الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحداثة....وما بعد الحداثة حُمى ...الأنتلجنتسيا الغربية

كاظم مؤنس

2021 / 12 / 4
الادب والفن


بداية نود أن نؤكد في صدر هذه المساحة الصغيرة بأننا مهما فعلنا أو تحفظنا فأننا لن ننفصل عن مجال الوعي الكوني الذي يتشيء وينمو ويكبر في المستقبل المنظور .
وعليه نجد من المفيد قبل الولوج باستجلاء مفهوم ظاهرتي الحداثة.. وما بعد الحداثة أن نمضي إلى الإقرار بظلهما الكثيف المتضارب المثير للجدل الآخذ بالاحتدام والتفاقم على صعيدي الممارسة والتنظير فكرا وفلسفة، وقبل الشروع في تحقيق أي تصنيف نوعي أو ثقافي يتعلق بتفسير المفاهيم لا مناص َ من الاعتراف بأنها ممارسة لابد أن تكتنفها بالضرورة بعض الإشكالات بسبب مرادفات اللغة وتطورها المستمر وتواشجها مع مقتربات في حقول إبستومولوجيةٍ مختلفة آخذة بالتنامي و الامتداد والتوسع والانفتاح على المناطق المجاورة لها مما أفضى إلى إلغاء قدسية الثابت والمتجمد في الحقل الواحد.
وتأسيسا على ذلك فأن الكثير من المصطلحات التي تملأ فضاءنا الثقافي اليوم ما زالت أميبية الشكل مبهمة الجوهر عسيرة على الفهم حتى وإن تشيأت في إطار واشتراطات ظاهرة العصرنة في الحضارة الآنية.
والحداثة... وما بعد الحداثة ما زالا من أكثر المفاهيم إثارة للجدل على مستوى الممارسة والخطاب،فقد ذهب البعض إلى اتهام الحداثة بالدعوة الى الفوضى وتقويض القيم وهدم الموروث،كما فعل فرانسوا ليوتار الذي وصفها بأنها انقلاب على ذاتها،وهو واحد من أهم المنظرين الفرنسي المعاصرين الذي الهب العالم حماسا بمصطلح ما بعد الحداثة،حيث تناولها بالنقد والتجريح وحملها تبعات ما حدث في هيروشيما وناكازاكي على أساس أن التقدم الصناعي والتكنولوجي هو حاضنة الحروب العالمية الممكنة،وعليه فما الحداثة برأيه غير يوتوبيا خيالية تكرست على قاعدة الواقع القاسي بكل ما اشتملت عليه من أيديولوجيات القرن التاسع عشر التي ما زال الإنسان يعيش مرارات فشلها.
ولم يكن ليوتار الصوت المناهض الوحيد الذي يصدح بفشل وعجز الحداثة عن استيعاب ارهاصات واقع الحضارة المعاصرة،فمع إطلالة حقبة ثمانينيات قرن العشرين ترسخت فكرة ملتهبة لدى قسم كبير من الأنتلجنتسيا الغربية، مفادها العيش في عصر جديد بامتياز ـ هو ما بعد الحداثة ـ فتأسست مدرسة فكرية من كبار الفلاسفة الفرنسيين من أمثال:- جيل ديلوز وبودريار ورائد التفكيكية جاك دريدا وسرعان ما وصلت الصرعة لأمريكا ليتمثلها الناقد والفيلسوف الأمريكي ـ فريدريك جيمسون ـ الذي تناولها بالنقد العنيف.وهو واحد من أبرز الذين أضاءوا ليل ما بعد الحداثة إذ أزالت كتاباته الأدبية والنقدية الكثير من الغموض واللبس الذي يكتنفها ومن أشهر كتاباته بهذا الصدد ( ما بعد الحداثة ومجتمع المستهلك) وقد كرست أغلب أعمال جيمسون على العلاقة بين ثقافة ما بعد الحداثة والتحولات الاقتصادية التي تصاحبها.
وعلى الطرف المقابل لفرانسوا ليوتار وسربه نجد عنوانا فريدا دفع به الى النور الألماني ـ هابرماس ـ أحد أهم الطليعيين في مدرسة فرانكفورت التي اشتهرت بأسماء مريديها من أمثال ماركوز وهوركهايمر وإيريك فروم وآخرين،ويجمل هابرماس دفاعه عن الحداثة بالقول : (بأن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد) في محاولة منه لإلغاء المحور الإرتكازي في ظاهرة ما بعد الحداثة المتمثل بفكرة الإصرار على انتهاء عصر الحداثة. تواصل معه بانحياز أكثر الفيلسوف الايطالي ـ جياني فاتيموـ في كتابه (نهاية الحداثة) فيصفها بأنها حالة وتوجه فكري،فوقهما فكرة مهيمنة جوهرها أن تاريخ تطور الفكر الإنساني عبارة عن عملية استنارة متواترة تتنامى باستمرار ساعية للتكامل والتجدد عبر التفسير وإعادة تفسير الأسس الفكرية.وهي بهذا المعنى تمتلك خاصية التميز والوعي بالتوجه نحو المستقبل؛وعلى وفق هذا المفهوم يمكن قراءتها تتويجا لكفاح إنساني تنويري طويل ينسلخ عن القديم لتأسيس الجديد،الأمر الذي ينعكس بشكل جلي في التغيرات الكبيرة التي طرأت على الفن التشكيلي وهي فكرة تؤسس لشرعية الحداثة لدى العديد من المفكرين على رأسهم سوزان لانجر.

بيد َ أن هناك من يفضل الوقوف بين المسارين باتخاذه موقفا وسطيا مثل ـ أنتوني جيدنجز ـ معتبرا عصرنا الراهن أبرز مظاهر الحداثة . ربما بسبب نظرته الى الثورة المعرفية التي تميز وقتنا الحالي والتي يعتبرها البعض حدا انتقاليا فاصلا يقوم بين مرحلتين مستندين في ذلك إلى تحديدات بعض الفلاسفة من أن ظاهرة الحداثة قد وضعت بداياتها مع بواكير اطلاقة العصر التنويري،و ظهور ملامح عجز النماذج النظرية عن تفسير العالم الى جانب سقوط الاتحاد السوفيتي وترسخ الثورة المعرفية بشكل مضطرد،و ازدياد الشكوك بان العالم قد أصبح أكثر تعقيدا،وانعدام تأكيد الحقيقة المطلقة والتسارع في قبول ظاهرة العولمة،وتركز مناهج وأدوات البحث العلمي الأمر الذي أفضى بالضرورة إلى تفاقم الحاجة للبحث عن نماذج قادرة على قراءة العالم .
إن التمعن في مجمل ما أسلفناه يقود بالضرورة إلى مفارقة محيرة،إذ ثمة تناقض واضح بين الكيفية الحداثية ودورها الوظائفي،وإن مصطلح ما بعد الحداثة يعني فيما يعنيه تجاوزا للبعدين الكيفي والوظائفي للحداثة ذاتها،وهو بلا شك موجود للدلالة على تجاوزها ونفيها،فمقطع (ما بعد..) يمثل تجاوزا عمديا للماضي باتجاه المستقبل كما أنه شك في مصداقيتها.لذا فإن تيار"ما بعد الحداثة " بهذا المعنى يمثل تعارضا وتعاكسا لتيار الحداثة،كما أنه في بعده الآخر ينطوي على شيء من التناقض،لأنه بمعناه الحرفي هنا إنما يعني ترسيخا لمفهوم الحداثة ذاتها كونه إقرارا ضمنيا بوجودها.
وتأسيسا على ذلك يمكن اعتبار تيار "ما بعد الحداثة " مفهوما مركبا متعدد الأوجه يتجلى في عدد من الظواهر التي يجمعها هدف واحد يتمثل بمحاصرة وتخريب الفرضيات والادعاءات الشرعية للحداثة.
ولعلنا نجد قليلا من العزاء في مقولة بريخت وهو يوصي ـ بان نقضي وقتنا في الأشياء الجديدة وندع الأشياء القديمة تدفن نفسها ـ فإذا سلمنا بذلك يتحتم علينا اليوم أكثر من أي وقت آخر أن لا نجعل من نتاجنا الثقافي منغلقا تغتاله الاشتراطات المطلقة مكبلا بالفرضيات النهائية،لأن لا أحد اليوم قادر على أن يدعي اليقين كما لا أحد يستطيع أن يدعي بأنه يمتلك الحقيقة ..وعلينا أن نعي بان أفضل خيار لنتاجنا الثقافي هو أن يتشيء بهيئة فضاء مفتوح بسعة الظاهرة المندفعة لإسقاط الأنساق الفكرية المُغلقة المدعية بأن لديها وصفات وتفسيرات لكل الظواهر،والتي تؤسس فرضياتها على حتمية وهمية لا أساس لها من الصحة،وأن نعي بأن لا هيمنة على الثقافة وإنها حق من يمارسها.
هذا التصور من منظور تيار ما بعد الحداثة يرى بأنها عملية تفاعل متصل يستحضرها من يعايشها ويتواجد فيها.ونحن البشر المتواجدون في هذا الفضاء ينبغي أن نواكب التطور ولا ينبغي ابدا ان يكون التطور حاصلا في المفعول من دون ان يكون مصحوبا بتحول مساو في الفاعل كما يجب ان نمتلك المؤهلات التي تتوافق والفضاء الجديد،وأن نحاول الامتداد بمراكز أفكارنا إلى ابعاد جديدة غير متخيلة بعد او قد تكون مستحيلة.
وتأسيسا على ذلك تبدو ظاهرة ما بعد الحداثة أقرب منهجية من الحداثة،فيما يختص بإلغاء الذات باعتبارها من نتاج الحداثة. فلو سلمنا بوجود الذات فسيعد إقرار بصيرورة الموضوع وهذا لا يتوافق مع ما تنادي به ظاهرة ما بعد الحداثة التي تصر على رفض هذه الثنائية وتحويلها من الذات والموضوع الى الذات والحداثة مع تحديد دائرة فعلها. وفي سياق ذي صلة بالتأريخ لا ترى بأنه مرتكز اساسي في الحياة المعاصرة بقدر الحاضر الذي ينبغي أن يحظى بكل اهتمامنا،على اعتبار أن الأخير يمثل اللحظة التي نعيشها بينما التاريخ يبقى متهما بكونه مجالا للأساطير والإيديولوجيات و لا أهمية له سوى أنه شاهد على الاستمرار ليس إلا. وهي كذلك لا تتوانى من الكشف عن سعيها لتحجيم دور النظرية واستبدالها بدينامية الواقع وتفاعلاته اليومية تجنبا لإطلاق تعميمات جارفة عادة ما تـُـتهمُ بها النظرية .
بالمقابل يكشف تيار ما بعد...الحداثة عن ميله القوي الى حقل الإبستومولوجيا ومناهج البحث العلمي ويتناول العديد من الأفكار التي تتطرق للحقيقة والسببية والتنبؤ ومنهجية التفكيك ودور التأويل ومستويات معايير التقييم . ومع كل المعطيات القائمة بين ثنايا مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة يبقى سؤال المشككين بأننا:ـ
هل يا تـُرى دخلنا دور الحداثة؛ لنهتم بظاهرة ما بعد الحداثة ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع