الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما اختزنته الذاكرة عن فلسطينيي الداخل -2

هاني عبيد

2021 / 11 / 21
سيرة ذاتية


ما إختزنته الذاكرة عن فلسطينيي الداخل
البريق الذي ما زال يومض -2
كانت الإتحاد النافذة التي نطل منها على الوطن السليب وعلى صفحاتها كانت ترتسم نضالات الفلسطينيين في الداخل، ونشعر أن الحبر الذي كُتبت به كان ممزوجاً بدموعهم وفي أحيان كثيرة بدمهم، أما كلماتها فكانت كالسياط على ظهور المحتلين. إضافة إلى كونها صوت الفلسطينيين في الداخل الاّ أنها كانت تتفاعل مع الأحداث في العالم العربي لأم فلسطين قلب هذا العالم. فمثلاً، عندما أعدِم الشفيع أحمد في السودان رثاه سالم جبران في قصيدة "مولد إسطورة" والتي يقول فيها:
كشمس خط الإستواء قلبه
ومقلتاه
شطئان من ذكاء وشجى دفين
يضحك كالأطفال إن داعبته، يضحك
غير إن وجهه حزين
وصوته حزين...
كذلك، كانت قصيدة الشاعر سميح القاسم "الخبر الأخير عن عبدالخالق محجوب"، وفيها يقول:
شهقت غابة مانجو ناضجة
يا حبيبي !
خضّ أسراب العصافير حجر
شهقت إفريقيا الأخرى وصاحت:
يا حبيبي
ونعاك الضوء للضوء
نداء لا خبر
هكذا نبدأ من حيث انتهينا
صخرة أخرى على النهر.
كما نشرت الإتحاد في 26/3/1971 قصيدة سميح القاسم "غزة" من مجموعته الماثلة للطبع بعنوان "الموت الكبير"، وفيها يقول:
الغول والعنقاء والخل الوفي
حفظت ملامحهم
وكان الموت يحفظ كل شيء
في المرفأ المأهول بالآتين من دهر قديم
بنوازع القتلى القدامى
بالقواربِ،
باللغات.
كان اللقاء مع شعراء وأدباء فلسطينيي الداخل يتم أثناء زياراتهم لعواصم الدول الإشتراكية فيعقد الطلاب لهم ندوات ولقاءات، وكثيراً ما أثارت هذه العواصم قريحة الشعر لديهم، فتوفيق زيّاد يكتب قصيدة "مسودات بودابست، ونطالعها في جريدة الإتحاد في تشرين أول 1971، وفيها يقول:
الشمس هنا لجميع الناس
والأرض هنا لجميع الناس
الآلة والمنجم والمعمل
والحاضر والمستقبل
والآفاق اللاحد لها مفتوحة
في وجه جميع الناس.
وقد كتب توفيق زيّاد كتابه "نصراوي في الساحة الحمراء" متحدثاً عن ذكرياته في موسكو، وبعده بسنوات عديدة كتب نبيل عودة "يوميات نصراوي: موسكو وذكرياتي التي لا تُنسى"، وشتان بين ما كتبه نبيل وما كتبه توفيق.
كما نشر توفيق زيّاد قصيدته "العذراء ذات الأفرهول الأزرق" بمناسبة مرور مئة عام على كومونة باريس، ومطلعها:
لا أعرف من انت وما اسمكِ
أنا لم أرَ وجهكِ، طول حياتي
لكني
أعرف ما انتِ وانكِ
صوت الماضي الرامز للآتي.
كانت صحيفة الإتحاد تنشر أحياناً إنتاجاً أدبياً لشعراء وكتّاب عرب، فقد نشرت قصيدة الشاعر السوداني محمد الفيتوري "قلبي على وطني" والتي يقول فيها:
حين يأخذك الصمت منا
فتبدو بعيداً كأنك
رآية قافلة غرقت في الرمال
تعشب الكلمات القديمة فينا
وتشهق نار القرابين
فوق رؤوس الجبال.
واتذكر قصيدة الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان "نبوءة العرافة" التي نشرتها الإتحاد في نيسان 1972م، والتي تقول فيها:
يوم امتطيناها ظهور الخيل
راحت أغانينا
تومض مثل الخنجر العريان
على ضفاف الليل.
ونشرت الإتحاد قصيدة بتاريخ 11/2/1972م ابو سلمى "أحباب حيفا" من ديوانه الذي أصدره بعنوان "من فلسطين ريشتي"، حيث اشتمل الديوان على أناشيد الشاعر في سنوات الستينات وقد صدّر الشاعر ديوانه برسالة من بدوي الجبل وبمقدمة من محمود درويش الذي استقر خارج فلسطين.
هذي الحروف جريحة الكبدِ مثلي ومثل الشعب والبلدِ
كيف السبيل إلى تفتحها والجمرُ في شفتي وفوق يدي
في كلِ عامٍ نلتقي وعلى أفواهنا حدائق من الزردِ
كل الحروف تظل شاردة إن لم تقل ما دار في الخلدِ
وفي الذكرى السادسة عشرة لمذبحة كفرقاسم (27/10/1972م) أعادت الإتحاد نشر قصيدة محمود درويش "نداء من القبر" (كان محمود درويش قد غادر فلسطين)، حيث يقول:
سألناكم: لا نريد
ثياب حداد
فلا لون في القبر
الا السواد.
ونشرت قصيدة سميح القاسم "ليد ظلت تقاوم" ومطلعها:
بركة دكناء في قلبي
ونجيع ساخن
يصرخ في وحشة الغابة
وعلى قارعة الدرب وعاءات نحاس
أيقظت بضع رصاصات
وألقت في جفون الأخوة القتلى النعاس....
ويختمها بقوله: كفر قاسم...كفرقاسم...دمك المهدور ما زال....وما زلنا نقاوم.
أما الشاعر توفيق زيّاد فنشر قصيدته "كفرقاسم":
ألا هل أتاك حديث الملاحم
وذبح الأناسي ذبح البهائم
وقصة شعب تسمى
حصاد الجماجم
ومسرحها
قرية اسمها
كفرقاسم.
عدا عن الصفحات الثقافية التي كنا نقرؤها بنهم، كنا عبر سطورها نحاول أن نُشكّل ونتخيل ملامح القرى والبلدات وكيف أصبحت بعد أن هُجّر أهلها وكيف يعيش من تبقى منهم. كانت الإتحاد تفرد الصفحات والمقالات والأخبار المتعلقة بالحياة اليومية للناس وما يلاقونه من ظلم وتعسف وعدم وجود خدمات، كانوا يخوضون يومياً صراعاً شرساً من أجل البقاء والتمسك بهويتهم الفلسطينية. ومن الأمور التي كانت تلفت انتباهنا هو نشاط أعضاء الكنيست العرب، فخطبهم كانت تفضح السياسات القائمة على التمييز العنصري، وهم باستمرار يقدمون استجوابات للوزراء حول القضايا السياسية والمعيشية، وكنا نًصاب بالدهشة لاننا في دولنا لم نتعود على هذا النمط من العمل البرلماني. كان فارس العمل البرلماني هو توفيق طوبي والذي كنا نقرأ خطاباته في الكنيست. أما على صفحات الصحيفة فكنا نتابع مقالات اميل توما والتي كانت تظهر باستمرار معلقاً على الأحداث السياسية، وكان ينضم إليه في الكتابة السياسية كل من علي عاشور وصليبا خميس وأحياناً اميل حبيبي.
كانت صحيفة الإتحاد تفضح أساليب التعذيب الصهيونية ضد المعتقلين الفلسطينيين، وخاصة الفدائيين منهم، فمثلاً، أذكر كيف أدارت الإتحاد معركة الأسيرة المناضلة لطيفة الحواري، وكان نجم المقاومة القانونية في المحاكم الإسرائيلية هي المحامية الإسرائيلية فلتسيا لانغر والتي لقّبها الفلسطينيون بالحاجة فولا. كانت هذه المحامية ومواقفها تُثير فينا الإعجاب ليس بسبب دفاعها عن المعتقلين والسياسيين والسجناء بل بسبب شجاعتها التي أصبحت شوكة في حلق الإحتلال. وكان كل يوم يمر نتأكد من عظمة إنسانيتها، فقد كرست كل عملها للسجناء وكانت تمضي وقتها بين مكتبها وسجون الإحتلال. وبسبب مواقفها عانت من زعران الكيان الصهيوني ولم يسلم زوجها من الإضطهاد. أذكر أول مقال قرأته لفلستيا كان في صحيفة الإتحاد في عام 1971م بعنوان "عندما يحاول الإحتلال إخفاء المعالم"، وظهر لها مقال آخر بمناسبة عيد المرأة العالمي في الثامن من آذار 1973م بعنوان "حديث عيد عن المناضلات".
وهنا لا بد من الإشارة إلى الكتب التي ألفتها حيث وثّقت فيها ما شاهدته من جرائم الإحتلال ومدى زيف ديمقراطيته التي باعها للعالم، وتشكل كتبها وثائق دامغة لا بد أن تستخدمها المنظمات الحقوقية الدولية ومنظمات حقوق الإنسان في إدانة وتجريم إسرائيل. من الكتب التي ألفتها أذكر: بأم عيني (1974م) وكتاب هؤلاء اخوتي (1979م) وكتاب من مفكرتي، وكتاب القصة التي كتبها الشعب وكتاب عصر حجري، وقد وثّقت حياتها ومذكراتها في كتاب الغضب والأمل.
لقد كانت صحيفة الإتحاد وهي الناطقة باسم الحزب الشيوعي الإسرائيلي هي صحيفة تهتم بالمواضيع والأفكار اليسارية، وفي الخلاف العقائدي بين الصين والإتحاد السوفياتي وقفت في خندق الإتحاد السوفياتي، ولذلك لم تكن تُشير إلى الصين من قريب أو بعيد، بل كانت تنشر المقالات التي تُبين حياة ومعيشة المواطنين السوفييت ونجاحاتهم في بناء الإشتراكية، وكثيراً ما كانت تنشر مقالات لكتاب وسياسيين سوفييت على صفحاتها، وقد لفت نظري في حينها نشرها خطاب برجينيف في الإحتفال الذي جرى في الكرملين بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس جمهوريات الاتحاد السوفياتي الاشتراكية على ست صفحات كاملة في الصحيفة.
وبانتهاء الدراسة وعودة كل واحد إلى بلده، عادوا هم إلى فلسطين المحتلة وانقطع التواصل معهم، قسم منهم جرفته الحياة في مجراها وآخرون استمروا في نضالهم ضمن صفوف الحزب الشيوعي.
ومن الأصدقاء الذين استمروا في نهجهم وحافظوا على مبادئهم زميلنا الدكتور أحمد سعد والذي درس الإقتصاد في جامعة ليننغراد وعاد إلى فلسطين، وانتخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي ثم أصبح عضو كنيست عن الجبهة الديموقراطية وعضواً في المكتب السياسي، واعتقد أنه أصبح رئيس تحرير صحيفة الاتحاد ولكن المرض أنهكة فتمكن منه وأسلم الروح في 19 نيسان 2010م.
وبعد توقيع معاهدة وادي عربة، فوجئت بأحد الأصدقاء الذين درسوا في ليننغراد يزورني في مكتبي وهو الدكتور محمد بكري وقد أصبح رئيساً لمجلس محلي البعنة، وأهداني صينية تذكارية من مجلس بعنا ما زلت احتفظ بها. ومن الأصدقاء الذين درسوا أيضاً في ليننغراد الصحفي سميح غنادري، وقد ألفّ كتاباً بعنوان "المسيحية المشرقية على مدى ألفي عام"، وقد نظّم له النادي الأرثوذكسي في عمان ندوة حول كتابه حضرها جمع غفير من المهتمين بهذه القضية. ولاحقاً أعلمني إنه بصدد تأليف كتاب آخر حول الوقف الأرثوذكسي في فلسطين والأردن، ولا أدري إن أكمل مشروعه أم لا فقد انقطعت أخباره.
هذا ما اختزنته الذاكرة عن فلسطيني 1948م وقد مر أكثر من نصف قرن عليها، ولكنها ما زالت تومض مؤشرة على زمان يُغير الناس والأفكار وبالتالي تتغير المواقف والأمكنة، ومع ذلك تبقى اللحظات الجميلة ملكاً لمن يستطيع أن يُحافظ على بريقها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ضربة أصابت قاعدة عسكرية قرب أصفهان وسط إيران|#عاجل


.. القناة 12 الإسرائيلية: تقارير تفيد بأن إسرائيل أعلمت واشنطن




.. مشاهد تظهر اللحظات الأولى لقصف الاحتلال مخيم المغازي واستشها


.. ما دلالات الهجوم الذي استهدف أصفها وسط إيران؟




.. دراسة جديدة: اللحوم النباتية خطرة على الصحة