الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فراديس الاهوار / الجزء الثالث

سعد محمد موسى

2021 / 11 / 30
الادب والفن


انتفاضة الطين والقصب
حين تجمعت عقارب وأفاعي الكهوف مع تنانين الجبال من أقوام (الكوتيين) الغزاة المتوحشين والمحاربين القساة حول جبال (زاگروس) الجرداء الواقعة في الشمال الشرقي من بلاد ما بين النهرين، ثم زحفوا جنوباً نحو فراديس الاهوار والسهول المشرقة ومهد الحضارات وداهموا المدن السومرية والاكدية بجيوشهم الغادرة فحاصروا (مدينة أكد) ونشروا الرعب بين السكان ودمروا المعابد التي كان يتحصن بها الناس خوفاً من إنتقامهم وحطموا تماثيل الآلهة وارتكبوا أفظع المجازر الجماعية وأحرقوا حقول القمح والشعير ومزارع الشلب والبساتين والمحاصيل الزراعية وخربوا قنوات الري وجففوا المياه ونهبوا ممتلكات وكنوز القصور والمعابد وبيوت الناس أيضاً، فكانت تلك المرحلة تعد من أسوء الفترات المظلمة في تاريخ بلاد الرافدين القديم.
وبعد احتلال الكوتيين الى مدن سومر وأكد لمدة قرن، انتفض ملك الوركاء السومري الثائر (اوتوحيكال) حينما جمع حوله شعوب سومر وأكد ووحدهم وقاد أول إنتفاضة في التاريخ القديم في تموز من عام 2120 قبل الميلاد وخرج معه الثوار وشنوا هجوما وحرباً شعبية ضد الكوتيين حتى تم تحرير جميع الاراضي السومرية وخلال فترة أسبوع تم القضاء على الاعداء ودحرهم وقد القى الناس فيما بعد القبض على آخر ملوك الكوتيين (تيريكان) في مدينة (اوما) التأريخية التي كانت تقع في مدينة ذي قار اليوم وقدموه ذليلاً الى قائد انتفاضة سومر وبطل المقاومة اوتوحيكال.
أما الشراذم المتبقية من جيوش الكوتيين ففرت منكسرة لتختبأ بين كهوف ووديان جبال زاگروس.
وقد باتت انتفاضة الاكديين والسومريين الشعبية وكأنها امتداد للانتفاضة العراقية الشعبية التي اندلعت في بواكير شهر آذار من عام 1991 والتي قادها ثوار من مدن جنوب العراق ومن سكان الاهوار والقرى لتكون أول انتفاضة شعبية مسلحة في تأريخ العراق الحديث ضد استبداد السلطة الباغية حينها ... فأنشدت مدن الجنوب المقهورة بعد أن أنهكتها المظالم والحروب والمجازر:
يا جرحاً نكأ كل هذه الصباحات البعيدة
وجعاً إمتدَ من تضاريس الذاكرة ومن أهوار وأرصفة الجنوب الدامي حتى المنافي
نجمة آذار نيزكٍ تشظى في فضاء الفجيعة
فارس طعنت خاصرته برمح ٍ... خرَ صريعاً من صهوة سمائه
عانقته الأرض مخضباً بحنّاء الدم وتراتيل الشمس في رحم الضوء
آذار وشماً في الذاكرة والقلب ... أيقونة في معبد الثورات
عنقاء تسموا فوق رمادها
حراب الطغاة أغتصبت غيمة
تجشأت أحشاءها وإجهضَ جنينها
آه... يا أنتِ
يا عشتار المصلوبة على جذعِ نخلة منسية في بستانِ الاقطاعي
تنتظرين "الخضر" بجواده الأبيض وهو ينعتق من أمواج الفرات ويطير إليك
ليقتل الوحش ويحل وثاقك
كان قلبي يتكىء على عتبة دارنا القديم منتظرا الخلاص
حين تباركت أرصفة أوروك التي ما زالت تتثائب
في بواكير الإنتفاضة بأقدام سومرية معفرة بالطين يقودها أوتوحيكال
كرادلة كانوا يعبرون الشمس نحو فراديس الشهادة
الخناجر النائمة برحت أغمدتها الصدئة وهي ُتلوح بالثأر
الأبوذيات َتصدحُ في حضرة البردي مثل قداساتٍ تعمد أرصفة المدينة
أنكيدو كان أيضاً في الجمع النازح صوب الاشرار
يحمل ألواحه الطينية كأمّ ُتعانق رضيعها
يشهر وصايا الشمس
ومزامير القمر
كان الحسين شهيد الاحرار أيضاً حاضراً وهو يبارك ثوار
الإنتفاضة الشعبانية الخالدة.
ولكن مؤامرات الاشرار والخونة طعنت الانتفاضة غدراً وحالت دون القضاء على أسوء طاغية في العصر الحديث بعد أن كان الثوار قاب قوسين أو أدنى من اقتحام بغداد والقاء القبض عليه أو قتله مع أوغاده الذين كانوا يتحضرون للهروب مثلما هرب ملك الكوتيين تيريكان سابقاً.
وبعد أن قمعت الانتفاضة داهمت ثعابين آلهة الشر ذات القرون المسمومة مع طوابير العفاريت وشياطين الصحاري القاحلة، فراديس البطائح ومملكة المياه الوديعة... واغتصب رعاع البوادي أميرة القصب في هودجها الجنوبيّ الطافي في (أهوار الچبايش) والغافي بأزلية الجمال والسكينة، وداسوا فوق مسلات العشق وأعشاش طيور الحذّاف والبرهان والوز، وجففوا منابع الماء وقطعوا شرايين (آنكي) إلّه الماء فاستشاط القصب غيظاً وانتفضت الجواميس تشرأب باعناقها نحو السماء الموشومة بقمرٍ جريح كان يتكأ فوق غيمة تهم بالرحيل نحو المدارات البعيدة.
وعلى ضفاف الجفاف كان الظمأ يرسم لوعته فوق تضاريس الملح وعلى أديم قيعان الاهوار التي شققها الصيهود، بينما المشحوف يرتل صلواته الاخيرة لغياب الماء مودعاً أفول آخر موجة إنحدرت بين أضلاعه وسالت كدمعةٍ ساخنة بين زعانف سمكة تحتضر.
ذبلت زنابق الاهوار وزهور البط والشويجة ونباتات الگعيدة وماتت أسماك (البني والشبوط والگطان والحمري) واحترقت شبات المضايف وأجمات القصب والبردي وصرائف الصيادين وتجمعت أخر القنادس مرعوبة فوق الچبشة المهجورة أو متخفية بين أعشاب (الحلفاء والهوصان) بعد أن شحت كواهين الهور وهي بين رعب الهلاك أو مداهمة الصيادين الرماة الذين يبحثون عن فراءها الناعم والثمين هناك.
لطم الإله آنكي صدره وعفّر رأسه بطين الفجيعة وارتحل مع قافلة التيه والجياع والعطش وهو يبحث عن ذاته في الحافات البعيدة... ودع الاهواريون بعيون دامعة جواميسهم النحيلة مضطرين بعد أن شح الماء وأحرقت السنة نيران الحرب التي تنفثها أفواه تنانين الطاغية الاخضر واليابس في مملكة الاهوار، فداهمهم العطش والهلاك ومات الكثير من الاطفال والشيوخ بالامراض والمجاعة، ورغم عشق الاهواريين وتعلقهم بجواميسهم التي يعتبروها من ضمن أفراد الاسرة لكن النزوح القسري نحو المجهول أجبرهم على ترك الجواميس الظامئة بضروعن المتيبسة والضامرة والتي لم تستطع تلك الحيوانات المدللة المقاومة طويلاً أمام مطاردة الجزارين حتى إذا انهكت قواها يقوموا بجرهن من قرونهن بكل ضراوة ويوثقوا قوامهن بالحبال ثم يلقوا بالدواب المذعور في أحواض الشاحنات.
تعالى خوار الجواميس تستغيث باهلها النازحين وتتوسل أن ينقذوهن من قسوة الغرباء ورعب السكاكين ولكن حين يأست من نصرة الاهل بعد أن شدوا الرحال أستسلمت الى مصيرها عنوة وودعت فراديسها المغتصبة كما يودع الملوك حين يتم أسرهم ويقودهم الاعداء الى المذبحة.
حلقت الطيور في رحلة الاغتراب القسري مع الاطفال والسبايا وهم يتلفتون بين برهة وأخرى الى الخلف محدقين بحسرةٍ وحنين يشيعون بنظرات الوداع القصب والارض العطشى في عزاء الاحتضار وموت الاسماك وصدى خوار الجواميس وراء دخان الموت، بعد أن أحتل جنود الطاغية المستبد مملكة سومر وعاثوا فساداً ودفنوا شعبها أحياء في المقابر الجماعية واوغلوا بالجريمة والانتقام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما