الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع فيلسوف عربي

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2021 / 11 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


شكلت موجبات الحداثة وأسباب تعثرها، نقطة الدائرة التي تدور حولها الأطروحات العلمية والفلسفية للعديد من المشتغلين والمنظِّرين في العلوم الإنسانية في العالم العربي. منذ أن أصدر أمير البيان، شكيب أرسلان (1869-1946م) كتابه «لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟» عام 1930م، ما زالت إشكاليات النهضة والتحديث في التاريخ العربي المعاصر، تؤرق كثيرًا من الأعلام ذوي الانتماءات والإثنيات المختلفة، ولا سيما الفلاسفة منهم، من الذين تصدوا لليقينيات والإطلاقيات الأيديولوجية، بُغية قيام مجتمعات حداثية، قادرة على الأخذ بالتطورات العلمية والمساهمة في مسيرة التحضر البشري.

انكبّ الفيلسوف اللبناني مشير باسيل عون في مشروعاته البحثية ومؤلفاته على درس مقتضيات النهوض الحضاري والتجديد، ووضع نظريّة فلسفيّة متكاملة تقوم على أربع قواعد: المباني الأنثروبولوجيّة في تصوّرات الإنسان في المسيحيّة والإسلام والعَلمانيّة، والعَلمانيّة الهنيّة، والتسالميّة الحضاريّة المقترنة بالتعدّديّة الكونيّة، والتكامليّة القيميّة. تبنَّى صاحب «الفِسَارة الفلسفيَّة» نهج التجديد في الفكر الديني المسيحي، وراهن على البعد الإنساني العالمي الذي يحتضن كل التعدديات الدينية والإثنية والعرقية. عمل على «لاهوت التقريب» والحوار بين الأديان، انطلاقًا من مشرقيته ومعرفته بالثقافتين العربية والأُوربّيّة، ولم يتوانَ عن مقارعة «التطرفات المسيحية» في لبنان الناشئة على هوامش «الأصوليات الإسلامية»، وتضخم نزعة التدين اللاعقلاني في الداخل اللبناني ومحيطه العربي.

يقدم الفيلسوف مشير باسيل عون في حواره أفكارًا وطروحات عدة في الفكر اللاهوتي والفلسفي وفلسفة الدين، وأهمية التأويلات ودورها في المسيحية والإسلام؛ وهو المؤمن بأن «النصّ الدِّينيّ يحيا بفضل تجدّد الاختبارات التأويليّة التي تستثمره». تضمن الحوار الموسع إلى جانب هذه المحاور: رؤية تفسيرية عميقة عن أحوال المسيحيين في المنطقة العربية وتراجعهم عن القضايا الكبرى، وضرورة «حريّة إقبال» الدين الإسلامي على الحداثة من دون خوف من فقدان الجذور والأصول، إضافة إلى مسؤولية النخب العربية اليوم تجاه التنوير، وترسيخ النظرة النقديّة للتاريخ العربيّ وثورة الإنسان الفرد. ولم يغفل الحوار عن الأزمة العالمية لجائحة كورونا، فسعى إلى استجلائها استنادًا إلى سؤال محوري: ما الدرس الفلسفيّ والأخلاقيّ الذي يجب استخراجُه من هذه التجربة الإنسانيّة العالميّة المؤلمة؟

يتحدر عون (1964م) من جديدة الفاكهة في البقاع اللبنانيّ. نزحت أسرتُه في أربعينيّات القرن العشرين من البقاع الشماليّ، واستقرّت في مدينة زحلة. أنهى دراساته الفلسفيّة واللاهوتيّة العليا في معهد الآباء البولُسيّين (حريصا، كسروان)، وحصل في عام 1990م على شهادة الدراسات المعمّقة في الفلسفة من الجامعة اللبنانيّة ببيروت (كتب الرسالة بالفرنسيّة وموضوعها التقنية الحديثة بما هي خاتمة الفكر المِيتافيزيائيّ في فكر مارتن هايدغر). ومن بعد ذلك، أقام في فرنسا وفي ألمانيا حيث تابع أبحاث الدكتوراه في الفلسفة الألمانيّة. وفي جامعة كان النورمانديّة (فرنسا) نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة في عام 1994 (موضوع الأطروحة المدينة الإنسانيّة في فكر مارتن هايدغر). ومن بعد أن أقام زهاء اثنتي عشرة سنة في أُوربّا (ولا سيّما في ألمانيا وفي بلجيكا) يواظب على قراءاته وأبحاثه الفلسفيّة، عاد إلى لبنان في عام 2002م، وأخذ يحاضر في الفلسفة الألمانيّة والفِسارة الفلسفيّة، وفلسفة الدِّين وتلاقي الحضارات في التجابه والتحاور في جامعات لبنانيّة شتّى. وما لبث أن تفرّغ للتدريس في الجامعة اللبنانيّة (قسم الفلسفة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الفرع الثاني). تناهز كتبُه الأربعين مؤلَّفًا باللغتين العربيّة والفرنسيّة.

وفيما يأتي تفاصيل الحوار الذي أجرته الباحثة والكاتبة اللبنانية ريتا فرج ونُشر في مجلة "الفيصل" في العددين 525/526 تاريخ يوليو/أغسطس 2020:

● نلاحظ أنّ مشروعك الفكريّ قائمٌ على حقلَين أساسيّين: الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ ومناهجه، والفلسفة الغربيّة. ما التقاطعات المنهجيّة والمعرفيّة بينهما؟

■ في زمن الشباب والنضج الفكريّ الأوّل، كنتُ مُكبًّا على التحرّي عن معقوليّة الخطاب الدِّينيّ في المسيحيّة. التزامي الأوّل في السلك الإكليريكيّ أتاح لي التعمّق في مقولات الإيمان المسيحيّ، ومنحني القدرةَ على استجلاء الرابط الناظم بين البناءات اللاهوتيّة والخلفيّات الفلسفيّة المعرفيّة. فاتّضح لي أنّ العمارة اللاهوتيّة المسيحيّة كانت في كلّ حقبة من حقبات تاريخ الفلسفة تستعين بمكتسبات المعارف الفلسفيّة؛ لكي تبني خطابها العقائديّ على المقولات التأسيسيّة التي تنسجم مع حقائق الإيمان المسيحيّ الأوَل. في زمن آباء الكنيسة (القرن الأوّل- القرن الثامن) مال الفكرُ اللاهوتيّ إلى مثاليّة أفلاطون وثنائيّته، واستحسن صوفيّة أفلوطين، واعتصم بأخلاقيّة الرواقيّين. في كلّ مذهب فلسفيّ تخيّر علمُ اللاهوت المسيحيّ البذار الصالحة التي تدعم قابليّة سرّ التجسّد والفداء والخلاص، وذلك من أجل الانتظام في خطاب معقولٍ، خليقٍ باستنهاض المدارك الذهنيّة.
يعرف الجميع أنّ السيّد المسيح ما نطق قطّ بمقولة اللوغوس (الكلمة) التي افتتح بها التيّارُ اللاهوتيّ الذي نشأ حول الإنجيليّ يوحنّا نصَّ الإنجيل الرابع. ذلك بأنّ يوحنّا الإنجيليّ أو أصحاب مدرسته اللاهوتيّة الناشئة استعاروا من الإرث الإغريقيّ مقولة اللوغوس ونسبوها إلى السيّد المسيح إظهارًا لوساطته في الخلق ولإفصاحه عن الجوهر الإلهيّ، على غرار المقام المعرفيّ الذي نشأت عليه مقولةُ اللوغوس في الفكر اليونانيّ القديم. ابتداءً من القرن العاشر، طفق بعضُ اللاهوتيّين المسيحيّين يكتشفون كنوز المباني الأرسطيّة بفضل ما أنجزه الفلاسفة العرب اليهود والمسيحيّون والمسلمون من نقل فلسفيّ متين وشروحات مغنية زيّنوا بها نصوص أرسطو. اعتنى توما الأكوينيّ اعتناءً دقيقًا بالأنظومة الأرسطيّة، واستخدمها في تجديد العمارة اللاهوتيّة المسيحيّة. ولكنّه تجرّأ فأسقط قدَم العالم، وزائليّة النفس البشريّة، وانعدام الغائيّة الأخلاقيّة وبطلان الدينونة العامّة في يوم الحشر؛ لأنّ مثل هذه المقولات الأرسطيّة تناقض حقائق الإيمان المسيحيّ.
على تراخي العصور، عمدت المسيحيّة إذًا إلى التفاعل الناشط مع الفكر الفلسفيّ. فصاحبته وتأثّرت به وأثّرت فيه. وقد يكون لهذه المصاحبة التفاعليّة وقعٌ شديدٌ على تطوّر الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ الذي أفضى إلى اعتماد سبُل التجديد الجذريّ ابتداءً من منتصف القرن العشرين. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ العلوم الدِّينيّة الإسلاميّة كانت أقلَّ إقبالًا على الفكر الفلسفيّ وأشدّ اعتصامًا باستقلاليّة العلوم النقليّة. يظهر مثلُ هذا التباين في تطوّر الفكرَين الدِّينيّين المسيحيّ والإسلاميّ في الأزمنة المعاصرة حيث لم يأنف الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ الرسميّ الكنسيّ والاجتهاديّ الفرديّ من الإفادة المغنية من فتوحات الفكر الفلسفيّ، فيما ظلَّ الفكر الدِّينيّ الإسلاميّ، في معظمه، مناهضًا كلَّ انسلاخ اغترابيّ عن تربة العلوم النقليّة الأصليّة، ما خلا بعض الاجتهادات الفرديّة التي أفرج عنها مفكّرو التجديد والتحديث في الإسلام المعاصر. يحضرني في هذا السياق البحث الراقي الذي أنجزه العالمان لوي غاردِه وجورج قنواتي في مقارنة العمارة اللاهوتيّة المسيحيّة بالعمارة الكلاميّة الإسلاميّة. وقد عرّبه العالمان اللبنانيّان الأب فريد جبر والشيخ صبحي الصالح (فلسفة الفكر الدِّينيّ، دار العلم للملايين، بيروت، 1980- 1983م).
في هذه الحقبة الأولى من تفكيري، أنشأتُ بعض الأبحاث التي تتناول وشائج التأثير والتأثّر بين اللاهوت والفلسفة(١)، وأفردتُ بعض الكتابات للنظر في مقارنة العمارتَين الدِّينيّتين المسيحيّة والإسلاميّة(٢)، وخصّصتُ بعضًا من الدراسات لاستجلاء مآلات الفكر الدِّينيّ في زمن الحداثة على وجه العموم(٣). كان مقصدي الأبرز أن أجعل اللاهوت المسيحيّ يدرك ارتباطه العميق بالعمارات الفلسفيّة التي تعاقبت على وقع التفاعل والتجابه والتقابس؛ إذ إنّ مثل هذا الإدراك يحرّر الخطاب الدِّينيّ من تصلّباته وتشنّجاته ويهيّئه لتفاعلات جديدة بنّاءة يصاحب بها تطوّر الوعي الإنسانيّ في مطالع القرن الحادي والعشرين.
اقتناعي هو أنّ الخطاب الدِّينيّ لا يتطوّر من داخل عمارته بمحض أدواته ومفاهيمه واصطلاحاته، بل باحتكاكه البينيّ بمكتسبات العلوم الإنسانيّة وبخلاصات العلوم الوضعيّة. وتنتصب الفلسفة في مقام الصدارة؛ إذ إنّها هي التي تقبض على جوهر المعاني القصيّة التي تُفرج عنها هذه العلوم، فترسم لها السياق الإبيستِمولوجيّ الملائم، وتصوغ لها التعبير الاصطلاحيّ المناسب. ومن ثمّ، فإنّ خصوبة الفكر اللاهوتيّ تقترن اقترانًا وثيقًا بالتفوّر الناشط في مختبرات التفكّر الفلسفيّ.

● شهدت العقود الأخيرة اهتمامًا لافتًا من جانب بعض الدوائر الثقافيّة والأكاديميّة العربيّة بفلسفة الدِّين. أيُّ دور للفلسفة في تحرير الدِّين من نصوصيّته والتأسيس لـــ«لاهوت الإنسان» في الأرومة الإبراهيميّة، ولا سيّما في رافدها الإسلاميّ الذي يعاني مركزيّةَ النصّ على حساب الفرد؟

■ من خصائص فلسفة الدِّين، ومن بركاتها أيضًا، أنّها تستطيع أن تتفكّر في الاختبار الإيمانيّ من غير أن تخضع خضوعًا مُربكًا لإملاءات سلطان الخطاب الدِّينيّ. تناولتُ في بعض أبحاثي(٤) أيضًا مسألة الإسهام الفلسفيّ في تحرير الدِّين من صلابة الأنظومة التي تُطبِق عليه إطباقًا. من أفعل السبُل في هذا النطاق التمييزُ الحصيف بين وجهَين متلازمَين في الدِّين، وجه الأنظومة أو المؤسّسة بما تشتمل عليه من عقائد وعبادات وأخلاق وفنون ونظُم أو شرائع، ووجه الإيمان بما ينطوي عليه من اختبار ذاتيّ جوّانيّ، باطنيّ، وجدانيّ، شعوريّ، حدسيّ. وهو اختبارٌ يضع الإنسان المؤمن في وصال صوفيّ بالرحابة الإلهيّة. يساعدنا هذا التمييز في تحرير الأنظومة الدِّينيّة من شوائبها التاريخيّة، وفي تصويب الوصال الصوفيّ من انفلاتاته الشطحيّة. وحدها فلسفة الدِّين تستطيع أن تستثمر هذا التمييز من أجل إعانة الدِّين على مصاحبة تطوّرات الوعي الإنسانيّ في العلوم الطبيعيّة الوضعيّة والعلوم الإنسانيّة.
من العوامل التي ستساعد المجتمعات العربيّة على إدراك فضائل هذا التمييز صدورُ الثلاثيّة البحثيّة الفريدة (العوسج الملتهب وأنوار العقل، ثلاثة مجلّدات، دار الكتاب الجديد المتّحدة، بيروت، لبنان) التي نشرها بالفرنسيّة واحدٌ من أعظم مؤرّخي فلسفة الدِّين في العالم الغربيّ، عنيتُ به الفيلسوف الفرنسيّ جان غريش. من بعد أن نظرتُ نظرًا مليًّا في اجتهادات التعريب، وضعتُ لهذه الثلاثيّة العصماء مقدّمةً مُسهبة أبنتُ فيها سبيل التجديد في فلسفة الدِّين العربيّة المعاصرة. أعتقد أنّ الوقت قد حان لكي يتعامل الإنسانُ العربيّ مع النصّ الدِّينيّ تعاملًا رزينًا، مسؤولًا، ناضجًا، منفتحًا، خلّاقًا، يستخرج منه وعودَه الخلاصيّة في حركيّةٍ تفاعليّة تجعل النصَّ في مقام الصمت الإلهاميّ والمؤمن العاقل في مقام النطق التأويليّ. ذلك بأنّ النصوص متناهيةٌ، على حدّ قول الشهرستاني، فيما الوقائع لا متناهيّة. فلا يجوز أن يحكم المتناهي اللامتناهي، بل من العدل أن تنبثق من النصّ الدِّينيّ قابليّاتٌ استصحابيّة ومن الوقائع طاقاتٌ استنهاضيّةٌ تجعل التأويلَ الحرّ المسؤول البنّاء هو عماد الخلاص في إدراك معنى الوجود الإنسانيّ في تضاعيف الحياة العربيّة المعاصرة.
لا تكتفي فلسفة الدِّين العربيّة المعاصرة باستخراج مقاصد النصّ الدِّينيّ، بل يجب عليها أن تمنح اختبارات الإنسان العربيّ الوجوديّة مقام الندّيّة. فالنصّ الدِّينيّ يحيا بفضل تجدّد الاختبارات التأويليّة التي تستثمره. وهذه الاختبارات هي ثمرة النضال الإنسانيّ المختمر، المتراكم، المتفاعل في بوتقة الرقيّ الحضاريّ. ولست أتخيّل تأويلًا دينيًّا معاصرًا يُهمل ما أنضجه الوعيُ الإنسانيّ المعاصر من استجلاء لكرامة الإنسان أفصحت عنه شرعة حقوق الإنسان الكونيّة. وعلاوةً على ذلك، فإنّ فلسفة الدِّين هي وحدها التي تستطيع أن تجنّب الدِّين الانزلاق في وهاد الأيديولوجيا، على قدر ما تعصمه من تشويه معالم المسائل الأربع الأساسيّة التي تنطوي عليها كلُّ أنظومة فكريّة شموليّة، عنيتُ بها مسألة الحقيقة، ومسألة الآخر، ومسألة السلطان، ومسألة الوعي التاريخيّ.
في مسألة الحقيقة، تعمد فلسفة الدِّين إلى إظهار نسبيّة التعابير البشريّة في الإفصاح عن حقائق الوجود. وحدها عبارة السرّ تصلح في التعبير عن محدوديّة الاختبار الإيمانيّ في أقصى مراميه. بيد أنّ الأنظومة الدِّينيّة تميل ميلًا عفويًّا إلى الاستئثار بالحقيقة والاضطلاع بمسؤوليّة صونها في وديعة نقيّة منزّهة عن مداخلات البشر. في مسألة الآخر، لا تستطيع الأديان أن تصون الآخر في غيريّته؛ لأنّ تثبيت الاختلاف في أصالة مقامه يناقض مبدأ الشموليّة والاحتوائيّة والإطلاقيّة في الأنظومة الدِّينيّة. ليس للآخر إلّا مقامٌ عابرٌ في التصوّر الدِّينيّ، في حين أنّ فلسفة الدِّين تعترف بالأصالة المطلقة للغيريّات الإنسانيّة. في مسألة السلطان، يمكن فلسفة الدِّين أن تحرّر الأنظومة الدِّينيّة من مخاطر الهيمنة على الوعي الإنسانيّ، فتُعتق الإيمان من ضرورات الضبط والتأديب والإكراه. أمّا في مسألة التاريخانيّة أو الوعي التاريخيّ، فإنّ فلسفة الدِّين تهب المؤمن القدرة على الانعتاق من تصلّبات البناءات التقليديّة، وترسّبات السبكيّات المحنّطة، وإقفالات المدارك الضيّقة. أشدُّ ما يجذبني في فلسفة الدِّين قدرتُها العظيمة على استثمار النصوص، ولا سيّما النصوص الدِّينيّة، في حين أنّ الأنظومة الدِّينيّة تصطدم اصطدامًا مربكًا بالسلطان الذي تمنحه هي للنصّ عينه، فتجعله مسيطرًا على وعي الإنسان المؤمن. أمّا أخطر مراتب الإرباك التأويليّ، فتتجلّى حين تتغافل الأنظومة الدِّينيّة عن الرباط الجدليّ بين النصّ والمؤسّسة. فالنصّ ينشئ الأنظومة على قدر ما تنشئ الأنظومة النصّ. في الوعي الدِّينيّ العربيّ المعاصر، يُصرّ بعضُهم على إهمال هذه الجدليّة التاريخيّة الخصبة.

● أودّ الانتقال إلى مسألة انشغلتَ بها في كتاباتك، وأقصد بذلك المسيحيّين في لبنان والعالم العربيّ؛ أين هم اليوم من مشروعهم النهضويّ؟ وكيف تفسّرون هذا الكمون والتراجع عن تبنّيهم القضايا الكبرى؟

■ المسيحيّة الشاهدة في مجتمعات العالم العربيّ تحيا اختبار المصلوبيّة منذ نشأتها، إذ إنّها ابتُليت بمحنة الخضوع لسلطان سياسيّ لم ينبثق من ذاتيّتها التاريخيّة ومن منظوريّتها الاجتماعيّة الثقافيّة الخاصّة (السلطان الرومانيّ، السلطان البيزنطيّ، السلطان الإسلاميّ الأمويّ والعبّاسيّ، السلطان الإفرنجيّ «الصليبيّ»، السلطان الأيّوبيّ المملوكيّ، السلطان العثمانيّ، السلطان الأُوربّيّ الانتدابيّ، السلطان الأمِيركيّ- السوفييتيّ في ظلّ الدولة العربيّة الحديثة المستبدّة الظالمة، الانتهاك الصهيونيّ الفاضح في أرض فلسطين، الانحلالات البنيويّة في المجتمعات العربيّة وتفجّر الأصوليّات العنفيّة). على تعاقب هذه العهود كلّها، خضع المسيحيّون، وهم سكّان الأرض العربيّة الأصليّون، لأهوال الهيمنة التي تناقض مشيئتهم الذاتيّة. من حسنات هذا الخضوع الوحيدة أنّ الدهر أعتقهم من مخاطر الحكم السياسيّ الذاتيّ وملابساته وتواطؤاته، ما خلا في لبنان حيث حاولوا أن يحكموا حكم الشراكة الطائفيّة مع المسلمين. بيد أنّ النظام الطائفيّ أخفق في تطوير البنيان الإنسانيّ في لبنان، ولئن نجح في صون شيءٍ من الحرّيّات، وبعضٍ من الدِّيمقراطية اللبنانيّة الناقصة، وحيّز من الضمان الوجوديّ الهشّ.
تتنوّع التراثات اللاهوتيّة في الجماعات المسيحيّة القاطنة في المجتمعات العربيّة بتنوّع الخلفيّات الثقافيّة والإثنيّة. فالسريان والأقباط والأشوريّون والكلدان والروم والموارنة والأرمن والإنجيليّون جميعهم انتموا انتماءً صريحًا إلى المحضن العربيّ الأوسع، واندمجوا بالنسيج الاجتماعيّ العربيّ. وتدلّ الآثار والحفريّات على مسيحيّة عربيّة تنشب جذورها في عمق التاريخ العربيّ منذ ما قبل نشأة الإسلام. في جميع الأحوال، قرّرت جميع هذه الجماعات المسيحيّة الانصهار المصيريّ بمجتمعات العالم العربيّ والتزام قضايا الإنسان العربيّ. غير أنّ النظام السلطانيّ العثمانيّ، وهو آخر البنى القروسطيّة التي ورثتها المجتمعات العربيّة المعاصرة، ما أباح نشوء المؤسّسة ونشوء الدولة ونشوء البنية القانونيّة الحديثة. فاستمرّت هذه الجماعة منضويةً إلى مقولة الملّة الخاضعة لنظام خاصّ من الذمّيّة الملطّفة.
مشكلة هؤلاء المسيحيّين الأولى أنّهم يحملون في وعيهم تصوّرًا ثقافيًّا للاجتماع الإنسانيّ وللدولة الحديثة يؤهّلهم لحثّ شركائهم المسلمين على الانخراط في تحديث الاجتماع العربيّ، ولكنّه يضعهم على الدوام في حالة المخاصمة الحادّة مع الذهنيّة الإسلاميّة القروسطيّة التي لا تقبل حتّى الآن التمييز بين الحقل العامّ والحقل الخاصّ. مشكلتهم الثانية أنّهم يحيون في مجتمعات تدين بمعظمها بالإسلام، وتقبل قبولًا متفاوتَ النبرات الاختلاف الدِّينيّ الذي يجسّده الإيمان المسيحيّ في أعمق خصائصه الذاتيّة. ذلك بأنّ الآخر ما برح معضلةً تأويليّة كأداء في الوعي الإسلاميّ. والحال أنّ المجتمعات العربيّة المعاصرة لا تقسو على المسيحيّين وحسب، بل تقسو على كلّ الذين لا يعتنقون مذهب السلطان الحاكم. فالعَلمانيّون المحايدون والملحدون الملتزمون لا مكان لهم في هذه المجتمعات، وكذلك أصحاب المذاهب الإسلاميّة الأخرى. مشكلتهم الثالثة أنّ معظم الأنظمة العربيّة الحديثة تخيّرهم بين الخضوع المذلّ، أو الانضواء الذمّيّ اللطيف، أو الانكفاء الطوعيّ الصامت، أو الاقتلاع والهجران.
أدعو المجتمعات العربيّة إلى ملاقاة هؤلاء المسيحيّين في خصوصيّتهم الحضاريّة، وإعانتهم على الاضطلاع بضروب ثلاثة من المسؤوليّة تحدّثتُ عنها في كتابي الأخير الذي صدر بالفرنسيّة في باريس (المسيح العربيّ)(٥). أبدأ بالخصوصيّة التي تميّزهم من سائر العرب، عنيتُ بها استعدادهم الفطريّ لإدراك لطائف الهويّة العربيّة في عمق تراثها الحضاريّ، وقدرتهم النافذة على استجلاء الذاتيّة المسيحيّة التي تأسّست عليها الحضارة الغربيّة في صميم نشأتها الأولى. لا يكفي أن يكون الإنسانُ العربيّ قريبًا من الحوض الشماليّ للبحر الأبيض المتوسّط حتّى يدرك هويّة الحضارة المسيحيّة الأُوربّيّة على سبيل المثال. فأصدقائي الجزائريّون والمغاربة والتونسيّون هم أقرب من العرب المشارقة إلى إدراك هويّة الحضارة الغربيّة في القارّة الأُوربّيّة. غير أنّ هذا الإدراك يظلّ إدراكًا معرفيًّا بحتًا، فيما الإدراك الذي يحتضنه المسيحيّون العرب يجمع إلى التبصّر المعرفيّ القربى الوجدانيّة والاختباريّة. من واجب المجتمعات العربيّة أن تتّكل على هذه الخصوصيّة المسيحيّة لكي تفوز بفهم أفضل لفرادة الحضارة المسيحيّة المتجلّية في ثقافات الأمم الأُوربّيّة ودساتيرها وآدابها وفنونها ومسلكيّاتها(٦).
يبقى لهؤلاء المسيحيّين في المجتمعات العربيّة أن يضطلعوا بمهمّات ثلاث. الأولى تقضي بأن يصاحبوا المسلمين على طريق النهضة الشاملة، في جميع حقول الوجود العربيّ التاريخيّ، ولا سيّما في حقل التجديد الدِّينيّ الذي اختبروا آثاره الطيّبة في مسرى تاريخهم الحديث والمعاصر، وفي حقل الاجتماع السياسيّ حيث تهيّأ للمسيحيّة أن تعزّز بناء المدينة الإنسانيّة في تمييزٍ حصيف بين المجال العموميّ المحايد والمجال الخصوصيّ الذاتيّ الملتزم.
ذلك بأنّ مصيرهم مقترنٌ بمصير هذه النهضة. فإمّا أن ينهضوا مع المسلمين والعَلمانيّين، وإمّا أن يسقطوا جميعًا في متاهات الضياع والانحلال. الثانية تُلزمهم أن يجعلوا الشرق والغرب يتلاقيان من غير مخاصمة أو معاداة، في روح المودّة الحقّة، والتضامن الصادق، والتكامل البنّاء. الثالثة تستوجب منهم أن يصالحوا في رفق المسيح ورقّته ووداعته عنفوانَ الإرث الإسحاقيّ اليهوديّ وعزّة الإرث الإسماعيليّ الإسلاميّ، على ما كان يذهب إليه واحدٌ من ألمع اللاهوتيّين اللبنانيّين، عنيتُ به الأب ميشال الحايك. بفضل هذه المصالحة، يمكن البشريّة أن تنتهج سبيلًا آخر إلى فهم مقاصد التعدّديّة الكونيّة. بفضل هذه الإسهامات الثلاثة، تستطيع المجتمعات العربيّة أن تنفتح انفتاحًا جليلًا يؤهّلها لمصاحبة أحوال الزمن المعاصر، في جميع متطلّباته المعرفيّة والأخلاقيّة والتدبيريّة. حينئذ يمكن الوعي العربيّ أن يعاين الإنسان العربيّ في أصالة كيانه، مستقلًّا عن كلّ انتماء أيديولوجي أو دينيّ أو مذهبيّ، مزدانًا بحقوقه الإنسانيّة الأساسيّة، بمعزل عن هويّته الدِّينيّة أو العرقيّة. آن الأوان لكي يصبح الإنسان العربيّ كائن المعاصَرة الإنسيّة التاريخيّة، قبل أن يكون إنسان الانتماء اليهوديّ المندثر، أو المسيحيّ المفتقر، أو الإسلاميّ المنفجر.
لا بدّ هنا من إلقاء البال إلى مسألة هي في غاية الخطورة، عنيتُ بها تلازم المسرى التقدّميّ والتقهقريّ بين الإيقاعين المسيحيّ والإسلاميّ في العالم العربيّ. في إثر ما عاينتُه من تقهقر مسيحيّ في الوطن اللبنانيّ، تبيّن لي أنّ الغلوّ الإسلاميّ أفضى بالمسيحيّين إلى الإعراض عن مكتسبات الحداثة اللاهوتيّة، والإغراق في الطوباويّات والصوفيّات والوجدانيّات والعصبيّات المسلكيّة المتزمّته، وفي اعتقادهم أنّهم بذلك يصونون وجودهم الجسديّ الجماعيّ في مواجهة كتلة إسلاميّة متشنّجة، متهيّجة، متربّصة بالجميع. وكذلك الحال مع الجماعة القبطيّة في مصر حيث يضطرّ المصريّون المسيحيّون إلى الانغلاق والتعصّب دفاعًا عن وجودهم وعقيدتهم.
خلاصة المعاينة أنّ الحال اللاهوتيّة المسيحيّة العربيّة المتقدّمة التي اختبرها المسيحيّون، ولا سيّما في الاجتماع اللبنانيّ، في الستّينيّات والسبعينيّات من القرن المنصرم ارتطمت بانتكاسة إسلاميّة فقهيّة جعلتها ترتدّ إلى الوراء، وتنكفئ إلى قلاع القرون الوسطى الفكريّة. لم أكن يومًا أظنّ أن مؤمنًا مسيحيًّا يجرؤ على صفع أسقف مسيحيّ اشتهر بحرّيّته الفكريّة وبإبداعه الطليعيّ وبنضاله النبويّ في سبيل الفقراء، عنيتُ به مطران بيروت الأسبق ومطران البؤس الاجتماعيّ، المطران الأحمر غريغوار حدّاد. فيُرديه أرضًا وهو خارجٌ من حلقة تليفزيونيّة كان يستطلع فيها آفاق التجديد في الخطاب اللاهوتيّ المعاصر في لبنان. وعليه، فإنّ مسؤوليّة تحرير اللاهوت المسيحيّ من زمنيّته القديمة منوطةٌ بالمسلمين الذين ينبغي لهم أن يقتحموا ميادين الحداثة في غير تردّد أو ارتباك.
مسألة أخيرة أودّ أن أوضحها في هذا السياق. يعيب بعض المسلمين على المفكّرين المسيحيّين شغفَهم بقضايا القوميّة وقضايا التحديث وقضايا العَلمانيّة هربًا من مأزق الأقلّيّة الذي زجّهم فيه العالم العربيّ. الحقيقة أنّ نوابغ المسيحيّة في المجتمعات العربيّة الحديثة أدركوا قبل غيرهم أنّ خلاص العالم العربيّ يأتيه من الانخراط الهنيّ الفعّال البنّاء في مسرى الحداثة الكونيّة. وقد اتّضح للجميع أنّ الاقتراحات النهضويّة التي ساقها هؤلاء المفكّرون المسيحيّون هي التي أثبتت جدارتها وصوابيّتها وملاءمتها التاريخيّة؛ إذ إنّ الصحوات الدينيّة والانقباضات المذهبيّة والانكماشات الجهويّة والعصبيّات العشيريّة لن تنقذ العالم العربيّ من السقوط المريع في غياهب العقم الحضاريّ.

● مرّت المسيحيّة بمخاض عسير قبل أن تقوم بثورة داخليّة على «عنف المؤسّسة الدِّينيّة»، واحتكارها المعنى والحقيقة الدِّينيّة. وقد دفعت عواملُ تاريخيّة وثقافيّة مختلفة الكنيسة كي تسلك هذا الاتّجاه، خصوصًا بعد المجمع الفاتيكانيّ الثاني الذي وصفه بعضُهم بالثورة الكوبرنيكيّة كونه كرّس مبدأ الانفتاح الكنسيّ على التعدّديّة الدِّينيّة وقبول أبناء الديانات الأخرى في فضاء الخلاص. ما دور اللاهوت المسيحيّ التجديديّ في هذه الثورة؟ وكيف تنظرون إلى الدعوات المطالبة بأن يحذو الإسلام حذو المجمع الفاتيكانيّ الثاني؟

■ عانت المسيحيّة، بوصفها جسمًا روحيًّا ثقافيًّا ناشبًا في تضاعيف التاريخ البشريّ، ما تعانيه جميع الأنظومات والمؤسّسات والعمارات والهيئات الخاضعة لمنطق التحوّل والتطوّر. نشأت المسيحيّة في أصلها دعوةً روحيّةً صافيةً شاءها السيّدُ المسيح خميرةَ ارتداد في العمق الداخليّ الإنسانيّ. في القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد، نعمت المسيحيّة بصفاء المسعى الروحيّ وبسلام التنوّع الشرعيّ في تحسّس نداءات الروح القدس وابتعاثات مواهبه الثرّة. فكان المسيحيّون يُفصحون عن اختباراتهم الإيمانيّة بحرّيّة، وينشرون تعاليم الإنجيل من غير رقابة السلطة وإكراه المؤسّسة الكنسيّة. وكان اللاهوتيّون من النساء والرجال يدلون بدلوهم في مسائل الإيمان، وهم سائرون بإلهام الروح القدس وإرشاده. ولكنّ المسيحيّة ما لبثت، لأسباب سياسيّة يعرفها الجميع، أن التحمت بالسلطان السياسيّ حين أعلنها الإمبراطور ثيودوسيوس ديانة الإمبراطوريّة البيزنطيّة في الثامن من نوفمبر من عام 392م. وكان الإمبراطور المتنصّر قسطنطين قد حرّر المسيحيّة من أنياب الاضطهاد الإمبراطوريّ الوثنيّ، وأقامها هو أيضًا ديانةً رسميّةً في الإمبراطوريّة، ولكن من غير أن يمنع الديانات الأخرى، فيما شرّع ثيودوسيوس إبطالَ جميع الديانات الأخرى بالقوّة والبطش في المشرق المتنصّر.
إذا جاز لي التشبيه، يمكن عدّ القرون الثلاثة المسيحيّة الأولى بمنزلة المرحلة المكّيّة حيث اقتصرت الدعوة القرآنيّة على دعوة الناس إلى الاعتصام بالتوحيد، وتهذيب الروح، وتعزيز مكارم الأخلاق. بمعزل عن الاختلاف الزمنيّ، يجب إلقاء البال إلى مسألة تتعلّق بجوهر الدعوة الإنجيليّة المبنيّ على طلب ملكوت السماء، في حين أنّ الدعوة القرآنيّة تشتمل على رعاية شؤون الدِّين والدنيا. من الخصائص التي مهرت المسيحيّة أنّها كانت في جوهر دعوتها تطلب خلاص النفس الإنسانيّة، أي خلاص الكائن الإنسانيّ في عمق مركز القرار الوجوديّ، من غير أن تستنّ له الشرائع والأحكام والقواعد، في حين أنّ الإسلام يحتضن الوجود الإنسانيّ برمّته من ألفه إلى يائه، فلا يترك وضعًا إلّا ويشرّع له. وعلاوةً على ذلك، فإنّ البشارة الإنجيليّة ما انعقدت في أصلها على بناء دين جديد أو حتّى مؤسّسة دهريّة توازي مؤسّسات التدبير التاريخيّ، بل جلُّ المقصود فيها أن تنعقد أواصرُ الملكوت بين المؤمنين المتآخين في شخص السيّد المسيح؛ لكي يختبروا خلاص الله في رباط الانتماء الروحيّ الواحد.
ومن ثمّ، فإنّ كوكبةً من اللاهوتيّين المسيحيّين، على تعاقب قرون الألف الأوّل والألف الثاني، ما برحت تذكّر المؤمنين المسيحيّين بضرورة الانعتاق من قيود المؤسّسات والنظُم والشرائع من أجل اختبار مقام التبنّي الإلهيّ في حرّيّة الروح الذي يهبّ حيث يشاء، ويصنع في الإنسان وفي التاريخ ما يحلو له. لم يتأخّر هؤلاء اللاهوتيّون في إدراك معاثر التحوّل الذي أصاب المسيحيّة حين انخرطت في سياق السلطان الزمنيّ، وتواطأت مع قياصرة الدهر في الشرق وفي الغرب، حتّى إنّها امتشقت لنفسها هيئةً سياسيّةً عسكريّةً في الفاتيكان أتت تدلّ الجميع على خطر التنكّر لجوهر الدعوة المسيحيّة المتجلّي في موعظة التطويبات الشهيرة (الإنجيل بحسب متّى 5، 1-16).
من جرّاء الأصل الروحيّ الناشب في حدث المسيح، حياةً وموتًا وقيامةً وشهادةً مطّردةً في عمق النفس البشريّة، استطاعت المسيحيّة أن تستذكر أصالتها الملكوتيّة وأن تُعرض عن انحرافات المؤسّسة الكنسيّة التاريخيّة. فأتى التطهّر الذاتيّ مقرونًا بالارتدادات التي اختبرها أفرادها القدّيسون على تعاقب الأجيال، ومدفوعًا بالإكراهات السياسيّة التي اصطدمت بها بسببٍ من جدليّة النهضة والأنوار والحداثة في الغرب المسيحيّ.
من مفارقات هذا الغرب أنّ أبناءه المنغرسين في تربة الحضارة المسيحيّة هبّوا ينتفضون على التواءات المؤسّسة الكنسيّة الرسميّة، يناصرون فيها أصوات الأنبياء الذين خرجوا من رحم الكنيسة، ولكنّهم عانوا الأمرَّين في الذود عن صفاء الدعوة المسيحيّة. فإذا بالفكر الغربيّ المسيحيِّ النشأة ينتفض على أسقام الجسم التاريخيّ المسيحيّ، ويدفع بالكنيسة إلى استذكار روحيّتها الإنجيليّة. فانطوت القرون الوسطى المسيحيّة متمخّضةً عن إصلاح بروتستانتيّ وإصلاح كاثوليكيّ معاكس (القرن السادس عشر)، ومجمع فاتيكانيّ أوّل (1868م) ومجمع فاتيكانيّ ثانٍ (1962-1965م)، وصحوة أرثوذكسيّة في المؤتمر الأرثوذكسيّ الجامع (جزيرة رودُس، 1961م)، والتئام مسكونيّ أخويّ في مجلس الكنائس العالميّ (1948م) لجميع أهل المسيحيّة في المسكونة قاطبة في العقود الأخيرة من القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين.
عمق الإصلاح أنّ المبنى اللاهوتيّ خاضعٌ لإلهام الروح القدس، وأنّ تجسّد المسيح لا يستغرقه كلامٌ بشريٌّ محكم، وأنّ الاجتهاد اللاهوتيّ مسرًى حرٌّ من الإفصاح الإيمانيّ الملتزم. ومن ثمّ، فإنّ الإصلاح اللاهوتيّ هو من مستلزمات الإيمان المسيحيّ؛ إذ إنّ المسعى الإنسانيّ يستنير على الدوام بحركة الإلهام التي يستثيرها عملُ الروح القدس في تضاعيف التاريخ. في تعبير أوضح، ينعقد الإيمان المسيحيّ على قابليّة طوعيّة للإصلاح تؤهّله للانعتاق من التكوّنات التاريخيّة التشريعيّة، على ندرتها، والتحلّل التركيبات المؤسّساتيّة، على أهمّيّتها، والتخفّف من الممارسات الشعائريّة، على منفعتها.
صحيحٌ أنّ المسيحيّة تعتصم ببنية كنسيّة هي بمنزلة الجماعة المؤمنة الحاضنة التي ترعى بالمسؤوليّة شؤون الإيمان والعقيدة. غير أنّ التطوّرات اللاهوتيّة والتمايزات العقائديّة والانشقاقات الكنسيّة أبانت أنّ الجوهر ليس في الكنيسة المؤسّسة، بل في الإيمان الجامع. والإيمان المسيحيّ يعاين الحقَّ الإلهيّ منغلًّا في ثنايا العطب التاريخيّ، ولكنّه يمجّده منعتقًا من أسر التناولات والتصوّرات والبناءات والاعتقادات. ثمّة مقولةٌ لاهوتيّةٌ جوهريّة في المسيحيّة تتيح لهذه الديانة أن تنعم بطاقة ذاتيّة على التحرّر من الأثقال التاريخيّة، حتّى الانعتاق من الجسم الكنسيّ المؤسّساتيّ عينه. عنيتُ بها مقولة الإخلاء الذاتيّ الذي تجلّى من على صليب الشهادة القصوى التي أدّاها السيّد المسيح. فالمسيحيّة هي دين الإخلاء الذاتيّ الذي أفضى بالألوهة إلى إفراغ ذاتها جودًا ووهبًا وانسيابًا في مسالك الكون. إذا كان الله، في المسيحيّة، يُخلي ذاته افتداءً للإنسان، فحريٌّ بالإنسان أن يُخلي ذاته، كيانًا تاريخيًّا، حتّى ينضمّ إلى جوهر الحبّ الإلهيّ. يعزّز مقولة الإخلاء اعتمادُها على فعل الروح القدس في هداية المسرى التاريخيّ الذي يسلكه المؤمن وتسلكه الكنيسة. فالمسيحيّة هي ديانة الروح، قبل أن تكون ديانة الحرف. وما النصوص سوى إشارات يستدلّ بها المؤمن على طريق الهداية التي يقوده فيها الروح الملهم.
رأيي أنّ مَبعث التطوّر اللاهوتيّ ناشبٌ في عمق الإيمان المسيحيّ. لذلك تستطيع المسيحيّة أن تتجاوز معضلة التكوّنات التاريخيّة التي اختبرتها على تعاقب القرون. وقد تَبيّن للجميع أنّ من أسباب الانشقاقات الكنسيّة الاختلاف على تعيين مصادر السلطة. فاللاهوت الكاثوليكيّ يقول بتناصر الأسانيد الثلاثة (كلام الله المبثوث في أسفار الكتاب المقدّس، السنّة التي ينطوي عليها تقليدُ الآباء اللاهوتيّ ومكتسباتُ المجامع الكنسيّة، والسلطة التعليميّة العليا التي يرأسها البابا ناطقًا بالعقيدة القويمة في شركة الإيمان الواحدة التي تربطه بمجمع الأساقفة)، فيما اللاهوت الأرثوذكسيّ يكتفي بكلام الله وبالسنّة المقتصرة خصوصًا على المجامع المسكونيّة السبعة الأولى، واللاهوت البروتستانتيّ يؤثِر الاعتصام بكلام الله، مصدر الإلهام الوحيد وميزان الاستقامة اللاهوتيّة. أمّا إذا تجاوز المؤمن المسيحيّ هذه الإشكاليّة اللاهوتيّة، فإنّه يعاين في الإخلاء الذاتيّ جوهر التحرّر من انسدادات المسلكيّات المسيحيّة التاريخيّة.
بخلاف المسيحيّة، ينعقد الإسلام على مقولة إثبات الذات المعتصمة بالنصرة الإلهيّة. ومع أنّ الإسلام لا يعترف بسلطان كنسيّ مؤسّساتيّ، ويرفض الوسيط البشريّ بين اللاهوت والناسوت مكتفيًا بالإبلاغ الأمين، إلّا أنّ الوعي الدينيّ الشعبيّ ما برح مقترنًا بسلطان الأئمّة والشيوخ والعلماء والمتصوّفين. غياب المؤسّسة الكنسيّة في الإسلام أفضى إلى نشوء «مؤسّسات» شرعيّة تتحدّث باسم الجماعات الإسلاميّة التي تعترف بسلطانها. وقد يكون الإعضال الأخطر في الإسلام ناشئًا من تصوّر الكشف الإلهيّ في صورة التنزيل القرآنيّ، فيما المسيحيّة تتصوّر الكشف الإلهيّ في هيئة التجسّد الكيانيّ. فالكلمة النصّيّة تفرض في الإسلام تناولًا شديد الحذر، فيما الكلمة المتجسّدة في المسيحيّة تعزّز حرّيّة الإقبال والتأوّل.
في هذا السياق، يجدر التأمّل في الاختلاف اللطيف الذي ينشأ من اعتماد المسيحيّة على الاقتران الكيانيّ بشخص السيّد المسيح وعلى إلهامات الروح القدس، واعتماد الإسلام على القابليّات الكشفيّة المنطوية في النصّ. الإسلام السنّيّ لا يعترف بالإماميّة الهادية المتوسّطة بين الله والإنسان، وقد يُشبه في وجهٍ من الوجوه التشدّد البروتستانتيّ في إبطال مقام البابا وسيطًا تفسيريًّا بين المشيئة الإلهيّة والإرادة الإنسانيّة. قد تكون الإماميّة الشيعيّة أقرب إلى الفِسَارة الكاثوليكيّة التي تحفظ للكنيسة وللأسقف وللسلطة التعليميّة بعضًا من الإسهام الإلهاميّ في هداية المؤمن.
هذا في الشروط اللاهوتيّة البنيويّة. أمّا في المقام الروحيّ الحضاريّ، فإنّ المسيحيّة والإسلام يحملان إلى البشريّة، وشأنهما في ذلك شأن جميع الأديان، ضمّةً من القيَم الروحيّة الرفيعة التي تتيح للإنسان أن يتأوّل وجوده التاريخيّ تأوّلًا يُفضي به إلى استخراج المعنى الأقوم والأصفى والأرفع(٧). لا بدّ لجميع الأديان، في هذا المنعطف الخطير، من التحوّل إلى طاقة إلهاميّة روحيّة تستصفي جوهر الدعوة التي قامت عليها، فتنتقل من مقام الأداتيّة إلى مقام الرسالة الحضاريّة. وقد تكون دعوة المفكّرين المسلمين، ومنهم فتحي المسكيني في كتابه الأخير الإيمان الحرّ أو ما بعد الملّة، إلى اعتناق السبيل الروحيّ في تصوّر جوهر الإسلام الحضاريّ، هي الطريق الوحيدة التي يمكن المسلمين أن يسلكوها، إنْ هم شاؤوا أن يواكبوا مسعى الإنسانيّة المعاصر وتوقها العارم إلى قيم التحابّ والتآخي والتراحم والتغافر والتضامن والتشارك والتقابس.

● ما الفارق بين الأنظومتَين المسيحيّة والإسلاميّة لناحية موقع الفرد فيهما والعلاقة بالنصّ الدِّينيّ/ المقدّس؟

■ في أبحاث الأنثروبولوجيا الدِّينيّة التي أنجزتها تَبيَّن لي أنّ هناك شبهًا كبيرًا بين التوحيد المسيحيّ والتوحيد الإسلاميّ، وأنّ هناك أيضًا تباينًا بارزًا بينهما، سواءٌ في تصوّر اللاهوت أو في تصوّر الناسوت. كنتُ قد أحصيتُ هذه المؤتلفات والمتباينات في كتاب يرقى إلى زمن النضج الأوّل(٨). ومن ثمّ، بحثتُ في مسألة المقام الأنثروبولوجيّ في الأنظومتَين المسيحيّة والإسلامية، فاتّضح لي أنّ المشتركات عظيمةٌ بينهما، ما خلا مسألة واحدة تختزن تباينًا جليلًا، عنيتُ بها مقام الابن الوارث في المسيحيّة ومقام الخليفة في الإسلام. نظريّتي في هذا السياق أمْلَت عليَّ أن أستجلي بعضًا من أسباب الاختلاف بين التصوّرات الاجتماعيّة والسياسيّة والقانونيّة وأقرنه بمثل هذا التباين الأنثروبولوجيّ الأصليّ. فالابن الوارث يرث الله وراثةَ الثقة الكاملة، فيستنبط لذاته شريعةً تُوائِم مقتضيات الأحوال التاريخيّة، فيما الخليفة يستهدي بالشريعة التي استخلفه الله في تدبّرها وتأوّلها واستثمارها استثمارًا فطنًا في استعمار الأرض(٩).
وعليه، فإنّ مقدار الحرّيّة يختلف من أنظومة أنثروبولوجيّة إلى أخرى؛ إذ إنّ حرّيّة الابن الوارث أوسعُ من حرّيّة الخليفة المستخلف. يشير عليَّ حدسي الأصليّ في استخراج هذا التعليل الأنثروبولوجيّ أنّ المجتمعات المسيحيّة المتأثّرة بأنثروبولوجيا الابن الوارث هي أشدّ قابليّةً لانتهاج سبيلٍ معاصر في تدبّر المعيّة الإنسانيّة في نطاق المدينة الواحدة، ألا وهو سبيل العَلمانيّة التي تميّز تمييزًا صارمًا المجال العموميّ من المجال الخاصّ، بينما يعسر على المجتمعات الإسلاميّة المتأثّرة بأنثروبولوجيا الخليفة المكلَّف أن تنهج هذا السبيل؛ لأنّ الشريعة المحكمة التي استودعها الله ضميرَ المؤمن المسلم تنطوي على أحكام دقيقة ترعى انتظام الحياة الإنسانيّة في جميع أبعادها الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والدِّينيّة. لا أحد يُنكر أنّ المسيحيّة اختبرت تواطؤ السلطتين الدِّينيّة والزمنيّة في القرون الوسطى. بيد أنّها استطاعت أن تنعتق من هذا النموذج القروسطيّ، فتخلع عنها هذا الثوب البالي، وتنتقد ممارستها التاريخيّة وتتوب عن أخطائها وتنفتح على وعود الحداثة.
لستُ متيقّنًا من عزم الإسلام أو المسلمين على الانعتاق من هذا الرداء القروسطيّ المنسوج بخيوط التواطؤ بين المجالين العامّ والخاصّ. غير أنّي أعلم أنّ بعضًا من المفكّرين المسلمين المعاصرين اجتهدوا اجتهادًا حميدًا في تجديد تأويل الإسلام دعوةً روحيّةً تخاطب الوعي الإنسانيّ في أعمق مراكز القرار الوجوديّ، وتُلهمه إلهامًا خفرًا في استصفاء القيم الروحيّة التي بها تغتني الحياة الإنسانيّة، شأنها في ذلك شأن الدعوة الروحيّة التي ينعقد عليها جوهرُ الدِّين المسيحيّ. غير أنّ الاجتهاد التأويليّ هذا يُعوزه في نطاق علم الكلام الإسلاميّ تناولٌ جديدٌ لمسألة الاستخلاف والتكليف والفقه والتشريع من أجل الفوز بتصوّر أنثروبولوجيّ آخر يحرّر الإنسان المسلم من فهم تقليديّ متواتر لمقامه الخليفيّ.
في موازاة هذين التصوّرَين الأنثروبولوجيَّين المسيحيّ والإسلاميّ، ينبسط تصوّرٌ ثالثٌ هو التصوّر العَلمانيّ الذي يحرّر الإنسان من كلّ هويّة افتراضيّة متقدّمة، ويجعله كائن التحقّق التاريخيّ المطّرد. فالإنسان يصنع هويّته في مجرى الفعل التاريخيّ الذي يُنجزه، بحيث ينقلب فعلُه الثقافيّ إلى عنصر تكوينيّ في بناء هويّته التاريخيّة المفتوحة.
أمّا فيما يتّصل بمسألة المجتمعات العربيّة التي ما برحت تختبر ضربًا من الروحيّة الوجدانيّة يضع الإنسان في مقام الانتماء العفويّ إلى الأصل الإلهيّ، ويجعله في حال الإسلام الطوعيّ للهداية الإلهيّة الصالحة، فإنّي اقترحتُ في أبحاثي الأخيرة أنّ تعمد هذه المجتمعات إلى صنفٍ خاصّ من العَلمانيّة أطلقتُ عليه اسم العَلمانيّة الهنيّة التي أستنسبها استنسابًا استثنائيًّا في نطاق الوجود العربيّ التاريخيّ المعاصر. أقصد بالعَلمانيّة الهنيّة تلك التي تعزّز الإيمان الفرديّ الحرّ، ولكنّها تحرّر المجال العموميّ من هيمنة التصوّرات الدِّينيّة المتعارضة، ولا سيّما في المجتمعات التي ما فتئت تختبر شيئًا من التنوّع الثقافيّ والاجتماعيّ والروحيّ. ليست هذه العَلمانيّة الهنيّة عَلمانيّةً مقصليّةً تقضي على الاختبار الإيمانيّ، وتُبطل كلّ استلهام روحيّ في مسرى الرقيّ الاجتماعيّ، بل هي عَلمانيّة نبيهة تسترشد قيَم الروح في صميم الوعي الإنسانيّ الفرديّ، وتجتهد في إثراء المباني الدستوريّة والتشريعيّة بما تنطوي عليه هذه القيَم من مضامين الرقيّ، من غير أن تفرض على هذه المباني أحكامًا تفصيليّة معيّنة تضبط بها طرائق المسلك والملبس والمأكل والمشرب والملهى والمسرح، وأحوال الانتظام الشخصيّ في المعاملات والعلاقات والعقود، وما إلى ذلك(١٠).
استنادًا إلى التمييز الأنثروبولوجيّ ومقترح العَلمانيّة الهنيّة، اجتهدتُ أيضًا في بناء نظريّة جديدة في تسويغ التعدّديّة الثقافيّة والدِّينيّة، أطلقتُ عليها نظريّة الدوائر الثلاث. تنطلق نظريّتي من ضرورة التوافق على تدبّر التنوّع الكونيّ في استجلاء المعنى الإنسانيّ الأرحب. في اعتقادي أنّ الناس، مهما تنوّعت أصولهم ومشاربهم ومذاهبهم، يمكنهم أن يستخرجوا معاني حياتهم من دوائر ثلاث. الدائرة الأولى هي دائرة شرعة حقوق الإنسان، وما تنطوي عليه من مبادئ أساسيّة في صون كرامة الإنسان، وتعزيز حرّيّته، وترسيخ المساواة والعدالة والأخوّة التضامنيّة بين البشر. لا ريب في أنّ مثل هذه الدائرة الأولى من المعنى إلزاميّةٌ كونيّةٌ شاملةٌ، لا يجوز التملّص منها بحجّة السياق الثقافيّ الغربيّ الذي احتضن نشوءها في منتصف القرن العشرين. ذلك بأنّ العقول المستنيرة تُجمع على عدِّ هذه الدائرة أصلَ كلّ المعاني الإنسانيّة، ولئن تواضع عليها الناسُ تواضعًا.
الدائرة الثانية هي دائرة المثُل الروحيّة التي تزخر بها جميعُ الأديان، ومنها مثُل التراحم والتغافر والتحابّ والمجّانيّة والاستضافة والتضحية والإخلاء الذاتيّ. سمةُ هذه الدائرة تفضيليّة إيثاريّة، تحثُّ جميع الناس على اعتناقها حتّى تغتني البشريّة بها وترتقي إلى قمم السموّ. أمّا الدائرة الثالثة، فهي دائرة التذوّقات اللاهوتيّة، والتحسّسات الصوفيّة، والالتماعات الغيبيّة، والرؤى المِيتافيزيائيّة الماورائيّة. تشتمل هذه الدائرة على عقائد الأديان وتصوّرات المذاهب وأقوال الفرَق، وتقترن بالاختبارات الإيمانيّة الخاصّة بكلّ أنظومة دينيّة. سمة هذه الدائرة الثالثة اختياريّة، يبتهج بها أهل الدِّين الذين يرتاحون إلى تصوّر حقائق الوجود على هذه الشاكلة. غير أنّه لا يجوز إطلاقًا أن تُفرض هذه التصوّرات على سائر الناس.
عماد النظريّة كلّها القولُ بضرورة إسقاط التناقض بين الدوائر الثلاث، انطلاقًا من الدائرة الأولى الأساسيّة. معنى ذلك أنّ كلّ ما تحثّ عليه الدائرة الثانية من مثُل روحيّة يجب ألّا يناقض مبادئ الدائرة الأولى، وكلّ ما يُسرّ به أهل الإيمان في تذوّقات الدائرة الثالثة يجب ألّا يناقض مبادئ الدائرة الأولى والثانية. فإذا اعتصم الجميع بشرعة حقوق الإنسان الكونيّة، كان لهم أن يؤثِروا الاستضافة على الإخلاء، أو الإخلاء على التضحية، أو التضحية على التغافر. وكان لهم أيضًا أن يتذوّقوا الله في صورة الوحدانيّة المطلقة، أو في صورة الثالوت الفيضيّ، أو في صورة الروح المبثوث في ثنايا الكون الأرحب. شروط التسالم بين الحضارات أن يعترف الناسُ بهذه الدوائر الثلاث، وبالمنطق الإلزاميّ التصاعديّ المنطلق من دائرة شرعة حقوق الإنسان.
بناءً على النظريّة الأنثروبولوجيّة والنظريّة العَلمانيّة والنظريّة الحضاريّة التسالميّة، أنشأت نظريّة رابعة دعوتها التكامليّة القيميّة، أبنتُ فيها حاجة الناس إلى ضرب رابع من التعالق الحضاريّ، ألا وهو التقابس الإغنائيّ. فالناس يتعارفون ليكتشف بعضهم كنوز بعضهم الآخر، ويتعاونون ليعمروا معًا الأرض ويصونوا الكون، ويتشاركون الخبرات والخيرات لتترسّخ أواصر الوحدة الإنسانيّة في المسكونة قاطبةً. أمّا التقابس، فهو المسرى الحضاريّ الأشدّ تطلّبًا؛ لأنّه يضطرّ الجميع إلى الاقتناع بشيء من نسبيّة التصوّرات الخاصّة التي تحملها كلُّ أنظومة على حدة. يقضي التقابس بأن أغتني بما ينقصني، وبأن يغتني الآخر بما ينقصه. شرط التقابس الأوّل أن أعترف بالآخر في غيريّته المطلقة، وأن يعترف بي الآخر في غيريّتي المطلقة. شرطُه الثاني أن ينشط في الدوائر الثلاث بنسَب متفاوتة. في الدائرة الأولى يجري التقابس في استجلاء كيفيّات الحفاظ على كرامة المرأة في مجتمع من المجتمعات، ولا يجوز أن يجري مجرى الاستعاضة عن مبدأ كرامة الإنسان واستبدال مبدأ آخر به. أمّا في الدائرة الثانية ، فإنّ التقابس يمكن أن يُفضي إلى استدخال مثال روحيّ جديد يُغني الحياة الأخلاقيّة لدى الشعوب المتقابسة. أمّا في الدائرة الثالثة، فإنّ التقابس لا يجوز أن يقوم على منطق الاستعاضة أو الاستبدال؛ إذ إنّ هذا المنطق يجرّ على المتقابسين التنكّر لخصوصيّة اختباراتهم الإيمانيّة. قد يصحّ التقابس في دائرة التذوّقات الحرّة حين يَقبل الإنسان المؤمن أن يختبر الاغترابَ العقائديّ اختبارًا وجيزًا حتّى يعود إلى عمارته الإيمانيّة يستبنط منها أبعادًا لاهوتيّة لم يألفها مرتسمةً في شعاع الحقائق التي يعتنقها.
بفضل هذه النظريّات الأربع يتهيّأ لي أنّ الناس يمكنهم أن يحيوا حياةً كونيّة راقية، متسالمة، هنيّة، مثمرة، صالحة، بنّاءة. وبفضلها أيضًا يمكنهم أن يضبطوا علومهم الإنسانيّة والوضعيّة ووتيرة اقتصاديّاتهم المتفوّرة على إيقاع مقتضيات صون الحياة الإنسانيّة والحياة البيئيّة والحياة الكونيّة.

● ما أهمّ الأسباب والعوامل التي تمنع ثورة الإنسان الواعي الحرّ المؤمن بالديمقراطية في العالم العربيّ؟ وأيّ دور للاستبداد السياسيّ والدِّينيّ في تعطيلها؟

■ يعتقد كثيرون أنّ الدِّيمقراطية إنتاجٌ ثقافيٌّ غربيٌّ لا يلائم طبيعة الذهنيّة العربيّة، والمزاج العربيّ، والمسلكيّة العربيّة، والاجتماع العربيّ على وجه العموم. ويظنّ آخرون أنّ الحاكميّة الإلهيّة هي أفضل السبُل التي تجنّب الإنسان العربيّ مهالك الحرّيّات المتفلّتة التي تناصرها المجتمعاتُ الغربيّة. ويذهب بعضهم إلى أنّ الانحطاط الأخلاقيّ الذي ينسبونه إلى المجتمعات الغربيّة ناشئٌ من هذا النظام الدِّيمقراطيّ الذي يجعل الأكثريّة الجاهلة تقرّر مصير الناس، في حين أنّ الاجتماع الإنسانيّ السليم يوكل إلى مجلس الحكماء والأوصياء مسؤوليّة البتّ في قضايا الوجود الإنسانيّ العليا. في أقصى الأحوال، يمكن أن يقبل بعضُ العرب بنظام دِيمقراطيّ يرعى مسائل الإدارة التقنية المحض، فيما مسائل الحياة والأخلاق والسياسة الوطنيّة الكبرى ينبغي أن ينظر فيها أهلُ البصيرة النافذة.
أوجزتُ على قدر المستطاع الاعتراضات التي يسوقها المفكّرون العرب المناصرون للذاتيّة الإسلاميّة المحض. وهم يصرّون على انتساب الاختبار الدِّيمقراطيّ إلى التراث الأُوربّيّ في المدن الإغريقيّة الأُوَل. صحيحٌ أنّ المجتمعات الغربيّة اجتازت طور الاستبداد في القرون الوسطى. غير أنّها ما لبثت أن أدركت استقامة التصوّر الدّيمقراطيّ الأرحب، فاعتمدته رويدًا رويدًا في أعقاب الأنوار والحداثة. أظنّ أنّ المجتمعات العربيّة تئنّ أنينًا موجعًا بسببٍ من تواطؤ ضربين العوامل الذاتيّة والعوامل الخارجيّة التي تعطّل المسرى الدِّيمقراطيّ.
في البحث الذي نشرته في ملحق النهار في عام 2016م، حاولت أن أبيّن عمق التأزّم البنيويّ في المجتمعات العربيّة(١١). سلّطت جميع الأضواء التحليليّة على العَوْق البنيويّ في هذا المقال. غير أنّي لست بغافل عن أثر التخلّف الاجتماعيّ والتعثّر الاقتصاديّ والانحطاط السياسيّ؛ لذلك أشارك المفكّرين الناقدين في اعتماد مبدأ تناصر المنهجَين: البنيويّ الثقافيّ والنقديّ التاريخيّ(١٢). خلاصة القول أنّ المجتمعات العربيّة ينبغي لها أن تجدّد في تصوّراتها الثقافيّة وأن تصلح في بناها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة حتّى يستقيم لها بلوغ النضج الدِّيمقراطيّ المنشود.
في التصوّرات الثقافيّة يعترض التجديد سؤالُ الاستفسار عن مقام الإنسان في الأنظومة الدِّينيّة: هل هو كائنٌ حرٌّ في أصل وجوده أم مستخلفٌ مكلَّفٌ منتدَبٌ لرسالة إيمانيّة سامية تجعل حرّيّته الأصليّة خاضعةً لأحكام النصّ الدِّينيّ؟ أعلم أنّ مثل هذا السؤال يختصر أزمنةً من المباحثات الكلاميّة المرتبطة بمسألة الإرادة الإنسانيّة في التراث العربيّ الإسلاميّ. بيد أنّ الإنسان العربيّ لا يستطيع أن يسلك السبيل الدِّيمقراطيّ ما دام يُعرض عن تجديد التصوّر الأنثروبولوجيّ الأشمل. أمّا في البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، فإنّ الإصلاح يجب أن يستلهم النموذج الدّيمقراطيّ الغربيّ الذي أثبت جدارته المعرفيّة والتدبيريّة والمسلكيّة. في رأس الإصلاحات، يجب بتّ مسألة التمييز الحصيف بين المجال العامّ والمجال الخاصّ، أي بين الدِّينيّات والسياسيّات، وتحرير المدينة الإنسانيّة العربيّة من هيمنة التصوّرات الفقهيّة التي تَعوق مسرى الاجتماع الإنسانيّ المعاصر. الشرط في ذلك كلّه أن تُصان الحرّيّة الفرديّة في اعتناق المذهب الروحيّ الذي يأنس إليه الإنسانُ العربيّ وفيه يجد معنى وجوده. ما من دِيمقراطية عربيّة سليمة من دون إنسان عربيّ حرّ. وما من إنسان عربيّ حرّ من دون ثورة ثقافيّة أنثروبولوجيّة عربيّة عميقة. وما من ثورة ثقافيّة أنثروبولوجيّة عربيّة عميقة من دون إصلاح اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ عربيّ شامل(١٣).

● عانت النخب العربيّة في التاريخ الحديث والمعاصر وطأةَ الأنظمة السياسيّة التي حاولت مصادرتها وتشديد الرقابة على إنتاجها المعرفيّ. في المقابل ثمّة تواطؤ بين العديد من المفكّرين وأهل الاختصاص مع السلطة على حساب الحقيقة. أين هي هذه النخب اليوم من مسؤوليّة التنوير وتبديل البنى المعرفيّة وترسيخ النظرة النقديّة للتاريخ العربيّ وثورة الإنسان الفرد؟

■ أظنّ أنّ المفكّرين الطليعيّين في العالم العربيّ المعاصر ينقسمون إلى ثلاث فئات. الفئة الأولى مُستسلمة لكرم البلاط الملكيّ، تنطق بمنطق السلطان فتأمن شرَّه وتنعم بخيراته ودنانيره. الفئة الثانية مضطهدةٌ اضطهادًا عنيفًا يضطرّها إلى اللوذ المهين بحماية المجتمعات الغربيّة الدِّيمقراطيّة، وقلبها يعتصر ألمًا وحزنًا على تقهقر الأوضاع العربيّة. أمّا الفئة الثالثة، فأراها منكفئة إلى صومعتها الفكريّة وعزلتها الطوعيّة تراقب وتعاين وتحلّل وتستنتج، وقد أوشكت أن تصمت صمتًا دهريًّا لما أصابها من ذهول وقنوط.
يعنيني أن أنظر في وضعيّة الفئة الأولى من المفكّرين الذين يعيشون عيشةً واسعةً، رغيدةً، مترفّلة، تحت جناح الحاكم العربيّ، وقد يكون مستبدًّا عادلًا، وتحت وطأة الأنظومة العربيّة السائدة، وفي اعتقادهم أنّهم يخدمون التغيير والتجديد والإصلاح والتقدّم. قد يكون في مقصدهم الصالح أنّ الإفادة من أموال السلطان العربيّ، وقد يتجلّى السلطانُ في هيئة الأنظومة الأيديولوجية القوميّة أو الدِّينيّة أو الاستبداديّة القبيليّة أو الأوليغارشيّة الماليّة، ستؤثّر في تغيير البنى والذهنيّات تغييرًا تدريجيًّا. هو رهانٌ خطيرٌ؛ لأنّ السلطان العربيّ يساير هؤلاء ليتّقي جرأة فكرهم، فيحتضنهم تحت رعايته الملكيّة، فيما هم يُنجزون الأبحاث المعرفيّة التي تستظلّ السلطان والأنظومة على حدّ السواء، في حدود المسموح به والقابل للتفكير والمعدّ للاستهلاك. أمّا المعاندات الابتكاريّة، والفتوحات الإبداعيّة، والالتماعات المتمرّدة، فلا مكان لها تحت السماء العربيّة المرسومة.
من أسباب حزني أنّ الاختبار اللبنانيّ الفريد في العالم العربيّ كان يمكنه أن يحتضن بوادر النهضة الثقافيّة العربيّة الشاملة قبل الحرب اللبنانيّة المشؤومة. في ذلك الحين ما استطاعت الأنظمة العربيّة المستبدّة أن تطوّع الحرّيّات العشوائيّة المنتعشة في بيروت، حين أكبّت ترسل إليها الأموال بسخاء عظيم حتّى تُخضعها بقوّة الترغيب. ومع ذلك، ظلّت بيروت بؤرة الغليان الفكريّ العربيّ الأشدّ حتّى عاجلتها الانعطابات البنيويّة الداخليّة، والتواطؤات العربيّة المقيتة، والخبث الصهيونيّ الفتّاك. إحساسي أنّ بيروت ما برحت حتّى اليوم تستطيع أن تحتضن مثل هذه النهضة الفكريّة العربيّة؛ لأنّها الموئل الوحيد الذي يتيح للمفكّر أن ينطق بحرّيّةٍ تضمنها له توازناتُ التركيبة اللبنانيّة الطائفيّة الهشّة، وصيغة المعايشة التعدّديّة المستضعفة.

● يعسر اليوم الكلام على النخَب الفكريّة العربيّة بمعزل عن أحداث الربيع العربيّ. وقد دأب بعضُهم على تصنيف المفكّرين؛ إمّا في صفّ الثورة، وإمّا في معارضة الثورة. والحال أنّ الثورة هي مسرًى تاريخيّ معقّد، متشابك، متدرّج، ينطوي على عناصر شتّى من التأزّم الداخليّ، والانفراج المباغت، والاحتقان المربك؛ لذلك ينبغي للمفكّر أن يتحلّى بقسط عظيم من الصبر والفطنة والرزانة قبل أن يقول قولته في مآلات الربيع العربيّ؛ إذ لا يجوز للمفكّرين العرب، والحال هذه، أن يلتئموا تحت قبّة السلاطين العربيّة أو الإقليميّة أو الدوليّة، ما خلا منظّمة الأمم المتّحدة التي تحتضن جميع أمم الأرض بالعدل والمساواة. ذلك بأنّ اختبار الالتئام في ظلّ السلطان الداخليّ أو الخارجيّ أظهر للجميع حدود الإسهام الإصلاحيّ في فكر النخبة العربيّة الثائرة. والجميع يعلم أنّ هذه النخَب عالقةٌ بين سَندان النظام العربيّ المستبدّ ومطرقة النظام الخارجيّ المعارض المستغِلّ. فأين المهرب والملجأ والمأمن؟

■ في اعتقادي أنّ وظيفة النخبة الفكريّة العربيّة هي أن تجرؤ حيث يخنع الآخرون، وأن تبادر حيث ينكفئ الآخرون، وأن تبتكر حيث يجترّ الآخرون. كيف يكون لها ذلك؟ أوّلُ الشروط وضوح الرؤية، وثانيها استقلالُ الذات، وثالثها عفّة الروح، ورابعها رباطة الجأش والتصبّر الحكيم. أمّا مضمون المشروع، فهو استعادة مشاريع الإصلاح العربيّ منذ زمن النهضة الأولى، مرورًا بالنهضة الثانية، وصولًا إلى تفوّر الوجدان العربيّ في زمن الربيع العربيّ، واستصفاؤها وتخيُّر الأنسب والأصلح والأبقى منها، وذلك من أجل إنجاز الثورة العربيّة الثقافيّة الشاملة(١٤).

● يتجلّى أخذُ الإسلام بالحداثة الدِّينيّة وشروطها أبرزَ تحدٍّ يواجه المنظومة الإسلاميّة. وقد كتب العديد من العلماء مثل محمّد أركون وأدونيس ومحمّد شحرور وطيب تيزيني وعبدالله العروي وغيرهم حول ضرورات التجديد في الدِّين الإسلاميّ انطلاقًا من الشرط الحداثيّ؟ كيف تنظرون إلى هذه التجارب بشكل عامّ؟ في المقابل، لماذا يُغَيَّبُ الدور البارز لعدد من الفلاسفة والمفكّرين اللبنانيّين التجديديّين الذي اشتغلوا في هذا الحقل من أمثال بولس الخوري وسواه؟

■ لا ريب في أنّ مشاريع التحديث صاحبت عصر النهضة العربيّة الأولى، ولازمت زمن النهضة الثانية التي يقول بها الفيلسوف اللبنانيّ ناصيف نصّار، وما فتئ بعضُها يرتسم في أفق النهضة الثالثة الآتية المعتملة اعتمالًا بطيئًا في زمن العولمة. كنتُ قد عقدتُ العزم على النظر في جميع هذه المشاريع الفكريّة الجريئة التي أفرجت عنها أقلام الفلاسفة العرب المولودين في القرن العشرين(١٥). وكان قد تبيّن لي أنّها تنسلك في مسالك شتّى، أحصيها في اقتضاب على الوجه الآتي:
• السبيل التحليليّ الماركسيّ (حسين مروّة- سمير أمين- مهدي عامل- أنور عبدالملك- ياسين الحافظ- إلياس مرقص- نايف بلّوز- طيّب تيزيني).
• السبيل النقديّ الإبيستِمولوجيّ (زكي نجيب محمود- محمّد أركون- محمّد عابد الجابري- فؤاد زكريّا- الأب فريد جبر- ماجد فخري- حامد خليل).
• السبيل النقديّ التاريخيّ (عبدالله العروي- ناصيف نصّار- عزيز العظمة- برهان غليون).
• السبيل النقديّ التفكيكيّ (بولس الخوري- صادق جلال العظم- مطاع صفدي- بديع الكسم- بوعلي ياسين- يوسف سلامة- أحمد برقاوي- علي حرب).
• السبيل التأويليّ الفِنومِنولوجيّ (شارل مالك- حسن حنفي- كمال يوسف الحاج- جيروم غيث- أنطون مقدسي- أنطوان حميد موراني- عبدالعزيز العيّادي- فتحي المسكيني).
• السبيل التأويليّ الدِّينيّ (مالك بن نبي- عبدالكريم اليافي- عبدالوهاب بوحديبة- مصطفى النشّار- عبدالوهاب المسيري- نصر حامد أبو زيد- أبو يعرب المرزوقي- عادل العوا- ندرة اليازجي- محمّد محجوب- يوسف الصدّيق- محمّد عثمان الخشت- بسّام الطيبي- طه عبدالرحمن).
• السبيل النفسانيّ الاجتماعيّ البنيويّ (جورج طرابيشي- علي زيعور- هشام جعيط- هشام شرابي).
• السبيل الوجوديّ الشخصانيّ (عبدالرحمن بدوي- محمّد عزيز الحبابي- رُنِه حبشي- بشارة صارجي).
• السبيل اللسانيّ التأويليّ المعجميّ (تيسير شيخ الأرض- موسى وهبة).
• سبيل التأصيل التعدّديّ العَلمانيّ (سلامة موسى- عادل ضاهر- فتحي التريكي- مشير باسيل عون).
ثمّة سبُلٌ أخرى قد تتفرّع من هذه السبُل، وثمّة فلاسفة آخرون ضربوا بسهمهم في هذه المشاريع التحديثيّة لا طاقة لي الآن على ذكرهم كلّهم. وقد أتمكّن من الغوص في هذه الاجتهادات إذا ما أسعفني الدهرُ في اللحاق به، فيما أنا ألهث وراء المشاريع البحثيّة الكثيرة المتدافعة في جدول مسؤوليّاتي الفكريّة. في جميع الأحوال، يتبيّن للقارئ النبيه أنّ جميع هذه المشاريع الفلسفيّة والعمارات الفكريّة تقوم على قاعدة القول بضرورة الانتقال من طور حضاريّ إلى طور آخر يجعل المجتمعات العربيّة تستعيد استقلالها، وحرّيّتها، ومقامها، ودعوتها الإبداعيّة في العالم المعاصر. لا شكّ في أنّ هذه المشاريع تتعارض تعارضًا حادًّا في بعض الجوانب، وتلتقي التقاءً بنّاءً في جوانب أخرى. وقد ينتمي هؤلاء الفلاسفة إلى أكثر من محور، وينسلكون في أكثر من مسلك إصلاحيّ. وربّما يذهب بعضُهم مذهبًا خاصًّا لا ينطوي عمدًا على مقاصد الإنهاض والإصلاح، فيما مضامين التفكّر التي تستوطن كتاباتهم تُفصح عن قابليّات إصلاحيّة مكينة. الثابتُ أمران: الأوّل أنّ المشاريع الفلسفيّة الإصلاحيّة ما بلغت حتّى الآن غاية مرامها في استنقاذ الإنسان العربيّ من مذلّة وجوده التاريخيّ، والثاني أنّ الاختلاف التأويليّ في إدراك معنى العبور إلى الزمن الكونيّ المعاصر هو على أشدّه بين هؤلاء الفلاسفة العرب المعاصرين.
لا بدّ في عمليّة التجديد النشطة من مراعاة بضعةٍ من العوامل المؤثّرة في الوضعيّة العربيّة الراهنة. ينبغي أوّلًا تصوّر التحديث في عمق المباني الذهنيّة والفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والبيئيّة والدِّينيّة العربيّة؛ إذ لا يجوز الاقتصار على حقل دون الحقول الأخرى، ولا يجوز إخضاع الحقول لتحديثٍ لا ينطبق إلّا على حقل واحد. ينبغي ثانيًا أن تقبل المجتمعات العربيّة بواقع التقهقر والتخلّف الذي يكتنفها اكتنافًا، وأن تعترف بتقصيرها وتشنّجها وكسلها وبأعراض حنينها الآثاريّ المتحفيّ الغابريّ. فالأزمنة قد تغيّرت، والوضعيّات الكونيّة قد تبدّلت، والإحداثيّات الجيوسياسيّة قد تعاظمت، والسياقات الحضاريّة قد تنوّعت، والمرجعيّات الثقافيّة قد تحوّلت، والخلفيّات الإبيستِمولوجيّة قد تباينت، والنماذج المعرفيّة قد تطوّرت، والإنجازات العلميّة قد تفوّقت، والآفاق المستقبليّة قد توسّعت. فلا يجوز، والحال هذه، أن تظلّ المجتمعات العربيّة تحشد في أوساطها وعي المجابهة والمعاركة وإثبات الذات وإبطال الآخر. ولا يجوز لها، على وجه التعيين، استعداء الحداثة الغربيّة ورشقها بالكفر والإلحاد. فلا معنى لأيّ تحديث في الواقع العربيّ بمعزل عن التفاعل البنّاء مع قرائن التحوّلات الكونيّة التي استجلبتها الحداثة الغربيّة.
ينبغي ثالثًا أن تحمل المجتمعات العربيّة تراثها الذاتيّ إلى العالم المعاصر، وقد استصفت منه أبهى ما يلائم التطوّرات الجليلة التي أصابت الكون، وذلك في غير استكبار أو استصغار، ومن دون تشنّج أو هيجان. الإنسان المعاصر مقبلٌ على تحوّلات بنيويّة خطيرة قد تبلغ به حدود الاقتدار على استيطان الفضاء الأرحب والانعتاق من البنيان الجسديّ الزائل، أو على الأقلّ حقن الزائليّة الجسديّة بمطوِّرات جينيّة ونانوتكنولوجيّة تُفضي به إلى كيان جسديّ آليّ روبوتيّ يختزن من الوعي والذكاء ما لم يحلم به حتّى أساطيرُ النبوغ الإغريقيّ. المطلوب أن ينزع الوعي العربيّ قناع التشبّث بالذاتيّة المضطربة المنغلفة المتقوقعة، وأن يجرؤ على خوض مغامرة الاحتكاك الإيجابيّ البنّاء بالمستحدثات الفكريّة والعلميّة والتقنيّة التي سوف تغيّر وجه الإنسان ووجه البسيطة تغييرًا لم تألفه الأنثروبولوجيات الثقافيّة المعتمدة حتّى اليوم.
هذا ما حاولتُ أن أستدلّ عليه في صحبة زملائي الأساتذة الباحثين حين كنتُ مضطلعًا بمسؤوليّة اللجنة الفلسفيّة في معهد الدكتوراه العالي (الجامعة اللبنانيّة). أردتُ أن أستطلع إمكانات التحديث في الفكر العربيّ المعاصر، فعقدتُ ثلاثةً من المؤتمرات التي تناولت جوانب شتّى من هذا الاجتهاد، وصدرت أعمالها في كتابين جماعيَّين(١٦). في سياق هذا الاجتهاد الفكريّ، يتبيّن لي أنّ الفكر العربيّ في حالِ تأزّم مزدوج لأنّه، من وجهٍ، لم يلحق بركب الحضارة الغربيّة العلميّة القاهرة، ولأنّه، من وجهٍ آخر، يعاني ما تعانيه اليوم الحضارة الغربيّة أو الفكر الغربيّ من تأزّم بنيويّ خطير ناشئٍ من سطوة العلوم الوضعيّة على مسرى الفكر الإنسانيّ برمّته.
أمام مثل هذا التأزّم، يبدو لي أنّ المقولات التي استُخدمت في زمن النهضة العربيّة الأولى وزمن النهضة العربيّة الثانية أمست في وجهٍ من الوجوه تعاند مسرى التحوّلات الجليلة التي تصيب الواقع الكونيّ الطارئ. يعلم الجميع أنّ النهضة العربيّة الأولى، ولا سيّما في تيّارها الليبراليّ، قامت على قاعدة التحوّل الثقافيّ الذي يستلزم اعتناق الهويّة القوميّة بديلًا للهويّة الدِّينيّة (الجامعة الإسلاميّة)، واعتماد العَلمانيّة بديلًا للسلطة الدِّينيّة (الخلافة الإسلاميّة)، وانتهاج العقلانيّة بديلًا للوثوقيّة الإيمانيّة المطلقة، وسلوك سبيل التحرّر الاجتماعيّ بديلًا للنزوع التقليديّ. ومن ثمّ، نشأت محاولاتٌ شتّى من أجل التوفيق بين العروبة والإسلام، وبين العقل والنقل، وبين القوميّة وقيَم الاشتراكيّة، اضطلع بها غير مفكّر من مفكّري النهضة (ساطع الحصري- زكي الأرسوزي- ميشيل عفلق- أكرم الحوراني، وآخرون).
يتهيّأ لي أنّ هذه الأسئلة وهذه الإشكاليّات وهذه الحلول تنتمي إلى زمن أصبح اليوم قديمًا من بعد أن استولت العولمة الكونيّة على البنى وعلى الأذهان، ولئن رفض بعضُهم الاعتراف بواقعيّة الأمر. لذلك أستعين بالتحليل الذي ساقه جورج طرابيشي حين أعلن أنّ المجتمعات العربيّة لا يمكنها أن تنتج حداثةً عربيّةً، وهي ما انفكّت رازحة في زمنِ ما قبل الحداثة الكونيّة. ذلك بأنّ الفلاسفة العرب يرومون استخدام أدوات التفكير المستلّة من مكتسبات حقبة الحداثة أو ما يُدعى بحقبة ما بعد الحداثة، في حين أنّ الاجتماع العربيّ ما زال خاضعًا لمنطق حقبة ما قبل الحداثة. أظنّ أنّ الخلفيّة المعرفيّة الناظمة (الإبيستِمِه) الكونيّة تُغيّر تغييرًا جذريًّا في طريقة تناول هذه المسائل. كثيرٌ من المفكّرين العرب الطليعيّين باتوا اليوم يعتقدون أنّ سياق العولمة يفرض علينا الإعراض عن سؤال الهويّة والاعتناء بسؤال الحرّيّة الذاتيّة.
فالحرّيّة التي تنشئ الإنسان الكونيّ هي الأساس الأوّل الذي يمكّننا من إدراك معاني الحياة. أمّا الهويّة، فتخضع لمبدأ الحرّيّة. الهويّة تأتينا من المستقبل، لا من الماضي. فالإنسان هو كائنُ الاقتبالات الآتية عليه، لا كائن الاستيداعات والترسّبات المتراكمة في وعيه. أمّا السؤال الأخطر، فهو الذي يتحرّى عن الكيفيّات التي بها تتعامل المجتمعات العربيّة مع التحدّيات الخطيرة التي تجبهها بها العولمة. والمعلوم أنّ العولمة تتجاوز الأديان، والقوميّات، والأشكال الحديثة التي اتّخذتها الدولة أو المنظّمات الدوليّة. فكيف للمجتمعات العربيّة أن تنخرط في العولمة من غير أن تذوب فيها ومن غير أن ينقلب فيها الإنسان إلى آلات روبوتيّة إنتاجيّة عديمة الوعي والفكر والإحساس؟ أعتقد أنّ السؤال الأبرز هو كيف يحيا المتعولمون الكونيّون معًا حياةً تجعلهم ينحتون بالصدق والتآزر صورةً جديدة للإنسان تُعلي فيه قيَم الأخوّة والمحبّة والتراحم والتغافر والتضامن والضيافة والمجّانيّة والاستعداديّة الخلقيّة الرفيعة.
اقتناعي الراسخ هو أنّ العرب إمّا أن ينخرطوا في العولمة انخراطًا أخلاقيًّا زاخرًا بأبهى ما انطوى في وعيهم التراثيّ العميق من مختمر القيَم الإنسانيّة البهيّة، وإمّا أن يخرجوا من التاريخ خروجًا معيبًا. ليس لهم بعد الآن أن يحلموا بضبط العولمة معرفيًّا وإبيستِمولوجيًّا ومِيتافيزيائيًّا وغيبيًّا. إنّه وهمُ المساعي الأيديولوجية القوميّة العربيّة، ووهم المساعي الأيديولوجية الإسلاميّة الهادفة إلى تجاوز العولمة أو، على الأقلّ، تسخيفها والانعتاق منها، في حين أنّ العولمة تبتلع أضخم الأجسام التاريخيّة وأشدّها مرارةً وعصيانًا على الهضم. أرى أن ينهض الإنسانُ العربيّ ويحرّر ذاته من مقولات الانتماء العتيقة، ولكن من غير أن يخرج من هويّته التاريخيّة المقبلة عليه من صميم نضاله الإنسانيّ المرتسم في أفق مثُله العليا. آن الأوان لكي نخترع الذات العربيّة اختراعًا يجعل تراثها ينطق نطقَ العولمة السائدة. فالعولمة لغةٌ جديدة لا تستنكف من استمزاج اللغات الثقافيّة الحيّة. فإذا كان للعرب من لغة حيّة، وفي يقيني أنّ لهم لغةً خاصّة وروحًا خاصّة وتراثًا خاصًّا وسرديّة خاصّة ووعيًا خاصًّا، فعليهم أن يندمجوا في هذه العولمة، حاملين إليها خصائص هذه اللغة الأنطولوجيّة العربيّة الخاصّة.

● رأيي أنّ العولمة لا تعني ذوبان الهويّات الحضاريّة في هويّة كونيّة واحدة، بل التئام الهويّات الحضاريّة كلّها في مسعًى إنسانيّ كونيّ واحد. وحده الإنسان الذي فقد القدرة على تحديث هويّته واستدخالها في الأفق الزمنيّ المستقبليّ هو الذي تجتاحه العولمة طولًا وعرضًا، وتستبيح جميع مقوِّماته الذاتيّة. أمّا الإنسان القادر على تجديد معاني هويّته والمستعدّ للانخراط السليم في تضاعيف الزمن المستقبليّ، فهو الكائن الحضاريّ الذي به تغتني العولمة وتتأنسن وتستقيم وتسمو. استطاع الغرب أن ينتج العولمة وأن يناضل في سبيل تجديد هويّته منسلكةً في قرائن هذه العولمة؛ لا بل إنّ العولمة هي ثمرة اجتهاد الغرب في تجديد هويّته. ولكنّ الغرب ليس كلّ المسكونة. فأين الحضارات الأخرى؟ وأين الحضارة العربيّة؟ هل سنكتفي باجترار انسدادات تراثنا الفقهيّة والكلاميّة واللاهوتيّة واللسانيّة أم أنّنا سنجرؤ جرأةً عظيمة وننزع عنّا الألبسة القديمة التي اتّشحت بها ذاتيّتُنا العربيّة، ونفجّر في هذه الذاتيّة طاقات الإبداع المنبثقة من عمق إدراكنا خصائصَ الزمن الكونيّ الجديد المنبسط في قرائن العولمة؟

■ من الواجب أن يتّضع أهل العرب في هذا الميدان، وأن يقتنعوا بأنّهم لن يستطيعوا أن ينشئوا وحدهم أنظومة إبيستِمولوجيّة، معرفيّة علميّة، تختلف اختلافًا جوهريًّا عن مسرى الاختبار المعرفيّ الكونيّ المعولم. لقد ولّى الزمن الذي كانت فيه الثقافات المحلّيّة قادرةً على إنشاء تصوّر علميّ خاصّ، منفرد، متميّز، يؤهّلها للإمساك بعناصر الكون على غير ما يتهيّأ للأمم الأخرى. العلوم اتّحدت كونيًّا في الانتظام المعرفيّ الواحد، وفي الجدليّة التناقشيّة المشتركة. فلم يبقَ للحضارات إلّا أن تُفصح عن خصوصيّاتها في حقل آخر، عنيتُ به حقل الرقيّ الإنسانيّ الوجوديّ القيميّ. في هذا الحقل بعينه يمكن الحضارة العربيّة أن تُبرز أسمى ما أنضجته تذوّقاتُها الوجدانيّة والوجوديّة والوجديّة، فتضعه في متناول الساعين إلى تهذيب الكيان الإنسانيّ من جميع أقطار المسكونة. شرطُ هذا التلاقي في القمم أن يقتنع الجميع بمبدأ التكامليّة القيَميّة الحضاريّة التي أنادي بها في كتاباتي.
لا أملك هنا إلّا أن أذكّر الجميع بأنّ الإسلام ليس كلّ العروبة، ولئن تجلّت العروبة في مبانيها الفكريّة والتاريخيّة بفضل الطاقة العظمى التي تختزنها الدعوة القرآنيّة. العروبة تشتمل على طاقات إغنائيّة أخرى، منها اليهوديّة ومنها المسيحيّة ومنها العَلمانيّة العربيّة المستجدّة التي تجسّد في وجهٍ من الوجوه إرث الوثنيّة العربيّة المعقودة على التعدّديّة المنفتحة. صحيحٌ أنّ الجهد الأعظم يبذله المفكّرون المسلمون، والتحدّي الأخطر يواجهه الإسلام في زمن العولمة، والمسؤوليّة الألزم تضطلع بها النخَب المسلمة الحاكمة في الأوطان العربيّة. غير أنّ الدخول العربيّ الهنيّ البنّاء إلى زمن العولمة لا يستقيم إلّا بتضافر إسهامات الكتَل الثقافيّة العربيّة جميعها وتكامل التصوّرات الأنثروبولوجيّة العربيّة كلّها. في هذا السياق، ينبري إسهام المفكّرين المسيحيّين المعاصرين، من أمثال بولس الخوري، الذين اجتهدوا في تطوير الفكر العربيّ انطلاقًا من خصوصيّاته وتمايزاته. بولس الخوري، وهو أستاذي في الفلسفة، يحيا اليوم على عتبة مئة العام من عمره، أتانا بنظريّة فذّة في التوفيق بين التراث العربيّ والحداثة(١٧). خلاصتها أنّ التراث العربيّ يتمحور حول مقولة السموّ الإلهيّ، وأنّ الحداثة الغربيّة تتمحور حول مقولة النقد التطلّبيّ المطّرد. فإذا به يستجلي شيئًا من القربى الموضوعيّة بين مقتضيات السموّ ومتطلّبات الحداثة، معتقدًا أنّه عثر في مقولة التجاوز على عنصر التوفيق والمصالحة. فإذا استصفى الفكرُ العربيّ جوهر تراثه، وإذا استخلصت الحداثة جوهر مطلبها، كان التجاوز هو الجوهر التصالحيّ المشترك. حتّى الآن لم أعثر على مثل هذا الحدس الإبداعيّ في كتابات الفلاسفة العرب المعاصرين؛ لذلك يجب علينا أن نعتني بتطوير هذا الكشف المعرفيّ الفتّاح(١٨).
في جميع الأحوال، يبدو لي أنّ جميع الاجتهادات الفلسفيّة العربيّة المعاصرة تُفلح في جانب، وتُخفق في جانب آخر. فهي تنجح في صون التماسك المنطقيّ الداخليّ في بناء عمارة الفيلسوف النظريّة. غير أنّ مثل هذا التماسك لا ينعكس أثرًا تغييريًّا في الواقع العربيّ. في اعتقادي أنّ الإصابة النظريّة في المبنى الاجتهاديّ لا تحرّك الواقع العربيّ تحريكًا يجعله ينتقل من طور إلى آخر. والمؤسف أنّه واقعٌ يترجّح فيه الناسُ بين الصراع المميت على السلطة والخضوع الأعمى للأيديولوجيات المتنافرة، المتعارضة، المتعاركة. من أشدّ معاثر هذا الواقع إيلامًا أنّ بهاءات البناءات الفكريّة النظريّة تصصدم بقباحات الأحوال والأوضاع والقرارات والأفعال.

● سأنتقل إلى قضيّة عالميّة تشغل وشغلت الجميع. وأقصد بها طبعًا جائحة كورونا التي يبدو أنّها قلبت العديد من الموازين على الصعيد الدوليّ والاجتماعيّ والإنسانيّ. وكنتَ قد نشرتَ مجموعة من المقالات حول ذلك حدّدت فيها وجهة نظرك بوصفك فيلسوفًا. ما الدرس الفلسفيّ والأخلاقيّ الذي يجب استخراجُه من هذه التجربة الإنسانيّة العالميّة المؤلمة؟

■ في رأيي، إنّ الفيروس والحياة صنوان لا يفترقان. قبل الحديث عن التجارب العلميّة المختبريّة التي أفرجت عن أصناف خطرة من الفيروسات الفتّاكة، شهدت البشريّة طفرات مرضيّة قضت على الملايين، كان آخرها الجائحة التي ضربت أُوربّا في أعقاب الحرب العالميّة الأولى. الفيروس عينُه هو حمّال أوجه. فإمّا أنّه يمنح الحياة، وإمّا أنّه يقضي عليها؛ لذلك ينبغي لها التحوّط والتدبّر والتخطيط لكي يبقى الفيروس واهبًا الحياة. أخلاقيّات الفيروس من أخلاقيّات الفيروس الأكبر؛ أي الإنسان. إذا خضع الناس لسلطان الاقتصاديّات المتهوّرة، جرّوا على أنفسهم الهلاك. أمّا إذا اتّضعوا وتابوا وغيّروا ما في قلوبهم وأذهانهم ووعيهم، ورتّبوا معنى الحياة بحسب المراتب الثلاث التي تحدّثتُ عنها في نظريّة الدوائر، فإنّهم يستطيعون أن ينجوا معًا.
العطب الطبيعيّ هو سمة الوجود. أمّا التسبّب في العطب، فهو من آيات الشرّ التي يُتقنها الإنسان الغارق في أنانيّاته القاتلة. لست أظنّ أنّ البشريّة يمكنها أن تنعتق من ويلات الفيروسات المجنّحة، ما دام الإنسان رهينة اقتصاديّات العولمة الساحقة. ليست المشكلة في الفيروس، بل في الإنسان. ولا شفاء للإنسان من أسقام الفيروس المنحرف إلّا بشفاء النفس الإنسانيّة من اعتلالاتها الأخلاقيّة وابتلاءاتها النفسيّة. آن الأوان لكي تنضبط الأنظمة السياسيّة الكبرى، والشركات المصرفيّة الضخمة، والهيئات الاستثماريّة الأخطبوطيّة، وتخضع لأخلاقيّات جديدة في الاقتصاد المؤنسَن. وحده مثلُ هذا الاقتصاد خليقٌ بتقويم استثمارات الإنسان في تهذيب كيانه، وإرشاد أبحاثه، وإصلاح غايات معارفه وعلومه، وإنهاض الأرض الكسيح. أمّا إذا استمرّ الناسُ على هذا الانفجار الدِّيمغرافيّ، وهذا التلوّث البيئيّ، وهذا الإنهاك الموارديّ، وهذا الاحتراب الصناعيّ الماليّ الإفساديّ، فإنّ البشريّة ذاهبةٌ لا محالة إلى فناء الألحاد، وخواء الضرائح، وعتمة المقابر.

● أريد أن أختم الحوار بسؤال على صلة مباشرة بالأسئلة الأخيرة من الناحيتَين الدِّينيّة والفلسفيّة: لماذا يحتاج الإنسان إلى الرجاء في الأزمنة الصعبة؟ وهل الدِّين هو الذي اخترع هذه الحاجة في منظومة التقوى؟

■ السرّ الكونيّ مبعثُ السؤال، والسؤال تقوى الفكر، والتقوى حاملة الرجاء. جميع حضارات الأرض اعتصمت بشيء من الرجاء الغيبيّ؛ لأنّ الناس شعروا أنّ حدود الوجود الأرضيّ الفرديّ يربكهم أيّما إرباك. وعلاوةً على ذلك، هالهم عثارُ الشرّ والألم والظلم والنكبة، فحاولوا أن يداروه ويتدبّروه بشيء من التطلّع إلى ملكوت الخير والصلاح والسعادة والهناء. وأخيرًا، يختبر الناس أحجيّة الكون بأسره، وسرّيّة رحابته، ولغزيّة تمدّده وانقباضه، واستغلاق مبانيه في الأصل وفي المسرى وفي المنتهى. لهذه الأسباب الثلاثة مجتمعةً، عنيتُ بها محدوديّة الوجود الفرديّ ومائتيّة الإنسان، ومعثرة الشرّ، ولغز الرحابة اللامتناهية في الصغر والرحابة اللامتناهية في الكبر، لا يملك الإنسانُ إلّا أن يستنبط نمطًا من أنماط التعزية الوجوديّة. أرقى هذه التعزيات فرضيّةُ الحبّ الإلهيّ الذي يغمر الوجود الإنسانيّ بالرفق والرعاية.
ليس للإنسان حينئذ أن يبرهن برهانًا علميًّا على صحّة هذه الفرضيّة أو بطلانها؛ لأنّ مباني الحياة تحتمل علميًّا نظريّة النشوء الذاتيّ المتوقّل، وتحتمل أيضًا نظريّة الإنشاء الخارجيّ اللحظيّ. مشكلة الخارج أو المفارقة أو التسامي أو التعالي لا يستطيع العقلُ الإنسانيّ أن يحلّها حلًّا مقنعًا؛ لأنّ الرحابة الكونيّة لا تستنكف من افتراض حيّز إلهيّ خارجيّ منطوٍ انطواءَ المثال الجاذب في موضعٍ من مواضع هذه الرحابة، على ما كان يذهب إليه أرسطو في تعيين موضع المحرِّك الأوّل.
في جميع الأحوال، ليست الرجاءات الإيمانيّة هي في حدّ ذاتها المشكلة، بل الأردية والألبسة والأقنعة التي تتغلّف بها، عنيتُ بها الأنظومات الدِّينيّة المؤسَّسة التي تدّعي الائتمار بالمشيئة الإلهيّة. والحال أنّ الاختبار الإيمانيّ هو في أصله حركةُ وصالٍ وجدانيّ حرٍّ بينبوع الحياة ومصدر الحبّ؛ لذلك لا ضير إنِ اختلفت الأسماء التي تُطلَق على هذين الينبوع والمصدر. الأصلُ أن يفوز الإنسانُ بمعنًى وجوديّ شامل يريحه نفسيًّا من ثقل الأسباب الثلاثة التي تقضّ مضجعه. أفضلُ الرجاءات، والحال هذه، ذلك الذي يضعه الإنسانُ في مصفّ التعبير الأسمى عن الحرّيّة الوجدانيّة الذاتيّة. أمّا سائر الرجاءات الأخرى، فهي أشبه بقوالب متصلّبة من المعاني التي تفرضها الأنظومة الدِّينيّة على الوعي الإنسانيّ. الرجاء الأعظم أن يثق الإنسان بأثر الحبّ الكونيّ في تغيير الذهنيّات والبنى ومجاري التاريخ بأسرها.

هوامش:
(١) مشير باسيل عون، علم الأصول اللاهوتيّة. في فلسفة الدِّين، بالاشتراك مع عادل تيودور خوري، الجزء الأوّل، المكتبة البولُسيّة، جونية، لبنان، 2000م؛ مشير باسيل عون، علم الأصول اللاهوتيّة. في قضايا الإيمان، بالاشتراك مع عادل تيودور خوري، الجزء الثاني، المكتبة البولُسيّة، جونية، لبنان، 2002م.
(٢) مشير باسيل عون، بين المسيحيّة والإسلام. بحثٌ في المفاهيم الأساسيّة ، المكتبة البولُسيّة، جونية، لبنان، 1997م؛ مشير باسيل عون، مقالاتٌ لاهوتيّة في سبيل الحوار، المكتبة البولُسيّة، جونية، لبنان، 1997م؛ مشير باسيل عون، الأسُس اللاهوتيّة في بناء حوار المسيحيّة والإسلام، جامعة القدّيس يوسف، دار المشرق، بيروت، 2003م.
(٣) مشير باسيل عون، جوهر المسيحيّة ومفارقاتها. المسيحيّة على مشارف الألف الثالث، بالاشتراك مع كيرلّس سليم بسترس، المكتبة البولُسيّة، جونية، لبنان، 2001م؛ مشير باسيل عون، محنةُ الإيمان. اجتهاداتٌ ومساءلاتٌ في الفكر الدِّينيّ المسيحيّ، دار المشرق، بيروت، 2005م.
(٤) مشير باسيل عون، بين الدِّين والفلسفة. نظراتٌ في الإلحاد المعاصر، بيروت، لبنان، 2003م؛ مشير باسيل عون، النور والمصابيح. التعدّديّة الدِّينيّة في جرأة المساءلة اللاهوتيّة المسيحيّة، منشورات جامعة البلمند، لبنان، 2008م.
(٥) صدر الكتاب باللغة الفرنسيّة، ولم يُعرَّب حتّى الآن:
Mouchir Basile Aoun, Le Christ arabe. Pour une théologie arabe chrétienne de la convivialité, Paris, Cerf, 2016.
(٦) تناولت هذه المسائل في كتابي: مشير باسيل عون، الفكر العربيّ الدِّينيّ المسيحي. مقتضيات النهوض والتجديد والمعاصرة، دار الطليعة، بيروت، 2007م.
(٧) من إنتاج الحقبة الأولى في أبحاثي كتابان شاركتُ في الإشراف على إعدادهما في لاهوت الحوار المسيحيّ الإسلاميّ: عادل تيودور خوري ومشير باسيل عون (إعداد)، العدل في المسيحيّة والإسلام، سلسلة المسيحيّة والإسلام في الحوار والتعاون، المكتبة البولُسيّة، جونية (لبنان)، 1996م؛ عادل تيودور خوري ومشير باسيل عون (إعداد)، الرحمة الإلهيّة في المسيحيّة والإسلام، سلسلة المسيحيّة والإسلام في الحوار والتعاون، المكتبة البولُسيّة، جونية (لبنان)، 1999م.
(٨) مشير باسيل عون، بين المسيحيّة والإسلام. بحثٌ في المفاهيم الأساسيّة، مرجع مذكور.
(٩) مشير باسيل عون، بين الابن والخليفة. الإنسان في تصوّرات المسيحيّة والإسلام، المكتبة البولُسيّة، جونية (لبنان)، 2010م.
(١٠) تناولتُ العَلمانيّة الهنيّة في كتب ثلاثة صدرت في سياقات لبنانيّة ثقافيّة وسياسيّة وتاريخيّة مختلفة : مشير باسيل عون، بين الدِّين والسياسة. الفكر السياسيّ المسيحيّ في بنائه النظريّ وواقعه اللبنانيّ، دار النهار، بيروت، 2008م؛ مشير باسيل عون، أهؤلاء هم اللبنانيّون؟ عوارض الاضطراب البنيويّ في الذات اللبنانيّة، دار سائر المشرق، بيروت، 2016م؛ مشير باسيل عون، الثورة الآتية. الفلسفة في معترك الانتفاضة اللبنانيّة، دار سائر المشرق، بيروت، 2020م.
(١١) مشير باسيل عون، «الاستحالة الفلسفيّة للربيع العربيّ»، ملحق النهار، النهار، 17 يناير 2015م. استثار هذا المقال ردودًا قاسية جعلتني أحزن للحال التي بلغناها في حقل التحاور الفكريّ الحرّ. بعضهم عاين فيه تحاملًا على الثورات العربيّة وانتقاصًا من شهادة الثوّار المعمّدة بالدمّ، في حين أنّي كنتُ أسعى إلى استجلاء الأسباب الدفينة التي تُعسّر انبثاق ثورة معرفيّة شاملة في الاجتماع العربيّ المعاصر. وما كان في قصدي أن أجرّح شهادة الثوّار الصادقين الراغبين في تغيير البنى والأنظمة، وأنا واحدٌ منهم أنادي بسقوط أنظمة الظلام والظلم والاستبداد في جميع الأوطان العربيّة.
(١٢) يمكن الرجوع إلى الكتاب الذي نشرته بالفرنسيّة متناولًا فيه التصوّرات الأنثروبولوجيّة المسيحيّة والإسلاميّة:
Mouchir Basile Aoun, Anthropologies croisées. Essai sur l’interculturalité arabe, Paris, Cerf, 2017.
(١٣) كنتُ قد عرّبت بحثًا ألمانيًّا في الفلسفة السياسيّة أنشأه مستشارُ مِتّرنيخ (1773- 1859م) الكاتبُ النمسَويّ فريدريخ غِنْتس (1764- 1832م)، ووضعتُ له مقدّمة مسهبة أظهرتُ فيها شروط التقدّم الدِّيمقراطيّ في الأمم الأُوربّيّة في إثر الهزيمة التي مُني بها نابوليون بونابارت وأفضت إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسيّة الأُوربّيّة:
Mouchir Basile Aoun, Frédéric Gentz. De la paix perpétuelle, Thesaurus de philosophie du droit, Centre de philosophie du droit, Paris, Vrin, 1997.
(١٤) من المحاولات التي أنجزتُها في الإسهام الفلسفيّ في تجديد الفكر العربيّ البحثُ الذي تناولتُ فيه سبُل التفاعل المثمر بين فكر هايدغر والفكر العربيّ. وقد نشرتُه أصلًا باللغة الفرنسيّة، وما لبث أن جرى تعريبه ونشره في بيروت: مشير باسيل عون، هايدغر والفكر العربيّ، تعريب إيلي نجم، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2015م. وأعدّ العدّة اليوم لإصدار كتاب آخر عنوانُه هايدغر في المتناول العربيّ. في السياق عينه هذا ينسلك الجهد الذي بذلتُه في استدخال مكتسبات الفِسَارة الغربيّة في فضاء الاقتبال الفكريّ العربيّ المعاصر: مشير باسيل عون، الفِسارة الفلسفيّة. بحثٌ في تاريخ علم التفسير الفلسفيّ الغربيّ، دار المشرق، بيروت، طبعة أولى 2014م، طبعة ثانية 2018م.
(١٥) إسهامًا في استجلاء عناصر الإصابة في تحديث الاجتماع العربيّ والفكر العربيّ، التزمتُ الانخراط في مشروعَين متقابلَين، ألا وهما سلسلة البحوث التي تترصّد أحوال الفلسفة العربيّة المعاصر، وسلسلة البحوث التي تترصّد باللغة العربيّة أحوال الفلسفة الكونيّة المعاصرة، في كلّ متّحد قوميّ أو لغويّ بارز. في السلسلة الأولى، نشرتُ كتابين في مركز دراسات الوحدة العربيّة ينطويان على خلاصة الإسهامات الفلسفيّة في الاجتماع اللبنانيّ والاجتماع السوريّ (الفكر الفلسفيّ المعاصر في لبنان، بيروت، 2016م؛ الفكر الفلسفيّ المعاصر في سوريا، بيروت، 2020م)، وأكبّ على إعداد الكتاب الثالث (الفكر الفلسفيّ المعاصر في تونس). أمّا في السلسلة الثانية، فتخيّرتُ الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة في القرن العشرين، ووضعتُ خطّةً واسعةً تشتمل على كلّ إسهامات الفلاسفة الفرنسيّين، وأعدّ العدّة للشروع في إصدار المجلّد الأوّل من خماسيّة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة.
(١٦) مشير باسيل عون (إعداد)، التقليد والحداثة وما بعد الحداثة في المجال العربيّ، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، 2018م؛ مشير باسيل عون (إعداد)، العدالة في الانتظام الاجتماعيّ والسياسيّ العربيّ، دار الفارابي، بيروت، 2019م.
(١٧) بولس الخوري فيلسوفٌ لبنانيٌّ ولد في عام 1921م، وواكب تفتّح المجتمعات العربيّة الحديثة منذ زمن الاستقلال الأوّل حتّى زمن تأزّم العولمة، مرورًا بالنكبات والنكسات والرجعيّات والأصوليّات. له ما يناهز مئة كتاب، وهي مؤلَّفاتٌ توزّعت على محاور شتّى، أبرزها فلسفة الدِّين، والأنثروبولوجيا الفلسفيّة، والمجادلات المسيحيّة الإسلاميّة في القرون الوسطى. انظر على سبيل المثال بولس الخوري، العالم العربيّ والتحوّل الاجتماعيّ الثقافيّ، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2007م.
(١٨) يمكن الرجوع إلى البحث المطوَّل الذي نشرته بالفرنسيّة :
Mouchir Basile Aoun, Une pensée arabe humaniste contemporaine. Paul Khoury et les promesses de l’incomplétude humaine, Paris, L’Harmattan, 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي