الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


* شرُّ التّفَاؤل المُفْرط..

زكريا كردي
باحث في الفلسفة

(Zakaria Kurdi)

2021 / 11 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


---------------------
يُحكى أنَّ رجلاً ثرياً ذهبَ في رحلةٍ الى أدغالِ أفريقيا، ورأى هناك بالمصادفة فيلاً ضخماً يأنُّ من الألم الشديد، بسبب سهم مغروز في جبهته، فاندفعَ هذا الرجلُ السائح الى مُساعدته، وسهرَ على مُعالجته، الى أنْ شُفيَّ وعاد الى الغابة.
وبعد مرور بضع سنوات، بينما كانَ الرجل الثريُّ جالساً في الصفوف الأولى، لمشاهدة احدى عروض السيرك في مدينته، ظهر على المسرح فيلٌ ضخمٌ، كي يؤدي فقرة بهلوانية في السيرك، لكن بينما كان الجمهور يصفق ترحاباً به، هاج ذاك الفيل بعنف وماج ، ثم ترك مكانه فجأةً في وسط المسرح، واندفع بقوة الى الشبك يكسره، ليدوس ذاك الرجل السائح بلمح البصر ، ومن ثم يهشم عظامه و يقتلهُ شرَّ قتلة..
فيما بعد، تبيّن أنّ هذا الفيل القاتل ليس هو ذات الفيل المُصاب، الذي عالجه الرجل في غابات افريقيا، و أنّ الحادثة كانت مجرد حادثاً عرضياً. ولا علاقة لسياحة الرجل القتيل بهذا الفيل الهائج القاتل اصلا، لا من قريب ولا بعيد ..
هذه القصة البسيطة كنت - ومازلت- أرويها لطلابي وكثير من أصدقائي، على سبيل التجربة وسبر الوعي والفهم ,,
و كنت في كل مرة أجد أنّ اكثر من تسعين بالمائة منهم، كانوا قد توقعوا نهاية سعيدة لها. تماما كما حصل مع كثير من القرّاء الآن، -كما أعتقد -
فأخلص إلى نتيجة مفادها ،
أنّ معظم الافهام الانسانية البسيطة، كثيرا ما تذهب الى توقع يخمد جوع رغباتها ، وميل يحقق موضوع عواطفها،
وهي كثيراً ما تعمل على عقلنة الواقع، وليّ حقائقه بما يتوافق مع نزعاتها ، أو مع ما تصبو إليه أهواءها.
بل وعادةً ما نجدها تقفز دائماً إلى نتائج إيجابية تتمناها بعاطفة ساذجة، وتحدس بحلول مأمولة يكسوها التفاؤل الانفعالي المُفرط،
وهو ذات التفاؤل العاطفي الذي دفعها للاستناج يقيناً، أن فيل السيرك هو ذات الفيل المصاب في الأدغال ،
وبالتالي هو حتماً سيتعرّف على صاحب المعروف، وسيقفز فرحا بلقاء الرجل السائح الطيب الذي عالجه.
وحتماً ستكون النهاية سعيدة ومرضية للجميع عاجلاً أم آجلاً. و..و..الخ
ويبقى أمر السذاجة بهم هكذا، إلى ان يصطدمهم الواقع بمجراه الجارف ، أو تصفعهم الحقيقة بوقائع قاسية، لا علاقة لها البتة بما يرغبون أو يحدسون أو يحلمون . والعجب أن تراهم -رغم كل ذلك- لا يستيقظون.
ربما لانهم لا يرغبون في ذلك، أو أنهم لا يستطيعون التفكير ومواجهة عناء الفهم الحصيف .
يذكر أن الفهم البسيط هو حالٌ شائعٌ لدى معظم الناس لدينا في الشرق، من العامة والخاصة، و ما اقصده بالفهم البسيط هو فهم التفاؤل الساذج أو ما يسمى بالبنغلوسية .
وكلمة البنغلوسية panglossianism تعود في أصلها ، الى اسم "بانغلوس"، وهو أستاذ الشاب "كانديد" في رواية الفيلسوف الفرنسي "فولتير ، الذي كتبها ساخراً من رأي اولئك الناس السُذّج..الذي عبرت عنهم أنذاك أراء كثيرة للفيلسوف ليبتنز.
وهم بالتحديد الناس الذين يعتقدون جازمين و متيقنين، أنّ حال الخير الحق سيأتي حتماً، و هو سينتصر دائماً في النهاية..
ويرددون على أسماع بعضهم بعضاً - رغم كل الفظاعات والأهوال والمصائب، التي قد تمر بهم - و باستمرار قانع عنيد، و بلاهةٍ جذابةٍ مثابرة، العبارات الساذجة من قبيل:
لا تقلق ابداً - فمهما جرى لنْ يصح الا الصحيح -
انّ للباطل جولة فقط - كل ما يحصل أمامنا أو لنا، هو خير بوجه خفي
- و لابدّ يقيناً من حكمة عظيمة، وخير كثير وراء ذلك،و , و.. لا تقلق أبداً ..
- الخير والصحيح هما فقط لهما الفوز العظيم... لا تقلق أبداً ..
- لاننا كـ كائنات عاقلة، نحن موجودون في أفضل العوالم المُمكنة، والتي تقف وراء أحداثها وخطوبها، حكمة ما ورائية رائعة خارقة مُطلقة،
و لذلك لا يتوجّب على المرء سوى الاطمئنان والانتظار ،
أو في أحسن الاحوال السعي فقط ، إلى ادراك لذة ذلك التفاؤل، و التأكد من أنه امتلك القناعة والتسليم بقبول الشرور الموجودة في العالم، لماذا ..؟ !!
لأن تلك الحكمة المطلقة، أو ذاك الخير الللانهائي، قد أوجد العالم بالفعل بأفضل مما يستطيع. بل في أحسن حال وتقويم .... لا تقلق أبداً ..
هكذا هي تماماً الافهام البنغلوسية،
أفهام لا ترى مثالب قوة الشر مهما فعلت بها، ولا تحركها سياط القهر مهما ألهبت ظهرانيها،
هي أفهام تبريرية بإمتياز ، تهوى وداعة السكون في مقابر الأسلاف ، ولا تدفعها أحوالها المزرية و المدقعة في التخلف، أو معاشها المريع في النقص والحاجة، إلى أي امتعاض أو دهشة أو سؤال أو نقد ..
انها أفهام بنغلوسية صميمية الرضى، مصابة بداء التفاؤلية الساذجة، ملأى بعماء اليقين ، ومسكونة دوماً بشغف النهايات السعيدة، ومتخمة بالآمال الوهمية العليا، التي لا يدعمها أي منطق أو فهم أو تدبير ..
أفهام غارقة بالإيمان التسلطي، الذي يبث في اوصالها أضغاث الفردوس الموعود،
ويعقل أذهانها المتدهورة بأغلال الايمان و التفاؤل الساذج، وبالتالي يقتل فيها فعالية الحس الانتقادي، من خلال اغراقها بأجوبة ماضوية ، واستنتاجات صورية، لا تقارب الواقع الملموس ، ولا تمتُّ للعقل الراهن والواقع المعيش أو التجربة بأية صلة .
قصارى القول :
التفاؤل المفرط خطر داهم على انماط التفكير، و هو وباء مستطير محبب، يعمل بصمت على قتل الحس الانتقادي للفرد، و تعميق التدهور العقلي للأمم المتأخرة.
وللحق فإن الشر قد ينتصر أكثر من مرة وبسهولة ، إذا لم يكن هناك جهد عقلي حكيم و واع، يقاومه ويجتهد في درئه، والوقوف في وجه مساراته الظافرة.
و الباطل له اكثر من جولة وجولة ، و ربما يكسب معاركاً تلو الأخرى، بل قد ينال بطغيانه الفوز العظيم ..
وكم من قوة غاشمة، استطاعت أن تجعل من الباطل المذموم حقاً معلوماًَ ، سرى على مر الزمان والآباد ..
أخيراً : أعتقد علينا ان ندرك جيداً ، انّ تقدم خطى العقل في العالم، وانبثاق آثار التقدم في مناحي الحياة، لا يعني فناء السوء، أو اندحار الشر بشكل مطلق بأي حال من الأحوال.
وانّ العالم لا يتقدّم بالتفاؤل المُفرط والتمنّي الساذج للخير فقط ،
بل بالخير والشر معاً، و عبر فهم أسباب صراعهما الأزلي عميقاً.
و الظن أن الشر هو أصلٌ في جوهر الكائن، وليس بعارضٍ فيه.
وقد أصاب شاعر الفلاسفة المَعَرّي حين قال :
والشرُ في الإنس مبثوث وغيرهم
والنفعُ -مذ كان- ممزوج به الضرر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن