن مجموعة تكنولوجيات الاتصال التي تولدت من التزاوج بين الكمبيوتر والوسائل التقليدية للإعلام، والطباعة والتصوير الفوتوغرافي والصوت والفيديو، قد أحدث ثورة كاملة في عالم الناس الراهن بما يمتلكه من وسائل وأدوات وسائط وطرق جديدة كلية في مجال التواصل والاتصال فعلى صعيد البنية التقنية لمؤسسة الإعلام الجديد يمكن تمييز أربعة عناصر أساسية هي:
أولا: شبكة الإنترنت أو ما يسمى بالشبكة العنكبوتية بمختلف تطبيقاتها بوصفها الملمح الثوري الأبرز في الإعلام الجديد، فضلا عن كونها رمز التجديد والجّدة ليس في مجال الميديا الجديدة فحسب بل وللحضارة الراهن، حضارة الموجة الثالثة كما ذهب الفين توفلر.
ثانيا: الأجهزة المحمولة، الجوالات بمختلف أنواعها وتطبيقاتها بما في ذلك أجهزة قراءة الكتب والصحف.
ثالثا: منصات الإعلام التقليدية بعد أن أعيد تجديدها وتطويرها وتأهيلها بما يتسق مع استراتيجيات الإعلام الجديد ووظائفه وأهدافه ومنها الصحافة والراديو والتلفزيون والسينما والقنوات الفضائية المتصلة بالأقمار الصناعية، إذ بات ربع عدد الأقمار الصناعية (13000) حول العالم في خدمة الإعلام الجديد، حيث بلغ عدد القنوات التلفزيونية الفضائية في العالم حوالي (31500).
رابعا: الإعلام الجديد القائم على منصة الكمبيوتر ويتم تداول هذا النوع إما شبكياً أو بوسائل الحفظ المختلفة مثل الاسطوانات الضوئية وما إليها وتشمل العروض البصرية وألعاب الفيديو والكتب الالكترونية وغيرها.
وهكذا يمكن القول إن الإعلام الجديد وتأثيره اليوم قد بلغ كل مكان يقطنه الإنسان في كوكب الأرض عبر ومن خلال شبكة هائلة من الوسائط والطرق والأدوات والقنوات المتزايدة التطور والاضطراد بوتيرة متسارعة بما تتسم به من خصائص وسمات بالغة الجدة والحداثة منها:
1 – الحرية الإعلامية: بمعنى حق كل فرد إنساني وحريته في امتلاك القدرة الإعلامية واستخدمها بكل الوسائط الممكنة بدون رقيب أو حسيب، وبذلك سقطت نظرية (حارس البوابة) التي سادت مجال الإعلام التقليدي في العصور الحديثة، إذ بات بإمكان الأفراد التعبير عن ذواتهم وأصواتهم في الفضاء التواصلي العام بوصفهم فاعليين إيجابيين، وليس مجرد متلقين سلبيين.
2 – التفاعلية: بمعنى القدرة على الاستجابة أو المبادرة التي يقوم بها المستخدم مقارنة بما يقدمه المصدر، على عكس الإعلام التقليدي، حيث كان المستهدفون غير فاعلين بل مفعول بهم، كمتلقين سلبيين للرسائل الآتية من المرسل، مع الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي انتقل المستهدفون إلى فاعلين إعلاميين ومتفاعلين إيجابيين، في عملية حوارية تبادلية حية ومباشرة، كما هو الحال في عملية المحادثة المباشرة بين الأشخاص وجه لوجه.
3 – اللاتزامنية: بمعنى تحرر الفاعلين الإعلاميين من السياق الزمني المحدد سلفا إذ بات بمستطاعهم التفاعل مع العملية الاتصالية في الأوقات المناسبة لهم وبحسب ما تقتضيه حاجاتهم وظروفهم، سواء كانوا مستقبلين أو مرسلين.
4 – المشاركة والانتشار: بمعنى ما ينطوي عليه الإعلام الجديد من ممكنات وآفاق واسعة للمشاركة والانتشار في بث ونشر وتبادل المنشورات على أوسع نطاق من المستهدفين الاجتماعيين لأي فرد يمتلك الوسائط والأدوات الإعلامية الجديدة، حتى وإن كانت بسيطة.
5 – الدينامية والمرونة: بمعنى القدرة على الحركة والسرعة والتحديث والتبديل والتحويل وادماج المواد المنشورة في أكثر من وسيلة وطريقة (النصوص، والصوت، والصورة الثابتة، والصورة المتحركة، والرسوم البيانية ثنائية وثلاثية الأبعاد) فضلا عن قدرة الأفراد على ممارسة فعل التواصل والاتصال من أي مكان كانوا وأثناء حركتهم عبر التليفون المحمول، تليفون السيارة، التليفون المدمج في ساعة اليد، آلة تصوير المستندات وزنها عدة أوقيات، وجهاز فيديو صغير، وجهاز فاكسميل، وحاسب آلي نقال مزود بطابعة.
6 – العالمية: بمعنى أن الإعلام الجديد يفعل في فضاء تواصلي عالمي عابر للثقافات واللغات والمكان والزمان.
7 – الحفظ والتخزين: يتيح الإعلام الجديد للفاعلين الاجتماعيين القدرة على حفظ وتخزين منشوراتهم او مستندات غيرهم واسترجاعها متى شاؤوا، في وسائط متنوعة وفعالة.
8 – التربية والتعليم: إذ أتاحت وسائط الإعلام الجديد لكل المستهدفين من مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية إمكانية التعلم والتعليم والتدريب والتثقيف الذاتي عبر ومن خلال البرامج والمنشورة التي تضخها على مدار الساعة، وهذا ما يسميه اولفين توفلر بـ(تحول السلطة).
وهناك عدد واسع من الأبعاد والممكنات التي ينطوي عليها الإعلام الجديد لا يتسع المجال لحصرها، بل نكتفي بالاتفاق مع فرانك كيلش، إن ثورة الانفوميديا قد غيرت العالم وغيرت حياتنا معه.
إذ ان التغيرات المتسارعة في مختلف مناحي حياتنا الراهنة قد جعلت كثيرا من اعتقاداتنا ومفاهيمنا عن الحياة والتاريخ والعلم والحضارة وعن التربية والتعليم التقليدية موضع تساؤل: إذ كيف نعلّم التلاميذ بينما هناك نظريات ومناهج وموضوعات يكون قد عفا عليها الزمن قبل أن يترك التلاميذ مقاعدهم في المدرسة؟!.
وفِي هذا يرى أحد علماء التربية الأمريكان: “أننا نعيش لحظة تاريخية فارقة تجعل التغييرات في نفوس وأذهان الأشخاص عاجزة عن ملاحقة سرعة التغيرات الاجتماعية والثقافية والعلمية والاقتصادية والإعلامية المتسارعة في العالم المعولم الذي يشهد انفجار الثورة العلمية والتقنية الرقمية على نحو لم يسبق له مثيل من آدم حتى الآن”، بمعنى أن العلاقات والأفعال والممارسات والأشياء والمعارف العلمية والقيم التربوية في عصر انكماش الزمان والمكان عصر العلم والميديا الجديدة تعيش حالة من التغيير والتبدل بوتيرة متسارعة في بضع ساعات فقط، ومن بين كل مجالات الحياة التي تشهد متغيرات عاصفة يأتي الإعلام والإعلام الجديد في المقدمة.
وأن العالم بوجود الإعلام الجديد لم يعد يدار بالأسلحة أو الطاقة أو المال، بل إنه صار يدار بالأرقام والرموز الصغيرة… وأن هناك حربا تحدث الآن… إنها ليست من يملك رصاصاً أكثر أو أسلحة فتّاكة، إنها حول من يسيطر على المعرفة بمعناها الواسع، علم ونظريات ومناهج ومعلومات وثقافة وإعلان وأخبار: ماذا نسمع أو نرى، كيف نقوم بعملنا؟ وكيف نفكر؟ فماذا يمكننا قوله للعالم؟ وماذا نمتلك من طاقة معرفية علمية مفيدة قادرة على المنافسة؟
ختاماً نقول: إن الإعلام الجديد وأدواته وخصائصه المتزايد النمو والاتساع في الفضاء الرقمي بات سيفا ذا حدين؛ إذ بقدر ما لهذا النجاح من آثار إيجابية على تقديم وإيصال المعارف دون حواجز ودون قيود، بقدر ما له العديد من الآثار السلبية على حياة المجتمعات المستهلكة التي لا تمتلك ثقافة علمية وتقنية راسخة للتعامل مع قيم وأدوات العلم والتقنية المعاصرة.ويرى صاحب كتاب الثورة الرابعة لوتشيانو فلوريدي أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة ورئيس مجلة الفلسفة والتكنولوجيا.
أن الانفجار التكنولوجي يغيّر إجاباتنا عن أسئلة إنسانية جوهرية. وكما غيرت الثورة الأولى الباراديم الكلي عن معنى الكون والإنسان غيرت الثورة الرابعة فكرتنا عن أنفسنا باننا محور الكون والكائنات الأكثر ذكاء وبكل بساطة افترضنا أننا مركز «الانفوسفير» أيضا ولا أحد ينافسنا فيه، ولكن وبكل بساطة تم تقويض هذه الفكرة بتصميم آلات مستقلة ذاتيا أكثر ذكاء منا في معالجة المعلومات بصورة منطقية. لم نعد فعليا سادة «الانفوسفير»، فأجهزتنا الرقمية، تنفذ أوامر بالتفكير الذكي والتحليل عوضا عنا وأفضل منا بالتأكيد. ولسنا أيضا عناصر «نيوتونية» مستقلة وفريدة من نوعها، بل كائنات حيّة معلوماتية «إنفورغز» متصلة بعضها ببعض، وجزء لا يتجزأ من بيئة معلوماتية «الإنفوسفير». مستخدم متفاعل في «الإنفوسفير» نصبح مجرد مستخدم متفاعل أو غير متفاعل، ويتآكل شعورنا بالهوية الشخصية كما يرى المؤلف، ونعرض أنفسنا للخطر عندما نتصرف على أننا كيانات مجهولة مثل مليارات الأشخاص على الانترنت، ونبدأ بتصور بعضنا على أننا حزم من أصناف من الجنسانية إلى الدين، والدور الأسري والوظيفي والتعليم والطبقة الاجتماعية أيضا. كلنا مجرد مستخدمين في عالم الانفوسفير نعتمد على المؤشرات وتفضيلات الآخرين وترشيحات المواقع ونجوم التقييم لا على المصادر الواقعية. ولكن ليس بالضرورة أن يكون هناك ما هو غير أخلاقي فيما يحدث، ولكن يرى المؤلف ضرورة أن نفهم ذواتنا وكيفية تأثير هذه التكنولوجيا في هوياتنا. الهوية والذات من نحن وماذا سنصبح ومن الذي يمكن أن نكونه عندما يتزايد ما نقضيه من وقتنا في الإنفوسفير؟. لقد اصبحنا المؤلفين لرواياتنا الذاتية وتجربة حياة الانسان مسألة تجربة حياة متصلة دائما (أون لايف). هناك العديد من المناهج التي ناقشت تحديد طبيعة الذات منها منهج جون لوك، الذي طبقا لنهجه تقوم هويتك على وحدة وعيك واستمرارية ذكرياتك، أو النهج الأكثر حداثة المعروف باسم النظرية السردية حول الذات، وكلا المنهجين يقدم تفسيرا معلوماتيا للذات. ولكن تكنولوجيا المعلومات والاتصال قادرة على النفاذ للذات عن طريق اعتبار الذات بوصفها تطبيقا لتكنولوجيا. وتضخم هذه التكنولوجيا التمييز بين وجود الذات وموضعها، وفكرة القدم مقابل الهرم، وعدم التزامن بين الذات وموضعها على النت، بحيث ممكن ألا يصبح الفرد هرما، لكنه يصبح قديما في معلوماته أو صورته، أو يهرم واقعيا ولكن المعلومات والصورة تصبح قديمة فقط. إضافة إلى أن النسيان غير ممكن في عالم الانفوسفير، فالذكريات التي نراكمها ثم نخرجها تضع قيدا على إعادة تعريف أنفسنا، لأن النسيان جزء من عملية بناء الذات.
وهكذا تضعنا تحولات العالم الجديدة في لحظة الدهشة الفلسفية التي ران عليها الغباء العام عبر قرون من التكيف والتبلد والظلام

وإذا كانت الفلسفة ربيبة الدهشة بحسب أفلاطون فما هي الدهشة ؟ هي حالة شعورية تنتاب الكائن الإنساني في لحظة مباغته من تأمُّل العالم على نحو قصدي أشبه بقدح زناد الوعي المتسائل الحائر بإزاء ظواهر الوجود والحياة والموت.
الدهشة حالة اغتراب الوعي الشقي، وكما كتب الفيلسوف العربي أحمد نسيم برقاوي " يعيش المثقف عادة حال الاغتراب الذي لا يفارقه طوال حياته الإبداعية. بل قُلْ إنَّ الاغتراب هو أسُّ التجربة الكتابية لمثقف أوتي أيَّ حظ من موهبة الإبداع. وآية ذلك أنَّ المثقف هو دائمًا ابن الممكن المتجاوز للواقع، ولهذا فهو يعيش تجربة المايجب أن يكون على نحو مستمر، يعيش تجربة التناقض بين أحلامه وآماله وواقعه، ويُعبِّر عن هذا التناقض في الفن والأدب والفلسفة، بوصفه مُتمرِّدًا، والتمرُّد هُنا هو التعيُّن الحقيقي لاغتراب المثقف".
نَعَم، الدهشة لا تأتي إلَّا في لحظة اغتراب الكائن، إذ تجعله يرى العالم عن بُعْد بعكس القرب المُدْمَج، فأكثر الأشياء قُرْبًا مِنَّا هي أكثرها بُعْدًا عن فهمنا! فالغارق بالبحر لا يراه والغاطس في الغابة لا يراها، وكلما ابتعدنا مسافة عن الأشياء التي تغرقنا كلما استطعنا رؤيتها بوضوح أكثر وتمكنَّا من تقيمها وتقديرها كما هي عليه بالواقع لا كما نُحبُّها أن تكون! لذا قيل إنَّ الحُبَّ أعمى! لأنَّ المُحبِّين يقتربون من بعضهم حَدَّ الالتصاق والتوحُّد بما يجعلهم عميانًا عن رؤية بعضهم واكتشاف المميزات والعيوب.البعد يكشف والقرب يعمي. إنَّنا نحتاج إلى الفلسفة لكي نستطيع رؤية الاشياء التي نعيشها كل لحظة في حياتنا بحسب (روسو).
والدهشة ليست مُجَرَّد تعجُّب، بل هي أشبه بالكشف والانكشاف، وهي بحسب (جان جرش) في كتابه "الدهشة الفلسفية" لحظة مفارقة في حياة الكائن يتفتح عقله لاستقبال إشارات الحقيقة سواء كانت تلك الحقيقة مرتبطة بالماديات أو بالإلهيات، فالإنسان العارف هو الذي يكون مندهشًا من أبسط وأقل الأشياء الموجودة في العالم، لأنه يرى الأشياء بمنظار الاندهاش، وهذا الاندهاش هو الذي يلهمنا لعبة التساؤل وسط غموض المعنى وصخب الحياة وتمظهراتها الحسية الانفعالية. وهكذا تعاود الفلسفة الحضور في كل عصر من العصور.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن في الصين يحمل تحذيرات لبكين؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. زيارة سابعة مرتقبة لوزير الخارجية الأميركي إلى الشرق الأوسط




.. حرب حزب الله وإسرائيل.. اغتيالات وتوسيع جبهات | #ملف_اليوم


.. الاستخبارات الأوكرانية تعلن استهداف حقلي نفط روسيين بطائرات




.. تزايد المؤشرات السياسية والعسكرية على اقتراب عملية عسكرية إس