الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كائنات جبارة من صنع البشر

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2021 / 12 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا يقتصر الوجود على كل ما هو مرئي ومحسوس، بل هناك وجود آخر موازي غير مرئي وغير محسوس لكن له أثر هائل قد يفوق الوجود المادي ذاته. والكون والكائنات ليست مجرد كتل من المادة الصماء متناثرة هنا وهناك وسط سكون لا متناه، بل هناك الحركة الدائمة، والحيوية والحياة، والروح. الكون ليس مادة بلا روح، وكذلك الإنسان. ومن هذه الروح الأثيرية اللامادية، خلق الإنسان وأبدع أكواناً وكائنات فاقت حتى الكون المادي ذاته قوة ونفوذاً، وجمالاً وجلالاً.

انظروا الله. ما من بشر على وجه الأرض قد ادعى، أو يدعي أو سيدعي، وجوداً مادياً مرئياً ومحسوساً له. أقصى الخيال كان نوراً- أثير- ملء السماوات والأرض. لكنه موجود، وياله من وجود عظيم يسمو ويعلو الكون كله؛ ومؤثر، وياله من تأثير، في حياة البشر بأكثر من تأثير أي شيء أو كائن حسي وملموس عبر الكون كله. انظروا زيوس وأثينا وإيزيس وآمون ورع ومناة واللات والعزى وهبل وما لا يحصى من الآلهة الأخرى. كم كانت تشيد لهم البيوت والمساجد والمعابد والأضرحة والمزارات والأهرامات والمسلات ولا تزال؛ كم بلغت الثروات المتدفقة عليهم من الهبات والعطايا والصدقات والنذور والتبرعات لاتقاء غضبهم وكسب ودهم أثناء الحياة والنجاة من عذابهم والفوز بجنتهم ونعيمهم بعد الممات؛ كم شنت باسمهم وتحت راياتهم حروب، وحشد من أجلهم بشر، ومات فداءً لهم ضحايا، وذبحت لهم أضاحي وقدمت قرابين- وعذارى في سالف الأزمان. لكن تلك الكائنات الإلهية- لانعدام وجودها المادي الذي لا ينكره حتى أغلظ المؤمنين بها- لا تسكن البيوت، لا تأكل ولا تشرب، لا تغضب من أحد ولا تحاربه وتقتله، ولا تتزوج العذارى ولا غيرهن، ولا تنزل الأسواق لتسفيد من التبرعات والنقود- لكن البشر يفعلون كل ذلك.

لما سقط الاتحاد السوفيتي ميتاً بالسكتة القلبية قبل عدة عقود مضت، بكاه ونعاه الكثيرون لكن لم يحضر جنازته أحد. في الحقيقة، لم تقام له جنازة من الأصل، ولا سرادق عزاء. أين وريت جثته؟ أين ذهبت أصوله وثرواته الطائلة، وجيوشه الباطشة، وقوته العظمى؟ وهل تتخبر إحدى القوتين العالميتين الأعظم هكذا من دون أثر؟! في الحقيقة، مثل هذه الكيانات لم تخلق من المادة ومن ثم لا جسد لها، بل هي روح فقط بلا جسد. هي فكرة أو نظرة، أو تفسير أو معنى معين يضفيه الإنسان على كونه وحياته المادية، ثم يدونها في معاهدة أو اتفاقية أو قانون أو نظام أو لائحة تأسيسية، أو يكتفي بمجرد تخزينها في الذاكرة والمواظبة عليها بالتكرار والتكييف في أعراف وعادات وتقاليد متوارثة ومبجلة. هي شكل تنظيمي معين يبتدعه الإنسان لإدارة جوانب شؤونه الحياتية المختلفة بطريقة يعجز عنها الشخص الطبيعي. تلك هي مادة الخلق لمثل هذه الكائنات غير الموجودة مادياً رغم تأثيرها الطاغي على الوجود المادي ذاته.

لقد زال وجود الاتحاد السوفيتي السابق بمجرد تمزيق المعاهدات والاتفاقيات المنشئة له، لتفترق الدول المؤسسة كل منها في حال سبيله حراً ومستقلاً. بتعبير آخر، هذا المارد العملاق الأسبق المدعو الاتحاد السوفيتي لم يكن أكثر من حبر على ورق، أو بالأدق فكرة من صنع الذهن البشري دونت في معاهدة وجسدت في مؤسسات وأصول حسية وملموسة، أو روح ثم كسيت عظاماً ولحماً عكس المخلوقات الطبيعية التي بدأت جسداً ثم نفخت فيها الروح.

نحن البشر لا يسعنا الكون المادي بكل ملكوته وكائناته الطبيعية المرئية والمحسوسة، وأنشأنا، من بنات أفكارنا، كوناً آخر موازياً أوسع وأرحب، أكثر قوة وتأثيراً من أي شيء صادفناه في محيطنا الطبيعي، وأقوى حتى منا أنفسنا كأشخاص طبيعيين. هناك أمريكا وروسيا والصين، الأمم المتحدة والناتو، أوبيك وأرامكو وآبل ومايكروسوفت. كائنات كثيرة منها من فارق الحياة وآخر لا يزال حياً وينمو ويزدهر، جميعهاً بدأت حياتها من الفكرة المدونة في دستور أو قانون أو لائحة أو عرف وتقليد متبع عمياناً، ثم تجسدت مادياً في بيوت ومقرات ومكاتب وأفرع وتوكيلات ومجالس، ورؤساء ومديرين وموظفين وجيوش ومصالح وأرباح وأحزاب وأسهم...الخ لتسع حياة البشر كلها، وتنظمها وتحكمها بقبضة من الفولاذ. لكن رغم كل هذه القدرات والقوى والطاقات الجبارة، لا يزال المتن مصنوع من ورق، الذي إذا تمزق انحلت وانفكت وزال وجودها وأثرها. فهل هي خلق من صنع البشر؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah