الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين الإبداع والإفساد: مدن ذكية وأخرى غبية

سعيد هادف
(Said Hadef)

2021 / 11 / 23
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر


في الجزء الثالث من ملف المدينة (الأسبوع المغاربي، العدد84)، عادت بنا الشاعرة الجزائرية شاما درويش إلى "المدينة" كما تصورها أفلاطون والفارابي وتوماس مور وابن خلدون وغيرهم ممن وضعوا المدينة تحت مجهر تأملاتهم بحثا "عن حياة إنسانية أفضل". وقد انتخبت الشاعرة شاما فقرات وجمل لعدد من الفلاسفة والمفكرين الذين تناولوا المدينة من زوايا فلسفية، سوسيولوجية، أنثروبولوجية على غرار ميشل آجيي وهنري لوفيفر الذي تحدث عن فكرة الحق في المدينة. وتخلص شاما درويش "إلى العلاقة الجدلية بين المنتج الفكري والفني لدى الإنسان بالمنتج الهياكلي الذي يتم في حياته اليومية التي تتأثر بطريقة البناء ودرجة المواصلات والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، فقد انتقل الإنسان من الشعر إلى الرواية وهو في الوقت نفسه ينتقل من البداوة والحياة الريفية البسيطة إلى حياة المدينة المتشابكة العلاقات".
آمال لعروسي (مستشارة قانونية وباحثة في الجيوستراتيجيا)، فضلت الكتابة عن "سعيدة" مدينة طفولتها وشبابها، مدينة الشاب مامي والشيخة الجنية، ومدينة الروائي الحبيب السائح والناقد مخلوف عامر والشاعر "الشيخ محمد زروال" صاحب قصيدة "سعيدة بعيدة".
استعادت آمال لعروسي في مقالها طقس التنوع الذي عرفته سعيدة عبر أساتذة وأطباء وافدين من فلسطين ومصر وسوريا والعراق وبلغاريا والهند والصين حيث ساهم هذا التنوع في انتشار ثقافة التسامح والعيش المشترك الذي طبع المدينة ومنحها خصوصيتها الاجتماعية والثقافية.
محمد الأمين سعيدي، شاعر وباحث من مدينة مشرية (شمال الجنوب الغربي)، فضل الحديث "عن المعنى والصحراء"، من منطلق أن "الصحراء إيقاع زمني مختلف، على قسوته وقلّة إمكاناته الطبيعية يفيض بالكرم والمحبة. ومن ثمة هي باب مفتوح على التناقضات الرهيبة التي يعيشها الإنسان، ويحملها معه". أمين في مقاله تمتزج الصور المجازية بالواقع المعيش الصحراوي: الاستمتاع بطقس شاعري في تحضير كأس الشاي مثلا أو التكيف مع طقس مكفهر إثر زوبعة سوداء "تحجب الضوء في عز النهار، وتمد ظلا رهيبا وقاتما يطال كل شيء حتى لا ترى أمامك مترا واحدا أحيانا". "تضعك الصحراء، يقول أمين، في عمق التناقضات، تفتح قلبك على الفناء الموحش بقلة ما تجود به، وتزرع فيه تلك الرغبة الكبيرة في الحياة". وينهي أمين مقاله بصرخة تمتزج فيها مشاعر السخط بمشاعر الحب: "أكرهك أيتها الصحراء ولا أستطيع أن أفارقك...".
وفي الحوار الذي أجرته معه الصحفية القديرة، نجاة فقيري، تناول أستاذ السوسيولوجيا، زهيرعزعوزي المدينة عبر مقاربة سوسيولوجية وأيكولوجية كشبكة من الأنساق من حيث خصوصيتها الاجتماعية، حيث "تشير أغلب البحوث السوسيولوجية إلى ارتباط مفهوم المدينة بالوسط الحضري مقابل مفهوم القرية في الوسط الريفي. ومن هذا المنطلق فإن الدراسات تتحدث عن المدينة مقابل القرية وتتحدث عن الوسط الحضري مقابل الوسط الريفي. وهي ثنائية تحدد بشكل قطعيّ مجال تخصص علم الاجتماع الحضري وعلم الاجتماع الريفي". واستعرض الباحث مواصفات المدينة الذكية، و"أن شكل المدينة اليوم في دول عديدة يتسم بالذكاء. ومفهوم المدينة الذكية يشير إلى المدينة التي تساعد على انتشار بيئة رقمية صديقة للبيئة في جوهرها وداعمة لمفهوم الاستدامة في عمقها". "المدينة الذكية هي مدينة مبتكرة تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين نوعية الحياة وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية والقدرة على المنافسة".
إن الاهتمام بمفهوم المدن الذكية، وفق الأستاذ العزعوزي، يُفسّر سوسيولوجيًا بأسباب عديدة أهمها أن الإنسان ينزع تدريجيا لملاءمة بيئته لما تعرف ظروف حياته من التطور والرخاء ولعل إنسان العالم الرقمي اليوم يصنع أرقى ما توصلت له البشرية من تقنية وتكنولوجيا تساعده على مزيد من الرخاء كما أشار إلى ذلك ابن خلدون. وحول المدينة التونسية، يقول الأستاذ العزعوزي "لا تاريخ البلاد التونسية البعيد ولا القريب كان قد شكّل حيزا من الاهتمام بالتكنولوجيا الذكية سواء في الاستعمال أو في الإنتاج" ويرى "إننا نعيش في تونس ومنذ الاستقلال علاقات اجتماعية غير مستقرة وما قراءة تاريخ تونس منذ الاستقلال إلى اليوم سوى مشهد ملخص للوضعية غير المشجعة على استخدام التكنولوجيا الذكية من أجل بناء وتخطيط مدن ذكية". وما قاله الأستاذ عن المدينة التونسية ينسحب للأسف على المدينة المغاربية ككل.
ومن الواضح أن الرغبة المبدعة في علاقتها بالفضاء ولاسيما الرغبة العمومية إذا جاز التعبير هي من تبدع المدينة الذكية إزاء الرغبة المفسدة التي لا تتوانى بأنانيتها وجهلها في إفساد ما هو جميل في المدينة وتحويلها إلى مدينة غبية لا يطيب فيها العيش. المدينة الذكية ليست سوى مرادف لمدينة أفلاطون، المدينة المثالية أو الفاضلة التي نظّر لها في كتاب الجمهورية ومازالت مصدر إلهام العلوم السياسية منذ أرسطو إلى عصرنا الحالي مرورا بالفارابي وابن خلدون ومونتيسكيو. غير أن المدينة الذكية بوصفها مدينة الحرية والمساواة، تؤكد لنا الأبحاث الأركيولوجية أنها كانت موجودة منذ فجر التاريخ.
في مقال تحت عنوان: («فجر كل شيء»: تحدّي ديفيد غريبر الأخير)، يخلص الأنثروبولوجي جوليو أنغارو من قراءته لأعمال ديفيد غريبر، أن عددا من المواقع تقدّم شواهد لا جدال فيها على وجود ماضٍ لمدن مساواتية، حيث لا يوجد أثر للحكم الاستبدادي، مما أتاح للناس الذين عاشوا في ظلّها درجةً من الحرية بالكاد يمكن تصورها في يومنا هذا. ويؤكد الباحث أن "كتاب «فجر كل شيء» أكثر من مجرد عمل حول اللامساواة، بل هو أطروحة في الحرية الإنسانية". حيث يحدد "في تحليل السجل الأنثروبولوجي ثلاثة أنواع من الحرية؛ حرية هجر المرء لجماعته (مدركًا بأنه مرحب به في بلاد بعيدة)، وحرية تعديل النظام السياسي (غالبًا موسميًا)، وحرية عصيان السلطات بلا عواقب. يبدو أن هذه الأنواع من الحرية كانت مفترضة ببساطة بين أسلافنا ولكنها باتت مفقودة في الغالب الآن".

موضوع ذو صلة: مُدن مغاربية: هل تنقذ الكتابة ما ضاع من جمال الأمكنة؟ https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=737966








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - قمر الطائي تجرب التاكو السعودي بالكبدة مع الشيف ل


.. لحظة تدمير فيضانات جارفة لجسر وسط الطقس المتقلب بالشرق الأوس




.. بعد 200 يوم.. كتائب القسام: إسرائيل لم تقض على مقاتلينا في غ


.. -طريق التنمية-.. خطة أنقرة للربط بين الخليج العربي وأوروبا ع




.. سمير جعجع لسكاي نيوز عربية: حزب الله هو الأقوى عسكريا لأنه م