الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذات عينها كآخر في فلسفة التسامح والتضامن

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2021 / 11 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تمهيد
شهد العالم المعاصر منذ منتصف القرن العشرين أحداثاً عاصفة ومتغيرات متسارعة في مختلف الصعد الحضارية والثقافية والمدنية، متغيرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من حيث جدتها وسرعتها وأثرها وقوتها الصادمة للروح والعقل معاً، إذ بدا الأمر وكأن التاريخ يترنح والأرض تميد بأهلها، والقيم تهتز والحضارة تضطرب، والفوضى الشاملة تجتاح كل شيء، وبإزاء هذا المشهد القيامي المجنون( ) تحيرت افضل العقول، وفقد العقل الإنساني بصيرته وقدرته النيرة في رؤية الأحداث وما ورائها، ومن ثم تفسيرها وتحليلها والكشف عن ثيماتها العميقة المتخفية في سبيل فهمها وعقلنتها وإدراك معناها. إذ أخذ الفلاسفة والمفكرون منذ أواخر القرن العشرين يتسابقون في صياغة وفبركة المفهومة المعبرة أو الصورة الفكرية التي يمكن لها ان تعبر عن العالم الراهن والحضارة الجديدة فكان ان اتفقت معظم الآراء باننا نعيش عصر (العولمة) بمعنى أن الكرة الأرضية كمجال حيوي وحيد لحياة الإنسان سوف تكون فضاءاً مفتوحاً لجميع السكان القاطنين فيها، أي أنه بفعل ثورة الاتصالات وانتقال الصوت والصورة عبر موجات الأثير سيكون العالم مجالا رؤية ومكان مكشوف للجميع، حيث تتحطم كل الحواجز والحدود التي كانت في الماضي القريب تفصل بين القارات والشعوب والدول، ، لقد كان الناس حتى عهد قريب يعيشون ، كما لو كانوا في عوالم مختلفة ، وقد وجدوا أنفسهم فجأةً جنبا إلى جنب ، في ظل عالم شديد التناقض والاضطراب ففي حين يبدو المشهد التواصلي ان العالم أخذ ينحو حثيثاً نحو التجانس والتناغم نلاحظ في الوجه الاخر العالم الراهن يشهد عمليات مستمرة من الصراع والتنافر والتباعد، إذ ”أن العمليات المصاحبة للعولمة والتركيبات البنائية الداخلة فيها أكثر تعقيدًا من أن يعبر عنها بالقول ببساطة بأنها عمليات لتوحيد العالم أو لجعله قرية واحدة. وربما يكون هذا هو التناقض الرئيس الذي تفرزه العولمة" فما السبيل الى تعايش الناس من مختلف الحضارات والثقافات والاعراق والأديان في عالم واحد شديد التداخل والترابط والتفاعل والتأثير والتأثر، وماهي رهانات العيش والتعايش المشترك والأمن في شروط العالم المعاصر؟ والأمر كذلك بات التفكير بقيم التسامح والتصالح والتعاون والحوار من الضرورات الحيوية للعيش والتعايش المشترك في عالم اليوم. وكيف تواجه الشعوب الإسلامية والإسلام عامة هذا التحدي الراهن والمستقبلي؟.
فرضية البحث:
تنطلق مقاربة في هذه الورقة البحثية من الفرضية التالية: كلما زاد ارتباط الناس ببعضهم البعض كلما زادت حاجتهم لقيم التسامح والتصالح والحوار إذ إن خطاب التسامح والتصالح والتضامن والحوار تستدعيه الحاجة والرغبة المشتركة للبحث في أفضل السبل الممكنة والآمنة للعيش والتعايش الاجتماعي السياسي المشترك لجميع الناس في بيئة اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية وأخلاقية ونفسية عالمية منظمة ومستقرة وأمنة. ولسنا بحاجة إلى التذكير بمدى احتياج مجتمعاتنا الإسلامية إلى قيم التسامح والتسامح والحوار لاسيما بعد أن شهدت تاريخ طويل من النزاعات الدموية والحروب الكارثة.
منهجية البحث:
ربما كانت المشكلة المنهجية في صميم العلوم الاجتماعية والإنسانية تكمن في ذلك الالتباس القائم بين الرائي وما يراه، بين الذات التي ترى وموضوع الرؤية، إذ أنه من الصعب الفصل بين الذات الراصدة والهابتوس الخاص بها (وكلٌ يرى بعين طبعه) حسب المثل العربي. والسؤال هو "كيف يمكننا إنجاز خطاب أبستمولوجيا في موضوع سيوسولوجي" دائم الحركة والتحول والتغير والتبدل، شأن جميع الظواهر الاجتماعية؟" إذ أن الباحث في هذا الحال يكون جزء من الظاهرة المراد بحثها، بما تمارسه من تأثير مباشر أو غير مباشر في حياته وحياة جميع أفراد مجتمعه، "تلك الحياة التي نمنحها تسعة أعشار من وقتنا الذي نعيشه في عالمنا الواقعي المعيشي الفوري، بلا ماض ولا مستقبل، والتي تشكل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمته "أي" الحياة بلا مزايا ",التي يسميها عالم الاجتماع "جلير دوران" بالجو الخانق.". وسوف نقارب موضوعنا من منظور منهجي نقدي تاريخي ثقافي بهدف الإحاطة الممكنة بزواياها المشكلة بوصفها ظاهرة تاريخية ثقافية قابلة للفهم والتفسير باستلهام (منهجية الممارسة الانعكاسية) أي محاولة امتلاك حساسية نقدية تجاه الذات الفردية والجمعية (حساسية نقدية واعية) تمكن من إحداث قطيعة فكرية بين عواطفنا ومواقفنا، واتجاهاتنا وانتماءاتنا الفردية والجمعية، والخطابات السياسية والإيديولوجية الرائجة والرأي العام والمزاج السائد, ورؤيتنا للظاهرة موضوع بحثنا التي ليس لها من غاية أخرى غير المعرفة والفهم المجردين عن غايات أخرى ، وكلما كانت صياغتنا للأسئلة المتصلة بالمشكلة صياغة دقيقة وواضحة كلما انجزنا نصف المهمة وذلك بالاتساق مع منطق العلم الذي لا يُعنى بماذا يفعل الناس وكيف يسلكون وماذا يقولون حسب؟ بل، وهو الأهم، لماذا يفعلون ما يفعلونه ولماذا يقولون ما يقولونه عن أنفسهم وعن الآخرين؟ ولماذا يدركون العالم على هذا النحو؟ ().
في ذات السياق تأتي مقاربتنا لموضوع (التسامح والتصالح والحوار قيم التعايش في علم اليوم) من زاوية نظر منهجية عقلانية تاريخية نقدية متجردة قدر الإمكان، "إذ بقدر ما يتعاظم الجزع الذي تحدثه ظاهرة من الظواهر، يبدو معها المرء أقل قدرة على ملاحظتها بشكل صحيح والتفكير فيها بشكل موضوعي وإعداد الطرق الملائمة لوصفها ومراقبتها وتفسيرها وفهمها وتوقع مآلاتها بقدر من التجرد والموضوعية بما يؤمن حد أدنى من الصدق والأمانة والنزاهة والإنصاف في معرفة الحقيقة وفهمها".والحقيقة مستقلة دائما في أخر المطاف.


الإطار المرجعي
على مدى السنوات الماضية استقطبت ظاهرة التقارب والاحتكاك والتصادم بين الشعوب والحضارات والثقافات والافراد، وما صاحبها من شيوع وانتشار لقيم العنف والتعصب والإرهاب على الصعيد العالمي اهتمام عدد واسع من الدارسين والكتاب والهيئات وأخذت الدوائر الأكاديمية والثقافية تعقد المؤتمرات والندوات والنقاشات في كل البلدان، بشأن قضايا العولمة وحوار الحضارات والثقافات والاديان والتحديات التي تواجه الإسلام والشعوب الإسلام في ظل التحولات العالمية الراهنة والمستقبلية وسبل موجهتها، وقد صدرت كثير من الدراسات في هذه الشأن منها: جون لوك، رسالة في التسامح، أرنولد توينبي، الإسلام والغرب، وبرتراند بادي، الدولة والمجتمع في الغرب وفي ديار الإسلام، وشوقي ابو خليل، التسامح في الإسلام، وعبد حسين شعبان، فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي، وعبد الرحمن بن صاميل السلمي، الحوار بين الاديان حقيقته وانواعه، وكارل بوبر التسامح بين الشرق والغرب، ونيلسون مانيلا، الطريق الى الحرية، ومايكل أنجلو باكوبوتشي، أعداء الحوار أسباب اللاتسامح ومظاهره، وسمير الخليل واخرون، التسامح بين شرق وغرب: دراسات في التعايش والقبول بالآخر، ترجمة، إبراهيم العريس، وجين شارب، البدائل: الحقيقة والاخر، والمقاومة اللاعنفية، دراسات في النضال بوسائل اللاعنف، وروجيه كايوا، الإنسان والمقدس، وداريوش شايغان، أوهام الهوية، وبارت آلان، الهوية والتمثيل، وفريد بارت، بناء الهوية، وجان فرانسو بايار، أوهام الهوية، وجون جوزيف، اللغة والهوية، وهابرمانس، الهوية التواصلية, وأمارتيا صن، الهوية والعنف، وجون إهنبرغ , المجتمع المدني , التاريخ النقدي للفكرة,ودانيال هيرفيه ليجية وجان بول ويلام, سوسيولوجيا الدين, هاوارد ج. وياردا, المجتمع المدني, النموذج الأمريكي والتنمية في العالم الثالث, وعزمي بشارة , المجتمع المدني, مقاربة نقدية, ودنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، وبينديكت أندرسون, الجماعات المتخيلة, وجون هيلز واخرون, الاستبعاد الاجتماعي: محاولة للفهم, وكلود دوبار, أزمة الهويات. وجيل دولوز، الاختلاف والتكرار.وآدم كوبر, الثقافة: التفسير الأنثروبولوجي, ومحمد عابد الجابري مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب، وصالح الطائي، نحن والآخر والهوية ،وحسن حنفي، الهوية: مفاهيم ثقافية، وفتحي التريكي، استراتيجيات الهوية. وعلي عباس مراد وفاتن محمد رزاق، التسامح في بعض الحضارات القديمة، وعلي أسعد وطفة، فن التربية على التسامح، وهناك عشرات الكتب المنشورة عن في الحضارات وحوار الحضارات والثقافات منها: ماثيو ارنولد، الحضارة والفوضى، ودبروكس آدموز، الحضارة والاضمحلال، وماكس نوردو، الانحلال، وشبنجلر سقوط الحضارة الغربية 1916م و كولن ويلسون "سقوط الحضارة" وكتاب الألماني البرت اشيفتسر "فلسفة الحضارة" وما كتبه ارنولد تويني "الحضارة في الميزان" والحضارة على المحك 1965م ودراسته الواسعة لتاريخ الحضارات العالمية الذي عددها بـ 26 حضارة متعاقبة، وكتاب هنتجتون "صدام لحضارات" و روجيه جارودني، حوار الحضارات، وفوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، واولفين توفلر "حضارة الموجة الثالثة، وتوماس سي ـ باترسون ،الحضارة الغربية .. الفكرة والتاريخ" وارتثر هيرمان ، فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، وجغرافيا الحضارات" لـ بريتورولان وعبدالله علي التسامح والعفو في الاسلام.وغير ذلك من الأبحاث والدراسات المنشورة.
في هذا السياق سوف تكون مقاربتنا في النقاط الآتية:
اولا: تحديد المفاهيم وتعريفها
ثانيا: العولمة والتعايش في عالم مشترك
ثالثا: الإسلام والحاجة إلى التسامح والتصالح والحوار
رابعا: الخاتمة

اولا: تحديد المفاهيم وتعريفها
تحديد المفاهيم وتعريفها هو الخطوة المنهجية الأولى في الدراسات الإنسانية والاجتماعية والثقافية، ذلك كونها مفاهيم ملتبسة وغامضة وغائمة، على الدوام لان موضوعها ذاته متحرك ومتغير باستمرار إذ لا توجد نواة صلبة قابلة للتحديد والتعريف تصلح جوهراً للمفهومات التاريخية الثقافية كتلك التي نستخدمها هنا ( الحضارة ،التسامح، التصالح، الحوار، العولمة، الهوية، الاعتراف ..الخ ) وكل تعريف ليس إلا تعريفا نسبيا ومحتملاً للمعنى لكن اشد الإخطار هو خطر الكلمات التي تستثير في أذهاننا جواهر أو ماهيات فكرية مشخصة زائفة تملأ التاريخ سكان من الأسماء الكلية المختلقة لا وجود لها في الواقع ولعل الحاجة إلى إعادة تحديد وتعريف الكلمات التي نستعملها في دراساتنا الاجتماعية تزداد لاسيما مع مفاهيم أو مصطلحات تلقفناها من سياقات ثقافية مغايرة, إذ أن المفاهيم لا توجد في فلك الأفكار ومدونات اللغات حسب, بل هي كائنات تاريخية شديدة الارتباط بسياقاتها الاجتماعية الثقافية المشخصة ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وتجربة ممارسة وعلاقات قوة وسلطة معرفة ونظام خطاب ومدونة لغة وفضاء فكر وحساسية ثقافة وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق دلالة .. الخ. ونقصد بالمفاهيم منظومة الكلمات المفتاحية بوصفها مصطلحات مجردة وادوات منهجية نستعملها في دراسة وفهم الظاهرة موضوع البحث. وربما يعود تخلف الثقافة المعاصرة إلى ذلك الالتباس والغموض في استخدام المفاهيم التاريخية، إذ يتم فيه الخلط بين المفاهيم خلطاً تفقد به الأسماء الدلالة على المسميات ولا تدل به المسميات على أسمائها، وينجم عن هذا الخلط بين المفاهيم والمعاني كثير من الإبهام والتشوش في الأفكار والآراء والتصورات والكلمات..
مقاربة مفهوم الحضارة
جاء في لسان العرب لابن منظور "الحضور نقيض المغيب والغيبة، حضر يحضر حضوراً أو حضارة"والحضّر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، والحاضر المقيم في المدن والقرى، والبادي من البدء أي الظهور، الذي نراه بادياً، ونشاهده بالعين المجردة أمامنا، وهو المقيم في البادية المكشوفة للرؤية بحكم طبيعتها الصحراوية. وفي «دائرة معارف القرن العشرين»: الحضارة خلاف البداوة، وهي كلمة مرادفة لكلمة المدنية. وفي «معجم متن اللغة»: الحضارة ضد البداوة والإقامة في الحضر هي الطباع المكتسبة من المعيشة في الحضر أي المدن.والحضارة عند ابن خلدون هي غاية العمران، ونهاية عمره، وأنها مؤذنة بفساده، والحضارة عند ألبرت إشيفيتسر هي "التقدم الروحي والمادي للأفراد والمجتمعات على حد سواء"
وفي اللغات الأوروبية ظهرت كلمة حضارة في ستينيات القرن السادس عشر في فرنسا من قِبل بعض المحلَّفين الفرنسيين أمثال: جان بودان، ولويز لوروا، بمعنى تحضر وتهذيب «Civilite Civillse»، وهي تصف الناس الملتزمين بالعمل وفق أشكال سياسية معينة، وتكشف فنونهم، ووسائلهم عن درجة من الكياسة والسمو، ويعتبرون أخلاقهم وسلوكياتهم أرقى من أخلاقيات وسلوكيات غيرهم من أبناء مجتمعهم، أو المجتمعات الأخرى.
وقد كان الاعتقاد السائد في الغرب حتى أواخر القرن التاسع عشر أن الحضارة هي أوروبا، وأن التاريخ قد انتهى مع الإمبراطورية البريطانية، وأنه لم يعد هناك شيء جديد يمكن إنجازه في التاريخ. مثل هذا الاعتقاد يظهر اليوم عند الإمبراطورية الأمريكية المنتصرة، حيث يُنهي فرانسيس فوكوياما، التاريخ، ويذهب هنتنجتون إلى القول إن الحضارة هي أوروبا وأمريكا، في مقابل العالم غير المتحضر الباقي، حسب تعبيره: «الغرب والباقي قضايا تداخل حضاري» عنوان الفصل الثامن من كتاب «صِدام الحضارات». وفي سياق التطور التاريخي أرتبطت كلمة الحضارة «civlisation» بكلمة أخرى تتصل بها اتصالاً قوياً هي ثقافة «culture»، التي ظهرت في الفرنسية بمعناها الدقيق في القرن الثالث عشر، وفي القرن الرابع عشر ظهرت كلمات مثقف «cultinateur»، زارع ومزارع «Agriculteun»، ولكنها لم تكتسب معناها المجازي بصفتها معرفةً وتربيةً وعلماً إلا في القرن الخامس عشر، وكما سبقت كلمة مثقف كلمة ثقافة، فإن كلمة متمدن أو حضري «Civiliaes»، وأيضاً مهذب، سبقت كلمة حضارة، وعلى الرغم من الخلط الملتبس بين الكلمتين «حضارة» و»ثقافة» في الأدب الحديث والمعاصر منذ أن عرَّف عالم الأنتربولوجيا الإنجليزي إدوارد بيرونت تيلور في كتابه «الثقافة الابتدائية» الثقافة بأنها «كل معقد يشتمل على المعرفة والعقائد والفنون والخبرات التي اكتسبها الإنسان بوصفة عضواً في مجتمع»، منذ ذلك الحين والجدل لايزال مستعراً بشأنهما.ويذهب رولان بريتون في كتابه «جغرافيا الحضارات» إلى أن «كلمة الحضارة civlisation ظهرت سنة 1734م، وهي تنحدر مباشرة من صفة حضري المشتقة من اللاتينية مثل civilite، وcite مدينة – حاضرة». إذاً فمنذ البداية ارتبط مفهوم الانتماء إلى المدنية بجماعة منظمة، تمثل الدولة المدنية، أو تقوم مقامها دلالياً بمعنى التهذيب والتحضر، ومن هنا جاء معنى الكلمة اليونانية «polis» مدينة – حاضرة دولة، ومنها اشتقت الكلمة اللاتينية «politus» صيغة فعل «polin» هذَّبَ، مدَّنَ، وكلمة «politesse» التي مزجت وعدَّلت وميَّزت شيئاً فشيئاً بين مفاهيم التهذيب واللياقة وحُسن الأداء، ومفاهيم النظام العام والدولة والمدنية والحاضرة.
وأخيراً وُلِدَت كلمة «civilisation» حضارة من فعل «civilisen» حضر، وهي ترسم في أسرة الكلمات المتحدرة من كلمة «cite» حاضرة، معالم اشتقاقية تدور حول مفاهيم التربية «education» والترقي والتطور والتقدم والحالة المتقدمة المتفوقة، فالحضارة هي أولاً «فعل تحضير»، ومسار تصاعدي وتقدمي، يرمي من خلال التغيير إلى احتواء وإدماج أولئك الذين يظلون خارجها في البراري والأرياف والغابات، «المتوحشون البريون salvaticus»، ثم إن الحضارة هي جملة الصفات المكتسبة خارج الطبيعية، وهي أخيراً مجموع الظواهر المميزة للحياة في هذا العالم الخاص المتطور الذي بناه الإنسان المدني.
وربما كان المجمع الفرنسي في معجمه المنشور عام 1933م قد أسدى خيراً عندما عرَّف كلمة الثقافة تمييزاً لها عن الحضارة بالآتي: إن كلمة ثقافة تطلق مجازاً على الجهد المبذول في سبيل تحسين العلوم والفنون وتنمية المواهب الفكرية ومواهب العقل والذكاء. وهذا هو المعنى الذي قصدناه بقولنا إن الثقافة هي القوة الإبداعية في التاريخ، وهي كل ما نشهده من تطور دائم مستمر في العلم والفن والأدب.
ما يهمنا هنا هو التأكيد على أن الحضارة من حيث المفهوم والسياق التاريخي تتميز عن مفهومَي الثقافة والمدنية لكونها تتصل اتصالاً لازماً بش التنظيم السياسي والقانوني والأخلاقي للمجتمع، إنها تعني العيش في مجتمع سياسي منظم بالدستور والقانون والضمير الأخلاقي، فكلما كان التنظيم الاجتماعي خاضعاً للقانون كلما كان أكثر تحضراً، وقد بدأت الحضارات في التاريخ بوجود الدولة الإمبراطورية في الشرق القديم، ويذهب أرنولد توينبي إلى أن الحضارة هي الوحدة الأساسية في دراسته للتاريخ إذ إن كلمة حضارة عنده ارتبطت بقدرة المجتمع على تنظيم نفسه سياسياً واجتماعياً وثقافياً في دول كبيرة، وعنده أن إفريقياً السوداء بهذا المعنى عرفت ثقافات، ولكنها لم تعرف حضارات.وعلى هذا النحو يمكن القول إن الحضارة والثقافة والمدنية، هي قوى وعناصر التاريخ، وما عناصر التاريخ إلا وسائله وأسبابه وغاياته وقواه التي يتطور بها صاعداً في معارج التقدم والتطور والارتقاء .
التسامح لغة واصطلاحاً
لقد عبر كثير من العلماء والباحثين عن صعوبة تعريف مفهوم التسامح بوصفه مفهوماً أخلاقياَ واجتماعياً تاريخياً متعدد الدلالات والمعاني. وهذا ما عبر عنه المفكر الإيطالي المعاصر "مايكل أنجلو باكوبوتشي" في كتابه (أعداء الحوار، أسباب اللاتسامح ومظاهره) بقوله "إذا ما أردنا الخوض في حديث صعب حول التسامح واللاتسامح فسوف نجد أنفسنا على الفور أمام صعوبة بالغة بمجرد أن نشرع في ذلك؛ فنحن لا ننجح حتى في الاتفاق على المعنى الذي نعطيه لهذين المصطلحين مثل الصعوبة التي تواجهنا عند تعريف المفهومات المجردة كالحرية والعدالة والديمقراطية بما لهن من معان مختلفة عند أناس مختلفين".وتنجم صعوبة تعريف مصطلح التسامح ليس من طبيعته الاخلاقية الثقافية الاجتماعية الملتبسة ومعانيه المختلفة بل ومن كونه موضوعاً لعدد واسع من أنساق العلوم المختلفة علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي والانثربولوجيا الثقافية والعلوم الدينية... والفلسفة السياسية..الخ.
رغم أن كلمة التسامح تحضر بقوة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والمعاجم اللغوية العربية بمعنى الصفح والعفو واليسر واللين والجود والعطاء إلا أن الثقافة العربية الإسلامية قد غلبت عليها ثقافة اللاتسامح والعنف والظلم والحرب والقتال. من هنا تأتي الحاجة الى اعادة فحص الكلمات والمصطلحات في سبيل فهم دلالاتها ومعانيها المحتملة، وهذا هو ما سوف نوليه عنايتنا جاء في لسان العرب لـ بن منظور: "السماح والسماحة: الجود سَمَح سماحة وسموحه وسامحا جاد يقال: "سمح وأسمح إذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء، والمسامحة المساهلة وتسامحوا تساهلوا وفي الحديث السماح رباح أي المساهلة في الأشياء تربح صاحبها. أنشد تغلب: ولكن إذا ما جل خطب فسامحت- به النفس يوماً كان للكره اذهبا. وقوله السمحة ليس فيها ضيق ولا شدة وتقول العرب عليك بالحق فإن فيه لمسمحاً؛ أي متسعاً، وسمح له بحاجته وأسمح أي سهل له ويسر امره" ويــأتي ً السماح في قاموس المنجد بمعنى الجود والكرم والتساهل، فسمح: وسماحة العود بمعنى ساهل ولان، وسـامح في الأمـر سـاهله سماحا ولاينــه ووافقــه علــى مطلوبــة، وتســامح: تســاهل، والتســامح التســاهل . ولا يخــرج القــاموس المحــيط في تحديــده للمعــنى اللغــوي
وفي القرآن الكريم هناك الكثير من الآيات المحكمات التي تحث على قيم الرحمة واللطف واللين والتسامح والعفو والعطاء والحكمة، ومن ذلـك الآيـة: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" سورة فصلت، الآية: 34 وقوله تعالى: "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، سورة النحل، الآية: 125وقوله تعالى "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ " سورة الأعراف، الآية:19وقوله تعالى "عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " سورة الممتحنة، الآية: 7وقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ"، سورة الحجرات، الآيتان: 11-12 وفي السنة الشريفة جاء الحديث "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". وقوله صلاة الله عليه وسلم: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس ولا يحل لمسلم أن يروع مسلما".
.وفي اللغة اللاتينية يشتق مصطلح التسامح من الفعل اللاتيني يتحمل (Tolerate)، ونفس الكلمة (Toller Anza) تستخدم كمصطلح فني وهو حمل، تحمّل "بمعنى التعايش مع شيء، لا نحبه" أي أقصى درجة توتر يمكن لجسم ما تحملها قبل أن يصل إلى نقطة الانهيار. إذ أن من يتسامح يتحمل شيئاً ما يسبب له الضيق، بينما كان بمقدوره ترك الأمور تجري في اعنتها ايثار للسلامة بيد أنه يتألم نظراً لتأذي مشاعره وإرباك عاداته في سبيل ان يعيش الاخرين اشباهه. وفي قاموس لاروس الفرنسي يعني التسامح Tolerance "احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآراءه السياسية والدينية.
المعنى الاصطلاحي للتسامح
ليس هناك تعريفاً محدداً ووحيدً لمفهوم ألتسامح بل ثمة تعريفات متنوعة ودلالات مختلفة وهي جميعها تعريفات تحكمية إجرائية. وسوف نتتبع هنا المعاني المختلفة للمفهوم في السياقات التاريخية والثقافية إذ أن كل ثقافة لا تخلو من وجود التسامح بمعنى من المعاني ذلك لأن العيش يستحيل بدون تسامح بهذا القدر أو ذاك؛ فكل مجتمع لابد وإنه يمتلك معنى محدد أو تأويل ممكن لفضيلة ألتسامح ويمكن العثور على مثل هذا المعنى في الأقوال المأثورة والحكم الخالدة. يقول السيد المسيح (من لم يغترف منكم خطيئة فليرمها بحجر). أو حكمة الفلسفة الصينية: (لا يمكننا الاستغناء عن الآخر، ونحن الآخر بالنسبة له)، أو الحكمة التي تقول (أتبحث عن القشة في عين جارك، ولا ترى العارضة التي في عينك).، وتقول العرب، العفو عند المقدرة، او المسامح كريم ...الخ. ويرى أومبرتوايكو "أن مصطلح التسامح هو مصطلح مبهم وهو بإيجاز مصطلح لا متسامح حيث أنه يفترض بالفعل – وفقً لرافضيه – بأنه يمكن لنا الاعتقاد بأن شخص ما غير مقبول بشكل أساسي أو إنه أدنى مرتبة، وخلاصة القول بأنه من الأفضل تحاشيه؛ بيد أننا نتسامح معه من مبدأ الأدب أو إيثار لمبدأ السلامة، هذا معناه اننا نتكلف التسامح ولا نقتنع به".
ويعد الفيلسوف الانجليزي جون لوك سنة 1689 في ـ رسالة في التسامح، من اوائل المفكرين الذين كتبوا في موضوع التسامح إذ كتب: "ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أنه يفعله لأجل نجاة روحه، لأن هذه المسألة شأن شخصي ولا يعني أي إنسان آخر، إن الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي إنسان أو جماعة ولا يمكن لأي إنسان أن يعطيها لإنسان آخر فوقه إطلاقا". وفي ذات السياق كتب المنور الفرنسي فولتير "كلنا ضعفاء وميالون لقانون الطبيعة، والمبدأ الأول للطبيعة هو التنوع وهذا يؤسس للتنوع في مجال الحياة الإنسانية، وقبول هذا التنوع حق أساسي للوجود" ويرى فيلسوف العلم المعاصر "كارل بوبر" بأن "التسامح موقف أخلاقي وعقلي ينبع من الاعتراف بأننا غير معصومين عن الخطأ، وإن البشر خطاؤون ونحن نخطئ طوال الوقت وقد أكون أنا على خطأ وأنت على صواب وبالحوار العقلاني يمكن ان نقترب من الحقيقة". وبهذا المعنى يكون التسامح هو الاعتراف بالحق بالاختلاف والتنوع وعدم فرض شيء بالقوة أو الإكراه. والتسامح لا يعني بالضرورة أن نحب الجار بقدر ما يوجب علينا أن نجتهد لاحترامه حتى ولو بالقدر الضئيل. وفي مبادئ التسامح المعلنة من الأمم المتحدة في 16 فبراير 1995م جاء في تعريف معنى التسامح في المادة الأولى من الإعلان: إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا، والتسامح، هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب والتسامح لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل بل التسامح هو قبل كل شئ اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا. ولا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسية. والتسامح ممارسة ينبغي أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول.
على هذا النحو يمكن اعتبار التسامح هو الشرط الأولي لكل عيش اجتماعي مشترك ممكن ومستقر, ينتهج طريق واساليب سلمية عقلانية رشيدة في حل مشاكله ونزاعاته التي لا سبيل الى تجاوزها , وهذا لا يتم الا بالتفاوض والتفاهم والحوار الايجابي بين الفاعلين الاجتماعيين في سبيل تحقيق العدالة والإنصاف وتكافؤ الفرص بين جميع الاطراف هذا معناه ان أي حوار وتفاوض لا يمكنه أن يقوم ويتحقق وينمو ويزدهر ويثمر بدون التسامح والاعتراف المتبادل بين الأطراف بالأهلية والقيمة والندية والقدرة والسلطة والنفوذ بما يكفل لكل طرف من الاطراف قول رأيه والتعبير عما يعتقده صوابا بحرية كاملة وظروف متكافئة , فالتسامح هو الشرط الضروري للتعايش والعيش بسلام والتفاهم بشأن المشكلات والأزمات التي تنشأ في سياق الحياة الاجتماعية للناس الساعيين وراء اشباع حاجاتهم وتامين شروط حياتهم . ويمكن تلخيص أهم شرط من شروط التسامح في الآتي: الاعتراف بقيمة الآخر وجدارته ونديته وحقوقه المتساوية مع الجميع اعضاء المجتمع المتعين وهو نمط من أنماط العلاقة بين الذات والآخر يعني تكافؤ الفرص والعدالة والإنصاف والاعتراف اذ ان أكبر المساوئ التي يمكن أن تصيب الإنسان هو غياب التقدير والاعتراف ويمكن أن يتحمل المرء كل المصائب الخارجية مقارنة بالاحتقار.
والتسامح بإيجاز يهدف إلى إيجاد الحد الأدنى من التعايش بين الناس الذين يعيشون الحاضر وهو بذلك يختلف عن التصالح الذي يتحدث عن الماضي بكل عجره وبجره اذ بدون التصالح يستحيل العيش في مجتمع متسامح عادل ومستقر.
التصالح لغة واصطلاحاً
صالَحَ: فعل تصالحَ يتصالح، تصالُحًا، فهو مُتصالِح َصَالَحَ الخَصْمَانِ بَعْدَ عَدَاءٍ: تَرَاضَيَا وَأَقَامَا صُلْحاً
تَصَالَحوا: اصْطَلَحُوا تَصالُح: (اسم) مصدر تَصَالَحَ ِاتَّفَقُوا عَلَى التَّصَالُحِ بَعْدَ تَخَاصُمٍ: عَلَى التَّرَاضِي وَإِقَامَةِ الصلح مع أخيه: توافقا، زال ما بينهما من خلاف صالحَ يصالح ، مُصَالَحَةً ، وصِلاَحاً ، فهو مُصالِح ، والمفعول مُصالَح صَالَحَ جَارَهُ بَعْدَ خِصَامٍ : سَالَمَهُ ، صافَاهُ صالَحَهُ على الشَّيْءِ : وافَقَهُ ، صارَ مَعَه على اتِّفاقٍ صالَحَهُ : سَالَمَهُ وصافاه صالَحَهُ على الشيء : سلك معه مسلك المسالمة في الاتِّفاق.
ونقصد بالتصالح، مجموع العمليات التي يتم فيه قبول الافراد والجماعات والدول والشعوب والحضارات والثقافات وتقبلهم لوضعهم وتاريخهم كما هو في الواقع وكما وصل اليهم تقبلا نقديا واعيا والتصالح معه، وبهذا المعنى يكون معنى التصالح تصالح المرء مع ذاته ومع تاريخه ومع حضارته ومع ثقافته ومع واقعه وحاضره ومع أهله ومع جيرانه ومع الأخرين خصوم، منافسين ، فعليين او متخيلين ، وكل ما يعتقدهم مختلفين او مغايرين ممن يتقاسم معهم العيش المشترك في المجتمع كضرورة لا مفر منها , اذ يستحيل ان يتعايش مجموعة من الناس في مكان وزمان ممكنيين وهم في حالة تنافر وتنازع وصراع مستمر, هذا معناه ان التصالح ليس هبة او مكرمة او أمر عابر قابل للمساومة والتوفقات والرغبات، بل هو اول شروط الحياة الاجتماعية الممكنة في حدها الادنى ، انه شرط سابق للعيش في الحاضر، وضرورة لا مفر منها للجميع، لايعني كما يعتقد البعض عفئ الله عما سلف , وتوافقنا واتفاقنا التنازل عن خصوماتنا التي لم تكن بارادتنا واختيارنا واعني هنا الخصومات السياسية والايديولوجية السابقة العنفية المتعددة بكل انماطها واطرافه وأثارها التصالح من حيث هو قيمة اخلاقية ثقافية سيكولوجية عظيمة الاهمية والتصالح المقصود هنا هو ان ندرك حقيقة وضعنا وان نفهم ونعي الاسباب ا لعميقة والدقيقة التي افضت بنا الى ما نحن فيه من حال ومآل فاجع ومصير كارثي ونتعلم من اخطائنا, واذا كان التصالح يتصل بالماضي ومعناه فانه الشرط الضروري للتسامح الذي يعني الحاضر ويتصل بالآني الفوري الراهن الحي المباشر من هنا يعد التسامح ضرورة العيش الفعال والمشجع في الحاضر العادل الأمن المستقر الذي يجعل من الانتقال الى المستقبل أمر ممكنا, بما يوفره من بيئة سلمية مستقرة وسليمة ومتعافية صالحة للتضامن والتعاون والتعاضد والتراحم والتأزر وتأليب الجهود والطاقات في سبيل تأسيس المداميك للمجتمع الذي نريد ان نكونه , مجتمع المستقبل ودولته العادلة الآمنة المستقرة المزدهرة . وبهذا المعنى يكون التضامن، مرتبة قائمة على البناء الايجابي الفعال للعلاقات الاجتماعية بين الفاعليين باتجاه المستقبل المنشود. هكذا يمكن لنا فهم العلاقة الجدلية بين هذا الثالوث المتناسق والمترابط والمتشابك في علاقة عضوية وظيفية متلازمة ومتبادلة التأثير والتأثر والدعم والاسناد، اقصد التصالح والتسامح والتضامن.
مفهوم الحوار
يعد مفهوم " الحوار" من أكثر المفاهيم استخداماً في المجالات الثقافية والفكرية المعاصر, وقد استخدم عبر التاريخ بمعاني ودلالات متنوعة ومختلفة منذ حواريات النصوص الرافدينية والمصرية واليونانية القديمة التي تعود إلى خمسة آلاف عام من الآن في " ملحمة جلجامش"و" كتاب الموتى" و " حوارية السيد والعبد" و" الفلاح والراعي" وقصص " أمحوتب " و" اللياذة" و"لاوديسية" ومحاورات أفلاطون التي تحكي نضال سقراط من أجل الحقيقة وسخرية ديوجين في حمله " الفانوس نهاراً" جميعها تكشف عراقة الحوار والمحاورة في تاريخ الفكر الإنساني وغاياته الأخلاقية الإنسانية).وقد جاءت النصوص الدينية القديمة في التورات والإنجيل زاخرة بالحوارات المعبرة كما كانت القصائد العربية القديمة تأخذ شكل مباراة حوارية في أسواق الفكر ومواسم الحج والتجارة قبل الإسلام مثل سوق عكاظ. وفي القرآن الكريم وردت كلمة "حوار" في ثلاثة نصوص صريحة في الآيات المحكمات: قال تعالى : " وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما" سورة المجادلة الآية "1" وفي قولة تعالى:" فقال لصاحبة وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً" الكهف الآية 34 وقولة تعالى :" قال له صاحبة وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب " الكهف الآية "37".بل لقد تجلت حكمة الباري عز وجل في جعل الحوار والمحاورة أسلوباً شاملاً للإقناع والمحاججة حتى مع عدوة الأكبر الشيطان الرجيم أعوذ بالله منه ومن أعماله ." قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين(75) قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين(76)قال فاخرج منها فأنك رجيم(77) وأن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فأنك من المنظرين (80) إلى يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين(82) إلا عبادك منهم المخلصين(83)" سورة ص الآية (75- 83) .وفي حواره سبحانه وتعالى مع الملائكة جاء" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة, قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال أني أعلم ما لا تعلمون" سورة البقرة الآية "30".وفي سورة البقرة جاء " وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " الآية "260".وفي حواره سبحانه وتعالى مع موسى" وما تلك بيمينك يا موسى (17) قال هي عصاي أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مأرب أخرى (18) قال ألقها يا موسى(19) فالقها فإذا هي حية تسعى(20) سورة طه.(17- 20) وهناك مئات الآيات والنصوص التي تتحدث عن حجج الأنبياء والرسل في حواراتهم مع أهلهم وشعوبهم وأبناء مدنهم وأظهرها حوارية " إبراهيم الخليل"عليه السلام "إذ قال لأبية وقومه ماذا تعبدون(85) ائفكاً ءالهة دون الله تريدون(86) فما ضنكم برب العالمين(87) فنظر نظرة في النجوم(88) فقال أني سقيم (89)فتولوا عنه مدبرين(90) فراغ إلى الهتهم فقال الا تأكلون (91) مالكم لا تنطقون(92) فراغ عليهم ضرباً باليمين(93) " الآيات (85-93) سورة الصافات.
هكذا كان الحوار نهجاً ربانياً وجزءاً من ثوابت الحياة الإنسانية التي لا تقبل التغيير, إذ غدا الحوار بمقتضى ذلك مؤسسة دينية مقدسة مفروضة من الله تعالى على رسله وعبادة من بني الإنسان والكائنات الأخرى في شكل شعيرة مقدسة واجبة لا يجوز الإخلال بها ولا تعطيلها.(يأيها الناس أنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ).الحجرات الآية 13 .
ويتمثل التعارف بدراسة كل طرف لمنطلقات وأفكار الطرف الآخر من مصادره نفسها حتى تكون حجة عليه فضلاً عن تبادل المعلومات والتفاهم ولقاءات المجاملة لتكون مقدمة للحوار مما يعني الزاميه الحوار وشموليته لكل تعامل مع الغير, واستمراريتة في الزمان والمكان وما يترتب على ذلك من تحريم فرض الرأي وإملاء الإرادة في كل تعامل بشري وضرورة الإستماع إلى الرأي الأخر.
قال تعالى " أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجدلهم بالتي هي أحسن" سورة النحل الآية "125".وفي قولة تعالى" ولا تجدلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن" العنكبوت الآية "46".
وفي سورة آل عمران " قل يا أهل الكتب تعالوا إلى الكلمة سواء بيننا وبينكم إلا تعبد إلا الله ولا تشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. الآية "64".
وهو أمر موجه إلى الرسول صلعم بالأصلة ولكنه يشمل من عداه من المسلمين، طبقاً للقاعدة الفقهية المعروفة من أن " الأمر الذي لا يخص من يوجد إليه بالخطاب يعم غيره ممن يوجد في وضعة " والدعوة عمل النبي صلعم، لكنها أيضاً عمل جميع من تلقاها من المؤمنين وأقتنع بها وانتدب نفسه للقيام بها فما يجري على الرسول صلعم يجري على غيره من المؤمنين. والآيات تحدد شيئين:
من جهة هدف الحوار في الدعوة إلى سبيل الله، أي الطريق المؤدي إلى الخير والصلاح والفلاح وتجنب الشر أي " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ومن جهة أخرى أسلوب الحوار, فتحصره أولاً في الدعوة بالحكمة التي يحمل اشتقاقها في العربية دلالات تفيد معاني التعقل والاعتدال والرشد واحكام الأمور مما يعني أن يكون الحوار موضوعياً, ومنفتحاً واريحياً, وهادفاً لتحقيق غاية شريعة يلتقي عليها المتحاورون أي أرضية مشتركة وقواسم عامة مقنعة تجمع الأطراف المتحاورة .والموعظة الحسنة تعني أسلوب الخطاب العقلاني الذي ينبذ الإثارة وجرح العاطفة والصدام العنيف مع من يتوجه إليه به, فالموعظة يجب أن تكون حسنة لينة رقيقة خالية من العنف والانفعال والتشنج والتعال والاحتقار لمن توجه إليهم .وهذا توكيد لما جاء في قولة تعالى "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم وستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله أن الله يحب المتوكلين ." سورة آل عمران الآية(159) وهناك مئات الأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على الرحمة والأريحية والإنصات والتواضع وافشاء السلام والرفق واللين والسماحة.
ثانيا: العولمة والعيش المشترك
ربما كان علينا ان نكون على حذر في مقاربة ظاهرة العولمة الشديدة الغموض والاضطراب والتناقض ،إذ "تُعد العولمة من الظواهر الأشد تعقيدًا؛ وذلك لتشابك العناصر المكونة لها والأبعاد الداخلة في تركيبها وتنوع الآليات الفاعلة فيها؛ هذا فضلاً عن الاختلاف حول معناها وتاريخها وعلاقتها بعدد آخر من المفاهيم كالرأسمالية والنظام العالمي والحداثة وما بعد الحداثة.. حسبنا هنا أن نؤكد أن هذه الحقبة المعاصرة من تاريخ العولمة شهدت تحولات هائلة في مجال الموصلات والاتصالات، واتساع الأسواق وحركة رأس المال، وتدفقات الهجرة والسلع والتكنولوجيا والأفكار والمعلومات، إلى درجة تغيرت معها علاقات الزمان والمكان" ففيها ينكمش الزمان والمكان بما لم يشهده تاريخ الإنسان. واذا كان مفهوم العولمة وما يوحي به من دلالة توحيد العالم أو جعل كل شيء على نطاق عالمي أي نقله من المحدود والمراقب إلى اللا محدود الذي ينأى عن كل مراقبةهو ما تبادر إلى الاذهان من بداية شيوع خطابها فانه من المهم التنبيه إلى ان العولمة لم ولن تعمل على خلق عالم موحد منسجم ومتناغم فهي ليست مرادفاً للتعبير ( عالم واحد ) بل هي تتجه أكثر فأكثر إلى خلق نظام متشابك لعوالم مترابطة ومتصادمة في آن واحد. "فالعالم -الذي يشهد عمليات مستمرة من التوحد والتفاهم والتدبر والاندماج- يشهد في الوقت نفسه عمليات مستمرة من الصراع والتنافر والتباعد. ومن ثم فإننا نميل إلى استخدام مفهوم العولمة لا ليشير إلى عمليات التوحد والاندماج فحسب؛ وإنما ليشير إلى عمليات التفكيك والصراع أيضًا. فالعولمة هي اقتسام غير متكافئ لمنتجات مشروع الحداثة الغربي، سواء أكانت هذه المنتجات تتصل بفرض صيغ حداثية موحدة عبر العالم، أم كانت تتصل بصراعات أو صور للتباعد والتفكك والتمزق تنتج عن النضالات اليومية لفرض هذه الصيغ الحداثية العالمية أو مقاومتها. والعولمة في ضوء هذا هي حالة من التحول المستمر والتشكل المستمر لعلاقات على المستوى العالمي والمحلي".
وهكذا تنطوي العولمة على ممكنات مختلفة ومتناقضة، ففي حين افضت الثورة الرقمية والتكنولوجيا المعاصرة إلى توحيد العالم بصورة من الصور، إذ إن التكنولوجيا لا تحدث فقط تحولاً في العالم ، بل أنها تخلق عالمها المجازي أيضاً وتمكن الأقمار الصناعية وشبكات الاتصال الاجتماعية اليوم الناس على طرفي الكوكب من التعرض بانتظام لطائفة واسعة من المحفزات الثقافية من خلال ذلك السيل المتدفق للمعلومات والأخبار والرسائل الضمنية والصريحة التي تزودنا بها وسائل الإعلام الجديدة على مدار الوقت، حتى أصبحت مواقفنا وآراؤنا بوعي أو بغير وعي مستلهمة من تلك المعلومات والبيانات التي يتم تقديمها لنا. بما يجعل علاقة الارتباط بين كل تلك المتغيرات والنتائج قابلة للروية والتقييم والقياس ويمكن القول أن للإعلام القدرة الكبيرة على إحداث تغييرا في المفاهيم والممارسات الفردية والجماعية بل والمجتمعية عن طريق تعميم المعرفة والتوعية والتنوير وتكوين ونشر المعلومات والقضايا المختلفة، وقدرتها على الوصول إلى المعلومات وتقديمها للمستهلك في الوقت المناسب والشاهد على ذلك هو التسابق الكبير على امتلاك المعلومة، كذلك افضى هذا التقارب والترابط والاختلاط والاحتكاك بين سكان الأرض إلى بروز ظواهر التعددية الثقافية والهويات المحلية والنزعات الدينية والصدامات الحضارية، وهكذا كشفت العولمة عن تناقضات عميقة في صميم البنية العالمية المعاصرة، وفي ضوء ذلك نرى إن جملة من الاحتمالات المفتوحة ترشح نفسها للإجابة عن هذا السؤال وذلك على النحو التالي :
1- بما إن العولمة ظاهرة إنسانية تاريخية شاملة وليس لدى أحد من شعوب الأرض القدرة على دفع تدفقها فإن الانفتاح الثقافي والحضاري والتعاطي الايجابي معها هو الخيار المتاح اليوم لكل الشعوب والمجتمعات والحضارات الراهنة والإسلام احدها ولا بديل آخر للتفاعل والحوار وتدبير أمر العيش والتعايش في العالم الجديد بحسب معطيات شروطه التاريخية المتاحة.
2- في سبيل ذلك لابد من إعادة البحث في شروط إنتاج نهضة إسلامية إنسانية تعيد للعلم بعض توازنه وسلامه، إذ ان لدى الإسلام والمسلمين في الشرق والغرب الكثير من العمل في ان ارادوا اصلاح هذا العالم وتغيير صورة الإسلام والمسلمين السلبية فيه.
3- تطوير نظام إعلامي إسلامي جديد بالاستفادة من ممكنات الإعلام الجديد؛ نظام يكون بمثابة النموذج الفاعل والجاذب والقادر على صياغة الرأي العام الإسلامي والعربي والعالمي وتثقيفه بما يخدم تعميق ثقافة وقيم السلام والتصالح والتضامن والحوار وبناء شخصية الإنسان الايجابي الفعال
4- لما كان حقل التربية والتعليم هو الأرض الخصيبة لتنشئة الأجيال وتنمية القيم، فإن العمل على إحداث تغييرات جوهرية في آلية ومناهج النظام التربوي التعليمي الإسلامي ومحتواه وتجاوز وضعيته الراهنة بما يمكنه من استيعاب المتغيرات العلمية والقيمية الجديدة، تعتبر مهمة ضرورية وحاسمة، والتربية الحرة التسامحية يمكنها وحدها أن تعمل على بناء شخصية الطفل وكينونته الذاتية الحرة رافضا للتبعية والخضوع وقادرا في الوقت نفسه على تحليل الواقع بصيروراته المتواترة وتغييره والتأثير في مكوناته. وتوجيه مساره.
ج-إن إحداث نقلة نوعية في الفكر السياسي الإسلامي وكذا تغيير آلية النشاط السياسي للدول والمؤسسات الإسلامية بآلية جديدة مواكبة وفاعلة تقوم على اساس الفهم الديمقراطي واحترام الإنسان والإقرار الفعلي بضرورة الحوار الديمقراطي هو الشرط الذي يوافر المناخ الأفضل للمشروع النهضوي الإسلامي المأمول.
ح - إن مخاطر العولمة وتحديتها ربما تتخذ صوراً وأشكالاً ومستويات مختلفة من مجتمع إلى آخر غير إن الإسلام والشعوب الإسلامية هي أكثر المستهدفين عرضة لتحدياتها ومخاطرها كما تشهد عليه الوقائع اليوم، ومن ثم فنحن بحاجة ماسة إلى اعادة التفكير في وضعنا الراهن وكيف السبيل للعيش والتعايش مع الاخرين بسلم وسلام.
ثالثا: الإسلام والحاجة إلى التصالح والتسامح والحوار
إذ كان هناك من هو بحاجة لنشر وترسيخ قيم التصالح والتسامح والحوار في عالم اليوم فهو الإسلام والشعوب الإسلام، لاسيما في ظل انبعاث هذه الموجة الكاسحة للحروب الطائفية حروب دينية طائفية عشائرية جهوية سياسية مستعرة في كل مكان من بلاد العرب والإسلام (مسيحية، قبطية، إسلامية في مصر. وشيعية، سنيه مسيحية، عربية كردية، في العراق وسوريا. ومسيحية، شيعية، سنية، درزية، في لبنان. وزيديه، حوثية، اثنا عشرية، سنية، سلفية، عشائرية، جهوية في اليمن، ولغوية أثنية عربية، أمازيغية، بربرية إسلامية إسلامية في الجزائر، ومسيحية إسلامية، جهوية في السودان، وعشائرية طائفية مناطقية في ليبيا. الخ) يحتدم كل هذا في فضاء ثقافي نفسي مشحون بعنف مادي ورمزي، وهستيريا عصابية جماعية عدائية شديدة التحريض والانفجار (روافض، نواصب خوارج، مجوسية، صفوية، قاعدة، أنصار الشريعة، شيعية، حزب الله، أنصار الله، داعش والنصرة.. إلخ). فضلاً عن العمليات الإرهابية التي يقوم بها بعض من يدعون الإسلام في بلدان العالم المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الدول الاوربية وفي كل مكان من جهات العالم الأربع والسؤال الملح هنا ولآن هو ما الذي جعل هذا التنوع الهوياتي في المجتمعات الإسلامية يتحول إلى شر مستطير، بينما هو في مجتمعات كثيرة أخرى مصدر قوة ودليل صحة وعافية كما هو الحال في الهند والصين وروسيا وأمريكا وأثيوبيا وغيرها من الدول التي تضم طيفا واسعا من الهويات ( ديانات، أقليات, أعراق، أثنيات، لغات، طوائف، ملل، نحل, ومذاهب وما لا يعد ولا يحصى من الجماعات الثقافية المتنوعة ).
هذا هو السؤال الملح الذي يجب على المشتغلين في العلوم الاجتماعية والإنسانية التصدي له، وفي سياق ذلك تأتي الحاجة إلى البحث في سبُل وممكنات التصالح والتسامح بين المسلمين بعضهم مع بعض وبينهم وبين الآخرين من شعوب العالم. إذ ان التصالح مع الذات هو شرط سابق للتصالح مع العالم، وبدلا من ان يتحول الإسلام إلى فوبيا عالمية كما يريد له اعداءه لابد من العمل على تعزيز ونشر قسم التسامح والسلام والحوار في الثقافة الإسلامية ونقترح بعض المداخل لتحقيق ذلك على النحو الآتي:
اولا: مدخل البحث العلمي
افرزت العولمة أو التحولات التاريخية الراهنة ظهور أنماط جديدة من الظواهر والمشكلات الإنسانية والاجتماعية، وسرعة تحولها إلى مشكلات عالمية، كمشكلة سباق التسلح والحروب والأمن والسلام الدوليين، ومشكلات البيئة العالمية والأوزون، ومشكلات التجارة العالمية والأزمات الاقتصادية وصدام الحضارات والاديان والتطرف والإرهاب، ومشاكل المال والأعمال العابرة للقارات. ومشكلات الإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية ومشاكل الفقر والصحة والمرض، والتطرف والإرهاب والعنف، ومشاكل الهويات والتعددية الثقافية، والأقليات والتمييز والتعصب والاستبعاد الاجتماعي، والهجرة غير الشرعية، والمخدرات والبطالة والفقر والحركات الاجتماعية، والمرأة والطفل والشباب، وكل ما يتصل بحقوق الإنسان، ومشاكل السياسة والنظم السياسية والعدالة والحرية والديمقراطية والمجتمع المدني. والمشكلات الأخلاقية للعلم؛ كالاستنساخ، وزراعة الأعضاء، ومنع الحمل، ومشاكل الفضاء السيبرنيتي والأقمار الاصطناعية والوسائط الإعلامية والتواصلية ومشاكل التربية والتعليم والجودة والاعتماد الأكاديمي..إلخ. كل تلك المتغيرات والتحولات التي طالت كل مناحي الحياة الإنسانية والاجتماعية للعالم الراهن لا ريب وانها قد اثرت على الشعوب والدول والثقافة الإسلامية ومن ثم فمن المهم على الفاعلين العالمين المسلمين التصدي لها بإيجابية ووضعها موضع اهتماماتهم البحثية، فعلى خطورته وتهديده مازال سؤال الإرهاب فاغر فاه متعطشا للفهم والمعرفة العلمية العقلانية الممكنة، فما هو الإرهاب؟ وماهي العوامل والشروط التي تنتجه؟ وكيف نميز بين الإرهاب وغيره من الأفعال العنفية الأخرى؟ وما الذي يدفع انسانا بكامل قواه العقلية إلى تفجير ذاته وتفجر الاخرين؟ وماهي سيكولوجية الإرهاب؟ وماذا بوسع الأسرة والمدرسة ودور العبادة والمجتمع والدولة فعله كي يكف الشباب والشابات عن انتهاج هذه الطرق المهلكة؟ وغير ذلك من الأسئلة الشائكة التي تقع في صميم عمل الفاعلين الأكاديميين في حقل الدراسات الاجتماعية والإنسانية.
اولا: المدخل التربوي الثقافي
إذ ان الثقافة في جوهرها الإنساني التاريخي الإبداعي بوصفها ذلك الكل المركب الذي يشكل تفكيرنا وخيالنا وسلوكنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا وهي فضلا عن ذلك أداة لنقل السلوك ومصدر دينامي للتغيير والإبداع والحرية وتهيئة فرص الابتكار والمنافسات والمبادرات الفردية، وهي مصدر للطاقة والإلهام والتنوع والاختلاف والشعور بالهوية والانتماء. فالثقافة هي الرحم الحي لتنمية وتخصيب القيم الإنسانية الأمنة. ولكنها يمكن ان تكون على نقيض ذلك، " فالسياسة والاقتصاد والفن والأدب والفكر، والعلم وكتابة التاريخ والخطاب الديني والايديولوجي، كل ذلك يمكن أن يكون داعما للسلم، كما قد يكون محرّضا على العنف" والتربية الحرة التسامحية يمكنها وحدها أن تعمل على بناء شخصية الطفل وكينونته الذاتية الحرة رافضا للتبعية والخضوع وقادرا في الوقت نفسه على تحليل الواقع بصيروراته المتواترة وتغييره والتأثير في مكوناته. وتوجيه مساره .. والوسيلة الأساسية في عملية بناء المواطن النقدي الحر المتسامح تكمن في تنمية الذكاء وإيقاظ الروح النقدية، وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذا الذكاء يتميز عن المعرفة ذاتها التي تزوده بالطاقة والقدرة والاقتدار.
ثالثا: المدخل الديني والفكري
بالاتساق مع الفكرة الجوهرية التي تقول ان الناس يسلكون بحسب مع يعتقدون ويفكرون ويتصورون علاقتهم بالعالم والحياة والمجتمع إذ إن من اقتنع بأن الموت هو السبيل إلى الجنة وأن التفجير والانتحار هو فعل جهاد واستشهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن تخيفه القوة العسكرية مهما بلغت ضرباتها وسطوتها، بل ربما تزيده حماسة وإصراراً على السير في هذا الطريق الشديد الوعورة والانحدار، ولأمر كذلك فإن السبيل الممكن في مواجهة العنف والتطرف والإرهاب هو العمل على تغيير القناعات والأفكار بالتربية والتعليم والتنوير والتفكير، والحوار العقلاني وعلى الجميع ( مؤسسات الأسرة وروضات الاطفال مدارس ومساجد ورجال الدين والدعاة والمفكرين والإعلامين ) تقع اليوم مسؤولية العمل على تعديل وتهذيب وتنوير الاعتقادات والقناعات عند الأطفال والشباب وجميع الأفراد المغرر بهم حتى نساعدهم على تغيير سلوكهم وأفعالهم وممارساتهم؛ إذ لا توجد قوة في العالم يمكنها ردع المقتنع عن تحقيق قناعته غير فكرة مقنعة أخرى ، فإما أن يكون السلام في الروضة والمدرسة ودور العبادة والأسرة والمجتمع والسياسة أو لا يكون! وكلما اتسعت فرص العيش الكريم للشباب، ضاقت فرص العنف والموت الذميم. ويستطيع الإعلام الجديد ودور العبادة والمدراس والجامعات عمل الشيء الكثير في تعديل وتهذيب المواقف والاتجاهات والقناعات والسلوك بما يمتلكه من ممكنات وادوات بالغة الفاعلية والتأثير.
رابعا: مدخل التنمية السياسية والمدنية
يزخر التاريخ الإسلامي المعاصر بتجارب سياسية ومدنية ناجحة في مضمار تأسيس وبناء الدولة العادلة المستقرة كما هي التجربة التنموية في (ماليزيا وسنغافورا وإندونيسيا، وتركيا وباكستان والهند وغيرها) من الدول الشرق آسيوية القريب من روح وجسد الإسلام التي حققت نجاحات مثير للاحترام والتقدير في تأكيد حضورها العلمي بفعالية وايجابية، يمكنه ان تكون نماذج محتذاه في التنمية السياسية والمدنية للمجتمعات الإسلامية التي تفتك بها الفوضى والحروب ومنها المجتمعات العربية إذ أن عملية التنمية السياسية بوجه عام تخلق الظروف والشروط الملائمة للتطور الديمقراطي، فالتنمية السياسية تهدف في النهاية إلى اعادة بناء النظم السياسية، وإجراء عمليات التحديث عليه لتصبح نظما عصريا ومتطورا وديمقراطيا، تستند على المشاركة السياسية التعددية السياسية. التداول السلمي للسلطة. وحماية واحترام حقوق الإنسان، وتنمية وتأهيل المجتمع المدني وحمايته ومن المؤسف ان كثير من المجتمعات الإسلامية ما زالت تعيش نمط العلاقات البطريكية بمؤسساتها التقليدية التضامنية الميكانيكية العمودية، ولم يستطع الانتقال إلى نمط العلاقات ولم يستطع الانتقال إلى نمط العلاقات الحديثة بمؤسساتها التضامنية العضوية العريضة. ويمكن رصد الفروق بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث في جملة من السمات منها قدرة المجتمع الحديث على تنميط علاقات تشاركية عضوية بعكس المجتمع التقليدي الذي يحدد مواقع الناس بمعايير تقليدية معزولة بعضها عن بعض وعن المركز. بل إن الحداثة الديكورية في المجتمعات التقليدية يمكنا ان تزيد الصراع بين الجماعات التقليدية وبين الجماعات التقليدية والجماعات الحديثة, هكذا كتب صاموئيل هنتجتون "إن الجماعات العرقية والدينية التي عاشت بسلام جنبا إلى جنب في مجتمع تقليدي , تصبح مدفوعة إلى صراع عنيف نتيجة للتغيرات والتوترات واللامساوة المتولدة عن الحداثة الاجتماعية والاقتصادية ". لقد بات الشروع في إصلاح المنظومة السياسية الإسلامية اليوم من الضرورات الحيوية للعيش والتعايش بسلام واستقرار في ظل قيم التسامح والتصالح والحوار.
خامسا: مدخل الإعلام البديل (إعلام السلام)
لما كان الإعلام الجديد هو جزء اساسي من تطور الحضارة الإنسانية المعاصرة في عصر العولمة وما بعد الحداثة او حضارة الموجة الثالثة حسب اولفين توفلر، فمن المؤكد ان تطوره وازدهاره سيستمر في تصاعد متزايد ولا بديل لذلك وبغض النظر عن كل السلبيات والاخطار المصاحبة لهذا التطور، إذ من الصعب اقناع العالم الكف عن استخدام الإعلام الجديد في تدبير شؤون حياته الراهنة بعد ان باتت شديدة الاعتماد عليه في مختلف مناحي الحياة. فلا مندوحة لجميع سكان هذا العالم (دولا وشعوبا ومؤسسات وافرادا) من التفكير والبحث المسؤول عن خيارات بديلة لجعل العالم أكثر أمنا وأمان وذلك باتباع استراتيجيات إعلامية رشيدة كفيلة بفك الارتباط بين ظواهر العنف والإرهاب والإعلام الجديد، أما كيف يتم ذلك؟ فيمكنه ان يتم عن طريق الإعلام البديل إعلام السلام بحسب الباحثان يوهان غالتونغ وجاك لينش، التمييز الدقيق بين طريقتين للأعلام والعنف، (منحى " العنف النصر" أو منحى "النزاع السلم.
ختاما
إن حاجتنا إلى السلام كحاجتنا إلى الهواء والنوم، فليس بمقدور الإنسان أن يعيش زمناً طويلاً في قلق وتوتر مستفز في كنف الخوف والرعب والفزع في ظل غياب شبه تام لشبكات الحماية والأمن والأمان والعدل والحرية. بيد أن السلام كشرط ضروري لاستمرار حياة أي جماعة إنسانية مزقتها الحروب والخصومات لا يتم من تلقاء ذاته، بل يحتاج إلى جهود جبارة من العمل المثابر والإصرار العنيد على ترسيخ قيم التسامح والتصالح والتضامن والثقافة السلمية وادواتها في حل النزعات والمشكلات كما اشار خبير السلام الدولي، جين شارب في كتابه (البدائل الحقيقية). فالتسامح هو الفضيلة التي تيسر قيام التعايش الاجتماعي والسلم والسلام بين الناس ويسهم في إحلال ثقافة النضال السلمي، ثقافة اللاعنف محل ثقافة الحرب والعنف والقتل والتدمير والدمار بل يمكن القول ان فضيلة التسامح هي الحد الأدنى من إمكانية العيش والتعايش المشترك في مجمع سياسي مدني مستقر قابل للنماء والتقدم والازدهار. وتهدف محاولتنا هذه إلى التوقف عند التسامح مصطلحا وفضيلة اخلاقية وقيمة ثقافية، ودلالاته ألمختلفة وسياقاته الممكنة بعده ركيزة اساسية للنضال السلمي والعدالة الانتقالية اذ يصعب الحديث عن اساليب المقاومة اللاعنفية بدون التسامح والتصالح والتضامن والحوار كشرط ضروري لحل المشكلات بالأساليب التفاوضية اللاعنفية.
المصادر والمراجع
• القرآن الكريم.
• السنة النبوية الشريفة
• ابن منظور لسان العرب.ج 2دار المعارف ، القاهرة بدون تاريخ ص906.
• أحمد زايد، العولمة وقيم السلام : الفرص والتحديات، موقع ،مجلة التفاهم العمانية، العدد37 ، 2012
• البرت أشيفيتسر، فلسفة الحضارة، ترجمة عبدالرحمن بدوي، القاهرة
• جورج بالانديبة، (في الطريق إلى القرن الواحد والعشرين – التيه – ترجمة محمد حسن إبراهيم، دمشق وزارة الثقافة " دراسات فكريـة (6) 2000م .
• جون لوك، رسالة في التسامح، جون لوك، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1988.
• روجيس دوبرية، نقد العقل السياسي، ترجمة عفيف دمشقيه، دار الآداب ، بيروت، 1986،ط 1
• سمير الخليل، توماس بالدوين، بيتر نيكولسون، كارل بوبر، الفريد آيير، التسامح بين شرق وغرب: دراسة في التعايش وقبول الآخر، ترجمة ابراهيم العريس، دار الساقي، الطبعة الأولى بيروت، 1992. انظر الفصل الأول: التسامح في اللغة العربية
• صموئيل هينتجتون، تغيير التغيير، ضمن كتاب، من الحداثة إلى العولمة, ترجمة أيمي هايت , سلسلة عالم المعرفة الكويتية العدد 309 نوفمبر 2004.
• على حسين الجابري، فلسفة التاريخ والحضارة في الفكر العربي، دار الكتاب العربي، الاردن، اربد، 2006م.
• علي اسعد وطفة، فن التربية على التسامح، موقع الكويت التعليمي، الثقافة التربوية، 14فبراير،2015.
• فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة، هنرييت عبودي، دار بترا للنشر والتوزيع، دمشق، 2009، ط1.
• قاسم المحبشي، فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر: أرنولد توينبي موضوعاً، الهيئة العامة للكتاب، صنعاء، 2006،ط1، ص15.
• كارل بوبر، المجتمع المفتوح واعداءه، ترجمة، السيد نفادي،
• مايكل أنجلو باكوبوتشي، (أعداء الحوار أسباب اللاتسامح ومظاهره، ترجمة، عبدالفتاح حسن، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2010، ط1.
• مجموعة من الكتاب، نظرية الثقافة،علي سيد الصاوي ( مترجم )الفاروق زكي يونس ( مراجع )، سلسلة عالم المعرفة 223 ( الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، تموز/ يوليو1997) ص 65
• محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990ط1.
• ميشيل مافزولي ، تأمل العالم : الصورة والاسلوب في الحياة الاجتماعية، ترجمة ، فريد الزاهي المجلس الاعلى للثقافة ، القاهرة ، 2005م ،ط1، ص 7.
• يوهان غالتونج وجاك لنيش ،التغطية الإعلامية للنزاعات: التوجهات الجديدة لإعلام السلام، ترجمة، رشيد زياني شريف،موسسة قرطبة وشبكة ترانساند 2010ط1.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. شبكة -أي بي سي- عن مسؤول أميركي: إسرائيل أصابت موقعا


.. وزراءُ خارجية دول مجموعة السبع المجتمعون في إيطاليا يتفقون




.. النيران تستعر بين إسرائيل وحزب الله.. فهل يصبح لبنان ساحة ال


.. عاجل.. إغلاق المجال الجوي الإيراني أمام الجميع باستثناء القو




.. بينهم نساء ومسنون.. العثور جثامين نحو 30 شهيد مدفونين في مشف