الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موقفان متناقضان من التاريخ أنجبا فكرة المستقبل

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2021 / 12 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


وأنا أبحث في فلسفة المستقبل واجهت موقفان متناقضان كانا دافعا لازدهار الدراسات المستقبلية في الحضارة الغربية؛ الموقف الأول يتصل بالثقة بالتاريخ بوصفه تقدميا والموقف الثاني يتصل بفقدان الثقة بالتاريخ بوصفة بلا قيمة ولا أهمية.
اولا: على صعيد الموقف الواثق بالتاريخ أخذت فكرة التقدم تنتشر وتشيع في نسيج الثقافة الأوروأمريكية عقيدة عامة وفلسفة شاملة منذ القرن السادس عشر الميلادي ومابعده حتى منتصف القرن العشرين إذ لم تكن فكرة التقدم مجرد أراء يرددها مفكرون وإنما كانت اقتناعاً عاما لدى أهل ذلك العصر. إذ كان لـ تحقيق الاستقلال الامريكي عام 1783 والنجاح في إقامة حكومة جديدة الأثر الكبير في تحويل المفهوم العقلي للتقدم إلى عقيدة راسخة في الوسط الثقافي الأمريكي اذ كتب "توم بين" "نحن الأمريكيين، نملك القوة والقدرة على أن نبدأ العالم من جديد، وأن العالم لم يشهد موقفاً مماثلاً منذ أيام نوح حتى الان، ونحن نقف على عتبة ميلاد عالم جديد"وكان "توماس جيفرسون" يطلق على أمريكا اسم "إمبراطورية الحرية" إذ كتب يقول "إن قدرنا أن نكون حائلاً دون عودة الجهل والبربرية وإن أوروبا القديمة سوف تعتمد علينا ونحملها على كاهلنا وتعرج بجانبنا تحت وطأةش شباك القساوسة والملوك، ترى ماذا سنكون عندما تصبح القارة الجنوبية تحت سيطرتنا وما هو الموقف الذي سنكلفه كقوة حليفة للعقل والتقدم وسند للحرية في العالم"( وفي عام 1858 كتبت مجلة "هاربرز منثلى" "إن كل ما له علاقة بوضعنا وتاريخنا وتقدمنا، يعين الولايات المتحدة أرضا للمستقبل" ويكتب ( هنري بلوسل) أن أمريكا تمثل اعلى مرحلة في الحضارة والتقدم والتجديد, ويرى آرثر هيرمان إن فكرة التقدم الأمريكية كانت تنطوي بداهة على نظرة علمانية للتاريخ مناقضة للنظرة المسيحية اللاهوتية وإذا كانت فكرة التقدم قد ظللت بأفقها العام الفضاء الثقافي الاور أمريكي في القرن الثامن عشر، فربما يعود ذلك إلى كونها تمثل حينذاك الشكل المدرك الذي اتخذته مشاعر ودوافع وحاجات الطبقة البرجوازية الفتية التي كانت تعيش أوج فتوتها وشبابها، وقد كانت فكرة التقدم بما احتوت في ذاتها من قوة ديناميكية لتحريك الأفراد والأمم ودفعهم في اتجاه أنجاز الغايات والأهداف التاريخية .
ثانيا: فقدان الثقة بالتاريخ.
شهد العالم المعاصر منذ منتصف القرن العشرين أحداثاً عاصفة ومتغيرات متسارعة في مختلف الصعد الحضارية والثقافية والمدنية، متغيرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من حيث جدتها وسرعتها وأثرها وقوتها الصادمة للروح والعقل معاً، إذ بدا الأمر وكأن التاريخ يترنح والأرض تميد بأهلها، والقيم تهتز والحضارة تضطرب، والفوضى الشاملة تجتاح كل شيء، وبازاء هذا المشهد القيامي المجنون تحيرت افضل العقول، وفقد العقل الإنساني بصيرته وقدرته النيرة في رؤية الأحداث وما ورائها، ومن ثم تفسيرها وتحليلها والكشف عن ثيماتها العميقة المتخفية في سبيل فهمها وعقلنتها وإدراك معناها.ووسط هذا السديم الحالك من الاضطراب العظيم والعمى الشامل، آخذ العلماء والمفكرون والمؤرخون يبحثون عن تفسير معقول لما يعتمل في لواقع ويدور في عالم جن جنونه وأصاب الناس جميعاً بالدهشة والذهول، فهذا المؤرخ الإنجليزي المشهور " جفري باراكلاف" من جامعة اكسفورد يكتب تحت تأثير الإحساس العميق بالأزمة " إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة بدليل أمين لسلوك دروبه، وان أحد نتائج هذا الموقف الجديد هو أن التاريخ ذاته يفقد، إن لم يكن قد فقد سلطته التقليدية ولم يعد بمقدوره تزويدنا بخبرات سابقة في مواجهة المشكلات الجديدة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ آدم حتى اليوم" 2
هذا الإحساس المتشائم بعدم جدوى التاريخ سرعان ما سرى كما تسري النار في الهشيم بين قطاعات واسعة من الفئات المثقفة الأورأمريكية وهذا ما افصح عنه المؤرخ البريطاني " ج. هـ. بلومب " في كتابه " حيرة المؤرخ" عام 1964م، بقوله: " ليس للتاريخ معنى أو فاعلية أو رجاء، فقد اندثرت فكرة الرقي والتقدم الصاعد بين المشتغلين بالتاريخ، فــ 90% منهم يرون أن العمل الذي يمارسونه لا معنى له على الإطلاق" وقد بلغ هذا الموقف المتشائم من التاريخ والمعرفة التاريخية عند المؤرخ الأمريكي " دافيد رونالد" من جامعة هارفارد حد الرفض للتاريخ والتشكيك بقيمته وأهميته في كتاب يحمل الاستفزاز والتحدي صدر عام 1977م بعنوان ( تاريخنا بلا أهمية) أكد فيه عدم فائدة التاريخ الحاضر والماضي والمستقبل وأعلن: أن التاريخ يظهر مقدار ضعفنا وأننا لا نتعلم من اخطأ الماضي، وما اقل تأثيرنا فيما ينزل بنا من أحداث وما أشد عجزنا في قبضة قوى طبيعية أساسية هي التي تشكل الوجود الإنساني"4
ويمكن لنا تتبع حيرة الفكر المعاصر إزاء ما شهده العالم ولا يزال يشهده من اضطراب شامل في ذلك السيل المتدفق من المحاولات التنظيرية التي ترغب في توصيف ونمذجة وعقلنه المشهد التاريخي الراهن في أطر مفهومية مجردة وكلية، إذ أخذ الفلاسفة والمفكرون منذ أواخر القرن العشرين يتسابقون ويتنافسون في صياغة وإبداع ونحت المفهومة المعبرة أو الصورة الفكرية التي يمكن لها ان تعبر عن العالم المعاش، وتمنح الحقبة الجديدة اسمها ومعناها. ومن تلك التوصيفات يمكن الإشارة إلى اشهرها وهي: العولمة، ما بعد الحداثة، ما بعد القومية، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الأيديولوجيا، ما بعد الاستعمار، ما بعد البنيوية، ما بعد التنوير، ما بعد الشيوعية، ما بعد المجتمع الصناعي، ما بعد التاريخ، نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، عصر الليبرالية الجديدة، عصر التفكيك، مجتمع الفرجة، أو الاستعراض، عصر الكمبيوتر، ثورة المعلومات والاتصالات، أو صدام الحضارات، القرية الكونية، نهاية عالم كنا نعرفه" مجتمع الاستهلاك، عصر الديمقراطية، عصر التقنية، عصر التنوع الثقافية، العهد الأمريكي، أو الأمركة، عصر الإرهاب العالمي، السوق الحرة، والوطن السيبرنيتي، عصر الفضاء، والكوكبية وغير ذلك من التوصيفات الكثيرة في أبعادها المتنوعة. ومنها ما بعد فيروس كورونا كوفيد-19.
وهكذا جاء عنوان مؤتمر الرياض الفلسفي الدولي أمس ؛ ادارك ما لا يتوقع ؛ حدود العقل البشري. وغدا سيكون مؤتمر الفلسفة والمستقبل في جامعة القاهرة. وهكذا بات التفكير بالمستقبل اليوم هو الأفق الوحيد الممكن إذ إن استشراف المستقبل والبحث فيه لم يعد اليوم من باب الرجم بالغيب أو التنجيم أو التنبؤ أو التخمين و الظن و الشطح الصوفي، بل غدا اليوم ضرورة حيوية وجودية وإستراتيجية للبقاء والعيش في عالم تعصف به الأحداث و المتغيرات بخطى سريعة الايقاع) فلا مستقبل لمن فقد موقده و ضيع بوصلة اتجاهه (ويرى توفلر أن الأمم التي تجعل ماضيها هو مستقبلها تشبه ذلك الذي راح يبحث عن روح أجداده في رفات الرماد، فأيهما يحكم الآخر عندنا الماضي أم المستقبل ؟! وبدون تحرير المستقبل من الماضي لا يمكن لنا أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام بينما نتراجع خطوات كثيرة إلى الخلف، لقد أصبحنا اليوم نهرب إلى الماضي ونقرأ فيه مستقبلنا، فأضعنا الحاضر والماضي والمستقبل ولفظنا التاريخ في زوايا الهامش المنسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لبنان.. مزيد من التصعيد بين إسرائيل وحزب الله | #غرفة_الأخبا


.. ماذا حققت إسرائيل بعد 200 يوم من الحرب؟ | #غرفة_الأخبار




.. قضية -شراء الصمت-.. الادعاء يتهم ترامب بإفساد انتخابات 2016


.. طلاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة يهتفون دعما لفلسطين




.. قفزة في الإنفاق العسكري العالمي.. تعرف على أكبر الدول المنفق