الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعالق بين الداخل والخارج في تلافيف أبجدية حلم مكتوب

كاظم مؤنس

2021 / 12 / 5
الادب والفن


التعالق بين الداخل والخارج في تلافيف أبجدية حلم مكتوب
• استبصار في لوح الوعد عن : * كاظم مؤنـس *
حلم بلون الوطن ... وطن بلون البنفسج
• قراءة في قصيدة ..إني اكتب حلمي من يقرؤني ..؟
• للشاعر البحريني الدكتور علوي الهاشمي
تعالوا نصنع سؤالا : من منا فكر أن يكتب حلمه ؟ على الأقل أنها فكرة لم تخطر على بالي من قبل ولم أعرف أحدا فعلها، شيُع أن الماركيز سلفادور دالي الفنان التشكيلي الاسباني رائد السريالية كان يرسم احلامه وكانت زوجته غالا تظهر في هذه اللوحات كثيرا، ربما جاءت الحكاية من رسمه احلام بطل فلم ـ المأخوذ ـ كريكوري بيك ـ للمخرج الفذ الفريد هيتشكوك.
لكن شيئا استوقفني وأنا اقرأ في مجموعة الاعمال الشعرية للدكتور علوي الهاشمي استوقفني عنوان قصيدته :
إني أكتب حلمي من يقرؤني ..؟
توقفت عندها كثيرا واستدعيت شواخصا ومحمولات مضمونية كثيرة دفعتني في النهاية للنزول في مضايف الهاشمي الشعرية في محاولة لارتشاف لذة القصيدة وسحر بيانه وفتنة لغته الشعرية .لذا فإن اية قراءة إستنطاقية لنصه الشعري ستحيلنا بالضرورة إلى التأمل في جودة صناعته اللغوية وسلاسة تدفقها وتناغم تراكيبها وكثافة مضامينها، فهي لغة منصهرة في المكان، متوطنة في موجوداته، لغة تنكشف باغتراب وحشي طاغ على محيط الحزن الذي تزخر به المساحة النفسية لدى الشاعر. هذا الازدواج المتعالق بين الداخل والخارج يجعل من كليهما حقلا حركيا لبناء راسخ يجد قيمة داخله في خارجه وقيمة خارجه في داخله، وهي ممارسة شعرية انطلاقها التصادم بين عالمين في نقطة ترتقي بقصيدة الهاشمي لذروتها الدراماتيكية حين تحاصر قارئها بلوعتها الرومانسية الهادئة ولغتها السلسة المتمنعة.
وهي بلا شك سمة تلتصق بالظاهرة الإبداعية لدى الهاشمي مما يكرس تجربة الشاعر بين مستويين متآصرين يتزاحمان ضمن جدلية التعالق المزدوج لتفجير عملية حراك دينامي للوحدات التعبيرية في دورة القصيدة المحررة لبنية اللغة التي صنفت الهاشمي كقامة عملاقة في ساحة الأدب العربي: في حقل إنتاج النص الشعري والتنظير له..
ولعل ما يبوح به الحلم وتساؤل الشاعر أو تحديه لمن يقرأه ويستمكنه كان السبب في استجابتي لدعوته في محاوله لولوج عالم الحلم لديه وتفكيك شفراته و القبض على معانيه علنا نستطيع أن نقبض على أحلامنا الخاصة تلك التي لم نسطرها وسبقنا هو فكتب حلمه الذي يبتدئ بكثافة الحزن المتنامي بسعة المكان والمتسلل تدريجيا ليلج ذاكرة هشة لكنه يصر على أنها مرة وما يلج إليها لا يغادرها :
يبدأ الحزن من ساحة تتباطأ في مشيها نحو ذاكرة الماء
.. لكنها ليس تُلغي مواعيدها
أيها الحزن من حيث تبدأ
..يسكن بين تلافيف سرتك الوطن المتحرق للوعد
يرتبط مفهوم بدء الحزن والساحة بالمكان الذي يتمثل تركيبا ينكشف على حزمة متوحدة كلية تنطوي على بعد ذاتي، فضلا عن كونه تحليلا في مناورة من الشاعر لتلمس ما هو خارجي حيث تدور القصيدة في مقطعها على التعارض في التركيب المضموني والتكرار، والمحرك المتفجر في المقطع السابق هو المكان ومرادفاته ما يبدأ منه وما يسكن فيه بانتظار الوعد / الحلم القادم ويتلقط الشاعر موجودات مكانه فيزف البشرى ويحدد اتجاه القادم (الحلم / الوعد) بصورة الحبيب ليتسع المكان بدلالة الدروب ، الوطن، بين وريدين، ينكشف مدلول المكان في الوطن المقيم بين وريدين فالقادم بشرى ستنهي حزن سنين كانت كحد السيف على الرقبة :
يا شجر الورد آت ٍ حبيبي
فيمم بوجهك نحو الجنوب ِ
ويا قمر العمر آت ٍ حبيبي
فضوئ بعينيك كل الدروب
هذا وطن يتنفس بين وريدين بقلبي
ويلملم تاريخ الحزن المتساقط من شجر العمر
وجذع الزمن الواقف كالسيف ..على حد الرقبة
للقصيدة مساران متحايثان متناميان داخلي وخارجي كلاهما يتحركان باتجاه تشيء النص يتدافعان في زمكانية القصيدة المثقلة بالانزياح المكاني بيد َ أنه متوافق مع لحظة فعالة في البعد المورفولوجي. الهاشمي شاعر يعي جيدا مساحته الهندسية كما يدرك جيدا حركتها وإيقاعاتها ودورها في تحرير المبنى الشكلي للقصيدة وهو ما يسميه تودوروف بتناغم الوحدات الذي يتمظهر لدى الشاعر كنوع من الأسلوب الذي يزيد من درامية القصيدة .
ولن يتردد الشاعر بتصدير نصه الشعري إلى منعطفات دراماتيكية تتخذ فيها القصيدة شكلا مغايرا لما بدأت به فتتحول من صوتها ( المونولوج) المهموس باتجاه الخارج (الديالوج) مما يقتضي قراءة مغايرة عن سابقتها:
ـ أيها الوطن ـ الحزن من أين تبدأ؟
ـ من جهة لا تجيء ..ومن ساحة تتباطأ في المشي
ـ هل يحرق الوقت تاريخه المتواشج والموت
ـ وجهي على الدرب ظل طويل..
ـ وصوتي جداول لا تنتهي بالوصول..
ـ إلى أين ترحل ؟
ـ ذاكرة الوقت مفتوحة كالسماء
..وخاصرة الماء مسكونة بالرحيل.
هذا التحول في مبنى الشكل له بالضرورة عائد من التأثير الشعري إذ يضفي على القصيدة بعدا تشكيليا في التلون الصوتي وتعدده لتستحيل هذه المغازلة إلى جزء من التركيب الإيقاعي والأسلوبي للقصيدة، والجميل ان الهاشمي يمارس هذه المفارقة من دون أن يحدث خلخلة ولا إهتزازات عضوية في البنية النسيجية للنص، بل يتراتب نصه متصاعدا بسرعة إيقاعه إلى ذروته متسعا إلى تساؤلات معرفية مثلت قلق الشاعر وحيرته التي صاغها بموجودات تشخص بيئته وتعرف بمكانه، يطرح عليها سؤاله في انتظاره الدائم للحلم/ الوعد:
ـ والنخيل ؟
ـ اتصال مع النجم
ـ والبحر ؟
ـ يسكن أقبية الموج
ـ والصارية ؟
ـ تمتطي الحلم، أو ترسل الطير نحو رُبى الشجيرات البعيدة
ـ والوعد ؟
ـ موت على طرقات الوصول.
تساؤلات فلسفية تبحث في مصير الموجودات التي يعرفها واقعيا، وهو هنا كشاعر متمكن يلتقط مفردات بيئته وينجح برسم لوحة سافرة عنها إلا أنه لا يحاكي مظاهرها الخارجية كما هي عليه بل كما ينبغي ان تكون، فهو على حد تعبير كولردج : يعزل نفسه عن الطبيعة وبقوة النفس اللاواعية يولد ما تعبر عنه الطبيعة الخارجية .
كما إن إشكال الواقعية ليس إشكالا فلسفيا إنطولوجيا كما يرى تشومسكي بل هو تنظيم بهيئة نسق رائع لإعادة صنع الطبيعة وهو ما وفق به الهاشمي بطريقة ذكية فعرف متى يغادر صوته المحبوس إلى صوت يمنح حرية أكثر في استخدامات شكلية ولغوية تمنح فضاءا أوسع للتعبيرعن أفكاره ، لذلك سرعان ما يترك صيغة الحوار ليعود من جديد لنسق القصيدة الذي بدأ به من سابق ليطرح اسئلته الملتاعة بالحزن لتأخذ القصيدة هذه المرة صيغة سردية تتابعية بدلا من صيغتها الوصفية في مقطعها الأول، كما ظل متمسكا بخاصية التكرار كقوله:
إذا ً فاسبقيني إلى الوعد أيتها الشجيرات التي انتظرت
فوق أرصفة الحزن عاما
فعاما مجيء دمي ـ النسغ، لكنه لم يجئ
وظل كذلك محافظا على سمة التعارض التي انطلقت منها القصيدة ، فضلا عن توظيفه لمرادفات مكانية لم ينقطع عنها الشاعر كقوله : فوق أرصفة الحزن، فاستدارت إلى الجهة المستحيلة ، يممت الخطو نحو حبيبي ، اسبقيني إلى حيث ينعقد الغيم ..اسبقيني إلى ساحة تتباطأ في مشيها ..
وفي المقاطع الأخيرة من القصيدة يكشف النص بقوة عن حزنه العميق كما تتكشف احلامه التي لم يتوان عن تسميتها :
وطنا للصغار الذين يجيئون بعدي
ويتصاعد صوت الشاعر دراميا حتى يصل إلى ذروته بقصيدة تطلق لمرة واحدة كل ما فيها من مرارة :
آه يا وطنا عذبتني ملامحه وهي تصعد كالغيم
فوق سلالم روحي ..
فينشق جسمي نصفين ، يدخلني البرق..
ينشق قلبي نصفين ، يسكنني الرعد ..
ومن هنا تتحول القصيدة إلى فكرة عميقة، فكرة فلسفية بصيغة تساؤلات يجيب الشاعر في معرض قصيدته عن بعضها ويترك للقاريء ما يستشف منها ، هنا تدخل القصيدة في لحظة عنف ويتحدد مضمونها ودور اللغة في بنائها الأفقي والعمودي ويتحدد مقدار الحزن الحاضر فيها، فيتجلى الحضور الوجودي للشاعر فلا يبرز الا صوته من غير أن يتداخل مع صوت آخر:
أما زال يا نخلة الفجر منهم فلول؟
إذا ً لست أنت التي زرعتها يد الفقراء بدفتر حلمي ..
فأين تكونين ؟
هذه السياقات المتفرعة بصيغة تساؤلات تحضر بقوة في المقاطع الخيرة من قصيدة الشاعر تستند في وجودها على هيكلية القصيدة السياقية ان جازت تسميتها بهذا كونها تناسقت في تحقيق فعلها حيث تحولت في ذاتها إلى موضوعات منسجمة مع دلالات محايثة لها كالمكان ، الوطن ، الحزن ، وذهنية الشاعر والبعد النفسي والوعد الذي لا يأتي والذي لا يأخذ معناه في ذاته :
هل أفتح الآن دفتر حلمي وأقرأ باسمك ؟
يا وطنا عذبتني ملامحه وهي تصعد كالغيم فوق سلالم روحي
وعودا على بدء فإن اللغة الشعرية التي تميز الدكتور الهاشمي هي وليدة امتزاج الانفعال والشعور والربط بين واقعين لغوي واجتماعي وإن حقيقة الصورة لديه ليست إبلاغية بالدرجة الأولى وإنما جمالية وظيفية لا تخلو من البساطة الشعرية وأن سر طاقتها الحسية تكمن بالتأثير المباشر في المتلقي.
هل أفتح الآن دفتر حلمي و أقرأ ..
يا وطنا كنت عمري أضاحكه فيبكيني
وأضاحكه..فيبكيني
وأضاحكه..وأضاحكه..وأضاحكه.
ويظل الهاشمي في هذا وغيره مسكونا بالحزن والوعد في انتظارٍ عدمي أبدي كما لو كان بكت في عمله الخالد بانتظار غودو .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في