الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مباحث في الاستخبارات (293) عالم التجسس

بشير الوندي

2021 / 11 / 18
الارهاب, الحرب والسلام


مدخل
---------------
الجاسوسية من اشد المهن خطورة ومن اقدم المهن في التاريخ , وهو عالم مظلم كعالم المافيا و عالم المخدرات والعوالم السفلية , فكل شيء بالخفاء وبعيد عن عيون الناس والاعلام واجهزة الاستخبارات الخصم , واذا كانت عوالم المخدرات والمافيا هي عوالم عصابية جماعية , فإن عالم التجسس هو عالم صامت ابطاله منفردون في الغالب يعملون لوحدهم في بيئة خطيرة معادية , وقد يموتون فيها دون ان يعلم بهم احد , انه عالم غريب يمتهنه الخائن والوطني على حد سواء بحسب الجهة التي يعمل معها او ضدها .
----------------------------
الجاسوسية المتغلغلة
----------------------------
قال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ" صدق الله العلي العظيم
ومن حكم امير المومنين عليه السلام في عهده لمالك الاشتر "ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإنَّ تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية , وتحفظ من الأعوان ، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه ، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة ، ووسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة"
قد يبدو للوهلة الاولى ان القولان متناقضين , فالآية تنهى عن التجسس , ووصية امير المؤمنين تحث على بث الجواسيس (العيون) , الا انه لاتناقض في الامرين والمشكاة واحدة , فأما الخطاب الإلهي فيخاطب عامة الناس ينهاهم عن التجسس على بعضهم البعض وهو فعل مذموم واشارة الهيّة الى انتشار تلك الصفة بين الناس .
اما عن قول امير المؤمنين فليس للعامة وانما لمتولي الحكم , ومتولي الحكم لابد ان تكون له عيون على الاعداء من جهة او على الرعية لمعرفة احوالهم بغية تحسينها .
لقد خُلق الانسان مستخبرا وباحثا عن المعرفة , وقد خلقه الله بخمسة حواس كلها متحسسات استخبارية وهي ( السمع , البصر , الذائقة, الشم , اللمس), فمنذ الولادة وحتى الممات وهو يستخبر لنفسه ويجمع المعلومات سواء في المدرسة بتحصيل العلوم , او في العمل او الشارع او في ملاحقة الرزق , بل ان الانسان يلجأ احياناً الى الشعوذة والسحرة للاستخبار عن مفقوداته وعن مستقبله , وعندما يفكر بالزواج يسأل هو واهله ويستخبر عن فتاة احلامه , وكذا يفعل اهلها قبل الايجاب , فكل الحياة تجسس , فالوالدان يراقبان تصرفات ابناءهم , والعالم الافتراضي في عصرنا هو عالم تجسس واسع وكبير , وترى التجار يتجسس بعضهم على بعض , والحكومات تتجسس على شعوبها والدول كل يتجسس على الاخرى , والجار على جاره , وهي كلها انواع مختلفة من مراقبة البعض للبعض , منها ماهو حسن وممدوح ومنها شرير ومذموم , فالمذموم منه يسفك الدماء ويهتك الحرمات ويكشف العورات , والمحمود منه يحفظ الدولة ويتنبه لمخططات الاعداء .
لقد كان للاستخبارات دور حاسم في المعارك عبر التاريخ منذ القدم , ويقول المفكر الصيني صن تسو في كتابه الشهير فن الحرب "اذا عرفت عدوك وعرفت نفسك فليس هناك مايدعوا الى ان تخاف من نتيجة مئة معركة , واذا عرفت نفسك ولم تعرف عدوك , فانك تقاسي من هزيمة مقابل كل انتصار , واذا لم تعرف نفسك ولم تعرف عدوك , فانك احمق وسوف تواجه الهزيمة في كل معركة" , وقد لانجانب الحقيقة اذا ماقلنا ان الجاسوسية قد انقذت العالم من شبح الحرب النووية , فلولا سرقة اسرار القنبلة الذرية من الامريكان لصالح الاتحاد السوفيتي لما حصل توازن الرعب الذي منع امريكا من تكرار جريمتي ناكازاكي وهوريشيما .
ان مهنة الجاسوسية من المهن الرائجة في العالم برغم مخاطرها لاسيما في تجسس الحكومات على شعوبها , فكان لجهاز الامن الداخلي السوفيتي تسعة ملايين مخبر داخلي تقريبا , وفي عهد صدام كانت احدى الاحصاءيات تقول ب 62 الف مخبر سري مرتبطين بجهاز الامن العام وتدفع لهم مكافئات عدا عن عناصر حزب البعث البالغ عددهم مليون ونص والملزمين بكتابة تقارير حتى عن اقربائهم , اما عدد العراقيين الذين عملوا مع الامريكان في العراق بعد الاحتلال عام 2003 فتخطى ال 22 الف كمترجمين ومتعاقدين وخدمات سرية وواجهات , ناهيك عن الجواسيس الذين قدموا معلومات للامريكان وتعاونوا معهم ويقدر عددهم بحوالي 16 الف جاسوس رسمي كان يتقاضى راتبا.
.------------------------
اشكال الجاسوسية
-------------------------
بشكل عام , فإنَّ للجاسوسية خمسة اشكال من حيث الجهة التي جندت الجاسوس وتستفيد من المعلومات :
1- جاسوس يعمل في بيئة بلد العدو لصالح بلاده , وهذا النوع من التجسس هو عمل تمارسه كافة الدول وغالباً مايقوم بتنفيذه ابناء المؤسسة الاستخبارية لصالح بلادهم , ويعتبرون ابطال لدى بلدانهم واعداء لدى البلد العدو لكن العدو لايوصمهم بجريمة الخيانة لانهم ليسوا من رعاياه , وفي بعض الاحيان لايجري اعدامه ويجري تبادله مع بلاده في صفقة تبادل جواسيس.
2- جاسوس يعمل في بيئة بلاده لصالح العدو , وهذا النوع من الجواسيس هو الذي يسرب المعلومات السرية لبلاده لصالح العدو , ومتعارف عليه بالخائن لوطنه وشعبه ويوصم بكل صفات الوضاعة , وتحكمه الدول بأحكام قاسية تصل الى الاعدام , ولايجري مبادلته مع بلد العدو , وننوه هنا ان بعض النظم الدكتاتورية تلصق هذه التهمة بمعارضيها السياسيين لغرض تصفيتهم او تسقيطهم .
3- جاسوس يتجسس لصالح بلاد اجنبية بالضد من بلاد اجنبية اخرى , وهذا النوع من الجواسيس اقرب الى المرتزقة الذين يقاتلون مع جيش اجنبي بالضد من آخر , وغالباً مايكون الدافع هو الدافع المادي .
4-جاسوس يعمل لصالح الدولة في بيئة تنظيم معادي , وهذا النوع من الجاسوسية على نوعين احدهما سلبي والاخر ايجابي بحسب شكل نظام الحكم , فإن كان النظام ميال الى التفرد بالسلطة فإنه يجند عناصر داخل تنظيم سياسي معارض ليعملوا لصالح الحزب الحاكم من اجل اضعاف التنظيمات السياسية والتغلب عليها وافشالها وهو فعل شائن وخيانة , اما النوع الايجابي منه فهو من قبيل ان تقوم الاستخبارات بتجنيد قيادي في تنظيم داعش الارهابي او عضو في مافيا , او تجعل احد عناصرها ينتمي لهذا النوع من التنظيمات , فيتجسس على التنظيم الارهابي او الاجرامي وبذا يقدم خدمة جليلة لبلاده .
5- جاسوس يعمل في بيئة الدولة لصالح تنظيم معادي , وهو كما الفقرة السابقة على نوعين ايجابي وسلبي , فالإيجابي من قبيل ان يقوم تنظيم مسلح معارض بتجنيد ضابط استخبارات تابع للنظام للتجسس على النظام بغية تسهيل معرفة تحركاته وخططه , اما السلبي فهو من قبيل ان يقوم تنظيم ارهابي او اجرامي بتجنيد موظفين متنفذذين او عناصر في الشرطة لغرض معرفة اسرارهم , وهذا النوع هو خيانة تساهم بتدمير البلاد واسالة الدماء.
----------------------------
الجاسوسية والعمالة
----------------------------
هنالك الكثير من الخلط مابين الجاسوسية والعمالة , والمقصود بالجاسوسية هنا هو نوع تجسس المواطن على اسرار بلاده , وبرغم ان الاصطلاحين يشتركان بصفتين مذمومتين هما صفة الخيانة بمعناها الواسع باعتبارها إخلال متعمد بالأمانة وتفريط بالاسرار , وصفة العمل لصالح جهة معادية خارجية او داخلية ضد بلادهم وشعبهم , اما على مستوى التطبيق فهنالك فوارق كبيرة بين العمالة والجاسوسية .
فالجاسوس هو شخص يعمل سرا في سرقة الاسرار وتسريبها للعدو لتمكينه من تنفيذ اهدافه وتمكينه من الانتصار والتفوق على بلاده وشعبه , وغالباً مايكون ممن يمكنهم الوصول الى المعلومات سواء كان موظف صغير او عنصر استخباري او قيادي.
اما العميل فمهماته اكبر وخطره اشد , ذلك ان عمله ليس جمع المعلومات وانما ان ينفذ اجندة سياسة معادية وتطبيق خطط للعدو لتمكين العدو من السيطرة على بلاده من خلال التخريب او الفساد وغالباً مايجر معه اخرين لتهديم بلاده , والعميل يعمل في العلن تحت غطاء ايديولوجي او سوليفان المصلحة العامة , وغالبا مايكون العميل شخص مؤثر كأديب او مدير او رئيس جزب او منصب مرموق .
ورغم ان عراق مابعد 2003 يعاني من النوعين , الجواسيس والعملاء , الا ان الخطر الاكبر والجسيم في العراق هو على يد العملاء , فهم الخطر العظيم وهم من ينفذوا اجندات الاجانب والكثير من دول الجوار , فلاتحتاج امريكا او اسرائيل لجواسيس فهم يتصنتون على كل المكالمات ولديهم كافة الملفات ولكن مايحتاجونه ان يكون لديهم عملاء ينفذون اجنداتهم ويقودون جموع بشرية لتسير ورائهم بالمال تارة وبالتأثير الثقافي والاعلامي تارة اخرى , عملاء يسلخون العراقيين من ثوابتهم ومقدساتهم ورموزهم .
----------------------------------------
الجاسوسية وتقنيات التجسس
----------------------------------------
لم تتغير طبيعة العمل الاستخباري منذ عهد صن تزو وكتابه “فن الحرب” في القرن السادس قبل الميلاد حتـى بدايات القرن العشرين حين اندلعت الحرب العالمية الاولى وحصلت القفزة الجبارة حينها باختراع الشيفرات والراديو واللاسلكي مما نقل العمل الاستخباري وحلم ايصال المعلومة فوراً الى مستوى جديد متميز , وانطلقت وسائل التجسس منذ ذلك الحين وتطورت ادواتها الفنية كالتصوير الجوي وكاميرات التجسس واللاقطات الدقيقة الخفية حتى جاءت الثورة العملاقة في عالم الانترنيت والتجسس الالكتروني لتدخل التقنيات عالم العمليات الهجومية الالكترونية والتقنيات الموجهة والتوسع بفيروسات الهجوم الالكتروني.
لقد اعتمد التجسس البشري الكلاسيكي على قيمة العامل البشري الجاسوسي ومهارات إخفاء الهوية والاعيب الخداع والتجنيد والقيام بعمليات التخريب وزرع الجواسيس والاغتيال , وهو الامر الذي اعلى من شأن الاجهزة الاستخبارات واعطاها الطابع الاسطوري الغامض.
أما الآن ، فقد دخلت تقنيات تجسسية متطورة تجمع المعلومات وتحللها وتهاجم حواسيب العدو وتعطل منشآته عبر الفايروسات بل وتغتال الخصوم عبر صواريخ موجهة او بطائرات الدرون وجرى التحول إلى الاستخبارات السيبرية حتى صارت عبارات ممنوع التصوير التي نراها على شوارع المباني الحكومية الرئاسية بمثابة رقم من العصر الحجري .
كما دخلت ادوات اخذت من جرف الاعمال الاستخبارية والتجسسية من قبيل اجهزة التعرف على الوجوه ومسحات بصمات اليد أو العين أو الصوت ومعلومات السوشيال ميديا وبرامج التجسس عبر الهواتف والحواسيب وسواها .
لا تعنـي هذه التطورات وغيرها نهاية دور العنصر البشري في الاستخبارات، ولكن تمت اعادة تعريف “الاستخبارات” و”المعلومات” ، وجرت تغييرات تنظيمية وقانونية على المؤسسات الاستخبارية من خلال إدماج التكنولوجيا مع العمل الاستخباراتي التقليدي .
-------------
خلاصة
-------------
عالم التجسس عالم غامض مليء بالاسرار , له جوانب مظلمة سيئة تتمثل بالخيانة سواء في السلوك الانساني او في الاستخدام الاستخباري الرسمي , وله جوانب مشرقة بطولية على يد جنود مجهولين قدموا ويقدمون لبلدانهم وشعوبهم خدمات جليلة لايقدم على مخاطرها من يفكر بالانانية ويفتقر للرجولة ومااكثرهم في الشعوب الحية , والله الموفق.
للمزيد انظر : مباحث في الاستخبارات(1) الحياة استخبار. و(2) استخبار الوحي , و(3) دلالة الاصطلاحات الاستخبارية.و (214) الطابور السادس .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات