الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جسر اللَّوْز 20

علي دريوسي

2021 / 11 / 22
الادب والفن


لم أستطع متابعة القراءة في مجموعة إيمان القصصية، يبدو أنني قارىء فاشل.
في الوقت نفسه وقعت بين يدي مصادفة قصة "لا تسبر الأغوار كثيراً" للكاتب الإيطالي ألبيرتو مورافيا، يحكي فيها انشغال ألفريدو بأسباب هجرة زوجته أجينز له وهروبها من بيت الزوجية. بعد قراءتي لها وجدت نفسي أتساءل إلى أي مدى أشبه ألفريدو؟ أو بالأحرى من أكون أنا؟ وكيف عشت مع طليقتي؟.
هنا في ألمانيا يهتم بعض الناس بالاقتناء، فتراهم يقتنون أشياء قديمة أو حديثة بمحبة وفخر: حقائب، أحذية، نظارات، ساعات، سلاسل، قبعات، عطور، مشروبات، غلايين، كاميرات، لوحات... والبعض الآخر لا يقدّر ثقافة الاقتناء. أما أنا فأقتني الرسائل والكلمات والملاحظات والذكريات الموثقة وغير الموثقة.
خطر لي أن أعود لقراءة مراسلاتي مع إيمان واستذكار أحاديثنا خلال لقاءاتنا العديدة ومراجعة ملاحظاتي التي تعودت على كتابتها في دفاتري الخاصة. تكلمنا، إيمان وأنا، بالدرجة الأولى عن علاقتينا الزوجيتين مطولاً وعميقاً. حكيت لها عن تجربتي مع زوجتي الورقية وعن المشاكل التي افتعلتها معي بعد أن طردتها من شقتي وعن اتهاماتها غير المنطقية لي حالما وصلتها دعوى الطلاق عن طريق محاميتي.
من حسن حظي أن صديقتي إيمان إمرأة مؤمنة، فأنا لا أحترم المرأة الملحدة، الإلحاد لا يليق بالمرأة، لا يشبهها، لا السلاح ولا البذلة العسكرية يليقان بها أيضاً. بعد أن اِلتقينا لأول مرة اِكتشفنا أن بيننا العديد من القواسم المشتركة، حتى في قضايا تذوقنا للغناء والطرب العربي والسوري. كنا متفقين مثلاً أن المطرب البهلول علي الديك لا يقل أهمية أبداً عن الملك جورج وسوف! كانت تقول لي وعيونها تضحك: "الديك ـ الذي يملك بحق مشروعاً ذكياً ـ ظاهرة طبيعية رائعة. استطاع إنقاذ عائلته من الفقر والتعب والتشرد دون أن يضطر للسرقة والاحتيال المقرف. شاب فقير ووصل بجهوده إلى القمة برفقة إخوته. ولديهم اليوم ملايين المتابعين والمعجبين رغم أشكالهم/هيئاتهم التي تلوي القلب. أحترم أفراد هذه العائلة لأنهم مواظبون على تحقيق مشروعهم وحلمهم، رغم مناقشاتهم الهزيلة وسلوكهم ووعيهم الهَشّ. من هو السوري الذي لم يسمع باسم الديك أو يستمع لجَلْجَلَته!؟"
حتى في تقييمنا للأمور السياسية كنا على اتفاق معقول. بدءاً من رؤيتنا للنظام السوري وليس انتهاء بنظرتنا لرئيس جمهورية مصر "محمد أنور السادات". قالت لي بطريقتها القصصية: "كنت ساعتها مع الأهل في موسم حواش الزيتون، كنت لا أزال طفلة حين لعلع الرصاص، رصاص رشاشات حماة نظرية النظام القومي، ابتهاجاً باغتيال السادات رداً على خيانته واختياره الفردي لدرب السلام. لم أفهم يومها ما حدث فعلاً وكبرت بهدوء مثل غيري وأنا أبصق على فعلة الخائن أنور السادات، كبرت مثل غيري من كل أطياف وأحزاب المجتمع السوري دون أن يخطر في ذهني مناقشة تلك البديهية (السادات خائن!) ودون أن يهمني البحث عن تاريخه. اليوم أتساءل: لو كنت آنذاك في مستوى وعيي وإدراكي الحالي هل كنت أقبل بتجريم السادات؟ هل كنت سأنظر إلى السادات ـ صاحب المقولة التاريخية (اجعلوا الأمل دستور عمل ونضال) ـ كخائن أم كرجل سياسة عظيم، رجل حرب وسلام!؟"
ولم يكن إيمانها الخفيف ميزتها الوحيدة بل كانت إيمان إمرأة متفهمة، رومانسية قليلاً، لا يمكن تقليدها أو مضاهاتها، كالسَّهْل المُمتنع. كانت إمرأة متواضعة حتى باستهلاكها للطعام والملابس. ذات مرة لمحت على طاولتها الآلة الحاسبة القديمة التي تستخدمها، وحين شعرتْ باستغرابي همستْ: " اِشتريتها عام 1993 من عرق جبيني بعد أن عملت لعدة أشهر في مكتبة ميس الريم، الآلة ماركة CASIO موديل fx-115s.وما زلت أستخدمها إلى الآن!" ورغم فضاء الحرية التي تمتعت بها إيمان في ألمانيا إلا أنها بقيت محافظة وحذرة بعلاقاتها الاجتماعية، قالت لي: "في الغربة تخسر المرأة العربية الكثير من كرامتها بسبب أبناء بلدها."
وهذا لم يكن يعني أبداً أنها من المعجبات المتشددات بالألمان وبلدهم بل كانت ناقدة لهم من الطراز الرفيع. ذات مرة تقابلنا في محطة القطار للذهاب سوية إلى السينما لحضور فلم ألماني بعنوان "حياة الآخرين". رأيتها تدخن بعصبية وحين سألتها عن سبب توترها حكت لي بأنها راقبت عصر اليوم رجلاً ألمانياً عجوزاً في نهاية عقده الثامن يجر أمامه تلك العربة التي تساعده على المشي. وقد لفت نظرها مؤخرته العريضة السميكة / الممتلئة المخبأة في بنطلونه القصير، فقد كان الفقير يرتدي الحفاضات. قالت بأنها خجلت في سرها مما شاهدت وسرعان ما تأقلمت مع المشهد المنطقي وهي تغمغم "كلنا نسير على هذا الطريق". لكنها شعرت فجأة بالقرف حين رأته يقف متكئاً إلى عربته آخذاً بمغازلة النساء العابرات. ثم أضافت مرحة "وأنا كنت واحدة منهن لسوء الحظ". على الطرف الآخر من الشارع إمراة عربية في الثلاثين من عمرها. كانت قد تركت طفلها في عربته حالما رأت دالية يافعة مزروعة في فسحة صغيرة جداً ومسوّرة قرب جدار المدينة القديم، دخلت المرأة إلى المزرعة وراحت تقطف أوراق الدالية دون إذن. حين لمحها العجوز مقابله توجّه إليها، وقف قربها ينتظرها وهو يلاطف طفلها. ثم علّقت إيمان: "والبقية تعرفها أنت يا أحمد بحكم خبرتك!".
وكانت العزيزة إيمان مُرهفة الحِسّ والسمع أيضاً، تصغي بانتباه لما يقوله الآخر وتحس بما لا يحس به الآخر، بما لا أحس به أنا عادة. مرة قالت لي: "أحمد، تخيل معي هذا المشهد الواقعي: أسرة فقيرة مكونة من أم وأب وأربعة أولاد. الأسرة تبني منزلاً متواضعاً بالأقساط وبما ادخرته. الأم تبخل على أطفالها كي توفر شيئاً لبناء البيت. ثم يأتي العامل /الفقير/ أيضاً ويأكل طعاماً لا يجرؤ أن يطبخه في بيته. يأكل في المكان الذي يعمل فيه بينما الأولاد ينظرون إليه حالمين ببقايا الطعام. تخيل معي كيف أن الأم منهمكة بتحضير الطعام لعمال الورشة في بيتها، في مطبخ غير مكتمل بعد، تخيل كيف أن المسكينة تنشغل لساعات طويلة كل يوم في إعداد الطعام! والأنكى من ذلك اعتقادنا في تلك الأيام أن هذا هو أقل ما يمكن فعله لخدمة العمال وكسب رضاهم كي يعملوا بهمة ونشاط. نعم كان شيئاً معيباً ألا نطعم عمال الورشة. اليوم تراني أتطلع للماضي وأقول كم كنا وما زلنا بسطاء. اليوم أقول أرجو أن تكون هذه العادة قد انقرضت في مجتمعنا لأنها ببساطة ساذجة."
علّقت على حديثها المؤثر بتلقائية ببغائية: الأم مدرسة إذا... لكنها قاطعتني على الفور وقالت: "الدولة، الدولة يا أحمد، مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً عالي الكرامة والأخلاق".
كانت طليقتي مخلوقاً لا يشبه النساء، كانت كائناً خرافياً.
تعرفت إليها ...
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا