الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات طفولة..اخافة الوصي .14.

مهند البراك

2021 / 12 / 5
الادب والفن


اخافة الوصي

في حوالي عام 1956 دخل التلفزيون لأول مرة بالاسود و الابيض في العراق و قيل ان اجهزته كانت من شركة " باي" البريطانية من خلال فرعها في المعرض الصناعي ـ الزراعي، الذي كان احد برامج مشروع الإعمار في ذلك الوقت، و قد احدث ضجة كبيرة في الأوساط الشعبية و بين الاطفال الذين فسّروه على انه سينما بيتية كانت تعرض فلماً كل يومين بعنوان " فلم السهرة " منها فلم عربي مصري في ليلة الجمعة و يوم الجمعة . .
كان البث يبدأ مساءً في حدود الساعة السادسة . . و في المحلة القديمة اشترت عائلة الخبازة صبرية جهازاً للتلفزيون، وضعوه في ساحة البيت الداخلية و وضعوا حصراناً على الساحة للجلوس، و كانت الدخولية كل نفرين بـ (عانة) لرؤية كل برنامج اليوم . . فكنا نتجمع كاصدقاء محلة و نذهب لمشاهدة التلفزيون في بيت صبرية . .
الذي كان يقع مقابل بيت الممرضة و القابلة الشهيرة في المحلة " سستر حسيبة " ، في ركن زقاق قديم غير نافذ، تركه ساكنيه اثر حريق شبّ فيه قبل سنين و التهم شناشيل البيوت فيه، و بقيت البيوت خالية عدا ساقية الماء الآسن القذر التي كانت مستمرة بالجريان . .
في اليوم الاول لذهابنا شاهدنا " حسون الامريكي " كان جالساً في السره الاول، كأحد المشاهدين البارزين و المشجعين للاطفال للحضور، و كان حسون مضمداً في المستشفى الملكي، و اكتسب شعبية كبيرة في الاعظمية بهندامه النظيف بمودات الملابس الامريكية، صحبة دراجته الهوائية الحديثة النظيفة، و كان يشاع عنه انه احبّ الحياة على الطريقة الامريكية التي لبسته تماماً، و كان يتحدث بلغة انكليزية لانعرف مدى صحتها و حدودها، و كان ذا روح فكاهية . . و احبّ ان يعيش في الجوّ الامريكي بالملابس و النكات و الحركات و الاحلام و الاوهام . . من خلال افلام الكاوبوي و عموم الافلام الاميركية و قصصها و نسائها الشقراوات.
و كان مما يثير تساؤلاتنا جلوس عدد من النساء بحجاباتهن لرؤية التلفزيون، لأنه من العيب ان يشاهدهن الرجال في التلفزيون و هن بملابس البيت او مفَرْعات . . لأنهن كنّ يعتقدن بشكل جازم ان التلفزيون لايخلو من رجال (من صدك) و لكن كيف ؟ بس الله يعرف، كما كنّ يرددن . . و لدى مناقشاتنا معهن ترد متزعمتهن ( لك انت من كل عقلك ان اللي داتشوفه مو رجّال بطول و عرض و بـ . . يعني شلون تقبلوها ان نجلس امامهم و احنا شبه عاريات !! . . لك ماتستحون ؟ ماعدكم غيرة على امهاتكم و خواتكم ؟؟ ) . .
و تقول اخرى ( احنا من الراديو ناخذ حذرنا عندما يتكلم رجّال، رغم انه مو ظاهر للعين ، هالنوبة من التلفزيون و مبيّن واضح ينظر الينا دون خجل و لا مستحه . . بس العيب عليكم انتم ماتهتمون بسمعة بناتكم و نسوانكم، لأن هي هاي بداية طريق الشيطان، و كان الشيطان لربه كفورا، صدق الله العظيم . . ). و في جلسة التلفزيون كان بعض الاطفال يبيعون : اقداح من الشربت، قطع حلويات من اللوزينة، الداطلي و البرمة الكاسدة التي لانعرف من اين اوتي بها، اضافة الى حب الرقيّ (بذور الرقيّ) المطبوخ و المقلي بالماء و الملح و غيرها من المواد، مما تقرره صبرية الخبازة . . و باسعار متهاودة.
في زمان كان فيه الاطفال الموجودين في بيوتهم يبدأون باللعب من الصباح الباكر في البحث بين الكراسي و القنفات في المقاهي الفارغة، عن علب السكائر الفارغة و تجميعها، لصنع بيوت الكرتون بلصقها الى بعض و حسب نوع العلب، علب سيكاير غازي الذهبية و لوكس البيضاء و الاكثر جاذبية علب كات Cat ام البزّون و علب البحّار، و كنّا نتبادل انواعها بيننا، حسب الرغبة و الحاجة في بناء بيتٍ كارتوني ذي جاذبية. اضافة الى العاب الأسلاك المعدنية و استخدامها في بناء سيارات و لوريات حمل كلعب، التي طوّرها بعضنا باستخدام بطريات جافة، لتشكيل اضوية ليلية، زمّارات (هورنات) لتلك الالعاب.
و ذهب آخرون الى عمل و تصميغ طيارات ورقية بشراشيب زاهية، باحجام متنوعة حتى ظهرت العاب الطيّارات الورقية التي تهاجم الأخرى و تحطّمها او تقطع خيطها الرابط، باستخدام معجون من خليط مكوّن من الزجاج المطحون (الكزيز او القِزازْ) و الصمغ و شئ من الطحين . . و تلويث الخيط المستخدم للطيارة المهاجمة به و جعله حاداً قاطعاً . . اضافة الى لعبات تتراوح من ارسال صور الى الطيارة بواسطة خيطها، و ارسال قنديل مكوّن من علبة كرتون خفيف صغيرة محاطة بورق شفاف تحتوي شمعة صغيرة و هي تشتعل الى الطيارة بواسطة خيطها، الذي يتطلب خبرة و تفنن من الاطفال الاكبر سنّاً و الاّ يشتعل الخيط او الطيّارة او كلاهما . . و كانت تلك الالعاب تزدهر في مواسم و تخف في مواسم اخرى، وفق نشاط السوق الذي كان يبيعها و يبيع موادها . .
في ايام الخميس كنت ارافق جدتي لمساعدتها بحمل المواد التي كانت تعدّها للتكية النسائية التي كانت تقع في المحلة المقابلة لمحلة النصة، في الجهة الاخرى للشارع الواصل الى مرقد الإمام ابو حنيفة النعمان و كنّا نمرّ بين تلال الرمل و المواد الإنشائية التي كانت تُعد و تُستخدم في عمليات الحفر و بناء الجسر الجديد و الشوارع الضرورية المرتبطة به، الجسر الذي كانت تدور حول تسميته نقاشات و نقاشات حادة بين تسميته (جسر الاعظمية) او تسميته (جسر الكاظمية) الى ان تم التوصل الى حل وسط بتسميته (جسر الأئمة) . .
كنّا نحن الاطفال نسمع اموراً تدهشنا او نستغربها و تثير الفضول عندنا لمعرفة الحقيقة فيها، ففي ذات يوم جاءنا برهوم فرحاً بخبر انه استطاع تسجيل عزيز ابن الحفافة اليهودية لميعة رسميّاً !! ، للحاجة الملحّة لأوراق رسمية له للتسجيل في المدرسة الإبتدائية. و عرفت بأن عزيز ليس لديه دفتر نفوس اصولي، الذي بدونه لايمكن اعتباره مواطن عراقي، و لا يُعتبر رسمياً ابن امه و ابيه، و لا يستطيع التسجيل في مدرسة و لايمكن ذكره او حسابه في اية معاملة حكومية.
و فتح ذلك الموضوع الكثير من التساؤلات . . لماذا و كيف ؟؟ لأنه يعيش في بيت امه و ابيه و هو ابنهم . . و تبيّن ان خلف الموضوع حكاية مأساوية مؤلمة، فالحفافة اليهودية لميعة في مطلع شبابها احبّت ابن الجيران عباس الذي كان متدلّهاً بحبها، و بسبب احداث الفرهود ضد اليهود العراقيين و إجبارهم على التأسلم و الاّ عليهم مغادرة البلاد في خطة رتّبتها الدوائر الصهيونية مع المستعمرين البريطانيين و اذنابهم من الحكّام، لإجبار اليهود العراقيين على مغادرة البلاد و الذهاب الى اسرائيل، و نشطت لذلك انواع الدوائر و العصابات، درّ عليها اموالاً طائلة من جهة، و رسم مخططاً سياسياً خبيثاً بقي يلعب ادواراً متنوعة الى اليوم .
و قد رفضت لميعة التأسلم لأنها يهودية و تعتزّ بديانتها من جهة، و رفضت مغادرة العراق لأنه وطنها الذي ولدت و عاشت فيه و احبّته و لا يمكنها الحياة دونه، و صارت امام خطر التهجير بالقوة على يد الشرطة او على يد عصابات شقاوات اجرامية . . فتركت وظيفتها في مدرسة البنات اليهوديات الواقعة في عطفة نهاية السوق القديم، التي بقيت بنايتها بزخارفها و فنّها المحفور على جدرانها، بناية متروكة بعد تلك الاحداث.
تركت لميعة وظيفتها و اختفت في بيت اهل عباس الذين احسنوا استقبالها و حافظوا على سرّها ، بعد ان تركت اهلها الذين أُجبروا على ترك البلاد بلا رحمة وسط بكائهم و عويلهم . . و عملت عائلة عباس على تزويج ابنهم بها بعد اعجابهم بها و بحسن اخلاقها و خُلُقها، لتكون اقامتها شرعية بينهم، و كانت قضية زواجهما شبه مستحيلة رسمياً، كما قيل حولها، و بقي زواجهما غير رسمي و دون عقد زواج . . و بعد سنوات و بجهود كبيرة استطاع برهوم بعلاقاته النافذة ان يستحصل لهما على موافقة رسمية على الزواج كحالة استثنائية، من مكتب المرجع الإسلامي الأعلى للديار العراقية السيد الواعظ، فتزوّجا رسميّاً . .
و اشتغلت لميعة بمهن متنوعة للحصول على راتب يكفل عيشها و مصرفها لأنها لم تقبل ان يصرف عليها احد و يكون سيّداً عليها، و ساعدها ابناء المحلة فاشتغلت كـ : مدبّرة منزل، معينة في مستشفى بمساعدة غنية زوجة برهوم، خيّاطة بمساعدة ام عباس، حفّافة بمساعدة جيران آخرين . . الى ان استقرت كحفّافة، و ولدت ابنها البكر عزيز الذي لم يستطيعوا تسجيله رسمياً لأنه من أب مسلم و أم يهودية و هو أمر غير مذكور او لا يتطابق مع القوانين الشرعية الرسمية المعمول بها في البلاد آنذاك . .
و تبيّن انه بعد سنوات اخرى و بسبب متابعة برهوم الكثيفة و لكونه صحفي، استطاع معرفة ان قانوناً جديداً صدر (بلا اعلان عنه) و لانُشر في صحيفة الوقائع العراقية الرسمية، يعالج تلك المشكلة و يُحللها شرعاً . . . بعد ان حفظ اهل المحلة سرّ الحفافة لميعة و تلك المشكلة و حفظوا بذلك سرّ تلك العلاقة السامية الطاهرة التي جمعت حبّ الوطن و العشق الطاهر و الإخلاص في سبيله . . و الدور الإنساني للسياسي الوطني الذي يحب شعبه بالوان مكوناته . .
. . . . .
. . . . .
بعد فراق شهور، زار سعدون رحيّم الذي استقبله بالاعناق و بأحرّ التحيات على سلامته من حملات الاعتقالات التي جرت اثر انتفاضة 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر، و بعد تبادل انواع الاحاديث و في مقدمتها الاخبار عن عدنان و عن مزهر المعتقل في نقرة السلمان . . اخبر سعدون رحيم عن اخبار استخبارات الفرقة الثالثة التي افادت بهروب نشطاء شيوعيين ممن يعملون بالمجال العسكري و استفسر عن مغزى ذلك، و عن كراس " في الكادر " و خالد السلام . .
و بعد سنوات قال سعدون عن اجابات و ملاحظات رحيم بأنها كانت مهمة و مفيدة كثيراً عن حقيقة ما كان يجري و الذي نقله الى النقيب ممدوح، حيث افاد رحيم عن النشاط في الجيش :
ـ ان الحزب لايعمل للقيام بثورة مسلحة او انقلاب عسكري، لأن لافائدة من ورائه و خساراته اكبر من فوائده . . و ان الحزب يناضل سلمياً من اجل تطوير العراق و من اجل الحرية و الديمقراطية، و ان من ينشطون في الجيش، يعملون من اجل توعية الجنود و الضباط الصغار بحقوقهم، ازاء استغلال الطغم العسكرية الحاكمة و المتنفذة في الجيش . .
فالجندي المُساق الى الخدمة العسكرية بالقوة يُعامل معاملة اسوأ من معاملة الحيوان و لاتزال الحملات العسكرية لسوق المجندين الجدد بالهجوم على القرى تجري، و ضرب الجنود يجري كما لو كنّا في زمن العصمليّ (العثماني)، و لذلك فهم كأي قطّاع من قطّاعات الشعب بحاجة الى من يوعيّهم بحقوقهم كبشر، و يعلّمهم القراءة و الكتابة، و الى من يعمل على تنظيم احتجاجاتهم على المعاملة القاسية التي يُعاملون بها و الرواتب الضئيلة التي يتقاضوها تحت غطاء (خدمة العلم الإلزامية)، اضافة الى تحديث ثقافتهم و ثكناتهم و اسلحتهم و مدارسهم المهنية، لخلق جنود ماهرين و اصحاب مهن و مهارات تطوّر الجيش و تطوّر ابنائه . .
بدلاً من استغلالهم و سوقهم من قبل المستعمرين و اذنابهم لتنفيذ و خدمة مخططاتهم، بلا مبالاة بارواحهم كما حدث في حرب فلسطين و فضائح الاسلحة الفاسدة التي راح ضحاياها مئات الجنود . . بهذه الوجهة ينشط الحزبيون و ليس بتنظيم و تدبير مؤامرات و انقلابات، الاّ ان حكومات نوري السعيد تعتقلهم و تحكمهم احكاماً قاسية، و تتهمهم بشتى التهم التخريبية . . و يؤيد الحزب كلّ تحرّك او حركة وطنية تنجح في وضع البلاد على طريق التقدم و الازدهار، بل و يسعى لمساعدتها و تنظيمها على اساس الفكرة الرئيسية لمؤسس الحزب فهد : " قووا تنظيم حزبكم، قووا تنظيم الحركة الوطنية " ، في بلد يعاني من الظلم و التخلف و الفقر و المرض و الأمية.
امّا عن خالد السلام فهو مثقف يساري معروف و فعلاً ترجم كراس (في الكادر، لديمتروف) بمساعدة الشيوعيين السوريين، حول مواصفات و ماهية النشطاء الحزبيين، و لدى ديمتروف كتاب موسّع عن (الجبهة الوطنية) حول تكوين الجبهات و شروطها الذي لم يترجمه السلام، و تكمن اهميته في شروط عقد الجبهات و الاّ تتحطم و تتحطم احزابها، ففيما نجحت و ادّت الى انتصار ثورة اكتوبر في روسيا، فإنها فشلت في الصين و ادّت الى قتل مئات الآلاف من الشيوعيين و الديمقراطيين و انصارهم هناك على يد (جان كايشيك) زعيم القوميين الصينيين المتعاون مع المحتلين اليابانيين . .
و شَرَدَ سعدون بعيداً في افكاره و هو يردد مع نفسه ( صدك احنا الضباط و لا واحد منتبه لحقوق الجنود و انهم بشر مثلنا، و نعتقد انهم جزء من الماكنة العسكرية التي علينا تشغيلها بهم و تذكّر عبارة (الجندي حيوان اليف، يمشي كما يبغي العريف)، و فعلاً هم حطب نيران المعارك بالاوامر و العقوبات الصارمة من الضرب و الجَلِدْ و السجن و الى الرمي بالرصاص في حالات المعارك، و الحملات المسلحة لقمع انتفاضات الفلاحين الفقراء و ماحدث من مجازر بحق الكرد و ابناء الديانات الاخرى، و مقاومتهم الباسلة . .
. . . .
. . . .
في تلك الفترة زارنا برهوم و دخل في نقاشات مطوّلة مع والدي عن موضوع الاسلحة لحماية المتظاهرين و سمعت منه التالي، قال برهوم :
ـ ناشطو الاحزاب و المنظمات القومية يرون انه من الضروري ان تتشكّل جماعات لحماية المظاهرات و بدأوا بتحضير اسلحة لذلك من علاقات مع مهرّبين ينشطون في مناطق المحمرة و في مناطق كردستان، و يقولون بأنهم لن يَدَعوا شرطة بهجت العطية و ازلامها من الشقاوات يهاجمون و يقتلون و يجرحون و يسوقون المتظاهرين الى السجون، كما حصل في مظاهرة استنكار العدوان الثلاثي على مصر في شارع الشباب، و كما حدث حين هاجموا كلية الملك فيصل و قتلوا و جرحوا العديد من الطلبة . . خاصة و ان التظاهرات تزداد من زمن العدوان الثلاثي على مصر الذي كشف حقيقة اسرائيل و حقيقة دول الغرب و سياساتها تجاه المنطقة و بلادنا . .
ـ عزيزي برهوم، دع عنّك التفكير باستخدام الاسلحة النارية لحماية المتظاهرين، لأنك ستدخل في صراع غير متكافئ و لا معقول مع الحكومة التي تستطيع استخدام انواع الوحدات المسلحة و تستطيع زج الدبابات و المدرّعات لضرب المتظاهرين و حماية افراد وحداتها، دع عنك، ان ذلك سيتسبب بسقوط اعداد كبيرة قتلى و جرحى من الطرفين و سيتسبب بسوق متظاهرين بتهم حيازة اسلحة غير مرخّصة . . . و لاتنسى بأن ابناء القوات المسلحة هم اخواننا و انهم يُساقون بالاوامر العسكرية و الاّ يُعاقبون بعقوبات قاسية، علينا تحييدهم و كسب تأييدهم لنا . . ممكن استخدام وسائل للدفاع عن النفس اللي تصل الى استخدام الحجارة و بحدود الى استخدام العصي للدفاع عن النفس . . و لاتنسى ان التظاهرات هي وسيلة للتوعية و لرفع استعداد الناس لتأييد اية حركة وطنية تسعى للتغيير، و ليست وسيلة لتغيير نظام الحكم بالقوة . .
من جهة اخرى، و بجهود الرائد ممدوح و توجيه الزعيم قاسم و علاقاته، تم نقل سعدون الى مقر قيادة الفرقة الثالثة في معسكر سعد في بعقوبة، لحاجتهما الى من مثله هناك دون تبيان اية تفاصيل ، في وقت تزايدت العلاقة بين الرائد ممدوح و الملازم اول سعدون وثوقاً . .
ذات مساء في النادي العسكري في بعقوبة، وفي ساعة متأخرة من الليل و على مائدة شرب و عشاء ، قال الرائد ممدوح ، وهو يرد على تهاني صديقه و ابن دورته ـ كما تبيّن لاحقاً ـ سعدون له بمناسبة ترقيته الى رتبته الجديدة وفق قوائم الترقيات في يوم الجيش :
ـ اشكرك عزيزي سعدون ابو رعد . . يا ابن دورتي العسكرية على تهانيك القلبية التي لاتعكس الاّ سمو اخلاقك . . . ولكني اتساءل لماذا لم تشملك الترقية و بقيت برتبتك، هل لديك عداوات ؟
ـ عزيزي . . ابن العشاير دائما عنده عداوات، مثلما لديه صداقات و تحالفات . .
ـ لا اعرف لماذا يقولون عنك ، انك من المغضوب عليهم . . لا اعرف لماذا ؟ و لا ارى اية شائبة فيك ، فكل حياتك العسكرية تشهد لك بالضبط و النظام . .
ـ شوف عزيزي ممدوح كل انسان لابد و ان يقع في خطأ يوم ما، و للجيش الحق في محاسبته و اتخاذ الإجراء الذي يتناسب مع درجة الخطأ . . و لكن ان يكون الحساب قاسياً و مستمراً، فالأمر يعني ان القضية قضية احقاد و حسد، و محاولة لإذلالي و انا بعمري لم امسّح جوخة احد و لم اتذلل لأحد . ويبدو لي ان هذا الأمر لايروق لمن ترقّوا بالتذلل و بالتقرب للأنكليز . .
ـ افهم ماتقول . .
ـ المؤلم انك ترى العديد من الكبار هم ليسوا اكثر من مسّاحي اكتاف و متذللين . .
ـ بلى . .
ـ حتى آمر وحدتنا من هذا الرعيل الوصولي المنافق . .
ـ لأن الوصي على العرش الذي بيده امور الجيش هو الذي يحارب الضباط الشجعان و كرام النفوس . . ويقرّب المتزلفين و المنافقين . .
ـ اخفض صوتك . . احنا في النادي العسكري !!
ـ . . .
و بصوت يشبه الهمس سأل سعدون :
ـ الوصي ؟!!
ـ نعم !!
ـ متأكّد ؟!!
. . . و منذ ذلك الحديث و بتطور ثقة احدهما بالآخر و تكتمه عليها، تواصلت احاديثهما حول تلك المواضيع و تواصل تبادلهما للأخبار ، ومن خلال ذلك عرف سعدون ان الضباط الوطنيين ينشطون بشكل منظّم باسم " الضباط الأحرار " . وفي احد الأيام اتاه ممدوح بنشرة سريّة تهيب بابناء الجيش العراقي الى تأييد مظاهرات الشعب في الذكرى الأولى للعدوان الثلاثي على مصر . .
قال ممدوح :
ـ الوصي يخيف الكثير من الضباط و خاصة الجدد و القادمين من خارج بغداد ، و يريد " الضباط الأحرار " تخليص العسكريين من هذا الكابوس . . لاتنسى ان الوصي هو المشرف العام غير المُعلن على الجيش !!
قال محمد سعدون :
ـ يعني يريدون اغتياله ؟!
ـ لأ . . يريدون اخافته . . ارعابه امام العسكريين . .
ـ يعني كيف ؟ و كيف اخافته امام العسكريين و هو لايتحرّك الاّ محاطاً برجال حماية مدربين احسن تدريب . . و لاصقين به اينما ذهب ؟
ـ نعم ، و لكن . .
ـ . . .
بعد تفكير و سكوت قال سعدون بصوت خافت و لكن واثق :
ـ شوف ممدوح . . آني بنفسي اريد ان اقوم بذلك ، ولكن كيف ؟ كيف و اين ؟
ـ . . ابو رعد ! تعرف ان الوصي سيزور قيادة الفرقة في معسكر سعد ؟
ـ صحيح ؟! متى ؟
ـ يقولون قريباً . . و سنعرف ذلك من بريد " اطلاع الضباط " لأن الأمر يتطلب تهيؤ و استعداد و تفتيش قطعات . . اعتقد ان الزيارة ستتم بمناسبة يوم تأسيس الفرقة الثالثة .
و بعد ايّام تحدد موعد زيارة الوصي و بدأت اجراءات التهيؤ و التحضير و الاستعدادات المتنوعة لإستقباله . . و في الصباح الباكر لذلك اليوم و بينما كان سعدون يتمشىّ ذهاباً و ايّاباً على رصيف شارع باب النظام لمدخل مقر الفرقة مقلّباً الفكر فيما سيقوم به، شاهد مالم تصدّقه عيناه . . شاهد ريتا و امرأة كهلة و شابتان و هنّ ينزلن من سيارة تاكسي عند الباب النظامي للفرقة و بدا ان هناك نقاشات و ممانعات من حرس باب النظام لدخولهن الى ساحة مقر الفرقة !!
و بلا شعور او تفكير اسرع سعدون الخطى الى باب النظام، و دخل في تفكير و حسابات منطقية و معقّدة، هل هناك من ارسلها لي لتفشل ما اريد القيام به ؟؟ ما هذه الصدفة التي توجع القلب ؟ . . و بوصوله الى باب النظام، استعد الحرس له مؤدين التحية العسكرية الأصولية و قالوا :
ـ سيدي . . النساء يريدون الدخول الى المستشفى العسكري للفرقة لزيارة ابنهم الجندي الراقد هناك، و كما تعرفون الوقت ليس وقت زيارة .
نظر سعدون الى ريتا و مرافقاتها متصنعاً عدم معرفته بريتا التي فهمت تصرفه و انتظرت ما سيقوله، سأل سعدون :
ـ الجندي المريض ابن من ؟؟
قالت المرأة الكهلة :
ـ سيدي . . الجندي هو ابني و هاتان اخواته و الأخرى جارتنا التي ساعدتنا بالوصول الى هنا، الله يعطيها العافية . . احنا جايين من الموصل سيدي.
و بعد تفكير امر سعدون الجنود بقوله :
ـ اخذوا اسمائهن و اسمحوا للأم و لشقيقتيه بالدخول مع مرافق . . و للضيفة بالذهاب الى غرفة انتظار النساء مع مرافق، الى ان ازورها بنفسي.
و التقى سعدون بريتا في غرفة الانتظار، و قالت :
ـ شلون صدفة . . شنو جابك هنا ؟؟
ـ انا اعمل هنا . . هنا مقر عملي . .
ـ بس المكان مابيه مجال . . فقط كراسي حديدية و و و
ـ عيني ريتا هنا معسكر و غير ممكن ان نقوم بما تفكّرين بيه . .
ـ ليش يعني ؟؟ هنا اكثر إثارة صدّقني . . نفرش البالطو على الارض و و تره اكثر الضباط يسوون هالشكل . .
ـ ابداً ابداً !!
ابتعد عنها و قال بعد ان تأكّدت حاسّته بانّ مجيئها صدفة لا اكثر :
ـ ابداً عزيزتي . . عليّ واجب فيه مخاطرة و احتاج الهدوء، لديّ موعد مع سعيد المصلوب بعد يومين في بانسيون ماري، ان لم اذهب اليه، الرجاء اخبريه بأني مسجون عند الانضباط العسكري، و هو سرّ بيننا !
اصفرّت ريتا ،و بلا كلمات عانقته بشدة طويلاً و هي تردد :
ـ لاتقلق . . ان الله معنا .
و بعناقها و كلماتها المهدّئة، احسّ بهدوء كان يحتاجه و ركّز كل تفكيره على ما سيقوم به و سيجري . . . و هو يرى من النافذة و يسمع ازيز مراوح ثلاث مروحيّات و هي تقترب من المعسكر . . شدّ على يد ريتا و استأذنها و فارقها و هي تنظر اليه بعيون تدمع بغزارة . .
ذهب سعدون الى قاعة التدريب الشتوي الرئيسية (البنكله) ذات الفتحات الكبيرة المشرفة من مسافة حوالي 300 متر على ساحة هبوط الهيليكوبترات . . علّق فردة بسطال بسلسلة كانت مُدلاّة من السقف و اتّخذ موقعاً يستطيع من خلاله رؤية لحظة نزول الوصي من مروحيّته، و جثم على تلّ من اغطية و ملابس عسكرية قديمة و اخرج مسدسه و استعد للحظة التي اختارها و بقي يتابع هبوط الهيليكوبترات . .
نزل الوصي وسط انغام الجوق الموسيقي العسكري و هو يعزف السلام الملكي . . و استقبله قائد الفرقة و عدد من قادة الالوية و الصنوف، و كان محاطاً بافراد حمايته المدججين بالاسلحة الرشاشة . . و في لحظة مصافحته قائد الفرقة . . بدأ سعدون بالاطلاق من مسدسه على فردة البسطال المعلقة، التي جعلت الوصي يسحب يده من المصافحة و يهرب الى مروحيّته دافعاً من وقف في طريقه و في ثواني غادرت مروحيته وحدها ارض المعسكر و بقيت الأُخرتان على الارض، و انتشر افراد حمايته و حرس المعسكر و هم يطوّقون البنكله و انقضّوا على سعدون !! (يتبع)

5 / 12 / 2021 ، مهند البراك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة