الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بمناسبة 54 عاماً على انطلاقة الجبهة الشعبية التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأسيسها إلى اللحظة الراهنة

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2021 / 12 / 11
القضية الفلسطينية



بمناسبة 54 عاماً على انطلاقة الجبهة الشعبية
التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأسيسها إلى اللحظة الراهنة

 
 
المحتويات
المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
ولادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
المحطة الأولى أو المرحلة التأسيسية
المحطة الثانية : المؤتمر الأول آب 1968 وانشقاق الجبهة الديمقراطية
المحطة الثالثة: المؤتمر الوطني الثاني - شباط 1969.
المحطة الرابعة: المؤتمران الوطنيان الثالث والرابع.
المحطة الخامسة : المؤتمر الوطني الخامس..
المحطة السادسة: المؤتمر الوطني السادس – تموز 2000.
المحطة السابعة : المؤتمر الوطني السابع – ديسمبر 2013.
المراجعة النقدية بوصلة الرفاق للمرحلة الراهنة والمستقبل.
المؤتمر الوطني الثامن وأولوياته الفكرية والتنظيمية والسياسية
 
 

 
تقديم:
الأصدقاء والرفاق الأعزاء.. نلتقي اليومَ في مناسبة مرور أربعة وخمسين عاماً على المسيرة النضالية للجبهة الشعبية منذ انطلاقتها في الحادي عشر من ديسمبر 1967، ليس اعتزازاً وفخراً بنضالها ووفاءً لشهدائها الابطال وتحية لأسراها المناضلين فحسب، بل أيضاً نلتقي لكي يكونَ إحياء هذه الذكرى وفاءً وعهداً من كل رفاقنا صوبَ مزيدٍ من الوعي والالتزام الخَلاَّق بالمبادئِ الماركسية اللينينية والأهدافِ الوطنية والقومية التقدمية والأممية، إلى جانب القيم الأخلاقيةِ والديموقراطية التي جسدتها الجبهة ، لكي نتواصل مع هذه المبادئ والقيم كطريقٍ وحيد نحو تحقيق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة، ذلكَ هو التجسيدُ الحقيقيُ لإخلاص الجبهة ووفاءها لكل شهداء شعبنا الذين قدموا أرواحهم على درب استعادة حقوقنا التاريخية في كل فلسطين.
في الذكرى الرابعة والخمسين لانطلاقة الجبهة ، نستشعرُ مرارةَ الانقسامِ والصراع على السلطة والمصالح الفئوية بين فتح وحماس طوال الأربعة عشر عاماً الماضية الذي أدى إلى تفكيك "النظام" السياسي الفلسطيني، ومعه تفككت أوصال وحدتنا الوطنية التعددية ومن ثم تزايد مظاهر القلق والإحباط واليأس في نفوس أبناء شعبنا، ليس نتيجة استمرار الانقسام فحسب، بل أيضاً نتيجة استشعار معظم أبناء شعبنا بحالة من التشاؤم والخوف من انتقال الحالة الفلسطينية الراهنة من أوضاع الانقسام إلى مزيد التفكك والتراجعات صوب الفوضى والانهيار السياسي والمجتمعي الذي سيعصف بمشروعنا الوطني وتكريس فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، ويجعل من م.ت.ف أداة في يد قوى الاستسلام والخضوع الفلسطيني والعربي الرجعي التطبيعي، بما يعزز الانقسام وبما يفتح الباب واسعاً أمام تنفيذ المخططات الهادفة إلى شطب وكالة الغوث وقرار 194 و181 واستمرار مخطط الضم الصهيوني، وحصر ما يتبقى من أراضي الضفة الغربية واستخدامها لإقامة "دولة فلسطينية" ممسوخه، وفق المخطط الأمريكي الصهيوني تمهيداً لإعادة إلحاقها بالنظام الأردني العميل، بموافقة معظم النظام العربي ، حيث بات ذلك النظام اليوم في حالة غير مسبوقة من الانحطاط والخضوع للمخططات الصهيونية والأمريكية، ومن ثم إسدال الستار على القضية الفلسطينية برمتها لسنوات أو عقود طويلة قادمة، اذا ما استمرت تراكمات التبعية والانحطاط على حالها.
لذلك ونحن نحيي الذكرى الرابعة والخمسين للانطلاقة اليوم مع جماهير شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية والأرض المحتلة عام 1948 والشتات، فإننا نحيي لحظة وطنية وتاريخية غامرة بروح التحدي والصمود في مجابهة المخططات الإمبريالية الصهيونية وأدواتها العميلة في النظام العربي، ما يعني أننا أمام لحظة فارقة هي الأشد خطراً في كل تاريخ شعبنا، الأمر الذي يفرض على الجبهة موقفاً ثورياً حاسماً غامراً بالروح الوطنية والقومية والأممية، تنطلق منها صوب توعية وتحريض قطاعات واسعه من أبناء شعبنا وتوعيتهم وتنظيمهم في صفوف الحزب  وحوله ليس لمواصلة دور النضالي التحرري والمجتمعي فحسب، بل أيضاً لكي تستعيد الجبهة دورها الطليعي في أوساط جماهير شعبنا من جهة وفي إطار قوى اليسار العربي الماركسي من جهة ثانية.
وفي هذا السياق أشير إلى أن تراكم المخاطر الناجمة عن الصراعات والتناقضات الداخلية الفلسطينية ، إلى جانب المخاطر الناجمة عن خضوع وارتهان معظم النظام العربي الرسمي للمشاريع الامبريالية الصهيونية في بلادنا، تفرض تفعيل وتطوير كل عناصر ومقومات النهوض بالجبهة الشعبية من أجل استعادة دورها المتميز ، كبديل ديمقراطي ثوري  لكل من منهج وقيادة اليمين السياسي واليمين الديني، من ناحية، وتفعيل دورها وتحالفاتها مع قوى اليسار الماركسي في كل بلدان الوطن العربي من ناحية ثانية.
انطلاقاً من هذه الرؤية، نؤكد على أن العقل الثوري التغييري الذي تحمله الجبهة الشعبية لن يتراجع بسبب قوة وانتشار تيار الإسلام السياسي في المرحلة الراهنة بما يمثله من رؤى سياسية ومجتمعية يمينية ، أو بسبب هيمنة القيادة المتنفذة الهابطة في م. ت. ف ومعها العديد من القوى الذيلية  اليائسة أو المشككة أو الانتهازية أو الهروبية، بل سيستمر على شكل قوة موضوعية تكمن في صميم هوية الجبهة الفكرية .. الماركسية ومنهجها المادي الجدلي، وكل إمكانيات النهوض فيها في موازاة صلابة الموقف الذي تحمله الجبهة الشعبية في سفينة قوى اليسار العربي و العالمي المناضل من أجل التحرر والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية بعيدا عن سفينة الأصوليين المحكومة بقواعد التعصب والتخلف الاجتماعي ، وبعيدا عن سفينة ركاب السلطة وأنظمة الكومبرادور المحكومة برياح التبعية والتسوية مع التحالف الإمبريالي الصهيوني الرجعي.
فالتغيير الثوري بالنسبة للجبهة الشعبية هو مبرر وجودها، وهو أيضاً قمة النضال السياسي والديمقراطي الطبقي والكفاحي في تلاحمهما معاً، إذ انه خلال مسيرة النضال، تترابط وتتوحد القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أرضية صلابة الانتماء الوطني  والانحياز الطبقي الصريح والصادق للعمال والفلاحين وكل الكادحين والفقراء، كشرط أساسي لتوحد وتعاظم دور الجبهة في القضايا التحررية والديمقراطية ، الوطنية والقومية والأممية، وذلك انطلاقاً من الإدراك بأن الثورة لا تنضج بمقدماتها فحسب، بل تكتمل بتوفير العناصر الموضوعية للوضع الثوري والعامل الذاتي، وهي أيضاً لا يمكن أن تندلع –بالصدفة أو بحفنة من المناضلين المعزولين عن الشعب، بل بالحزب المؤهل، الذي يتقدم صفوف الجماهير الشعبية الفقيرة، واعياً لمصالحها وتطلعاتها وحاملاً للإجابة على أسئلتها، ومستعداً للتضحية من أجل هذه الجماهير، واثقاً كل الثقة من الانتصار في مسيرته المظفرة.
إن حجم هذه المهمة التاريخية الملقاة - بدرجة أساسية – على عاتق الجبهة الشعبية يستوجب ان تنهض بأوضاعها بما يكفل إحباط الكثير من تشويهات وسلبيات الهمم الضعيفة، مع إدراك مناضلي الجبهة  أن البديل لمنهج الجبهة وطريقها هو استمرار غرق مجتمعنا الفلسطيني في ردته المرعبة نحو همجية تحفزها همجية التسلط الامبريالي الصهيوني الرجعي ، وفي هذا السياق نقول: إن  وعي هذه الحقيقة من شأنه أن يصبح بحد ذاته حافزاً للإرادة، خاصة لدى الرفاق المؤمنين بمبادئ حزبهم/جبهتهم ، بضرورة النضال بكل أشكاله السياسية والمجتمعية  والكفاحية على وقف الانحدار نحو الكارثة، وشق الطريق صوب المستقبل الذي تتطلع إليه بشوق كبير جماهير الفقراء والكادحين من أبناء شعبنا.
بهذه الرؤية نعتقد أن الجبهة الشعبية ستتواصل في مسيرتها عبر تجددها الذاتي، المعرفي الماركسي اللينيني والتنظيمي والسياسي والمجتمعي، على طريق النضال والتغيير والتقدم السياسي والاجتماعي، عبر المزيد من الالتحام في صفوف الجماهير الشعبية، بما يؤكد على أهمية تحديد دورها في المجال السياسي وارتباطه الفعال بالقضايا المجتمعية وما تتضمنه من ضرورات تحديد الموقف من الرأسمالية واقتصاد السوق الحر والعولمة المتوحشة وكل أشكال الاستغلال والاحتكار، ورؤيتها وموقفها الواضح تجاه قضايا الصراع الطبقي الاجتماعي والثقافي ، ودور هذا الصراع في كافة التحولات الاجتماعية والسياسية في مجتمعنا الفلسطيني، وفق مفاهيم الديمقراطية والمواطنة والحداثة ، وهي قضايا لا يمكن تجسيدها أو الدفاع عنها ، ومن ثم تحقيقها، بدون أن تنهض الجبهة ببنيتها وأدواتها وتوفر الاستراتيجيات والخطط والبرامج التنموية (في مواجهة تحديات الفقر والبطالة والتشغيل والموارد الضعيفة.. إلخ) والتعليمية والاجتماعية والصحية والثقافية وغير ذلك من البرامج وفق منهجية علمية وإدارية حديثة، تتوخى الموضوعية من ناحية، وعلى أساس العمل على فك علاقة الالحاق والتبعية للاقتصاد الإسرائيلي وللمعونات الغربية المشروطة، وكل ذلك انطلاقاً من الترابط الوثيق بين مهمات التحرر الوطني والديمقراطي بمضمونه المجتمعي والاقتصادي، بحيث تتوفر إمكانيات ومقومات اقتصاد الصمود والمقاومة مع النضال السياسي والكفاحي التحرري من أجل تحقيق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة.
وبهذه الرؤية أيضاً ستضمن الجبهة – بصورة ثورية وواقعية إلى أبعد الحدود -  المزيد من التوسع التنظيمي وانتشار مبادئها وراياتها في كل بقعة من بقاع الوطن ومخيمات الشتات، الأمر الذي يتطلب من كل الرفاق والرفيقات، مزيداً من رص الصفوف والعلاقات الرفاقية الديمقراطية الدافئة، والإيمان الوحدوي العميق بأهداف الجبهة ومبادئها، من أجل توسع ومضاعفة الخلايا والهيئات الحزبية... واستنهاض اللجان الثورية والجماهيرية والمجتمعية في أوساط الفلاحين والعمال والشباب والمرأة والمهنيين وكل الكادحين والفقراء من أبناء شعبنا ... و مزيداً من تطوير العلاقات الرفاقية مع كافة الأحزاب اليسارية العربية والدولية... شرط أن تنطلق الحركة في كل ذلك من الوعي الثوري بالنظرية الماركسية ومنهجها وبكل تفاصيل واقعنا المعاش، الكفيل وحده بضمان نجاح مسيرة نضالنا التحرري والديمقراطي ... فلا حركة ثورية بدون نظرية ثورية نسترشد بها من أجل تجديد وتصليب البنية التنظيمية والكفاحية وتعميق الديمقراطية والطابع الجماهيري للجبهة الشعبية كحزب ثوري وطليعي .
إن ما ترتبه الإمبريالية والصهيونية للمنطقة عموماً ولقضيتنا الوطنية على وجه الخصوص ليس قدراً لا يرد، حتى في ظل النجاحات والانجازات النوعية والكبيرة التي حققها الحلف المعادي، فهذا الواقع لن يكون أبدياً ونهائياً، وبهذا المعنى فإن الحركة الثورية الوطنية والقومية وبالاستناد إلى طبيعة المشاريع المعادية وتناقضها الجذري مع حقوق ومصالح شعبنا وامتنا، قادرة على الفعل والمجابهة وبما يؤسس لمرحلة نهوض جديدة أكثر نضجاً وأكثر استجابة لحركة الواقع الموضوعية والذاتية وطنياً وقومياً.
إن المرحلة تتطلب عقول وسواعد الجميع، كما تتطلب الإرادة والتصميم على استمرار الكفاح ومواصلة العمل لنقل مشروعنا الوطني التاريخي إلى مستوى التحقيق المادي الملموس.
هذه هي النقطة التي يجب أن ننطلق منها، وهو الأمر الذي يفرض الربط بكلية الوضع العربي، أي بالنضال العربي ككل، شرط أن يكون النضال الفلسطيني في طليعته ، انطلاقاً من أن الصراع هو صراع الطبقات الشعبية في الوطن العربي ضد السيطرة الإمبريالية بما فيها الدولة الصهيونية .
وفي هذا الجانب، فإن استكمال عملية النهوض الذاتي ، السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري والكفاحي للجبهة ، من أكثر المهام الداخلية إلحاحاً تمهيداً لإعادة بناء قوى اليسار الماركسي ووحدتها.
وهنا يتجلى دور الجبهة الشعبية لكي تكون قادرة على تأطير كل المناضلين الجديين، وفق رؤية تطرح للنقاش، تقوم على :
1)    أن الصراع هو صراع الطبقات الشعبية العربية ضد السيطرة الإمبريالية الصهيونية، والنظم الكومبرادورية التابعة. وهنا يجب أن يتحدد دور الطبقات الشعبية الفلسطينية في إطار هذه الرؤية/ الإستراتيجية.
2)    أن لا حل تاريخي وعادل في فلسطين إلا عبر إنهاء الدولة الصهيونية في إطار الصراع العربي العام. وأن البديل هو الدولة الديمقراطية العلمانية بحقوق متساوية لكل مواطنيها .
3)    إعادة بناء العلاقة مع الطبقات الشعبية الفلسطينية في كل مناطق تواجدها انطلاقاً من هذه الأسس، وتوحيد نشاطها من أجل النهوض بالنضال من جديد، وتفعيل نشاطها ضد الاحتلال بمختلف الوسائل الممكنة.
ذلك أن الضياع في تفاصيل الوضع اليومي لن تقود سوى إلى التأخر عن البدء من البداية الصحيحة، وربما الفشل النهائي الذي سيفرز بدوره مزيداً من الفرص لقوى اليمين السياسي والاجتماعي للتمدد والانتشار، ما يعني إمكانية توفير المزيد من عوامل التراجع التنظيمي والجماهيري بالنسبة لليسار عموماً وللجبهة بشكل خاص ، وهو أمر يرفضه أعضاءها وأصدقاءها بصورة كلية واثقين من إمكانية تجدد دورها الطليعي في هذه المرحلة وفي المستقبل ارتباطاً بالتزامها بالأسس السياسية والفكرية والتنظيمية التي تُؤمن بها وتناضل من أجل تحقيقها.
أيها الرفاق إن جبهتكم الشعبية التي قدمت أروع الأمثلة في ثباتها وتمسكها بحقوق شعبنا الوطنية والتاريخية، وفي التزامها في الدفاع عن قضايا الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين طوال مسيرتها التي قدمت فيها آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين، ستظل وفية لمبادئها وأهدافها التي انطلقت من اجلها في الحادي عشر من ديسمبر 1967 ، وستظل –قبل كل شيء- وفية لمبادئها ووفية لكل المناضلين اللذين استشهدوا ، وأولئك اللذين قدموا التضحيات الغالية من اعمارهم في سجون العدو وزنازينه .
رفاق وأنصار وأصدقاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ... في الذكرى الرابعة والخمسين للانطلاقة، نقول إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي ضَمَّت بين صفوفها منذ تأسيسها إلى يومنا هذا، أجيالاً من المناضلين، ضَمَّت الجد والجدة والأب والأم والأبناء والأحفاد من جماهير الفقراء والكادحين، أجيال تعاقبت على حمل الراية، راية التحرر، راية الوطن، راية الماركسية والصراع ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية وكافة مظاهر وأدوات الاستغلال والتبعية والاستبداد، إنها راية العمال والكادحين والفلاحين الفقراء والمثقفين الثوريين، هي اليومَ تُجددُ العهدَ .. وتُجددُ روحَها الثورية من أجل نهوضِها واستعادة دورها الطليعي ومواصلةِ النضال لتحقيقِ الأهدافِ التي استشهد من أجلها الآلاف من الرفاق المناضلين عبر مسيرتها وذلك انطلاقا من إيمانها وقناعتها ومواثيقها أن الصراع هو صراع عربي صهيوني/امبريالي بالدرجة الأساسية يكون الثوار الفلسطينيون في طليعتهم .
وانطلاقاً من هذه الرؤية، الملتزمة بأسس ومبادئ الجبهة منذ تأسيسها، سأتناول في هذه الدراسة موضوعاً رئيسياً وضرورياً في المرحلة الراهنة، تحت عنوان: التطور السياسي والفكري للجبهة منذ تأسيسها حتى اللحظة الراهنة، وذلك عبر المحاور التالية:
أولاً: المحطة الأولى أو المرحلة التأسيسية.
ثانياً: المحطة الثانية: المؤتمر الأول آب 1968 وانشقاق الجبهة الديمقراطية.
ثالثاً: المحطة الثالثة: المؤتمر الوطني الثاني - شباط 1969.
رابعاً: المحطة الرابعة: المؤتمران الوطنيان الثالث والرابع.
خامساً: المحطة الخامسة: المؤتمر الوطني الخامس.
سادساً: المحطة السادسة: المؤتمر الوطني السادس – تموز 2000.
سابعاً: المحطة السابعة: المؤتمر الوطني السابع – ديسمبر 2013.
ثامناً: المراجعة النقدية للمرحلة الراهنة والمستقبل.
تاسعاً: المؤتمر الوطني الثامن وأولوياته الفكرية والتنظيمية والسياسية
 
غازي الصوراني
11 / ديسمبر /2021
 
 


 
المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
 
إنَّ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، ومنذ تأسيسها في الحادي عشر من ديسمبر/67  قد ربطت صيرورة النضال الوطني بمستقبل النضال القومي التقدمي للحركة الثورية على المستويين العربي والأممي ، إيماناً بالافكار الوطنية والقومية والأممية التوحيدية ، التي ضحى في سبيلها آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين والمناضلين من رفاقنا عبر مسيرتهم الثورية التي تواصلت مع انطلاقة الجبهة .
فالتغيير الثوري بالنسبة للجبهة الشعبية هو مبرر وجودها وهو أيضاً تجسيد النضال السياسي والكفاحي في تلاحمهما معاً، إذ انه خلال مسيرة النضال، تترابط وتتوحد القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أرضية صلابة الانتماء الوطني  والانحياز الطبقي الصريح والصادق للعمال والفلاحين وكل الكادحين والفقراء، كشرط أساسي لتوحد وتعاظم دور الجبهة في القضايا التحررية والديمقراطية ، الوطنية والقومية والأممية .
أما بالنسبة لتجربة حركة القوميين العرب ودورها، فليس أفضل من التذكير بموقف الرفيق القائد المؤسس الراحل د.جورج حبش، فهو يرى أن هنالك  نقاطاً أساسية علمية وعملية يجب تسجيلها في معرض تقويم الحركة ، وهي:
ان حركة القوميين العرب كانت فصيلاً من فصائل حركة التحرر الوطني العربي ، كانت في المشرق العربي بالذات الحركة الجماهيرية التي تصدت للاحلاف وساندت القيادة الناصرية ووقفت في وجه الإمبريالية بشجاعة .
ان الحركة عاشت عملية تطور متصلة في اتجاه اليسار، بدأت الحركة بطرح شعار "وحدة ، تحرر ، ثأر" وتصاعد التطور إلى حد وضع وثيقة تموز 1967 التي تشكل -في تقديري- وثيقة نظرية وضعتنا على أبواب تنظيم ثوري جذري اجمالاً على رغم ما يقال في موضوع التناقض الداخلي الذي شهدته حركة القوميين العرب .
وعلى هذا الأساس ، فإن الجبهة الشعبية – حتى اللحظة الراهنة- تعتبر أن تجربتها التنظيمية والسياسية امتدادا متقدماً لتجربة حركة القوميين العرب ، وأن التاريخ السليم للجبهة بكل ما مثلته لابد وأن يبدأ من وضع حركة القوميين العرب ليس لناحية ما تطورت وانتهت إليه فحسب، بل في ما انطلقت منه أصلا .
إن البحث في "فلسطينية" حركة القوميين العرب خارج قوميتها نوع من العبث لا يوازيه إلا البحث في قومية الحركة خارج "فلسطينيتها" أو البحث في فلسطين خارج المكان والزمان العربي وخارج سايكس- بيكو الذي أنتج وعد بلفور، الذي أعاد إنتاج تجسيد لسايكس – بيكو، وبموازاة ما يبدو لقصيري النظر التباساً، فإن تفسير مؤسس الحركة القائد الراحل جورج حبش يبقى عصياً إذا لم تستوعب المسافة بين الفرد والزمن، فهو القائل: "حين يكون العرب بخير تكون فلسطين بخير" هذه المقولة ليست مجرد وجهة نظر، بل تعبير عن حقيقة موضوعية وتجد صدقيتها في جردة حساب تاريخية طويلة كامنة ليحكم في ضوئها.
 
ولادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
إذا كان لكل مرحلة ظروفها الموضوعية والذاتية ، فإننا نرى هنا أهمية التأكيد على أن الظروف المرتبطة بانطلاقة الجبهة الشعبية، كانت ظروفاً كونية تعج بالرؤى والحركات الثورية التحررية والتقدمية، التي ترى في الماركسية والاشتراكية العلمية وجهتها وبوصلتها الرئيسية ، ارتباطاً بالحالة الثورية في معظم بلدان العالم في تلك المرحلة عموماً وفي بلدان أوروبا خصوصاً، إلى جانب تفاعل المشاعر الثورية على المستوى الشعبي في كافة الأقطار العربية في سبيل النضال ضد الاستعمار والقوى الرجعية من أجل التحرر والاستقلال  من ناحية، وفي سبيل التقدم والتطور الاجتماعي والتنموي والعدالة الاجتماعية من ناحية ثانية.
وفي هذا المناخ، جاءت الجبهة الشعبية لتشكل أحد أبرز الفصائل التي تفاعلت مع هذا الحراك الثوري العالمي والقومي العربي.
بالطبع لابد من التأكيد على أن انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ترتبط ارتباطا وثيقا بهزيمة حزيران عام 1967م والدروس النظرية والسياسية والتنظيمية التي أفرزتها وبلورتها تلك الهزيمة التي ثبت من خلالها فشل برامج الأنظمة العربية، بما فيها تلك التي كانت توصف بالأنظمة الوطنية أو التقدمية .
لقد كانت هزيمة حزيران (يونيو) 1967، بكل آثارها الفكرية، والسياسية، هي الحدث الأبرز الذي حسم تحول معظم أجنحة حركة القوميين العرب إلى الماركسية .
وقد "انطبع فكر تلك الأجنحة (سواء في الجبهة الشعبية أو الجبهة الديمقراطية)، المتجه صوب الماركسية، خلال سنواته الأولى، بخصائص مميزة على المستويين، الايديولوجي والسياسي، كان أهم ما فيها ان تميزت بالتطرف الايديولوجي، والسياسي، والابتعاد الواضح من الماركسية السوفياتية" [1].
كما "أحدثت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 هزة عميقة في الفكر القومي الذي سيطر، سيطرة شبه تامة ، على قطاعات واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني، وكانت الهزيمة نقطة الانطلاق باتجاه تبني اعداد كبيرة ممن ينتمون إلى حركة القوميين العرب لفكر الطبقة العاملة، بديلاً من الفكر القومي، فقد كانت حركة القوميين العرب "أول حزب قومي يعترف، في أعقاب تلك الحرب، حزيران / يونيو 1967، بان ايديولوجيته وبرنامجه السياسي قد هزما، وأصبحا بلا فائدة، وانقلب القوميون العرب على ايديولوجيتهم، باعتبارها عقيدة مسؤولة جزئياً عن الهزيمة، لقد تخلوا عن كافة فرضيات وبناء الايديولوجية القديمة، وهيأوا أنفسهم ليبدأوا من جديد"[2].
وفي البيان الصادر على أثر الاجتماع الموسع الذي عقدته اللجنة التنفيذية القومية لحركة القوميين العرب ، في أواخر تموز (يوليو)  1967، حلل البيان أسباب الهزيمة ، فاعتبر انه "من خلال الهزيمة العسكرية التي أصيبت بها الجيوش (العربية)، اتضح، تماماً، ان الافق، الذي قادت البرجوازية الصغيرة ضمنه حركة الثورة العربية حتى الآن، ليس هو أفق هذه الحرب الطويلة النفس مع الاستعمار الجديد بكل قواعده المزروعة على الأرض العربية، وفي مقدمها اسرائيل". واستنتج البيان "ان متابعة الحرب مع الاستعمار الجديد، بكل أبعادها، الداخلية والخارجية، وبآفاقها الاقتصادية والسياسية والفكرية والعسكرية.. باتت تتطلب انتقال مقاليد القيادة إلى الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة الأكثر جذرية في مقاومة الاستعمار وحلفائه المحليين، بحكم مصالحها وطبيعة ايديولوجيتها؛ وتحت هذه القيادة، سوف يكون على البرجوازية الصغيرة وكل العناصر والقوى الوطنية والتقدمية أن تسهم بدورها في معركة التحرر الوطني"[3].
ففي ظل سقوط الأرض الفلسطينية كلها في قبضة الاحتلال الصهيوني، وسقوط الرهانات والآمال الجماهيرية الفلسطينية والعربية المعقودة على أنظمة البرجوازية الوطنية ، وفي ظل واقع منظمة التحرير الفلسطينية الذي يكاد يكون مرتبطا كليا بالجامعة العربية، تبلورت فكرة انطلاقة الجبهة الشعبية التي وجدت فرصتها العملية في التطبيق عبر حركة القوميين العرب وتنظيمها الفلسطيني.
وفي 11 كانون أول/ديسمبر 1967 أصدرت الجبهة الشعبية بيانها السياسي الأول الذي تحدثت فيه عن نشوئها وفلسطينيتها، ونظريتها القومية العربية الشاملة وإيمانها بوحدة القوى التقدمية وضرورة توحيد الكفاح الفلسطيني المسلح.
وحسب البيان السياسي الأول للجبهة الشعبية، بتاريخ 11/12/1967، ضمت الجبهة كلاً من منظمة أبطال العودة، وجبهة التحرير الفلسطينية والجبهة القومية لتحرير فلسطين (منظمة شباب الثأر).
وقد كان وزن حركة القوميين العرب هو الحاسم ضمن الجبهة الشعبية التي كانت اطار تحالف جبهوياً أكثر منها تنظيماً واحداً، حيث احتفظ كل تنظيم من تنظيمات الجبهة بوجوده الخاص، في اطار الجبهة.
"وعلى هذا الاساس، وعلى ضوء هذا التكوين، لم يكن مرسوماً ان تطرح الجبهة، في المرحلة الأولى من عمرها، رؤية سياسية يسارية كاملة لمعركة التحرير، منطلقة من النظرية الاشتراكية العلمية ومستندة اليها. فما كان مفهوماً ضمناً، في واقع الأمر، هو ان تطرح الجبهة فكراً تحررياً عاماً يحمل ملامح تقدمية، تتبلور، أكثر فأكثر، مع تبلور التجربة، هذا من ناحية فكر الجبهة السياسي؛ أما من ناحية التنظيم، فإنه لم يكن مرسوماً كذلك ان تكون الجبهة، في تلك المرحلة من تكوينها، تنظيماً حزبياً واحداً".
وبالفعل، فإن البيان السياسي الأول للجبهة الشعبية خلا من أي تحديد لهوية الجبهة الفكرية والتنظيمية، وأبرز ما ركز عليه البيان هو دعوة "كافة القوى والفئات الفلسطينية (إلى) الالتقاء الوطني الثوري العريض، من أجل الوصول إلى وحدة وطنية راسخة بين فصائل العمل الفلسطيني المسلح"، والتصميم على "رفض المذلة والمهانة والتسويات لتقف، اليوم، أمام جماهيرنا الشعبية واعدة اياها بأن تقدم اليها الحقيقة"[4].
لقد مرت الجبهة الشعبية عبر مسيرتها بعدد من المحطات أو المنعطفات الرئيسية التي تركت تأثيراً واضحاً على مسار التطور الفكري والسياسي والتنظيمي للجبهة منذ تأسيسها في 11/12/1967 إلى اليوم.
وفي هذا السياق يمكن تصنيف مسيرة الجبهة إلى سبعة محطات رئيسية شكلت كل منها تحولاً  وانعطافاً في مسار الجبهة .
 
المحطة الأولى أو المرحلة التأسيسية
في هذه المرحلة التأسيسية ، تبلورت فكرة تأسيس الجبهة الشعبية لحركة الشعب الفلسطيني وليس كحزب سياسي يقتصر على ذاته فحسب كما جرى لاحقاً ، فقد كان هدف قيادة حركة القوميين العرب من وراء تأسيس الجبهة الشعبية تحقيق الوحدة النضالية بين كافة القوى والفصائل الفلسطينية ، إدراكا منها أن طبيعة المعركة وأبعادها والقوى المعادية فيها تحتم تكتيل كل الجهود والصفوف الثورية لشعبنا في نضاله المرير والطويل ضد أعدائه، انطلاقاً من أن النضال من أجل تحرير فلسطين هو نضال من أجل الوحدة العربية والعكس صحيح .
كما أكدت الشعبية أن قتال الجماهير الفلسطينية فوق الأراضي المحتلة هو جزء من مسيرة الثورة العربية ضد الامبريالية العالمية وقواها العميلة في وطننا العربي، مما يستوجب ارتباطا عضويا بين كفاح شعبنا الفلسطيني وكفاح جماهير الشعب العربي في مواجهتها نفس الخطر ونفس الخصم ونفس المخططات، وأن كفاح الشعب الفلسطيني مرتبط عضويا مع كفاح قوى الثورة في الوطن العربي، ويتطلب تمتين التحالف مع كافة قوى الثورة والتقدم في العالم.
 
المحطة الثانية : المؤتمر الأول آب 1968 وانشقاق الجبهة الديمقراطية
في هذه المحطة ، المنعطف ، شهدت الجبهة الشعبية  احتدام حركة الجدل والحوار الداخلي بين العناصر القيادية والكادرية في الجبهة ، وقد كانت حركة الجدل والحوار تدور حول قضايا نظرية وسياسية وتنظيمية، وقد انتهت هذه المرحلة بانشقاق الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
فبعد أقل من أربعة شهور على تأسيسها، تفاقمت الخلافات الفكرية في الجبهة عموماً، وفي الساحات الخارجية، خصوصاً الأردن ولبنان ومصر، حيث تزايدت وتائر الحوار والاختلاف الداخلي الحاد في صفوف القيادة والكوادر القادمة من  حركة القوميين العرب ، وتمحور الخلاف حول القضايا الأيديولوجية من ناحية والموقف من البرجوازية العربية والأنظمة الوطنية من ناحية ثانية.
وبناءً على ذلك بادرت القيادة إلى التحضير لعقد المؤتمر الوطني العام ، منذ أوائل نيسان عام 1968 ، حيث تم إعداد مشروع الوثيقة الرئيسية التي عرفت بـ"وثيقة آب" وقامت قيادة الجبهة آنذاك، وقبل انعقاد المؤتمر الوطني الأول (مؤتمر آب 1968) بشهر على الأقل ، بتوزيع مشروع الوثيقة للنقاش ، حيث تم عقد المؤتمر في منطقة الأغوار في الأردن في أجواء غير مواتية إطلاقاً  إلى جانب تفاقم الصراعات الداخلية والتكتلات بصورة غير مسبوقة عشية المؤتمر ، وقد شكل غياب القائد جورج حبش الذي كان معتقلاً منذ 19 /3/1968 في سجون سوريا عاملاً مساعداً في مفاقمة الخلافات وعدم القدرة على الاحتواء المبكر لها .
وفي مثل هذا المناخ المشحون ، لم ينجح المؤتمر في استعادة الوحدة الداخلية ، السياسية والفكرية والتنظيمية لأعضائه، بل تكرست أسباب وعوامل الانشقاق الذي بات مؤكداً لأسباب وعوامل ذاتية ، لم تتفهم مضمون ومغزى الاختلاف الديمقراطي القائم على احترام الرأي والرأي الآخر، ولم تتفهم أيضاً مساحة التوافق السياسي والفكري بينهما، التي تجلت بوضوح في مجمل الأفكار والمقولات السياسية التي وردت في "وثيقة تموز 1967" التي قام بصياغتها القائد جورج حبش وتم إقرارها من قيادة الحركة آنذاك ، الأمر الذي كرس المظهر السلبي للعلاقات الداخلية، التي بررت نفسها عبر مواقف ورؤى أيديولوجية، يسارية طفولية أقرب إلى العدمية ، في مقابل بعض القيادات التي تشبثت بالمواقف والأفكار القومية التقليدية دون وعي منها لأهمية وضرورة تطوير الفكر القومي والتحامه بالفكر الماركسي ومنهجه.
انتخب المؤتمر لجنة مركزية جديدة سيطر عليها من اعتُبروا اليسار بنسبة عشرة إلى خمسة ، وكانت النتائج التنظيمية السبب الرئيس في تفجر الصراع بين الاتجاهين، فقد رفض الاتجاه الآخر النتيجة التنظيمية التي خرج بها المؤتمر، مع أن أفراده وافقوا على الخطة الأيديولوجية والسياسية.
وعلى أثر النتائج الأيديولوجية والسياسية والتنظيمية للمؤتمر، قرر أحمد جبريل وأحمد زعرور مع مجموعتهما "جبهة التحرير الفلسطينية" الانسحاب من الجبهة، في تشرين الأول (أكتوبر) 1968.
استمر الصراع داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حتى شباط (فبراير) 1969 (21/2/1969) حتى تكريس الانشقاق، وولادة الجبهة الديمقراطية ، ونجم عن ذلك أن الجبهة الشعبية أصبحت واقعياً، هي الفرع الفلسطيني لحركة القوميين العرب .
فور الانشقاق، وإعلان ولادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، "عقدت الجبهة الشعبية مؤتمرها المقرر في شباط (فبراير) 1969، وفي هذا المؤتمر تم تبني الوثيقة البرنامجية الجديدة للجبهة المعروفة باسم "الاستراتيجية السياسية والتنظيمية"[5].
وهكذا بات الطريق ممهداً أمام الانشقاق الذي تحقق بفعل أسباب ذاتية اساساً وبمساعدة وتشجيع من قيادة فتح وقيادة البعث الفلسطيني (الصاعقة) حيث طغت هذه الأسباب وتجاوزت العوامل الموضوعية آنذاك ، ونقصد بذلك التوافق والتقاطع في الرؤى والأفكار المشتركة -من حيث الجوهر – بين وثيقة تموز 1967 وبين نصوص وثيقة آب 1968 وطروحاتها الفكرية وتحليلاتها السياسية ، حيث أن هذه الوثيقة  تضمنت  في نصوصها وجوهرها، مجموعة من الأفكار والمقولات والاستنتاجات التحليلية الخاصة بالنظام العربي الرسمي، وهزيمة حزيران 1967، متوافقة أو مستوحاة من "وثيقة تموز" التي صاغها القائد جورج حبش على إثر هزيمة حزيران.
وارتباطاً بذلك ، فإن الانشقاق لم يكن ناتجاً عن رؤيتين أو موقفين متناقضين، أحدهما "يميني" والأخر"يساري" بقدر ما كان انعكاساً لمواقف ذاتية ناجمة عن تراكمات سالبة تركت بصماتها على طبيعة العلاقات الشخصية التي سادت في قيادة حركة القوميين العرب تاريخياً، منذ منتصف الستينات حتى تأسيس الجبهة الشعبية وصولاً إلى انعقاد مؤتمر آب وأجواءه الانقسامية، التي حكمت العلاقة التنظيمية بين معظم أعضاء الهيئة القيادية الأولى في الحركة في تلك المرحلة، وعكست نفسها على بقية الأعضاء والمراتب الأخرى بصورة ذاتية غير موضوعية .
 وهذا ما حصل بالفعل حيث تكرس الانشقاق في 22/ فبراير / 1969.
إن هذا الانشقاق الذي قد يتفق البعض على أنه مَثّل  انشقاقاً فكرياً وسياسياً وتنظيمياً ، رغم كل دوافعه ومظاهره الذاتية والشكلية التي افتقدت الأسباب الجوهرية أو الموضوعية ، إلا أن نتائجه الفعلية أدت إلى تفكيك بنية الحركة وهزها من الداخل، ولكن على الرغم من ذلك الانشقاق ، وما ادى إليه من نتائج سلبية ، وما أحدثه من إرباكات اعاقت تقدم الجبهة الشعبية عبر دورها الطليعي في تلك المرحلة ، إلاّ أن القائد الراحل الحكيم ، وبعد أن تم اختطافه وتحريره من السجون السورية ، ومع رفاقه في قيادة الجبهة ، استطاعوا تجاوز نتائج الانشقاق ، عبر استعادتهم للثقة المتبادلة بينه وبين قواعد وكوادر الجبهة ، وبالتالي الامساك مجددا ً بدفة المركب أو بمقود الجبهة ، واستعادة وحدتها التي لا تتناقض مع تعدديتها الديمقراطية  الداخلية، متجاوزين أسباب الانشقاق ونتائجه على الأرض رغم كل مرارتها ، وتمكنوا خلال فترة قصيرة من عقد المؤتمر الوطني الثاني للجبهة الشعبية ، الذي أقر تبني الماركسية اللينينية وتحويل الجبهة إلى حزب ماركسي ، وهو ما يؤكد ضعف وتهافت مبررات الانشقاق ودعاوي يمينية الجبهة وقيادتها.
وبالفعل عقدت الجبهة مؤتمرها الوطني الثاني في شباط (فبراير) 1969 وفيه "عالجت مسألة الانشقاق وأوضحت البرنامج السياسي والتنظيمي ، كما قامت  بعملية بلورة لموقفها، عبر برنامج سياسي وتنظيمي، كما قام المؤتمر بانتخاب هيئات قيادية ومركزية جديدة حلت فيها عناصر محل العناصر المنشقة.
 
المحطة الثالثة : المؤتمر الوطني الثاني - شباط 1969
بعد انشقاق الجبهة الديمقراطية دخلت الجبهة الشعبية في المحطة الثالثة من تطورها في صيرورة التحول إلى فصيل شيوعي، إلى حزب ماركسي – لينيني، إلى فصيل للطبقة العاملة، وهذه المرحلة التي بدأت في شباط 1969م تنقسم إلى عدة مفاصل ومواقف لاحقة يمكن قراءتها من خلال المؤتمرات الوطنية العامة للجبهة لكون هذه المؤتمرات تجسد المحطات التي يمكن أن يقرأ من خلالها المسار الفكري والسياسي للجبهة.
ففي شباط 1969م عقدت الجبهة الشعبية مؤتمرها الثاني الذي أقر وثيقة الإستراتيجية السياسية والتنظيمية التي شكلت محطة هامة في مسيرتها وتطلعها إلى التحول إلى تنظيم ماركسي – لينيني مقاتل، وأصدرت مجلة الهدف التي ترأس تحريرها الشهيد الكاتب والروائي غسان كنفاني عضو المكتب السياسي.
إن تأكيد وثائق الجبهة الشعبية الصادرة عن مؤتمرها الوطني الثاني، على تبني الماركسية اللينينية وتحويل الجبهة إلى حزب بروليتاري، جاء في سياق استمرارها في التمسك بمواقفها الوطنية والقومية، بالرغم من أن هذا المؤتمر أسدل الستار على حركة القوميين العرب وأنهى وجودها التنظيمي في الساحة الفلسطينية، حسب ما ورد في تقريره الصادر في شباط 1969 ، فقد رسم مؤتمر شباط (فبراير) الخط الاستراتيجي التنظيمي الموجه والمرشد لمستقبل العلاقات بين الحركة والجبهة.
وهذا الخط هو العمل على انصهار تنظيم الحركة في الساحة الفلسطينية ضمن تنظيم الجبهة والعمل في نفس الوقت على انصهار تنظيم أبطال العودة ضمن تنظيم الجبهة، مع التخطيط والعمل على الارتقاء بالحياة التنظيمية للجبهة إلى مستوى الحياة الحزبية الثورية الملتزمة والمنضبطة والواعية.
وعلى هذا الأساس، لا يعود فهمنا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هو فهمنا لها لدى تأسيسها – أي جبهة بالمعنى المعروف للجبهات السياسية، فكراً وعلاقات تنظيمية – وإنما يصبح فهمنا للجبهة وتوجهنا في بنائها شيء مختلف.
ويستطرد التقرير بالقول: "إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، من حيث فهمنا لها الآن وتوجهنا في بنائها، هي : الحزب الثوري المستند إلى الإستراتيجية السياسية والإستراتيجية التنظيمية التي اتضحت من خلال هذا التقرير، وأثناء عملية الانصهار التام هذه بين الحركة والجبهة، فان الشعار السليم الذي نهتدي به هو : "الحركة في خدمة الجبهة وليس الجبهة في خدمة الحركة" ، الامر الذي يفرض على الرفاق في الجبهة مراجعة ذلك الشعار ومن ثم إعادة احياء وتفعيل البعد القومي للصراع من منظور ماركسي ينطلق من الدعوة الى تمتين العلاقة الفكرية والسياسية والتنظيمية بين كافة فصائل وأحزاب اليسار في الوطن العربي ، ومن ثم البدء بإجراء الحوارات المعمقة مع كافة القوى اليسارية العربية ، بما يحقق بلورة وتأسيس الحركة الماركسية العربية الواحدة او الحركة الاشتراكية العربية الواحدة ، وتفعيل نضالها ضد أنظمة التبعية واسقاطها ومن ثم امتلاك مقومات القوة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية الكفيلة بمجابهة وانهاء الوجود الامبريالي/ الصهيوني من بلادنا، وذلك تجسيدا لأهمية الفكر السياسي  كما نصت عليها وأكدتها وثيقة المؤتمر الثاني  بأن " الشرط الأساسي من شروط النجاح هو الرؤية الواضحة للأمور، والرؤية الواضحة للعدو والرؤية الواضحة لقوى الثورة.
على ضوء هذه الرؤية تتحدد إستراتيجية المعركة، وبدونها يكون العمل الوطني عفوياً ومرتجلاً، لا يلبث أن ينتهي إلى الفشل".
ذلك إن ما يقرر النجاح هو الرؤية الواضحة للأمور وللقوى الموضوعية . من هنا تبدو واضحة أهمية الفكر السياسي العلمي الذي يرشد الثورة ويحدد لها إستراتيجيتها. فالفكر السياسي الثوري ليس فكراً مجرداً معلقاً في الهواء، أو مجرد ترف فكري، أو متعة فكرية يتسلى بها المثقفون، وبالتالي نستطيع إذا أردنا أن نتركه جانباً كشيء مجرد أو ترف لا ضرورة له. إنما الفكر الثوري العلمي هو الفكر الواضح الذي تستطيع به الجماهير أن تفهم عدوها، ونقاط ضعفه ونقاط قوته، والقوى التي تسنده وتتحالف معه، وبالمقابل تفهم قواها هي، قوى الثورة، كيف تعبئها وتجندها، وبأي أسلوب وكيف ؟
إن الفكر السياسي الثوري هو الذي يفسر لجماهير شعبنا أسباب فشلها حتى الآن في مواجهة العدو. لماذا فشلت ثورتها المسلحة عام 1936 ؟ لماذا فشلت محاولاتها قبل 1936؟ ولماذا حصلت هزيمة حزيران 1967. وما هي حقيقة التحالف المعادي الذي تخوض ضده معركتها؟ ومن خلال أي تحالف تستطيع أن تجابهه وبأي أسلوب؟ كل ذلك بلغة واضحة تفهمها الجماهير.
فما معنى أن نقاتل بدون فكر سياسي؟ معنى ذلك -حسب الوثيقة- أن نقاتل بشكل مرتجل، وأن نقع في أخطاء دون أن نعي خطورتها وطريقة معالجتها، وأن تتحدد مواقفنا السياسية بشكل عفوي دون وضوح الرؤية، وينتج عن ذلك عادة تعدد في المواقف، وتعدد المواقف معناه تبعثر في القوى، وتشتيت لها، فتكون النتيجة أن تتوزع قوى شعبنا الثورية في أكثر من طريق بدلاً من أن تصب كلها في طريق واحد لتشكل قوة متراصة واحدة .
ثم تضيف الوثيقة " ولكي يقوم الفكر السياسي بهذا الدور الثوري لا بد أن يكون فكراً علمياً أولاً، وواضحاً بحيث يكون في متناول الجماهير ثانياً، ومتجاوزاً للعموميات وموغلاً قدر الإمكان في الرؤية الإستراتيجية والتكتيكية للمعركة بحيث يشكل دليلاً للمقاتلين في مواجهة مشكلاتهم ثالثاً.
لقد جاء الوقت -كما تؤكد الوثيقة- لتفهم جماهيرنا العدو الذي تواجهه على حقيقته لأنه من خلال هذا الفهم تتضح أمامها صورة المعركة ، إن هذا العدو يتمثل في : أولاً : اسرائيل، ثانياً : الحركة الصهيونية العالمية،  ثالثاً: الامبريالية العالمية، رابعاً: الرجعية المتمثلة بالإقطاع والرأسمالية .
إن مثل هذه الرؤية هي التي تحدد :
1- أهمية النظرية الثورية والفكر السياسي الثوري .
2- التنظيم السياسي الحديدي الذي يقود قوى الثورة.
3- طبيعة وحجم التحالفات الثورية التي يجب تجنيدها لمواجهة كل معسكر الخصم .
أما على الصعيد الفلسطيني فتضيف الوثيقة "لابد من تحديد قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني من وجهة نظر طبقية.إن القول بأن الشعب الفلسطيني بكافة طبقاته هو في نفس الوضع الثوري تجاه اسرائيل وإن كافة طبقات الشعب الفلسطيني لديها الطاقة الثورية نفسها بحكم وجودها بدون أرض وخارج وطنها هو قول مثالي وغير علمي.
إن هذا القول يمكن أن يكون صحيحاً لو كان الشعب الفلسطيني بكامله يعيش نفس هذه الأوضاع، بل يعيش أوضاعاً حياتية متمايزة فإننا لا نستطيع علمياً تجاهل هذه الحقيقة".
لذلك كله " فإننا في تحديد قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني لا بد من الانطلاق من وجهة نظر طبقية، لأن الفكر اليميني في الساحة الفلسطينية والعربية يحاول أن يلغي أو يميع النظرة الطبقية للأمور، وبالتالي لا بد من دحض كافة محاولاته على هذا الصعيد، إذ أن معارك التحرر الوطني هي أيضاً معارك طبقية ، معارك بين الاستعمار والطبقة الإقطاعية والرأسمالية المرتبطة مصالحها مع مصالحه .
" خلاصة القول -كما ورد في وثيقة المؤتمر الثاني- إن نظرتنا الطبقية لقوى الثورة الفلسطينية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الوضع الطبقي في المجتمعات المتخلفة وكون معركتنا معركة تحرر وطني، كذلك خصوصية الخطر الصهيوني.ولكن ذلك يعني أن نحدد علمياً طبقات الثورة وأدوارها على ضوء هذه الخصوصيات،ولا يجوز أن يعني إلغاء النظرة الطبقية في تحديد قوى الثورة ".
" كما أن الفكر اليميني هو الذي يحاول إلغاء النظرة الطبقية لدى تحديد قوى الثورة وذلك لكي يتيح للبرجوازية إمكانية التسلل لمراكز القيادة وإجهاض الثورة عند الحدود التي تفرضها مصالحها ، لذلك يجب أن نواجه بكل قوة كافة الأفكار التي تحاول حجب الحقائق الطبقية الموضوعية بستار من الضبابية والغموض".
" فإن صعود طبقة العمال واستراتيجيتهم الجذرية الحاسمة هي وحدها القادرة على مواجهة معسكر الخصم ".
اما بالنسبة للموقف من البرجوازية الفلسطينية الكبيرة، فإن الوثيقة تؤكد في تحليلها لهذه الطبقة على أنها " في الأساس برجوازية تجارية ومصرفية تتشابك مصالحها وتترابط مع مصالح الامبريالية التجارية ومصالحها المصرفية.
كما تناولت الوثيقة دور الحزب الثوري كما يلي:
" إن الثورة الفلسطينية تتطلب بالضرورة الحزب الثوري الفلسطيني، لا حزب ثوري بدون نظرية ثورية:
إن الأساس في بناء الحزب الثوري هو النظرية الثورية التي يلتزمها. بدون هذه النظرية يكون الحزب مجرد تجمع يتحرك على التحكم بالأحداث. إن النظرية الثورية معناها الرؤية الواضحة والنهج العلمي في فهم وتحليل الأحداث والظواهر، وبالتالي القدرة على القيادة".
وتضيف الوثيقة إن " النظرية الثورية التي تطرح كل قضايا الإنسان والعصر بشكل علمي وثوري هي الماركسية. كسلاح نظري ثوري رهن بكيفية فهمها من ناحية وبصحة تطبيقها على واقع معين ومرحلة معينة من ناحية أخرى، وإن جوهر الماركسية هو النهج الذي تمثله في رؤية الأمور وتحليلها وتحديد اتجاه حركتها. وبالتالي فإن الفهم الثوري لماركسية هو فهمها كدليل للعمل وليس كعقيدة ثابتة جامدة ".
وفي أيلول/ سبتمبر 69، قررت اللجنة المركزية تأسيس "مدرسة الكادر" كوسيلة للمساعدة على بناء "حزب العمال" . وقد افتتحت المدرسة في أوائل شباط/فبراير 1970 بإدارة المقدم الهيثم الأيوبي  شارك فيها عدد من المثقفين اليساريين العرب خاصة من مصر وسوريا، . غير انه لم يكن هناك محاولة جادة لتحليل المشكلات المحددة التي تواجه الفلاحين والعمال والشرائح الاجتماعية الفقيرة.
 
المنطلقات الأساسية للجبهة كما حددتها وثيقة المؤتمر الثاني:
                    ‌أ-      تحرير فلسطين ، وإقامة الدولة الديمقراطية الاشتراكية على كامل التراب الوطني الفلسطيني ، وعاصمتها القدس.
                  ‌ب-    التصدي للمخططات الامبريالية، والتحالف مع حركة الثورة العربية والعالمية.
منطلقات فكرية وسياسية:
           ‌أ-      الثورة الفلسطينية تتطلب بالضرورة الحزب الثوري الفلسطيني .
         ‌ب-    تسعى الجبهة لإنشاء دولة وطنية ديمقراطية اشتراكية يتساوى فيها العرب واليهود في الحقوق والواجبات.
         ‌ج-    إذا كان مفهوم الوحدة الوطنية يعني إدخال القيادات التقليدية والبرجوازية والرجعية إلى صفوف الثورة بهدف ضربها، فإن ذلك لا يخدم الوحدة الوطنية أو الثورة.
          ‌د-     التحالف الصهيوني الاستعماري يتطلب تحالف قوى الثورة الفلسطينية مع قوى الثورة العربية لصد هجمته أولاً، ولإزالة كيانه ثانياً.
في هذا السياق ، أشير إلى أن الجبهة الشعبية بعد أحداث أيلول الأسود في الأردن 1970 بدأت علاقتها في التطور مع الاتحاد السوفياتي "حيث قام وفد مكون من ستة أعضاء في المكتب السياسي للجبهة الشعبية برئاسة تيسير قبعة ، الذي كان عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حينها ، بزيارة لموسكو (تشرين الأول- أكتوبر 1971) تلبية لدعوة من لجنة التضامن السوفياتية .
ويبدو أن هذا الانفتاح على السوفيات قد أثمر في احداث تعديلات جزئية في مواقف الجبهة الشعبية من السوفيات، والتأثر ببعض المواقف السوفياتية، خاصة فيما يتعلق بالعمليات الخارجية للجبهة الشعبية. فقد أصدرت الجبهة قراراً بإيقاف عمليات خطف الطائرات، وقد برر د. حبش هذا القرار بالقول: "لابد انكم تعرفون ان هذه العمليات كانت تلقى تأييد جماهيرنا وحماسها بشكل عام؛ غير اننا بالنسبة إلى أي خط من خطوطنا التكتيكية والاستراتيجية، فإننا، دائماً، نتمتع بالقدرة على مراجعة هذا الخط، في ضوء ما تفرزه الممارسة من نتائج، وبالنسبة إلى هذا الخط بالذات – خط خطف الطائرات، وجدت، لدى زيارتي لعدد من البلدان الاشتراكية، ان هذا الموضوع – المفهوم من قبلنا ومن قبل جماهيرنا – ليس مفهوماً من قبل الأصدقاء، وأضاف قائلاً:
"ان تحالفاتنا الثورية العالمية موضوع أساسي جداً بالنسبة الينا؛ واننا لا نستطيع ان نتصور قدرتنا على الانتصار على معسكر اسرائيل والامبريالية والصهيونية والرجعية، الا من خلال كونه جزءاً لا يتجزأ من معسكر الثورة العالمية المعادي لمعسكر الامبريالية".
لكن هذا الموقف المتقدم من السوفيات والمعسكر الاشتراكي لم يرق إلى مستوى وضع الاتحاد السوفياتي في مقدم قيادة الثورة العالمية ضد الامبريالية ، وبالتالي في مقدم التحالفات الدولية. ففي المؤتمر الثالث للجبهة (آذار – مارس 1972) ، وضعت الجبهة الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في المرتبة الثانية من التحالفات الدولية بعد حركات التحرر الوطني ، وان كانت أجرت تعديلاً في موقفها من المعسكر الاشتراكي بتأكيد "الايمان بالضرورة الراهنة، والحتمية المقبلة، لوحدة المعسكر الاشتراكي .
كان من الواضح أن الجبهة الشعبية تسير بشكل بطيء. وحذر، باتجاه السوفيات، وبطريقة يمكن وصفها بخطوتين إلى أمام وخطوة إلى وراء.
وقد واجه هذا المسار تحدياً هاماً في أعقاب حرب تشرين الأول (اكتوبر) 1973، وما تمخض عنها من اندفاع في جهود التسوية وتشكيل الجبهة الشعبية لجبهة الرفض الفلسطينية. هذا التحدي، أو المنعطف ، أصاب العلاقات بين "الشعبية" والسوفيات بسلبية وبرود واضحين؛ فلم تشارك الجبهة الشعبية ضمن الوفد الفلسطيني، برئاسة عرفات، الذي قام بزيارة موسكو في أواخر تموز (يوليو) 1974 ، حيث كانت هذه الزيارة الأولى التي تتم بدعوة رسمية من الزعيم السوفياتي ليونيد بريجينيف "[6].
 
المحطة الرابعة : المؤتمران الوطنيان الثالث والرابع
أولاً : المؤتمر الوطني الثالث :
عقدت الجبهة مؤتمرها الوطني الثالث في 8 / آذار/1972 الذي أقر وثيقة "مهمات المرحلة الجديدة" والنظام الداخلي الجديد وأعطى عملية التحول وبناء الحزب الثوري ايدولوجياً وتنظيمياً وسياسياً الصدارة، إيماناً منه بأن قدرة الثورة على الصمود والاستمرار تتوقف على صلابة التنظيم.
لقد جعل المؤتمر الوطني الثالث للجبهة بناء الحزب الثوري هو الحزب الذي يعتمد أيديولوجية الطبقة العاملة دليلاً نظرياً، ويتشكل من طلائع الطبقة العاملة في تكوينه الطبقي.
لقد مثل عقد المؤتمر الوطني الثالث للجبهة محطة هامة على طريق تحول الجبهة من تنظيم برجوازي صغير إلى حزب ماركسي لينيني" ، فإذا كان المؤتمر الثاني للجبهة في نهاية شباط 1969، قد أرسى المقدمات الأيديولوجية السياسية لعملية التحول (الإستراتيجية السياسية والتنظيمية) فان المؤتمر الثالث قد أرسى المقدمات والأسس التنظيمية (إقرار النظام الداخلي)، كذلك طور المقدمات السياسية الأيديولوجية كما وردت في التقرير السياسي للمؤتمر الثالث.
 وقبيل المؤتمر (أول آذار 1972) أعلنت مجموعة من كوادر وأعضاء الجبهة، أطلقت على نفسها اسم "الجبهة الشعبية الثورية لتحرير فلسطين" انشقاقها عن الجبهة طارحة سلسلة من المواقف التي أعلنت فيها اختلافها مع الجبهة.
واعتبرت الجبهة الثورية، من بين أسباب انشقاقها، "إن الخط العام لسياسة الجبهة (الشعبية) هو خط يعبر عن الطبيعة الحقيقية لتكوين الجبهة، وهي الطبيعة الطبقية والنظرية البرجوازية الصغيرة، ومن هنا، ولأن الخط السياسي للجبهة لم يكن خطأً جذرياً، فإن سلسلة من الصراعات حول مجمل القضايا النظرية، والسياسية، والتنظيمية، التي تشكل الخط العام للحركة الثورية الفلسطينية، قد احتدمت، وانقسمت الجبهة الشعبية على أساسها إلى فريقين: الأول "يساري" ، والآخر "يميني"[7]، حسب البيان الانشقاقي للجبهة الثورية التي اندثرت بعد أشهر قليلة من انشقاقها.
وقد وقف المؤتمر الثالث في أحد محطاته أمام ظاهرة الانشقاق المذكورة فحلل أسبابها وحدد المواقف منها:
أما أسباب الظاهرة الانشقاقية حسب قرارات المؤتمر فهي:
1-   عدم اكتمال تحول الجبهة الشعبية من تنظيم يساري راديكالي إلى تنظيم ماركسي – لينيني.
2-   عامل النزق والنفس القصير والمزايدة تحت ستار اليسار والماركسية اللينينية لدى البعض.
3-   أزمة حركة المقاومة ومحاولات ضربها من الداخل من بعض الدول العربية، وتواطؤ بعض فصائلها لضرب الجبهة الشعبية بشكل خاص.
أما على صعيد الوضع العربي فقد عالج تقرير المؤتمر الثالث مخططات النظام الرجعي الأردني ضد المقاومة الفلسطينية وحدد بوضوح أخطاء المقاومة وأخطاء يسارها في التعامل أثناء وجودها في الأردن.
أما بالنسبة للوضع الفلسطيني ، فقد تحدث التقرير باستفاضة ، وأشار إلى أن المقاومة الفلسطينية بحاجة إلى:
1.   نظرية ثورية لقيادة الثورة وتحديد نهجها ومواقفها بصورة صائبة.
2.   حزب ثوري يقود حركة المقاومة بأكملها.
3.   تشكيل جبهة وطنية عريضة على أسس جبهوية سليمة، على أن يقودها الحزب الثوري.
وأشار التقرير إلى أن استمرار خضوع المقاومة لقيادة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة لا زال يحول دون تطبيق وتنفيذ الحاجات الملحة المذكورة.
لقد شكل المؤتمر الثالث فعلا وحقا محطة هامة على طريق مسيرة التحول، وساهم في بلورة الأسس المطلوبة لهذه المسيرة، كما ساهم في بلورة مواقف الجبهة تجاه العديد من القضايا مثل: وحدة م.ت.ف، التحالف والصراع مع الأنظمة العربية، الموقف من التناقضات داخل الكيان الصهيوني، النضال داخل الوطن المحتل وآفاقه المستقبلية، التحديد الدقيق لسياسة العدو داخل الوطن المحتل، وهو التحديد التي لا يزال يحتفظ بصحته حتى المرحلة الراهنة.
وإذا كانت أعوام 68 و 1969 قد أرست الأسس السياسية والأيدلوجية للتحول نحو حزب ماركسي – لينيني، فقد جاء المؤتمر الثالث ليرسي الأسس التنظيمية، ولم يبق بعد ذلك سوى النضال الداخلي الحثيث من اجل ترجمة الأسس التي تم اعتمادها وتطبيقها في الحياة الداخلية للجبهة.
لكن يبدو أن انغماس قيادة الجبهة الشعبية في العمل لتصعيد فعاليتها ونشاطها السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري والعسكري ضد العدو الصهيوني،  كان له أثره في تأخير عملية التحول، وبالتالي لم يكن من المصادفة في شيء أن يُعْقَد المؤتمر الرابع تحت شعار "المؤتمر الرابع خطوة هامة على طريق استكمال عملية التحول وبناء الحزب الماركسي-اللينيني".
 
ثانياً : المؤتمر الوطني الرابع :
وفي الفترة الممتدة من 28/4 – 3/5/1981م عقدت الجبهة مؤتمرها الوطني الرابع تحت شعار "المؤتمر الرابع خطوة هامة على طريق استكمال عملية التحول لبناء الحزب الماركسي اللينيني والجبهة الوطنية المتحدة وتصعيد الكفاح المسلح وحماية وجود الثورة وتعزيز مواقعها النضالية، وضد نهج التسوية والاستسلام وتعميق الروابط الكفاحية العربية والأممية" .
لقد شكل هذا المؤتمر محطة نظرية هامة على طريق استكمال عملية تحول الجبهة إلى حزب ماركسي لينيني وأصدر أربع تقارير هي : التقرير السياسي ، التقرير التنظيمي ، التقرير العسكري ، التقرير المالي .
وكان التقرير السياسي هو الأهم من بين هذه التقارير، حيث عَكَسَ بوضوح "تكوين الجبهة الماركسي اللينيني وبنيتها الأيديولوجية والسياسية" ، كما عكس جرأة الجبهة في نقد مواقفها الخاطئة نقداً ذاتياً صارماً ، بما يؤكد على أن التقرير السياسي للمؤتمر الرابع، شكل بحق وثيقة من بين أهم الوثائق التي صدرت عن حركة التحرر الوطني والقومي الديمقراطي العربي بأسره ، فعلى صعيد الوضع الفلسطيني أشار التقرير إلى " أن مرحلة كامب ديفيد قد وضعت النضال الوطني الفلسطيني أمام مرحلة أشد تعقيداً من كل المراحل السابقة ، فهذه المرحلة تتسم أولاً بنمو قوة الكيان الصهيوني على الصعيدين العسكري والاقتصادي، وبالتالي زيادة نفوذه وهيمنته في المنطقة العربية".
كما أشار التقرير أيضاً إلى أن " السمة الخاصة لمرحلة كامب ديفيد ، تتمثل اليوم بانتقال عدد من الدول العربية إلى مواقع التحالف مع العدو الصهيوني.
ويضيف التقرير في تحليله للوضع الفلسطيني / القسم الثالث، بأن " نضال شعبنا الفلسطيني يشهد اليوم تعقيدات جديدة وصعوبات إضافية، ونتيجة لهذا الوضع – مضافاً إلى العجز العربي الرسمي وواقع حركة التحرر العربية – فإن عنوان المخطط المعادي هو: تصفية القضية الفلسطينية وليس تسوية القضية الفلسطينية... وتصفية الثورة الفلسطينية وليس مجرد تحجيم الثورة أو تدجينها من خلال صفقة تسوية يعقدها مع قيادة الثورة ... هذه هي خصوصية المرحلة على الصعيد الفلسطيني" .
وبالتالي فإن ما يهمنا كثورة فلسطينية – كما يضيف التقرير السياسي للمؤتمر الرابع – يتركز في نقطة جوهرية واحدة تتعلق بجوهر التحليل وجوهر الخط السياسي في الدفاع عن استراتيجية وتكتيكات الجبهة ورؤيتها ومبادئها وسياساتها ، حيث يحذر التقرير من " فرض مشروع الإدارة الذاتية من خلال محاولة تصفية مقاومة جماهيرنا داخل فلسطين " .
وفي هذا الجانب تحديداً تتجلى الرؤية الثاقبة للجبهة كما وردت في التقرير السياسي للمؤتمر الرابع الذي أكد على ، " أن سقف مشروع الإدارة الذاتية لا يتجاوز إعطاء سكان الضفة الغربية وقطاع غزة حكماً ذاتياً يقتصر على إدارة شؤونهم الحياتية ... وتبقى " إسرائيل " هي الأقدر على فرض ترجمتها الخاصة للاتفاق ، وهي ترجمة تقوم على أساس سيادة إسرائيل الكاملة على كل شبر من فلسطين ، وأن القدس هي عاصمة الكيان الصهيوني إلى الأبد، وان حق الكيان الصهيوني في إقامة المستوطنات حق لا يناقش ... إلى جانب سياسة الإلحاق الاقتصادي ومصادرة المياه والتحكم بأوضاع السوق وأملاك الغائبين وطمس الشخصية الوطنية وتبديد التاريخ والثقافة الوطنية الفلسطينية ، حيث أن الوجود الصهيوني قائم على أساس أن مستقبله مرهون بالقضاء على الشخصية الوطنية لشعبنا ، واستناداً إلى هذا الفهم الصهيوني ، تمارس سلطات الكيان الصهيوني العنصري سياساتها اليومية ".
ومن هنا " فإن المهمة الأساسية من مهمات الثورة الفلسطينية في هذه المرحلة –حسب التقرير- هي النضال الجاد والمتصل لإحباط مؤامرة الحكم الذاتي، وفي هذا الجانب أكد التقرير على ما يلي:
1.     إن الثورة الوطنية الديمقراطية ، ومن ضمنها مرحلة التحرر الوطني، تمثل بمجموعها مرحلة عامة واحدة، تتلوها مرحلة الثورة الاشتراكية. ومن هنا فإن أي هدف مرحلي فلسطيني يندرج ضمن إطار هذه المرحلة الواحدة .
2.     إن تحرير أي جزء من الأرض الفلسطينية يتطلب كما ذكرنا توفر ظروف موضوعية عربية غير متوفرة حالياً. وان قيام الثورة الفلسطينية نفسها ببدء تحرير الأرض الفلسطينية، يتطلب انجاز تغيير ثوري في الأردن.
وأشار إلى "أن المرحلة القائمة اليوم، وفي هذه اللحظة السياسية هي مرحلة حماية الثورة من محاولات تصفيتها، وبرنامجنا لمواجهتها عنوانه برنامج الصمود"، اما بالنسبة للتناقض مع الرجعية العربية، فقد أكد التقرير على أنه تناقض رئيسي، إلى جانب تأكيده مجدداً أن الجبهة لا تؤمن بشعار "عدم التدخل في شؤون الدول العربية في دائرة الصراع، وترى أن التحديد العلمي لموقع "الرجعية العربية" ، كقوة من قوى الخصم في المعركة المحتدمة بين الجماهير العربية وقواها الوطنية والتقدمية من جهة، وبين الامبريالية والصهيونية من جهة ثانية ، يحمي الثورة الفلسطينية من مناورات ومخططات القوى الرجعية، وغيابه يعني غياب الرؤية الواضحة. ولا يعني ذلك أن تقوم الثورة الفلسطينية بمهمة التغيير في البلدان العربية وإسقاط الأنظمة، بل يعني "التحالف مع حركة الجماهير العربية وقواها التقدمية لإسقاط أي نظام خائن للقضية الفلسطينية".
ضرورة الترابط المتبادل بين النضال الوطني الفلسطيني والنضال القومي العربي: فشعار استقلالية العمل والقرار الفلسطينيين شعار سليم عندما تتم ترجمته على قاعدة حماية الثورة الفلسطينية من الأنظمة العربية الرجعية والبرجوازية التي تحاول احتواءها، ولكنه يصبح شعاراً غير سليم إذا قصد به حصر معركة التحرير بالشعب الفلسطيني ، إذ يؤدي ذلك إلى حرمان النضال الوطني الفلسطيني من توافر الشروط العربية الموضوعية التي تتطلبها معركة تحرير فلسطين.
وفي الفصل السابع استعرض التقرير السياسي للمؤتمر الرابع ، المهمات التنظيمية المركزية الإستراتيجية على الصعيد العربي وحددها كما يلي :
أولاً:  النضال الجاد من أجل تحقيق وحدة الحركة الشيوعية على الصعيد القطري .
ثانياً:  النضال الجاد من أجل إقامة الجبهة الوطنية التقدمية على الصعيد القطري .
ثالثاً:  النضال الجاد والدؤوب والمثابر وطويل النفس من أجل بناء الحزب الشيوعي العربي قائد الثورة الوطنية الديمقراطية العربية المتصلة بالثورة الاشتراكية : إن وحدة الحركة الشيوعية العربية وموضوعة الحزب الشيوعي العربي ترتبط نظرياً بموضوعة الأمة العربية وتوفر عوامل وحدتها ، كما ترتبط بالوقت نفسه بموضوعة الطبقة العاملة ودورها القيادي في المرحلة الثورية الراهنة وهي مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية .
رابعاً: النضال الجاد من أجل إقامة الجبهة القومية التقدمية على الصعيد العربي .
وفي القسم الخامس والأخير حدد التقرير السياسي للمؤتمر الرابع "المهام العاجلة لاستكمال عملية التحول وتطور الجبهة مؤكداً على اولوية وأهمية العامل الذاتي (الحزب) "المتمثل بالقناعة بضرورة الالتزام بالماركسية القضية الجوهرية بالنسبة لفصائل الديمقراطية الثورية، وبدون ذلك كان يستحيل على هذه الفصائل أن تتحول تلقائياً وبفعل الظروف الموضوعية وحدها إلى مواقع جديدة"، وفي هذا الجانب يؤكد التقرير:
إن عملية التحول إلى حزب ماركسي لا تتم بدون خوض نضال حزبي داخلي، يصل في بعض الفترات إلى شكل من أشكال الصراع بين القوى المؤمنة بعملية التحول، وبين الأفكار والعادات التي بني عليها التنظيم أصلا من جهة، ومع عناصر غير مؤمنة بالتحول أو تقع نتيجة عدم وعيها فريسة الانتهازية اليمينية أو المراهقة اليسارية".
 ويضيف التقرير "ومن خلال عملية النضال هذه، تتجذر مواقع التنظيم وتتعمق مفاهيم الاشتراكية العلمية بصفوفه، ويطرد العناصر المعرقلة لعملية التحول. 
و بدون خوض عملية النضال الداخلي هذه على قاعدة التخلص من مفاهيم وعادات البرجوازية في التنظيم وفي الممارسة، فإن استكمال التحول يواجه بمخاطر حقيقية، فتجربة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خلال المرحلة الماضية واجهت الكثير على هذا الصعيد.  فلقد واجهنا الانتهازية اليمينية المؤمنة قولا بالتحول والتي عملت فعلا على ضرب عملية التحول.  وكذلك واجهتنا الانتهازية اليسارية التي كانت تسعى لقفزات بالهواء أوصلتها إلى مواقع ضرب عملية التحول كذلك نزعة احتقار النضال النقابي والمطلبي".
"لقد أدركت الجبهة ، أن إنجاز المهمة الأساسية الملقاة على عاتقها، وهي استكمال عملية التحول إلى حزب ماركسي وبناء حزب طليعي جماهيري تتطلب منها إيلاء أهمية فائقة لتمليك القيادات والكوادر ناصية النظرية الماركسية.
إن الارتفاع المستمر بمستوى التملك العميق للنظرية الماركسية من قبل الكوادر القيادية، والبناء الكادري المبرمج للكوادر وتمليكها لأساسيات النظرية هي المهمة الأساسية التي علينا الاضطلاع بها على طريق استكمال تحولنا.
وارتباطاً بهذه الرؤية حدد التقرير "المهام العاجلة" من أجل التطوير اللاحق لتنظيمنا، كما يلي :
1.     تعميق المستوى النظري للحزب وبشكل خاص للقيادات والكوادر من خلال الدراسة المعمقة للنظرية الماركسية دراستها كعلم وتطبيقها كمنهج علمي من خلال تطبيق برنامج التثقيف.
2.     تحسين البنية الطبقية للحزب، من خلال ضم المزيد من العمال ومن كادحي شعبنا لصفوفه .
3.      تحسين عمل الحزب بين الجماهير من خلال الاندماج بها والتعبير عن طموحاتها والانخراط الدائم في ميادينها من أجل تحقيق مطالبها، وذلك عبر تأسيس اللجان النقابية والجماهيرية والطبية ولجان الشبيبة وغيرها .
4.     التوجه الجاد والمبرمج للمرأة في مختلف القطاعات .
5.     تحسين مستوى فعالية ونضالية الأعضاء والمنظمات الحزبية، ومراقبة تنفيذها للبرامج العامة وبرامجها التفصيلية.
أما بالنسبة لعلاقة الجبهة مع الاتحاد السوفياتي التي وصلت إلى حد التعارضات حسب وصف القائد الراحل جورج حبش حين قال" إن هذه التعارضات غير عدائية، ولكن، في تقديرنا، ان الاتحاد السوفياتي، في العام 1947، وقع في خطأ كبير جداً، عندما أيد قيام دولة إسرائيل كدولة عنصرية فاشية قائمة على أساس عقيدة رجعية ومرتبطة بمصالح الرأسمالية العالمية؛ والآن، في هذه الفترة بالذات، في تقديرنا أن السوفيات يقعون، أيضاً، في خطأ آخر، لا يقل خطورة عن الخطأ الذي وقعوا فيه (في) العام 1948، وهو اعتقادهم بأنه من الممكن حل الصراع العربي – الإسرائيلي وحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من خلال التسوية المطروحة في جنيف والأسس القائمة عليها هذه التسوية"[8].
بناءً على ذلك رأى الرفيق المؤسس د.حبش ان "من حق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن تحدد خطها السياسي ، تجاه القضايا التي تواجهها الثورة، بشكل حر مستقل بعيداً عن التبعية وبعيداً عن الذيلية. وفي تقديرنا، ان هذا لا يجوز ان يسيء لرفاقنا السوفيات، لأن مبدأ التضامن الاممي لا يقوم على أساس التطابق التام في كافة الامور..".
على هذا الأساس، يمكن القول أن الشعبية حددت موقفها من السوفيات على النحو التالي:
1-   ان الاتحاد السوفياتي هو حليف استراتيجي؛ وان التحالف معه هو احد الشروط الحاسمة للانتصار.
2-   اتباع خط متمايز للجبهة الشعبية عن الموقف السوفياتي ، وتوجيه النقد إلى المواقف السوفياتية "الخاطئة" من القضية الفلسطينية والتسوية .
ولكن مع تراجع مسيرة التسوية، أو خروجها عن سكة القطار السوفياتي ، وخاصة بعد زيارة الرئيس المصري، أنور السادات، لإسرائيل، وعقد اتفاقيتي كامب ديفيد، شهدت العلاقة بين "الشعبية" والاتحاد السوفياتي تطوراً هاماً، انعكس في معظم أدبيات ووثائق الجبهة.
كان المؤتمر الوطني الرابع للجبهة، في نيسان (ابريل) 1981، محطة هامة على هذا الطريق، حيث أبرزت نتائج المؤتمر، الفكرية والسياسية ، مستوى الانحياز إلى الموقف السوفياتي، فقد قدمت الجبهة، في تقريرها السياسي الصادر عن المؤتمر، نقداً إلى عدد من مواقفها التي كانت تختلف عن الموقف السوفياتي، ومن ذلك اعتبرت ان موقفها القديم من سياسة الانفراج الدولي كان خطأ، ذلك "ان مسيرة الأحداث والنتائج الحسية التي أفرزتها في ظل سياسة الانفراج أزالت هذه المخاوف، وجعلتنا نراجع هذا الموقف، ونتخذ من سياسة التعايش السلمي الموقف الأصح ، حيث تحققت في ظل هذه السياسة مجموعة انتصارات لحركة التحرر الوطني العالمي، بمساندة الاتحاد السوفياتي وبلدان المنظومة الاشتراكية "[9].
بالإضافة إلى ذلك ، فقد طورت "الجبهة الشعبية" موقفها السابق من الصين، ووجهت نقداً إلى ذلك الموقف، وخاصة " منذ أن طرحت الصين موضوع الامبريالية الاشتراكية.
أما على المستوى السياسي الوطني، فقد تبنت "الشعبية"، ولأول مرة، شعار "إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أي جزء يتم تحريره من الأرض الفلسطينية دون قيد أو شرط. إن هذا الشعار يرسم أمام الثورة هدفاً مرحلياً محدداً يرشد نضالها، من ناحية، ويشكل حلقة وصل بين مرحلة الصمود وتوفير قواعد الارتكاز التي نواجهها اليوم، وبين مرحلة التحرير الكامل وإقامة الدولة الديمقراطية الشعبية على كامل الأرض الفلسطينية"[10].
وبالنسبة إلى قضية التحول إلى حزب ماركسي – لينيني ، فقد اعتبرت الجبهة ان كون المؤتمر الرابع يعقد تحت شعار "المؤتمر الوطني الرابع خطوة هامة على طريق استكمال عملية التحول إلى بناء الحزب الماركسي – اللينيني والجبهة الوطنية الفلسطينية المتحدة"، فانه، بهذا الشعار، "قد لخص مجمل المهمات الملقاة على عاتق الحزب، خلال المرحلة المقبلة، والواقعة بين هذا المؤتمر والمؤتمر الوطني الخامس، الذي يفترض أن يعقد بعد أربع سنوات . وتتركز المهمة الاساسية للشعار في استكمال عملية التحول إلى حزب ماركسي – لينيني ، إلى حزب يشكل طليعة للجماهير، وقيادة لها". (عقد المؤتمر الخامس بعد (11) عام ولم تستكمل عملية التحول التي استمرت معطلة أو مشوهة وفي مسار فكري تراجعي حتى ما بعد المؤتمر السابع) .
 
المحطة الخامسة : المؤتمر الوطني الخامس
وتمتد هذه المحطة تاريخياً منذ عقد الجبهة لمؤتمرها الوطني الخامس في شباط 1993 ثم عقد الكونفرنس الحزبي الأول في حزيران 1994 وصولاً إلى المؤتمر الوطني السادس في تموز 2000  ، ثم المرحلة التاريخية الممتدة منذ عام 2000 حتى ديسمبر عام 2013 حيث انعقد المؤتمر الوطني السابع .
ففي شباط 1993 ، بعد مرور 12 عاماً على انعقاد المؤتمر الرابع ، عقِدت الجبهة مؤتمرها الوطني الخامس، لعدة أيام ، وكان هذا المؤتمر وفق نصوص الوثيقة الصادرة عنه  بمثابة "وقفة مع الذات، مع طروحاتنا الفكرية والسياسية والتنظيمية والعسكرية.
حيث جاء المؤتمر بعد طول تحضير ، وفي ضوء ظروف فلسطينية وعربية ودولية بالغة الدقة والحساسية".
وفي الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الخامس ، ألقى الرفيق القائد جورج حبش مداخلة مطولة تضمنت العديد من القضايا البالغة الأهمية جاء فيها، "ينعقد مؤتمرنا في ظل واقع دولي أصبحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية الاستعمارية سيد العالم ،وترافق مع ذلك انهيار النظام العربي الرسمي، واستسلامه شبه الكامل للغزوة الصهيونية وما ولدته من واقع عربي جديد كان من أخطر نتائجه على الصعيد الوطني، انحراف القيادة المتنفذة لمنظمة التحرير الفلسطينية وقفزها عن البرنامج الوطني وتعاطيها مع المشروع الأمريكي- الصهيوني، مما يمهد لتصفية  كاملة للقضية الفلسطينية، خاصة وأننا اليوم نشاهد حالة استسلام رسمية شبه كاملة, اذ بات واضحاً مدى الاستعداد للاعتراف بهذا الكيان ليس على الصعيد العربي الرسمي فقط بل وعلى الصعيد الرسمي الفلسطيني كذلك.".
وبناءً على تحليله هذا طرح الحكيم تساؤلاً هاماً بقوله " على ضوء كل هذا : ما هو موقفنا وكيف يمكن مجابهة هذا المخطط؟ كيف نواجه هذه اللحظة السياسية الخطيرة التي تهدد بتصفية القضية الفلسطينية, وتدمير الإنجازات والمكتسبات الوطنية الكبرى التي حققتها الثورة الفلسطينية المعاصرة؟.
كيف يمكن أن نفرض على القيادة المتنفذة في م.ت.ف الخروج من هذا المجرى الخطير والعودة للالتزام ببرنامج الإجماع الوطني؟. وكيف يمكن أن نعمل لحشد إطار وطني فلسطيني مناقض لمشروع الحكم الإداري الذاتي الذي يراد فرضه على شعبنا كسقف للحل السياسي الإمبريالي الصهيوني المطروح للقضية الفلسطينية؟".
أجاب عليه كما يلي " إن مواجهتنا للمخطط المطروح وتصعيد مقاومته يلقى على عاتقنا مسؤولية أساسية لتحشيد كافة القوى السياسية الفلسطينية المناهضة لهذا المشروع بهدف الحفاظ على م.ت.ف وحماية برنامجها الوطني.
وفي هذا السياق، أضاف القائد الراحل الحكيم قائلاً " إن مواجهتنا وتصدينا للواقع السياسي المعقد بات يتطلب العمل الجاد لإحياء واستنهاض حركة الجماهير العربية من خلال إعادة الاعتبار نظرياً وعملياً لشعارات الوحدة العربية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والعمل على إقامة أوسع جبهة عربية، من خلال التيار الوطني والقومي والماركسي.
ثم تحدث القائد الراحل عن التجديد وضرورته في حياة الحزب، راسماً بذلك ملامح المستقبل بقوله " إن فهمي للتجديد لا يقوم على أساس أنه موضة لابد أن نمارسها ولا يقوم على أساس شكلي أو ردة فعل على أحداث جرت في هذا العالم.
إن التجديد ضرورة موضوعية وعملية دائمة ومتواصلة يفرضها منطق الحياة والتطور. والتجديد ليس كلمة تقال، بل هي مضامين وتغيير جذري لأسلوب وعادات وطرائق عمل أصبحت بالية تحتاج للتغيير, لأننا لا نستطيع مواجهة المرحلة الجديدة بنفس الأساليب والأدوات والطرق القديمة.
إننا أمام واقع جديد ووضع جديد وبداية معالم مرحلة جديدة، تتطلب استراتيجية جديدة على ضوء المتغيرات الكبرى في العالم من ناحية, وعلى ضوء تجربة الثورة الفلسطينية وما أفرزته المرحلة السابقة من دروس.
وفي ختام مداخلته الافتتاحية في مؤتمرنا الوطني الخامس ، قال القائد الراحل مخاطباً رفاقه " إن القيمة الحقيقية لهذا المؤتمر أن يحدث ثورة في أوضاعنا, أن يردم الهوة ما بين خطابنا السياسي وواقعنا وممارستنا, وهذا غير ممكن إلا إذا استطعنا النهوض بواقعنا نهوضاً شاملاً وهذا هو التحدي الذي يواجهنا, فهل سنكون بمستوى هذا التحدي؟ نتائج مؤتمركم ستعطى الجواب".
وفي ضوء مداولات ومناقشات المؤتمر ، أصدرت الجبهة التقرير العام للمؤتمر في آب 1993 الذي تضمن أربعة عناوين رئيسية : 1- التقرير السياسي.   2- الوثيقة النظرية.  3- التقرير التنظيمي.  4- ملخص التقرير العسكري، سنتناول فيما يلي عرضاً ملخصاً لكل من التقرير السياسي والوثيقة النظرية.
التقرير السياسي :
تناول هذا التقرير بالتفصيل مقدمات الانتفاضة الشعبية الأولى (1987) وتقييم الجبهة ورؤيتها للانتفاضة من حيث محاولات التصفية وعوامل التصعيد والاستمرار، ارتباطاً بأوضاع م.ت.ف .
أما عن نظرة الجبهة الشعبية للانتفاضة, فقد أوضح التقرير أنه " لم يكد يمضي وقت طويل على اندلاع الانتفاضة وتواصلها بزخم وعنفوان ثوريين, حتى بدأت تتبلور على أرض الواقع وفي الواقع وفي الممارسة السياسية العملية على الساحة الفلسطينية نظرتان مختلفتان ازاءها:
الأولى : يمثلها اليمين الفلسطيني وبعض القوى الديمقراطية, وترى في الانتفاضة الفرصة المواتية التي يتوجب استثمارها سياسياً وبأسرع وقت ممكن قبل انطفاء جذوتها.
الثانية : هي نظرة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي ترى في الانتفاضة مرحلة نوعية جديدة من مراحل النضال الفلسطيني جعلت من هدف الدولة امكانية واقعية , وهي من العمق والأهمية بحيث يستوجب الأمر توفير عوامل استمرارها وتجذيرها وتصعيدها لبلوغ مراحل نضالية أعلى, توفر ممكنات إحداث تعديل في ميزان القوى يسمح برحيل الاحتلال وتسليمه بحقوق شعبنا الوطنية المشروعة وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة على ترابه الوطني.
أما عن علاقة الجبهة الشعبية وموقفها من م.ت.ف, وبدون القفز أو تجاوز الدور الذي لعبته البرجوازية الفلسطينية في الثورة المعاصرة, التي أسهمت –كما يقول التقرير- "في تحقيق مجمل المكاسب والإنجازات لشعبنا وفي مقدمتها: ترسيخ الهوية الوطنية الفلسطينية وتكريس منظمة التحرير كياناً سياسياً جامعاً لشعبنا".
وفي هذا السياق يضيف التقرير "بما أن دور البرجوازية الفلسطينية هذا حقيقة واضحة، ليست موضع نقاش بالنسبة لنا، فإن ما نركز عليه هو الجانب الآخر من الصورة الذي نعتقد بمسؤوليته عن العديد من الأزمات التي هددت الثورة ومنجزاتها بالتبديد والضياع.
ويضيف التقرير ، "إن هذه الفئة التي اتسعت وازداد حجمها ودورها في صياغة القرار الفلسطيني, تقف بحُكم طبيعتها وبنيتها ضد الإصلاح الديمقراطي وتقوم بالترويج لسياسة "الاعتدال" و "الواقعية" كما تقدم الغطاء السياسي النظري الإعلامي لمجموع السياسات اليمينية الخاطئة، وفي سبيل الحفاظ على الامتيازات والمصالح الطبقية التي تكونت على مدار السنوات السابقة.
إن الهدف من كل ما سبق ذكره حسب التقرير السياسي "هو الوصول إلى النقطة الأساسية التالية: بلورة وصياغة الخط السياسي للجبهة إزاء العلاقة مع البرجوازية الفلسطينية والوحدة الوطنية الفلسطينية في إطار منظمة التحرير. والذي يمكن تحديد عناوينه الأساسية بما يلي:
أولاً: الوحدة الوطنية الفلسطينية هي قضية مبدئية, وهي في مرحلة التحرر الوطني ترقى إلى مستوى القانون الذي لا يمكن تجاوزه أو القفز عنه في خوض عملية الصراع وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني.
ثانياً : إن صيغة الوحدة الوطنية هي صيغة جبهوية ائتلافية تضم مختلف الطبقات والفئات والشرائح الوطنية المعادية للاحتلال والمستعدة للنضال من أجل تحقيق البرنامج الوطني.
ثالثاً : إن م.ت.ف هي صيغة جبهوية للوحدة الوطنية الفلسطينية.
رابعاً: إن م.ت.ف هي بالنسبة لنا الكيان السياسي للشعب الفلسطيني الذي يجسد هويته وشخصيته الوطنية المستقلة, وهي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.
خامساً: وبسبب من خصوصية وتعقيدات معركة التحرر الوطني الفلسطيني فإنها لا يمكن أن تحقق كامل أهدافها بقيادة البرجوازية الفلسطينية. فقد كشفت التجربة عن ترددها وتذبذبها وقصر نفسها وعجزها.
أما عن العلاقة مع القوى الإسلامية, فيشير التقرير إلى ما حصل من تطور عميق على مواقف وممارسة القوى الإسلامية على الساحة الفلسطينية, " تَمَثّل بانخراطها في الانتفاضة ومجابهة الاحتلال، يضاف لذلك, موقف هذه القوى (حماس, والجهاد الإسلامي) من عملية التصفية السياسية التي ابتدأت فصولها منذ مؤتمر مدريد ولا تزال تتوالى".
وفي هذا الجانب يضيف التقرير "إننا ونحن نؤكد على هذه النقلة, وهذه التطورات, وإيجابية التعامل مع القوى الإسلامية, فإن ذلك يفرض بالمقابل ضرورة التنبه لرؤية هذه القوى وتكتيكاتها تجاه م.ت.ف, وتجاه البرنامج الوطني المرحلي, إضافة إلى مواقفها وممارساتها الاجتماعية، كما أن النضال الديمقراطي لجذب هذه القوى وإقناعها بأهمية العمل الوحدوي, والانخراط في م.ت.ف على قاعدة الإصلاح الديمقراطي, وعلى قاعدة تحشيد الجهود والطاقات, بعيداً عن سياسة فرض المواقف الإيديولوجية, هو أمر هام وحيوي لتوسيع قاعدة اللقاء وتحييد عناصر الإفتراق, فما يواجه شعبنا وقضيتنا يحتاج لكل الطاقات والجهود والإمكانات".
 
الوثيقة النظرية الصادرة عن المؤتمر الوطني الخامس :
تناولت هذه الوثيقة في مقدمتها موضوعاً شكل مدخلاً هاماً لها بعنوان  "أفكار أولية حول أزمة الماركسية اللينينية" ناقش من خلالها ، بمنهجية  نقدية ، انهيار الاتحاد السوفيتي وانعكاس عملية الانهيار على الوضع الدولي، وعلى الحركات الثورية والتحررية في العالم ، وقدم رؤية الجبهة وتحليلها لهذا الانهيار، تتلخص في " أن حزبنا يرى أن المنهج العلمي في بحث هذه القضايا يستدعي معالجة نقدية وملموسة وموضوعية بعيداً عن أية قوالب جامدة، وعن أية سلطة إلا سلطة العقل والمنطق والجدل الموضوعي للحقائق العلمية، وإن بحثاً كهذا ، ما يتطلب قراءة نقدية جديدة للماركسية تعيد إنتاج الإدراك النقدي الماركسي ذاته لدراسة الاشتراكية، والوقوف على التطورات والظواهر الجديدة في العالم المعاصر وصولاً إلى صياغة الاستخلاصات والاستنتاجات والتعميمات النظرية والفكرية – السياسية، التي تؤسس للتجديد الثوري المطلوب" .
وتحت عنوان "الماركسية منهج حي وليست عقيدة جامدة" أوضحت الوثيقة، موقف الجبهة وثباتها على هويتها الفكرية ... الماركسية ومنهجها المادي الجدلي، حيث أكدت أن النظرية الماركسية صاغت على الصعيد الفلسفي الديالكتيك المادي، الذي " شكل ثورة حقيقية في المعرفة والتفكير.
انطلاقاً من هذا الفهم –كما تضيف الوثيقة - وعلى أساس "المنهج لم تعلن الماركسية أفكاراً أو نظرية مكتملة ونهائية. بل على العكس من ذلك، حيث أكدت على أنها نظرية النمو الدائم التي تعكس الحركة الأبدية للحياة وقد أعطت الماركسية بهذا المنهج حلاً مبدعاً لعلاقة الفكر بالواقع، علاقة النظرية والمعرفة بالممارسة والتطبيق العملي .
استخلصت الوثيقة شعارا موضوعيا بعنوان" واجب تجديد الماركسية والدفاع عن الخيار الاشتراكي" انطلاقا من وعيها لأهمية التمييز بين النظرية والنظام الاشتراكي "فانهيار الاشتراكية القائمة لا يعني على الإطلاق انهياراً للماركسية كما يحاول أن يروج لذلك خطاب الإمبريالية والرجعية.
وإذا كانت أزمة النظام الاشتراكي المحقق قد بينت أنها أزمة بنيوية مستفحلة قادت إلى الانهيار، فان أزمة النظرية الماركسية لا تمس جوهرها ومنهجها المادي –الديالتيكي- التاريخي، ولذا فإنها تعتبر أزمة نمو ناجمة عن الجمود العقائدي والممارسات والتطبيقات الخاطئة.
واستنتجت الوثيقة بحق "أن أزمة الاشتراكية المحققة وانهيارها بالنسبة لنا لا تعني ويجب أن لا تعني انهيار الفكرة الاشتراكية أو انهيار الخيار الاشتراكي لنا ولشعوب المعمورة كافة بل العكس إذ أن الأزمة والانهيار أكدا الفكرة والخيار".
وإلى جانب تأكيد الوثيقة الفكرية على هذا الفهم وضرورة تمثله في الممارسة اللاحقة وفي عملية التجديد التي تتصدى لها، فقد لخصت رؤية الجبهة الشعبية لمناحي التجديد في المسائل التالية:
أولا: التجديد النظري العام: ويتلخص بالإنشداد لمنهج النظرية الماركسية العلمي والتأكيد على ضرورة إعادة النظر بكل ما شاخ في المقولات والمفاهيم والأفكار والإنشاءات التي ارتبطت بزمان محدد وظروف محددة وهو الأمر الذي أكده ماركس وانجلز ولينين.
وإذ يؤكد حزبنا -حسب الوثيقة- هويته الفكرية هذه فإنه يشرع بالانفتاح على الماركسية بكل تياراتها محترما كل من اسهم في تطويرها كما يحترم حق الاجتهاد على أرضيتها والحوار الديمقراطي الذي يستهدف الإسهام في إعادة إنتاجها.
ثانيا: في فهم الرأسمالية المعاصرة وواقع العالم الثالث: "إن الرأسمالية التي تحدث عنها ماركس قبل (150) عاما ليست هي رأسمالية اليوم التي تشمل العالم بأسره، فالرأسمالية المعاصرة شهدت في العقود الأخيرة عملية واسعة للعولمة والتدويل شملت تدويل رأس المال وعملية الإنتاج والعلاقات الإنتاجية والسوق وحتى العمل.
ولا شك في أن تقدم الرأسمالية المعاصرة يجد أحد أسبابه في نهب العالم الثالث والنجاح في ربطه بعجلة الاقتصاد الرأسمالي والسوق الرأسمالية عبر آليات متجددة تبعية وإعادة الإنتاج التابع في بلدانه المختلفة، وقد عمق النهب الامبريالي للعالم الثالث من الهوة بين المركز الإمبريالي وأطرافه الأمر الذي ولد تناقضا حاداً أصبح يؤثر على مصائر البشرية بأسرها، ونتيجة هذا الأمر ولأسباب عديدة أخرى استمرت قضايا التخلف والتبعية والفقر مستفحلة في العالم الثالث وأضيفت إليها معضلات جديدة كالتصحر وتلوث البيئة واستنزاف الموارد والمديونية وغيرها".
ما يؤكد كما تستنتج الوثيقة على أن  "تجديد الماركسية يجب أن يعني استيعابها لواقع العالم الثالث وخصوصيته والتطورات التي شهدها ارتباطا بالتطورات العالمية ككل، وعلى ماركسيي العالم الثالث الاستفادة من خبرة التجربة السابقة للعمل على إنتاج الماركسية الوطنية المتميزة والتجديد النظري للترسانة الفكرية – السياسية بالكشف عن القوى ذات المصلحة في التنمية المستقلة والتقدم الاجتماعي.
وعلى الماركسيين في هذا العالم ونحن من ضمنهم النضال من أجل الديمقراطية الحقيقية وبناء المجتمع المدني ونبذ سياسة حرق المراحل أو القفز عن قوانين التطور الموضوعي" .
ثالثاً : في تجديد الحزب: ويتكثف التجديد على هذا الصعيد في إعادة الاعتبار للحزب الماركسي كطليعة واعية ومنظمة ومكافحة،  يقوم في بنائه الداخلي وحياته وعلاقاته الداخلية وآليات عمله وعلاقاته مع الجماهير على أساس ديمقراطي فعلي وبحيث تتحول الديمقراطية فيه إلى نمط تفكير وحياة أي إلى منهج وان التجديد في الحزب يجب أن لا يقتصر على التجديد النظري في المفاهيم والمبادئ أو في دمقرطة بنائه وعلاقاته بل يجب أن يشمل تجديد هيئاته والمسؤوليات فيه بشكل ديمقراطي.
وفي إطار هذا البحث الموضوعي طُرِحَتْ قضية "التحول" في الجبهة لكي تنتقل من حزب برجوازي صغير إلى حزب يسترشد بالماركسية ومنهجها في عملية تحوله إلى الحزب الثوري الديمقراطي، وقد عنى ذلك –كما يستطرد تقرير المؤتمر الخامس- " انكباباً جدياً على نقد التجربة السابقة والسعي لامتلاك المنهج المادي الجدلي الخلاق ومحاولة تطبيقه في تحليل الظروف الملموسة ورسم الإستراتيجية والتكتيك وبناء الأدوات القادرة على القيام بذلك".
ثم يضيف التقرير في تأكيده على أهمية التحول وإصرار الجبهة على تحقيق هذه العملية " إن انهيار النموذج الحزبي الذي يشكل مثالاً للتحول لا يعني سقوط فكرة التحول أو توقف العملية ذاتها، تماماً كما أن انهيار النموذج الاشتراكي لا يعني سقوط فكرة الاشتراكية ولا سقوط النهج الماركسي المادي الجدلي. كما لا يعني سقوط الحاجة إليهما وضرورة تعميق الرؤية حولهما. لكن تجربتنا وتجربة غيرنا. وبقدر ما تؤكد على صحة خيارنا. بنفس القدر تؤكد على ضرورة توفر تصنيفات أكثر دقة وعلمية للديمقراطيين الثوريين وللأحزاب الطليعية ولمعايير الاسترشاد بالماركسية والاشتراكية العلمية والالتزام بالمنهج المادي الجدلي".
إن تجربة الجبهة الشعبية عبر العقود الماضية تبين أن عملية التحول، "هي عملية موضوعية تحكمها مجموعة عوامل وظروف موضوعية وذاتية تفعل بالاتجاهين الايجابي والسلبي. فتجعل منها عملية متناقضة ومعقدة، ولا تتم بضربة سحرية أو بتغيير اللافتة، بل بنضال شاق وصعب وجهود كبيرة ومثابرة من أجل حسم التناقض الأساسي الذي يحكم تطوير التنظيم منذ البداية حتى النهاية. ألا وهو التناقض بين البنية الفكرية – السياسية والتنظيمية والممارسة العملية السابقة الأصلية وبين البنية الفكرية – السياسية والتنظيمية والممارسة العملية القائمة على أساس الالتزام بالمنهج الماركسي المادي – الجدلي قولاً وعملاً. وهي عملية واعية تقودها العناصر المتقدمة من الديمقراطيين الثوريين الأكثر اقتراباً من الفكر الاشتراكي العلمي، والساعية لامتلاكه وتمثله، والتي تشكل العامل الذاتي الأهم والحاسم في الارتقاء بالتنظيم نحو مواقع الطليعة الثورية تدريجياً، فمن مظهر ثانوي في التنظيم يتحول الاتجاه اليساري إلى مظهر رئيسي سائد من خلال انحسار مواقع ومواقف اليمين المحافظ، فيعيد بناء التنظيم ويرتقي به ككل على أساس المنهج المادي الجدلي في كافة المجالات، ليصبح بالفعل حزباً ماركسياً يمثل طليعة واعية للطبقة العاملة ولعموم الكادحين وتجسيداً صحيحاً لعلاقة الطليعة بالجماهير الكادحة والمعبر في جوهره عن ارتباط النظرية الاشتراكية العلمية بالحركة العمالية والجماهير الشعبية".
لقد طرح المؤتمر الوطني الخامس أسئلته الموضوعية ، الملحة ، ارتباطاً بمسيرة الجبهة التاريخية منذ مؤتمرها الثالث، ملخصاً وبصورة مكثفة هذه التساؤلات في السؤال المركزي التالي : ما هي حصيلة التطور على صعيد التحول الفكري والتنظيمي للجبهة ؟ وما هو واقعنا الراهن؟ إنه أيضاً السؤال الماثل حتى اللحظة.
وفي محاولته الإجابة على هذا السؤال يورد التقرير عدداً من الإشكاليات أو العقبات التي حالت أو عرقلت عملية التحول ، وهي " ظواهر ومسائل وإشكاليات جديدة يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، ألا وهي:
1-   تفاقم حدة الصراع على الجبهة الثقافية وضرورات المواجهة المتكاملة للآلة الدعائية والإعلامية الإمبريالية والصهيونية والرجعية.
2-  متطلبات النضال الوطني الفلسطيني في الظروف المستجدة.
3-   ضرورة الارتقاء بسياسات ومواقف الجبهة لتلبية المستلزمات الجديدة للعمل الوطني وإبراز دور الحزب بالعملية الجارية على صعيد حركة التحرر الوطني والجماهيري العربية.
4-   ضرورة امتلاك فهم علمي للمسألة الدينية في ظروفنا الملموسة والاهتمام بالحياة الروحية للناس.
5-  ازدياد متطلبات التطور النوعي للجبهة على صعيد الامتلاك الأعمق للفهم والممارسة العلمية للعلاقة والعمل مع الجماهير في ظل الطموح للتحول إلى حزب جماهيري مكافح.
6-  مواجهة تحديات انهيار المنظومة الاشتراكية وضرورات تجديد النظرية والحركة الثورية ومواجهة تحديات المرحلة الجديدة.
7-  مواجهة تشوهات وثغرات العمل الأيديولوجي التي وقع بها الحزب.
وعلى قيادة الحزب والجهات المختصة وقيادات الفروع والمناطق أن تولي اهتماماً أكبر بتدقيق المقاييس النوعية لفاعلية العمل الأيديولوجي وخاصة لقدرة الحزب على إعطاء أجوبة واقعية ومعللة علمياً لمعضلات الثورة والقضية الوطنية والقضايا القومية.
ومن أجل ضمان تحقيق كل ما سبق من برامج وآليات عمل يرى التقرير أن الشرط لتطور الجبهة الشعبية كحزب ثوري يكمن في " إمساكنا بحلقة مركزية لعملنا على هذا الصعيد، ومن خلال التدقيق بواقعنا الراهن نستطيع القول أن الحلقة المركزية لعملنا الأيديولوجي في المرحلة الجديدة، من تطورنا تتمثل بالاستمرار في تعزيز وتعميق امتلاك المنهج المادي الجدلي التاريخي من قبل كادر الحزب وهيئاته القيادية تحديداً والعمل على استخدامه الخلاق في إنتاج النظرية وتطويرها في ظروفنا الملموسة بحيث يجب أن نفهم هذه المهمة ككل متكامل وكعملية موحدة , فلا نعزف عن الإنتاج ونهاب خوض مجالاته انتظارا لاكتمال امتلاك  المنهج".
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والبيروسترويكا:
لم يكن تأثير البيريسترويكا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالمستوى والدرجة عينهما عند الحزب الشيوعي الفلسطيني والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. "فلم تحدث، في التنظيم، أية هزات تنظيمية ، أو فكرية، أو سياسية، عميقة؛ وقد تركزت تأثيرات البيريسترويكا بدرجة ملحوظة على الكادرات الوسطى، وخاصة في أوساط المثقفين"[11].
ويمكن للمرء ان يلحظ ان هامشاً أوسع من الديمقراطية الداخلية في التنظيم قد ميز الحياة الداخلية في الجبهة خلال السنوات الاخيرة. وقد تجلى ذلك في كثرة عدد المؤتمرات التي عقدتها، وتعقدها ، الجبهة ، ويشارك فيها عدد كبير من الكوادر. ولا شك في ان هذا الاسلوب خفف ، إلى درجة عالية، من وطأة، وصرامة، المركزية الديمقراطية ، وحافظ ، بمعنى من المعاني ، على وحدة الجبهة وتنفيس حدة أية تناقضات جرت ، أو يمكن أن تجري.
ولعل "مناعة" الجبهة تجاه البيريستويكا تعود، بشكل رئيس، إلى أن الجبهة ، وعلى الرغم من تأثرها الفكري والسياسي بالسوفيات ، ظلت ، إلى حد بعيد ، امينة لتراثها الفكري والسياسي الخاص، وهو التراث الذي حافظ على درجة من التمايز والاختلاف عن الخط السوفياتي،  فقد ظلت اعتبارات السياسة الوطنية والقومية للجبهة تفوق وزن وأهمية الاعتبارات الايديولوجية وفي ذروة اقترابها من الماركسية السوفياتية لم تبلغ "الشعبية" مستوى الانصهار، أو التماهي ، الفكري والسياسي معها ، رغم تفاوت حدة الموقف النقدي بين الرفاق أعضاء الهيئة القيادية إزاء التطورات في الاتحاد السوفياتي .
في ضوء ذلك ، يمكن تسجيل الاستنتاجات التالية :
1-   ان مستوى تأثر الشعبية بالبيريسترويكا ، على الصعيدين النظري والتنظيمي ، لا يسمح بالاعتقاد بان تغيرات جوهرية حاسمة يمكن أن تحدث، وان كان ذلك لا يمنع حدوث تعديلات جزئية في هذه القضية، أو تلك، أو في هذا الموقف، أو ذاك، ويمكن أن تنشأ عن البيريسترويكا درجة من تكسر هيبة "الماركسية – اللينينية" كأيديولوجيا للجبهة ، وتبلور اتجاهات على أساس الموقف منها. اما على المستوى التنظيمي، فيمكن تصور حدوث تراخي في سطوة المركزية الديمقراطية وفتح هوامش أوسع للديمقراطية داخل التنظيم.
2-   تباعد سياسي متصاعد بين مواقف "الشعبية" والمواقف السوفياتية ، والروسية لاحقاً .
3-   خروج تدريجي من فلك "الماركسية السوفياتية".
 
 
المحطة السادسة: المؤتمر الوطني السادس – تموز 2000
 
بعد سبعة أعوام على انعقاد المؤتمر الوطني الخامس، عقد المؤتمر الوطني السادس في تموز 2000 في ظروف ومستجدات سياسية مغايرة – بل ونقيضه في جوهرها-  لظروف ومعطيات المرحلة التاريخية السابقة منذ إعلان الكفاح المسلح الفلسطيني على أثر هزيمة 1967 حتى تاريخ انعقاد المؤتمر الوطني الخامس و الكونفرنس الحزبي الأول ، حيث شهدت الساحة الفلسطينية متغيرات نوعية من منطلق سياسي هابط بدأ منذ مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن وصولاً إلى إعلان المبادئ في أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية في تموز 1994 ، وتواصل المفاوضات العبثية بين القيادة المتنفذة في م.ت.ف من ناحية وحكومات العدو الإسرائيلي من ناحية ثانية.
في هذا المؤتمر، ألقى الرفيق جورج حبش، مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، خطابه الخاص والاستثنائي الذي أعلن فيه تسليم دفة القيادة التنظيمية لرفاقه في المؤتمر.
بدأ الحكيم خطابه مستذكراً مسيرة الجبهة الشعبية الطويلة ، ومستذكراً رفاقه الأوائل الذين وهبوا عمرهم في سبيل قضية فلسطين والأمة العربية ، ولكن رغم كل هذه المسافة الزمنية الممتدة بين أيام الشباب وصولاً إلى لحظة الشيخوخة ، وهي مسافة بذل فيها الحكيم قصار جهده دفاعاً عن حقوق وتطلعات شعبنا وأمتنا ، ورغم ذلك – كما قال الحكيم – "وصلت الأمور إلى هذه اللحظة والمرحلة، حيث التراجع والإحباط والتساوق مع المشاريع ( الأمريكية ـ الإسرائيلية)" ، ومع ذلك –كما أضاف الحكيم- "ورغم كارثية اللحظة وقساوة التحديات، إلا أنني لا زلت أدرك طبيعة الصراع، وأدرك أصالة هذا الشعب وهذه الأمة، كما أعرف دروس التاريخ، وبأن الهزائم والإحباط ومهما امتدت زمنياً فإنها تبقى مؤقتة وعابرة، فالشعوب في نهاية المطاف هي صاحبة الكلمة والفصل.
تناول حديث الحكيم إلى رفاقه في المؤتمر ، سؤالاً أساسياً جوهره ماذا مثلت الجبهة أثناء وجودي كأمين عام لها؟ وأجاب بقوله " لقد مثلت الجبهة وفق حقائق التاريخ والواقع، بتضحياتها، بدماء شهدائها، وصمود أسراها، وعطاء أعضائها، ورؤيتها السياسية، وممارستها النضالية قضية كبيرة تجلت في التفاف قطاعات شعبية واسعة حولها على المستويين الفلسطيني والعربي.
ووفق قناعة ورؤية الراحل الحكيم، فإن العامل الأساسي في تميّز تجربة الجبهة الشعبية وخصوصيتها التي نالت كل هذا الإعجاب وهذا الدعم والتأييد، ولعبت كل هذا التأثير فلسطينياً وعربياً ودولياً، يعود بالأساس وبالدرجة الأولى إلى تشابك الخط السياسي الذي مثلته الجبهة مع المشروع الوطني التحرري بالخط القتالي... والسير في خطوات ملموسة في بناء الأداة التنظيمية - الجذع الذي يحمل هذين الفرعين.
أما بالنسبة للخط السياسي التي سارت على أساسه الجبهة ، وأعطاها كل هذا التميّز، فهو يتمثل كما رأى الحكيم بأربعة مفاصل رئيسية.
المفصل الأول: امتلاك الجبهة لرؤية علمية واقعية للعدو وتحالفاته وتبرز قيمة هذا الوعي بصورة أعمق عندما نستذكر حالة الخلط التي رافقت تجارب شعبنا التاريخية على هذا الصعيد.
لقد طرحت الجبهة وبوضوح شديد فهمها ورؤيتها لمعسكر الأعداء، وكشفت الأسس الاقتصادية والسياسية التي تكمن وراء الحزب المعادي، وبينت خصائص المشروع الصهيوني كمشروع امبريالي استيطاني، كل هذا وسواه أوصلنا إلى استنتاج محوري مفاده: أن حالة الاشتباك التاريخي بيننا وبين المشروع الصهيوني ستتواصل وتستمر بحكم طبيعة التناقض الذي يحكم الصراع، باعتباره تناقضاً تناحرياً حصيلته النهائية: إما نحن أو المشروع الصهيوني.
المفصل الثاني: رؤية وقناعة الجبهة بضرورة تحشيد الجماهير الفلسطينية بدون استثناء.
من هنا كان تركيز الجبهة على أهمية أن تكون القيادة قادرة من حيث رؤيتها وفكرها وممارستها الطبقية على حماية مصالح وحقوق الشعب.
وأضاف الحكيم قائلاً: ولعل أحد أسباب إخفاقاتنا أننا لم نستطع عند اللحظة المناسبة، أن نكون بمستوى ترجمة هذا الخط الصائب فأضعنا الفرصة التاريخية السانحة لمواجهة انحرافات البرجوازية وخط سيرها المتهافت سياسياً.
المفصل الثالث: ترابط العمل الوطني الفلسطيني مع العمل القومي العربي؛ والذي يعكس رؤية الجبهة لخصوصية الصراع وموازين القوى وللبعد القومي كحاضنة للبعد الوطني.
المفصل الرابع: البعد الدولي؛ حيث سعت الجبهة نظرياً وعملياً لحشد أوسع إطار دولي لنصرة القضية الفلسطينية إلى جانب بعديها الفلسطيني والعربي.
هذه في تقديري -يقول الحكيم- أهم العوامل التي جعلت من الجبهة قضية مميزة في تاريخ الشعب الفلسطيني المعاصر، والآن هل فقدت هذه العوامل صحتها وحيوتها؟ وهل بالإمكان استعادة دور الجبهة ومكانتها بدون إعادة تحديد هذه المفاصل الرئيسية التي ميزت خط الجبهة السياسي على مدار سنوات نضالها؟ -يجيب على سؤاله؟
إنني على قناعة تزداد عمقاً سواء بالمعنى الفكري أو كدروس للتجربة، بأن هذه النواظم تشكل معياراً واختباراً في العمق إذا ما أردنا أن تغادر الجبهة دوائر ركودها وتراجعها وأزمتها نحو الفعل والمبادرة والتجدد واستعادة ثقة الحركة الشعبية بها وبمشروعها الوطني والقومي التحرري.
وفي ختام خطابه التاريخي ، حرص الحكيم على مطالبة رفاقه في المؤتمر، بضرورة " تحديد موقف سياسي صحيح وصريح حول القيادة اليمينية يقوم على قاعدة الابتعاد عن التذيل لها أو السماح لها باحتواء الموقف الآخر تحت أية ذرائع.
في هذا المناخ المفعم بالمشاعر الذاتية والموضوعية الصادقة تجاه القائد المؤسس ، إلى جانب المناخ السياسي العام الزاخر بالمتغيرات والتراجعات السياسية الخطيرة التي أصابت الأوضاع العالمية والإقليمية والعربية، خاصة القضية الفلسطينية في ظل هيمنة التحالف الإمبريالي الصهيوني المعولم،  استكملت الجبهة عقد مؤتمرها الوطني السادس ، الذي أصدر وثيقتين هما: الوثيقة السياسية بعنوان " نحو رؤية سياسية جديدة للمرحلة" ، والوثيقة التنظيمية بعنوان "نحو رؤية تنظيمية جديدة" .
الوثيقة السياسية :
هذه الوثيقة هي خلاصة الحوار والتفاعل الذي شهدته منظمات الجبهة الشعبية في الوطن والشتات والذي توج في المؤتمر الوطني السادس للجبهة.
ففي الفصل الأول بعنوان :لا حلم خارج الواقع ولا مستقبل دون حاضر وماض، تشير الوثيقة إلى "أن عملية أوسلو وما ترتب عليها مرتبطان تماماً ومستغرقان بالكامل في النتائج المادية والمعنوية التي أفضى إليها مجمل الصراع طيلة العقود السابقة، وهذا هو السبب وراء الخطوة المنهجية للجبهة الشعبية، التي ارتأت عند قراءة أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية وفي السياق أزمة الجبهة الشعبية، العودة بالظواهر والنتائج المحققة إلى مقدماتها التاريخية من اجتماعية وسياسية وفكرية...الخ.
هذه الخطوة، كانت تعكس قناعة راسخة للجبهة بأن الاستمرار في ذهنية معالجة النتائج دون التوغل في الأسباب، يعني مواصلة الدوران في حلقة مفرغة عدا عن كونه يحمل مخاطر تشويه الوعي، وإشاعة الوهم، ومراكمة الأخطاء، وبالحصيلة، تبديد مزيد من الزمن ومكونات القوة والمستقبل".
وبالتالي : يجب أن يبقى ماثلاً في الذهن ونحن نحاول قراءة الواقع الراهن، أن التراجع يحمل أيضاً بعداً إنهاضياً، ويحفل بدروس قيمة، دون احترامها ووضعها تحت الضوء، وتحويلها إلى قوة فعل وإعادة بناء، تتحول إلى قوة استنزاف معنوي ومادي مدمرة.
لعل النموذج الأبرز على ما تقدم، هو ما نلمسه ونعيشه اليوم كحزب وحركة وطنية، حيث تبين لنا، أن المشكلة لا تكمن، في حدوث الهزيمة فقط، وإنما فقط في عدم الوصول إلى رؤية فكرية – سياسية تتخطى الهزيمة فكراً وممارسة، وفي حالة العجز التي تلف مختلف تيارات الحركة الوطنية الفلسطينية ومسمياتها".
وقد قاد هذا الواقع إلى شبه إحباط وشلل، وإلى تدني الثقة بين الكتلة الجماهيرية والحركة السياسية المنظمة من ناحية، وبين الأحزاب وقواعدها من ناحية أخرى، حيث تسود حالة من الإرباك والتذمر واللافعل.
يفرض ما تقدم -كما تقول الوثيقة- "ضرورة إعادة التدقيق بالمسائل، والحذر الشديد عند قراءة واقع الحال الفلسطيني راهناً، وذلك في ضوء ما أفرزته الحياة من حقائق منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن، والتي تدل على عمق وأسباب واستمرار الصراع التاريخي. إن ما تقدم يشكل الإطار، الذي يحمي التحليل من الوقوع في مهالك التسرع أو النزق أو الذاتية وأوهام أن بالإمكان قفل باب الصراع، الذي لا ينتهي إلا بانتهاء أسبابه".
لذلك ، فإن المطلوب هو "الارتقاء بالرؤية والممارسة من مستوى المناهضة الدعاوية، أو ردود الفعل المتفرقة إلى مستوى المجابهة الفعلية، بمعنى تقديم البديل التاريخي الشامل، أي مجابهة مشروع أوسلو بمشروع نقيض كامل، يتيح الفرصة للمبادرة واستثمار كامل عناصر القوة، من فاعلة وكامنة، على قاعدة التواصل والقطع في الصراع في آن معاً.
أما بالنسبة لأبرز المعطيات – المحددات التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار بوصفها سمات أساسية للمرحلة، فالوثيقة تحصرها في خمسة معطيات:
المعطى الأول: أن السمة الأساسية للمرحلة هي التراجع والانكفاء/ الدفاع، فيما المشروع النقيض في حالة هجوم.
المعطى الثاني: ويستعرض أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، والتي هي من طبيعة تاريخية تراكمية، أسفرت عن نتيجتين أساسيتين:
1-        استسلام القيادة الرسمية وخضوعها لمشروع التسوية الأمريكي – الإسرائيلي.
2-        عجز قوى المعارضة، وتفاقم أزمتها متمثلة بعدم قدرتها على بلورة ولعب البديل الوطني القادر، من خلال توحيد صفوفها على أساس برنامج وطني مشترك يعبر عن نفسه بأطر تنظيمية وسياسية بما يؤمن الشرعية وبالتالي المرجعية البديلة  عن القيادة التي تخلت عن البرنامج الوطني.
المعطى الثالث: ويتناول موضوع التناقض الرئيس والتناقضات الثانوية، حيث تطرح الوثيقة : "إن التناقض الرئيسي كان ولا يزال مع الاحتلال والشرائح المرتبطة به وتتم مواجهته بالمقاومة، وذلك بحكم طبيعة المرحلة باعتبارها مرحلة تحرر وطني وديمقراطي كون أهداف وحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية لم تتحقق".
أما المعطى الرابع: فيتناول الواقع العربي الذي " بدأ يشهد حالة صراع بين القوى الدافعة في المشروع الأمريكي – الإسرائيلي، والقوى المتصدية لهذا المشروع. حيث يشهد الوضع  العربي حالة من الحراك والتناقض الذي يتمظهر في مستويات مختلفة :
المستوى الأول : التناقض المتصاعد بين سياسة النظام الرسمي العربي الذي يميل للمهادنة وميوعة المواقف تجاه سياسات الحلف الأمريكي – الإسرائيلي وبين طموحات وأهداف الجماهير العربية.
المستوى الثاني: التناقض بين أهداف المشروع الأمريكي – الإسرائيلي للتسوية والحد الأدنى من الحقوق والمصالح القومية والوطنية للشعوب العربية.
المستوى الثالث : اتضاح حقيقة الدور الأمريكي في عملية التسوية والذي يقوم على تطويع مواقف الأنظمة العربية والطرف الفلسطيني والضغط عليها، بما يستجيب لشروط المواقف الإسرائيلية.
وحول مفهوم المرحلة وإدارة الصراع: ترى الوثيقة أن " شرطاً أولياً لإدارة الصراع على نحو فعال ونشط يكمن في القدرة على رؤية لوحة الصراع أو "مسرح العمليات" إن جاز التعبير، بشكل كامل ودقيق".
كما تتوقف القدرة على امتلاك رؤية سليمة ودقيقة، ضمن هذا الواقع المتشابك والمعقد والمتحرك، على توفير شروطها ومعاييرها، وعلى رأس هذه وجود أداة فكرية - سياسية – تنظيمية قادرة على تلبية الشروط الواجبة، بما يستدعيه ذلك ويقتضيه من مناهج تفكير وذهنية علمية وتغذية معرفية سليمة ومتواصلة، تشمل مختلف جوانب الواقع التاريخية والراهنة، ومختلف المستويات السياسية – الاجتماعية – الاقتصادية – الثقافية.
فما دام المشروع الصهيوني يهدد كل جوانب حياة المجتمع الفلسطيني، إذن المواجهة معه يجب أن تجري عند كل جانب وفي كل زاوية تتبدى المساحة الشاسعة للصراع في:
حق العودة - الدولة - القدس – السيادة - إزالة الاستيطان – المياه – الاستقلال الاقتصادي – الزراعة – حماية المؤسسات الوطنية المدنية – التعليم – الصحة – الرياضة – التنمية – الصناعة – التراث – الآثار – الحريات – البيئة – القانون – الموسيقى – السينما – المسرح – الأدب – العمل – الثقافة – التاريخ – العمارة – حرية المرأة – حقوق الطفل ..الخ. حيث يحتاج كل واحد من هذه العناوين إلى آليات وبرامج وكفاءات خاصة تتلاءم مع كل خصوصية من خصوصيات هذه العناوين، وعلى رأسها تعدد التجمعات الفلسطينية.
خلاصة القول –حسب الوثيقة- "أننا أمام لوحة واسعة متناقضة، ونشطة، متحركة ومفتوحة بالكامل على المستقبل ولنا بها بمقدار ما علينا. وبناء عليه، فمن غير الممكن التعامل معها بنجاح وبصورة متحركة باستمرار، دون وعيها على نحو كفؤ وشرط ذلك، امتلاك عقل ورؤية تصل إلى مستوى استيعاب كل حركية وتناقض ونشاط لوحة الصراع بكل أبعادها ومستوياتها الممتدة في المكان والزمان والوجدان، والتي تحكم المرحلة بما هي مرحلة تحرر وطني وديمقراطي ببعديها التحرري والاجتماعي في آن".
في ضوء ما تقدم، تحذر الوثيقة من " اعتبار م.ت.ف إطاراً أدى دوراً ووظيفة في مرحلة معينة، والآن استنفذت ذاتها، ووصلت إلى طور السقوط والتلاشي. إن التسليم بهذا الخيار يؤدي إلى التقاطع مع هدف الاحتلال لتصفية المنظمة، إضافة أنه يضرب بصورة نهائية المضمون الأساسي للمنظمة كمعبر عن وحدة الشعب الفلسطيني وكيانيته الشرعية".
لكن بقاء الحال على ما هو عليه، وترك المسألة برمتها تحت رحمة الواقع –كما تضيف الوثيقة - فإن النتيجة إفساح المجال أمام المشروع الإسرائيلي لتصفية المنظمة دون مقاومة من ناحية، وتركها تحت رحمة وهيمنة الفريق المتنفذ من ناحية أخرى.
نلاحظ في هذا الجانب ، أن الجبهة الشعبية ما زالت تنطلق في تعاملها مع م.ت.ف ، بأنها وبالرغم من كل ما لحق بها، "لا تزال تمثل شعبياً وقانونياً إطاراً وطنياً جمعياً، ومعبراً معنوياً وكيانياً عن وحدة الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يعني أن المنظمة تبقى معبراً عن معاني ومضامين وحدة الشعب السياسية، وبالتالي فهي ومضامينها ميدان لصراع القوى السياسية، دون أن يصل ذلك الصراع إلى حدود المساس بها كوجود قانوني وإطار مؤسساتي عام".
يستدعي ما تقدم "تحويل موضوع منظمة التحرير إلى ميدان مجابهة ضد نهج يبدد دورها ومكانتها، ويواصل توظيفها بصورة استخداميه لخدمة خيار أوسلو، وهو ما يصب في خدمة محاولات الكيان الصهيوني شطب المنظمة وإنهائها. إذن فإن التعامل مع م.ت.ف مسألة متحركة ترتبط بمدى التزام المنظمة بالثوابت الوطنية الفلسطينية والدفاع عنها".
وهذا يفرض بالضرورة مغادرة مناهج التفكير والممارسة السابقة لقوى المعارضة على هذا الصعيد، بما يعنيه ذلك من ضرورة الانتقال لمناهج عمل أكثر فاعلية تحول م.ت.ف إلى عنوان لمواجهات ملموسة تشارك بها القوى الاجتماعية والسياسية في مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني.
وفي تناولها لمفهوم ومضمون البديل، تطرح الوثيقة السؤال الجوهري التالي : هل نحن في الجبهة أمام مشروع ديمقراطي شامل أم إعلان سياسي للتاريخ؟ تقدم الوثيقة إجابة تحمل في طياتها حسماً سياسياً ومعرفياً عبر العلاقة الجدلية والعضوية بين البعدين الوطني والقومي معاً، وذلك في تأكيدها على " أننا أمام عملية تاريخية هائلة الزخم، وصراع شامل يطال أبعد الزوايا وأدقها. رغم تركز الصراع وكثافته في فلسطين بحكم اختيارها كمنطقة "إنزال" للمشروع الإمبريالي – الصهيوني في قلب العالم العربي، إلا أن أهداف ذلك "الإنزال" الاستعماري التاريخي أبعد وأشمل من ذلك بكثير".
وبهذا المعنى، يغدو الصراع حتى ولو كان عنوانه تحرير فلسطين، صراعاً من أجل تحرير الأمة العربية، وتأمين شروط وعناصر نهوضها المادية والثقافية، وبما أن نتائج الصراع التاريخي تتقرر في ضوء قدرة كل طرف على تركيز وتركيم مكونات القوة الشاملة، لإحداث الإزاحات الملائمة في ميزان القوى، فإنه يغدو بحكم البديهة العلمية اعتبار عامل الحسم في الصراع هو العامل الداخلي، إذ أن هذه العملية التاريخية ببعديها الوطني – التحرري، والاجتماعي – النهضوي، هي عملية واحدة تجري في ذات الوقت، ويستحيل عملياً فصل أحد البعدين عن الآخر".
ما تقدم، "يفرض استحقاق البديل الوطني الديمقراطي وشروط قيامه بصورة قسرية. نقول بصورة قسرية، حيث إننا أمام لوحة تحكمها تناقضات الصراع التاريخية والراهنة أو التي لا تزال في رحم المستقبل. لوحة تعبر عن شمولية الصراع وتاريخيته. صراع يديره الطرف الآخر، بكل ما يملك من قوة وبراعة مستفيداً من آخر ما وصلت إليه البشرية من منجزات العلم والتكنولوجيا والإدارة على مختلف المستويات".
"هنا تقع مكانة الحالة الديمقراطية في الساحة الفلسطينية والدور التاريخي الذي ينتظرها في هذه المرحلة الدقيقة حيث سيتقرر غير شأن مصيري ، وتملأ المساحة الفارغة التي ما زالت تنتظر إطارها التاريخي، القادر على تقديم الرؤية وتقدير اللحظة والدور والمكانة ومؤهل ليعبر عنهما:".
في ضوء المعنى الدقيق المشار إليه، "يمكن قراءة التحديات والأسئلة الكبرى التي تواجه البديل الوطني الديمقراطي، واستنتاج أننا أمام عملية عميقة وشاملة تستدعي القطع الجدي مع الفكر السائد، الذي يحصر مفهوم البديل الديمقراطي في وحدة بعض الفصائل الديمقراطية الفلسطينية. تكمن معضلة هذا الفكر في أنه لا يذهب بالمسائل إلى جذورها، بل يعيد إلى إنتاج الأزمة، لأنه يعود إلى نفس الذهنية والمفاهيم السياسية التي قادت إلى الأزمة".
إن كلفة إخفاق التيار الديمقراطي في تأدية دوره ووظيفته كبديل وطني ديمقراطي تاريخي لليمين الفلسطيني، تتجاوز حدود هذا التيار، لتصيب في النهاية الشعب الفلسطيني الذي فقد، بسبب إخفاق وعجز التيار الديمقراطي عن تأدية دوره ووظيفته كبديل تاريخي، عنصر التوازن المطلوب في حياته السياسية، تاركاً الفرصة لذهنية التفرد والهيمنة والهبوط في مستوى معايير الأداء ربطاً بغياب الرقيب – المنافس – البديل...الخ.
وبالتالي فإن " البديل الوطني مشروعاً تاريخياً للمستقبل، يقوم على وعي ذاته كرؤية وبنى وممارسة شاملة لعموم المستويات، ويتحرك على أساس محددات الصراع الإستراتيجية، وبالاستناد لما تقدم فإن الحديث عن البديل الوطني الديمقراطي يفقد علميته ومنطقه حين يبتذل إلى مستوى النظر لكارثة أوسلو، والتعامل معها وكأنها نتيجة نهائية أو خيار وحيد ممكن لحركة الصراع الفلسطيني – الصهيوني، وبالتالي التأسيس عليها وكأنها منصة الانطلاق لأية مهام قادمة".
إن البديل المطلوب، لا بد وأن يكون من خارج أوسلو، لأن غير ذلك يضع النضال الوطني الفلسطيني ضمن دينامية سياسية اجتماعية في منتهى الخطورة، بحكم القيود والهيمنة التي كرستها إسرائيل في الاتفاقات الموقعة وما تفرضه من وقائع مادية ميدانية، الأمر الذي يتيح لها تكريس مصالحها كإطار مرجعي يمكنها من استخدام عناصر تفوقها لتعزيز إنجازاتها من جانب، وقطع الطريق على محاولات النهوض الوطني الفلسطيني من جانب آخر.
بناء على ما تقدم، "فإن مفهوم البديل الوطني الديمقراطي يعني رؤية الواقع ومستجداته وحركته، لخدمة الرؤية الشاملة للصراع الوطني التحرري والاجتماعي الديمقراطي. بهذا المعنى، تتضح فكرة القطع مع أوسلو كمنهج وخيار التصرف تجاهه كواقع معطى".
أما بالنسبة لموقف الجبهة من قوى الإسلام السياسي ، فإن "الوثيقة تؤكد على ما تضمنته وثيقة الكونفرنس الوطني الأول تجاه قوى الإسلام السياسي انطلاقاً من أن تلك الرؤية لا تزال تحتفظ بصحتها، وتضيف الوثيقة "إن قوى الإسلام السياسي هي مكون طبيعي من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية على الرغم من أية خصوصيات تمثلها، وعلى هذا الصعيد يهمنا أن نؤكد بأن الجبهة الشعبية ترى في تلك القوى إحدى دوائر الفعل والتفاعل الوطني، وذلك على قاعدة الوحدة والصراع كقانون يجب أن ينظم العلاقات بين القوى الوطنية في أوساط الشعب الفلسطيني".
          وهنا لا يجوز أن توضع علامة مساواة بين قوى الإسلام السياسي بما هي قوى وأحزاب وتنظيمات لها برامج ومواقف وممارسات محددة، وبين الإسلام كدين وعقيدة وفضاء فكري وحضاري لشعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية.
          حيث أننا بهذا المعنى "فإننا جزء من هذا الفضاء حيث يغدو التراث والحضارة الإسلامية مكوناً عضوياً من مكونات خصوصيتنا الثقافية.
 أما بالنسبة لعلاقة الجبهة مع قوى الإسلام السياسي فهي "علاقة متحركة وجدلية تبعاً لتناقضات الواقع السياسية والاجتماعية، ومع ذلك فهي تمتاز في هذه المرحلة بتقاطع أعلى على الصعيد السياسي حيث نقف والقوى الإسلامية على أرضية المعارضة والمواجهة لمشاريع التسوية الأمريكية – الإسرائيلية ، بينما على الصعيد الاجتماعي فإن التعارض والتناقض أكثر حضوراً، سواء على صعيد فهم الديمقراطية كقيم وآليات وممارسة لبناء المجتمع ومؤسساته أو تجاه القضايا الاجتماعية الرئيسية حرية المرأة، حرية الاعتقاد وحرية التعبير والاجتهاد وحرية الإبداع الثقافي وقضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية بمختلف تجلياتها".
وفي ضوء ما تقدم فإن العلاقة مع القوى الإسلامية هي علاقة تقوم على الاحترام وتحشيد الطاقات والجهود في مواجهة التناقض الرئيسي مع الاحتلال والشرائح المتحالفة معه من جانب، وعلى الصراع الديمقراطي فيما يتعلق بالتناقضات الاجتماعية والثقافية وما تعكسه من برامج وممارسات وقيم.
كما تستذكر الوثيقة -الصادرة عن المؤتمر السادس- موضوعة التحول – كحزب ماركسي- بقولها " إن إعادة الاعتبار للتحول، بما هو عملية تجديد مستمر، تحفظ للجبهة الشعبية تاريخها وحقوقها، وتسلحها بمبدأ أن يكون التجدد جوهر حياة الحزب ومصدر شبابه، وهذا غير ممكن إلا إذا واصل الحزب تجدده بصورة دائمة كحامل لمصالح وأهداف الشعب الوطنية والاجتماعية العليا، ليس في مرحلة ما ، بل في كل المراحل. إن شرط ذلك، وكما هو معروف، تحضير الذات، وعبر التجدد، للمستقبل.
وتضيف الوثيقة مخاطبة كافة الرفاق في الجبهة " إن واجبنا جميعاً ، سواء في هيئات الحزب و منظماته و أعضائه أو أصحاب فكر و مسؤولية وطنية الارتقاء لمستوى هذه المهمة الإنهاضية الكبرى ، بوصفها شأناً وطنياً قبل أن تكون مسألة حزبية ، بهذا نؤسس جميعاً في الداخل و الخارج فكرياً و عملياً، للانتقال من مرحلة الأزمة و المراوحة و الإحباط و اليأس و التذمر إلى مرحلة النهوض عبر تلبية اشتراطاتها و استحقاقاتها التي نحن على ثقة أننا قادرون عليها ، فيما لو قمنا بما نستطيع .كما أننا على ثقة أن الحزب يملك ممكنات النهوض ، على الرغم من كل الأثقال التي يعاني منها و التحديات الوطنية الكبرى التي تواجهه ، و مفاعيل الأزمة التي يعيشها" .
أخيراً ، يهمنا أن نشير إلى أن عملية التحول عاشت نوعاً من المفارقة او الثنائية المتناقضة ، فالجبهة الشعبية وعلى الرغم من توجهها الماركسي نظرياً، إلا أنها لم تستطع إعادة صياغة وتطوير الوثيقة النظرية الماركسية، ولم تستطع أيضاً الموائمة أو التفاعل الايجابي بين هويتها الماركسية المعلنة وفق وثائق مؤتمراتها ، وبين سياساتها وبناها التنظيمية التي لم تستطع توفير الأسس المطلوبة لعملية التفاعل أو التزاوج بين النظرية من ناحية وتلك البنى التنظيمية من ناحية ثانية، ويعود السبب في ذلك إلى طبيعة الذهنية السائدة في معظم الهيئات والكوادر القيادية المقررة في الجبهة في تلك المرحلة ، والتي ظلت كما يبدوا أسيرة لماضيها ، خاصة فيما يتعلق بالتزامها بالمفاهيم القومية التقليدية و عدم قدرتها في فهم واستيعاب طروحات النظرية الماركسية ومنهجها من ناحية، إلى جانب قصور أو تقاعس معظم أعضاء الهيئة القيادية للحزب عن الاهتمام بعملية بلورة آليات التحول الفكري الماركسي في صفوف كوادر الحزب وقواعده عبر إعادة صياغة الوثيقة الفكرية وتعميمها من ناحية ثانية، مما أثر على فعالية الجبهة وأدى في بعض الاحيان إلى عزلتها، إلى جانب أن عدداً من القرارات أو الممارسات التي أكدت أن تجربة الجبهة التاريخية (السياسية والفكرية خصوصاً) –واللاحقة فيما بعد- لم تخلُ من أخطاء على حد قول المؤسس الراحل د.جورج حبش  حينما أكد على "أننا لم نستعمل عقلنا كما يجب، كنا نقاتل بسواعدنا أولاً وبقلوبنا ثانياً... أما العقل فلم نستعمله بما فيه الكفاية" ، وفي قوله أيضاً "إن إلتزام الجبهة بالفكر الماركسي لم يمنع وقوعها في بعض الأخطاء والفهم الميكانيكي للمسائل"، ولذلك فإن دروس وعبر مؤتمرات الجبهة وقراراتها الخاصة بموضوع التحول ، تتجلى في ضرورة النظر إلى عملية التحول ، كعملية جدلية في إطار المنظومة الفكرية والسياسية والتنظيمية المتكاملة، بحيث لا يجوز للكادر أن يكتفي فقط بقراءة العديد من الكتب الماركسية دون أن يتعاطى مع القضايا الأخرى ، السياسية والتنظيمية ، والمجتمعية ، والجماهيرية برؤية شمولية مترابطة ، فالقراءة أو التثقيف الحزبي، على أهميته وضرورته وأولويته القصوى ، إلا أنه يظل طريقاً أو بعداً أحادياً لا يمكن ان يحقق تأثيره أو نتائجه المأمولة في عملية التحول بدون التفاعل مع كافة القضايا الأخرى بصورة شاملة ومترابطة ، بحيث يمكن عندئذ الحديث عن تحول النظرية الماركسية إلى منهج عمل ، وإلى سياسات وأوضاع وهياكل تنظيمية متلائمة مع شروط التحول، وبدون ذلك تظل الماركسية مجرد لافتة حمراء أو شعاراً مرفوعاً محكوماً للشكل أو المظاهر بعيداً عن الجوهر الحقيقي الذي توخته أو استهدفته عملية التحول منذ المؤتمر الأول للجبهة.
 
المحطة السابعة : المؤتمر الوطني السابع – ديسمبر 2013
بتاريخ 28/11/2013 – ولغاية 3/12/2013 وفي رحاب احتفالنا بالذكرى السادسة والأربعين لانطلاقة الجبهة، تم عقد مؤتمرنا الوطني السابع بتزامن موحد ومنظم في كافة فروع الحزب/الجبهة في الوطن والمنافي تحت شعار "المؤتمر الوطني السابع محطة هامة على طريق النهوض والثورة المستمرة حتى تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني " حيث قام الرفاق أعضاء المؤتمر في كل حلقة من حلقاته بانتخاب هيئة رئاسة المؤتمر وإقرار جدول الأعمال في إطار التنسيق الشامل بين جميع الحلقات في تنسيق وإدارة المؤتمر وفق آليات عمل مشتركة استندت إلى آليات ديمقراطية في كل أعمال وقرارات المؤتمر وفقاً لنصوص وشروحات نظامنا الداخلي باعتباره المرجعية الدستورية الناظمة لمؤتمراتنا وعلاقاتنا التنظيمية الداخلية بين هيئات وأعضاء الجبهة الشعبية.
هذا وقد تم افتتاح المؤتمر بكلمة الرفيق المناضل الأسير الأمين العام أحمد سعدات بدأها بتوجيه "التحية إلى ذوي الشهداء والجرحى والأسرى مصدر اعتزازنا ومعين صمود شعبنا ، مستذكراً رفاقا قادة مؤسسين وأعضاء في اللجنة المركزية العامة، فقدناهم بين المؤتمرين، المؤسس والقائد القومي والوطني والأممي الرفيق جورج حبش والرفيق الشهيد القائد أبو علي مصطفى، والرفيق أبو ماهر اليماني، وكوكبة من الرفاق القادة، معاهداً الجميع مواصلة الاستمرار في خنادق النضال، حتى تحقيق أهداف شعبنا في التحرير والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة".
ثم تطرق الرفيق الأمين العام إلى التحولات العالمية قائلاً " ينعقد مؤتمرنا الوطني السابع، ونحن على عتبة تحولات كبرى على الصعيد الكوني والقومي. فالجماهير التي طالما كانت ولا زالت رهاننا الأول، وموقع الثقة والأمل، تعبر عن إرادتها في لحظة ظن البعض أنها لن تقوم أبدا، وعلى وقع حراكها تتغير معادلات دولية، فعالم القطب الواحد ينسحب من الواجهة لصالح حالة جديدة يصبح فيها الشرطي الأمريكي الذي صال على مدى عقدين من الزمان قوة عظمى تتقدم قوى أخرى، وهو لا ينفك يعاني من أزمة اقتصادية بنيوية متفاقمة، ومن فشل متتابع لحروبه ولسياساته الدولية على وقع حركات الشعوب سواء في وطننا العربي أو في أمريكا اللاتينية، أو حراك الطبقات الشعبية ضد عولمة الليبرالية الجديدة المتوحشة".
كما أشار الرفيق الأمين العام إلى الحراك الثوري العربي بقوله " يأتي مؤتمرنا متزامنا مع حراك شعبي عربي يشكل في جوهره العام حالة استفاقة من سبات طويل، تعزز الأمل بالتغيير الوطني والديمقراطي الاجتماعي والسياسي، واستعادة الجماهير لثقتها بطاقاتها وقدرتها على إحداث التغيير، واستعادة زمام المبادرة، رغم ما يعتري ذلك من مخاطر محدقة بها تهدف إلى إجهاضها وحرف مسارها عن أهدافها الحقيقية ببناء الدولة المدنية الديمقراطية المستقلة السيدة والعادلة.
وهذا يحتاج منا في الجبهة الشعبية تعميق الرؤية  ضمن أبعادها الوطنية والقومية والأممية، كما يطرح علينا وعلى القوى الثورية العربية، مهام تفعيل وتطوير العمل القومي المشترك، بما يفضي إلى مشروع قومي نهضوي تقدمي وديمقراطي، على طريق بناء أداته السياسية القومية التقدمية الموحدة".
وأضاف الرفيق الأمين العام قائلاً "إن المفارقة الكبرى، أن انتفاضة شعبنا الكبرى عام 1987، كانت ملهما أساسيا للشباب العربي، في حين لا زالت البرجوازية الكومبرادورية والطفيلية الفلسطينية بشقيها الديني والوطني، تضيف مزيدا من الإحباط في أوساط الجماهير الفلسطينية جراء الاحتراب على سلطة محدودة، ولدت فسادا سياسيا وماليا وإداريا، وثقافيا، جراء المراهنة على أوهام لم تتحقق".
واستطرد الرفيق الأمين العام قائلاً "إننا إذ لا نقلل من خطر الإسلام السياسي على قضيتنا الوطنية والديمقراطية، بعد تحولاته الأخيرة واختياراته التي لا تفيد العملية التحررية الوطنية، نرى أن الخطر الثاني بعد خطر الاحتلال كخطر رئيسي مستمر وقائم، هو الهبوط السياسي للقيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية، واستجابتها للضغوط الأمريكية والصهيونية، وذلك يملي على الحزب وقوى وشخصيات اليسار الفلسطيني، إدراك عمق التحولات الطبقية والسياسية التي طرأت على البرجوازية الطفيلية في منظمة التحرير الفلسطينية، إن المطلوب هو عدم التماهي معها أو مهادنة مواقفها تحت فزاعة مواجهة الخطر الأصولي كوجه آخر لعملة البرجوازية الطفيلية ذاتها. هذا يملي علينا كحزب ثوري وقوى يسارية أن نُبرز رؤيتنا الثالثة المستقلة والنابعة من مصالح وطموحات الجماهير الشعبية التي تعبر يوميا عن استيائها مما آل إليه وضع قضيتنا".
وعلى أثر ختام كلمة الرفيق الأمين العام، استكمل مؤتمرنا الوطني السابع أعماله تتويجاً لممارسة الديمقراطية الداخلية في كافة منظمات الحزب/الجبهة منذ بداية العام 2013، التي قامت بمناقشة الوثائق المقدمة للمؤتمر، وانتخاب مندوبيها إليه، حيث نوقشت أثناء انعقاد المؤتمر بروح عالية من الوعي والمسؤولية وصولاً إلى الصياغة النهائية للوثائق.
أولاً: التقرير السياسي :
 
أ- الوضع الدولي :
أكد المؤتمر على أن تشخيصنا للواقع الدولي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار متابعة المتغيرات الدولية واتجاه حركتها السياسية التي تؤثر بالسلب أو الإيجاب على نضالنا الوطني، بمثل تأثيرها على مجمل نضال القوى اليسارية والديمقراطية الثورية العربية، وذلك انطلاقاً من الترابط الوثيق راهناً ومستقبلاً بين البعدين القومي والوطني في النضال التحرري ضد الكيان الصهيوني والوجود الامبريالي من جهة والنضال الديمقراطي ضد القوى والأنظمة الرجعية وكافة مظاهر الاستغلال الطبقي والاستبداد من جهة ثانية.
وهنا بالضبط، تتجلى دعوة المؤتمر إلى قراءة مشهد التحولات العالمية الجارية، بما يمكن كوادر وأعضاء الحزب، وأنصاره وأصدقاءه وجماهيره من وعي هذه التحولات وكيفية التعاطي معها وتوظيفها واستثمارها في نضالنا الوطني والقومي، خاصة التحولات في الأقطاب العالمية المؤثرة في المشهد العالمي الراهن، كالصين وروسيا ودول أمريكا اللاتينية والهند، القادرة على بلورة مواقف وسياسات معارضة أو متناقضة مع سياسات ومناهج الأحادية الأمريكية المعولمة، بما يتيح لشعبنا العربي الفلسطيني وكل شعوبنا العربية، بقيادة قواها الثورية الديمقراطية، مزيداً من الفرص والإمكانات الأكثر ملائمة وانسجاماً مع أهداف نضالنا التحرري الديمقراطي التقدمي من ناحية، وبما يمكننا من الاسهام في تفعيل دور الجبهة مع بقية القوى والأحزاب التقدمية العربية، للاستفادة من بعض جوانب المشهد السياسي الدولي الجديد لصالح قضايا شعبنا وشعوب أمتنا العربية، وذلك كله سيظل مرهوناً بدورنا الذاتي من أجل الارتقاء بعلاقاتنا السياسية مع كافة القوى اليسارية والديمقراطية الثورية  والدول الصديقة في المشهد العالمي الراهن.
ب- الوضع العربي:
في قراءته للأوضاع العربية، أشار المؤتمر بوضوح، إلى الحالة المأساوية التي تعيشها البلدان العربية طوال العقدين الماضيين، حيث فقد العرب سيادتهم وقوتهم وأمنهم، وبات الوطن العربي من أكثر المناطق تأثراً بسلبيات الهيمنة الامبريالية الأمريكية المعولمة، التي استطاعت عبر عملاؤها من الشرائح الكومبرادورية والطفيلية والبيروقراطية الحاكمة في مجمل الأنظمة العربية، أن تكرس مظاهر التبعية والاستغلال الطبقي والتخلف والاستبداد، الأمر الذي أدى بأقطار الوطن العربي إلى مزيد من التفكك والغرق في السياسة القطرية على حساب المصالح القومية، حيث تحولت الجامعة العربية إلى ديكور وغطاء يستر أزمات وخلافات الأنظمة.
 ونتيجة لهذه التراكمات السالبة والخطيرة، أكد المؤتمر على أن النظام العربي الرسمي انفصل عن المجتمع العربي، وعن مسارات الديمقراطية، حيث تكرست مظاهر الاستبداد وغياب الديمقراطية، وضرب الحريات العامة، إلى جانب المزيد من مظاهر الفساد والإفقار والبطالة وتفاقم الأوضاع الاجتماعية والتفاوت الهائل في الثروات والدخل في ظل غياب أي سياسات للتنمية المستقلة المعتمدة على الذات.
وارتباطاً بهذه الاستنتاجات، دعا المؤتمر إلى ضرورة المراجعة الشاملة لمسيرة حركة التحرر العربي، من خلال إعادة الاعتبار للفكر التقدمي الديمقراطي، وفتح حوار شامل –بين كافة أطراف هذه الحركة- حول الإشكالات الكبرى والمصيرية، بما يمكننا من توسيع جبهة المواجهة، والتصدي لكل مظاهر الاستبداد والاستغلال والقمع والإرهاب الفكري الذي تعيشه شعوبنا العربية.
كما أكد المؤتمر، على أننا بحاجة لصيغة جديدة للثورة العربية، ذات بُعد اجتماعي طبقي وتوجه ديمقراطي، صيغة تلتصق بالجماهير، وتنخرط بها وتسعى لإيجاد البدائل البرامجية الثورية الديمقراطية، الكفيلة برفع المعاناة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للجماهير الشعبية التي وصل البؤس والإحباط في أوساطها، إلى حد اللجوء إلى الحركات السلفية والتيارات الأصولية، وأخذ القرارات والتوجهات التي تحقق ذلك ، الى جانب هجرة الملايين من أبناء هذه الامة بدولها المختلفة الى المنافي .
وفي تحليله للانتفاضات الشعبية وسقوط رؤوس الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن وامتدادها إلى معظم الأقطار العربية، رأى المؤتمر في هذه الحالة الثورية، بداية مشهد عربي جديد، يجسد تطلعات وإرادة الجماهير العربية التي أثبتت وبرهنت على أن لديها من قوة التغيير ما يؤهلها لإسقاط أنظمة الاستبداد والاستغلال، إذا ما توفرت القوى الطليعية الثورية التقدمية الديمقراطية المعبرة عن تطلعاتها وأمانيها.
لكن غياب أو ضعف هذه القوى، كما لا حظ المؤتمر، أدى إلى توفر الفرص لكي تقطف حركات الإسلام السياسي عموماً، وجماعة الإخوان المسلمين خصوصاً، ثمار الحالة الثورية والاستيلاء على السلطة والحكم في تونس ومصر بعد سقوط النظام فيهما، بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية وعملائها في الأنظمة الرجعية، لكن الجماهير العربية سرعان ما اكتشفت زيف شعارات وبرامج الجماعات الإسلامية، وعدم اختلافها في الجوهر عن سياسات وبرامج الأنظمة المخلوعة من حيث استمرار التبعية وتفاقم مظاهر الفقر والبطالة والغلاء، إلى جانب تفاقم مظاهر التخلف الاجتماعي عبر دعوة هذه الجماعات إلى معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من خلال منطق غيبي تراجعي عاجز عن بلورة برنامج ديمقراطي تنموي يلبي الحد الأدنى من الأهداف التي قامت الجماهير بالثورة من أجل تحقيقها، وبالتالي فإن مشهد الإسلام السياسي في السلطة، في مصر وتونس وليبيا وغيرها، لم ولن يجلب للجماهير العربية سوى المزيد من الاستبداد والاستغلال والتخلف، ما يعني عودة أدوات الظلم والظلام بلباس جديد لإعادة تشكيل بلدان النظام العربي في إطار أشكال جديدة من التبعية للامبريالية الأمريكية والنظام الرأسمالي العالمي، خاصة وان الجماعات الإسلامية أثبتت –عبر مواقفها السياسية التاريخية في المرحلة الماضية أو في المشهد الراهن- أنها لا تتناقض مع السياسات والرؤى الامبريالية.
وهنا بالضبط، رأى المؤتمر، إن الضرورة التاريخية الراهنة، تستدعي من القوى والأحزاب اليسارية والديمقراطية الثورية في كل بلد عربي، تركيز أهدافها ومهماتها الديمقراطية، السياسية والمجتمعية، عبر التواصل والتأثير في صيرورة الحراك الثوري العربي الراهن، وان تتحمل هذه القوى مسئوليتها الكبرى، في كونها تشكل في هذه المرحلة طليعة الحامل السياسي الاجتماعي الديمقراطي من أجل تغيير الواقع الراهن وتجاوزه، وتحقيق تطلعات وأهداف جماهير الفقراء من العمال و الفلاحين وكل المظلومين والمضطهدين في إطار مواصلة النضال الديمقراطي من اجل استكمال مهمات الثورة الوطنية الشعبية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.
فمع استمرار سيرورة الحالة الثورية العربية وتحقيقها لأهدافها، يصبح من الطبيعي أن يتأسس على ذلك فضاءً قومياً عربياً ديمقراطياً على الصعيدين الشعبي والرسمي، يشكل حاضناً ووعاءً للقضية الفلسطينية انطلاقاً من أن الصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع عربي صهيوني امبريالي بالدرجة الأولى ، وفي طليعته شعبنا الفلسطيني وفصائله الثورية المناضلة، الأمر الذي يؤشر على أن الوجود الإسرائيلي هو رهن سكون أو فعالية اللحظة السياسية والثورات الشعبية العربية ومستقبلها.
 
ج- الوضع الفلسطيني:
ضمن الاستخلاصات الرئيسية، فقد أكد المؤتمر على أن ما تَعَرَّضَ له شعبنا من متغيرات خطيرة أصابت ثوابته وأهدافه الوطنية منذ توقيع اتفاق أوسلو 1993 وتراكماتها المتفاقمة حتى لحظة انعقاده، تفرض علينا في الجبهة الشعبية أن نناضل –بصورة ديمقراطية- لتفعيل دورنا عبر رؤيتنا السياسية وبرنامج الجبهة في ممارسة كل أساليب الضغط والمواجهة الديمقراطية داخل مؤسسات م.ت.ف، ضد كافة السياسات الهابطة وكل مظاهر الهيمنة البيروقراطية والتفرد، وذلك من أجل تجديد بنية م.ت.ف والحركة الوطنية الفلسطينية وتخليصها من هيمنة القوى الطبقية والسياسية اليمينية المتنفذة ورموزها التي أسهمت في ما وصلت إليه الأوضاع الفلسطينية من تراجع مستمر وهبوط سياسي متصل عبر تراكماته منذ لحظة الاعتراف بدولة العدو الصهيوني حتى اللحظة الراهنة من مواصلة عملية التفاوض العبثي مع حكومة نتنياهو بإشراف أمريكي منحاز للشروط الإسرائيلية.
وبالتالي فأن عملية التجديد التي أكد على ضرورتها مؤتمرنا الوطني السابع، تستهدف تجديد وتطوير مسيرة نضال شعبنا وانجازاته التي حققها عبر عقود من التقسيمات والمعاناة والنضال، وهذا يعني تجديد أهم إطار سياسي جامع لشعبنا، ونقصد بذلك منظمة التحرير الفلسطينية، التي اكتسبت صفة تمثيلية عامة عبر مسيرتها الطويلة والمتعرجة .
إن إدراك مؤتمرنا لحقيقة الأزمة المعقدة التي دخلتها الحركة الوطنية الفلسطينية ،وعجزها عن تحقيق عملية التحرر الوطني وفق مواثيق م.ت.ف.، ورضوخ قيادتها للشروط الأمريكية والإسرائيلية، والتخلي عن برنامج الإجماع الوطني واستبداله بالبرنامج السياسي والطبقي (أوسلو) المعبر عن مصالحها الأنانية الضيقة، إلى جانب عجز البديل اليساري عن النهوض، وتفاقم الصراع على السلطة والمصالح بين الهوية الوطنية الديمقراطية العلمانية لشعبنا، وبين هوية الإسلام السياسي القائمة على رؤية ماضوية، يمينية، تفتح الطريق أمام الاستبداد والإكراه الاجتماعي، وكل هذه الأسباب والعوامل، التي وقف أمامها المؤتمر تشخيصاً وتحليلاً، هي التي دفعته إلى التأكيد على عملية التجديد في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية في م.ت.ف، وفق رؤية وطنية ثورية وديمقراطية، انطلاقاً من إدراك المؤتمر أن التآكل الكبير الذي أصاب مكانة م.ت.ف. ومؤسساتها، إنما هو أحد تجليات حالة التآكل والتراجع في نضالنا الوطني التحرري، وتحديداً منذ اندراج القيادة المتنفذة في م.ت.ف. في نهج ومسار أوسلو واستمرارها بذات النهج اليميني الاستسلامي حتى اللحظة.
ومن ناحية ثانية، أكد المؤتمر على أن الإعلاء المتعمد لمكانة السلطة الفلسطينية على حساب مكانة ودور ومرجعية م.ت.ف. قد سدد ضربة قاسية لمكانتها نتيجة فقدانها الحفاظ على الأفكار الوطنية التوحيدية الناظمة لوعي شعبنا وأهدافه الوطنية الكبرى.
لذلك رأى المؤتمر أن عملية التجديد يجب أن تتضمن ما يلي:
أولاً: التجديد للالتزام بالثوابت الوطنية الفلسطينية : بالميثاق الوطني الفلسطيني/ وبرنامج الاجماع الوطني / البرنامج السياسي للمنظمة – وعلى الأخص التمسك بحق العودة لشعبنا وتقرير المصير والدولة المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.
ثانياً: بلورة إستراتيجية راهنة للنضال الوطني الفلسطيني، تقوم على الثوابت التي جرت الإشارة إليها من جانب، وتستجيب لمتطلبات الكفاح الوطني الفلسطيني في ظل الظروف المعطاة من جانب آخر.
ثالثاً: تعزيز وحدة شعبنا الفلسطيني ووضع حد لحالة التآكل التي نشأت خلال العقد الأخير (داخل خارج) (ضفة غزة) (شمال جنوب).إن تجديد وتعميق الصلات بين أبناء شعبنا في كافة أماكن تواجده يمثل هدفاً راهناً وعنواناً يتوجب علينا الإمساك به بكل قوتنا.
رابعاً: إن تحقيق حق العودة هو هدف فلسطيني وعربي في آن واحد.. وبالتالي فإن إعادة إطلاق مفاعيل الترابط بين العمق العربي – الشعبي من جانب، والنضال الوطني الفلسطيني من جانب آخر، وبما يعيد الاعتبار للعمق العربي في الصراع الدائر بين شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية وبين المشروع الصهيوني المجسد بدولة الاحتلال، إنما يمثل ضرورة وعنواناً أصيلاً في عملية تجديد مبنى م.ت.ف.، ومجمل مركبات حركة التحرر الوطني الفلسطيني.
 
أما بالنسبة لتشخيص وتقييم الانقسام والصراع على المصالح بين حركتي فتح وحماس، فقد أكد المؤتمر أن ظاهرة الانقسام ليست جديدة أو طارئة في الساحة الفلسطينية، حيث تجلى الانقسام في أكثر من محطة ومرحلة سياسية طوال العقود الستة الماضية، لكنه كان انقساماً حول كيفية إدارة الصراع مع الكيان الصهيوني في كل مرحلة من مراحل النضال، حيث تكرس – طوال العقود الأربعة الماضية- منهجان سياسيان في التعاطي مع قضايا الصراع، منهج التسوية السياسية، ومنهج استمرار النضال والمقاومة.
وقد استمر النهجان في الصراع داخل م.ت.ف ، لكن في حدود الخلاف في الآراء السياسية دون الوصول إلى التنكر للمنظمة ومكانتها او الفصل الجغرافي أو الجهوي، لكن محطة أوسلو، وقيام سلطة الحكم الإداري الذاتي في الضفة وقطاع غزة، شَكَّلا نقطة انعطاف حادة في مسار الانقسام السياسي الفلسطيني ليتحول إلى انقسام على الثوابت والرؤى والمواقف والممارسات والجغرافيا .
وفي السياق ذاته، يرى المؤتمر، أن ظواهر الهبوط عن الثوابت والاستبداد والفساد التي تراكمت واستشرت في السلطة الفلسطينية، قدمت بعداً موضوعياً وذاتياً في فوز حركة حماس في الانتخابات التي جرت في يناير 2006.
كما لاحظ المؤتمر، أن حركة حماس، بدلاً من أن تشكل بفوزها بالأغلبية في انتخابات يناير 2006، مساراً جديداً في الحياة السياسية الفلسطينية، راحت بعيداً تحت تأثير نشوة الفوز في إطار استمرار عملية الصراع على السلطة والمصالح مع حركة فتح، بالإقدام على الحسم العسكري في الرابع عشر من حزيران 2007، وضرب مفهوم وركائز الديمقراطية التي أوصلتها إلى السلطة، كما ضربت مبدأ الحوار الوطني، كناظم سياسي وديمقراطي لبلوغ شعبنا ومجتمعنا الغايات والأهداف التي ناضل – ومازال- من أجلها.
وبالتالي، أصبحت حركة حماس هي البديل "الشرعي" لكل ما هو شرعي ووطني، وفرضت نموذجاً في قطاع غزة، لا يختلف في جوهره كثيراً عن نموذج حركة فتح، بل فاقم من سياسة التفرد والهيمنة والقمع والملاحقة، بما أدى إلى إنتاج ظواهر سياسية ومجتمعية في قطاع غزة بالذات، غريبة عن موروث مجتمعنا الفلسطيني.
والمحصلة من تجربة فتح وحماس –كما أكد المؤتمر – فشلهما في نقل المجتمع الفلسطيني من حالة الاستبداد والتراجع الاجتماعي والهبوط السياسي إلى حالة ديمقراطية تعددية في إطار الحراك الوطني التحرري والثوابت والأهداف الوطنية، وهذا الفشل مازال عنواناً ومؤشراً سلبياً خطيراً في حياة شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات منذ حزيران 2007 حتى اللحظة، حيث تراجع مشروعنا الوطني التحرري الديمقراطي الفلسطيني وتقدم الصراع على السلطة والمصالح الفئوية بين حركتي فتح وحماس على حساب المشروع الوطني التحرري.
أمام هذه الصورة القاتمة، أكد المؤتمر على أن الجبهة الشعبية، بما تمثله من موقع مسئول وروح وطنية عالية وحريصة على مشروعنا الوطني التحرري، لم تكن مع فريق في مواجهة الفريق الآخر، وظلت مع مشروعنا الوطني التحرري والاجتماعي الديمقراطي، ومع تعزيز صمود شعبنا ومقاومته، ورفضت المشاركة في الحكومات الفئوية في غزة أو رام الله، واستمرت في ممارسة موقفها وقناعاتها في مقاومة ورفض الحسم العسكري وتداعياته، وتمسكت –وما زالت – بالحوار الوطني الشامل مدخلاً وحيداً لمعالجة الخلافات والتعارضات، وأعلنت تجريمها اللجوء إلى الاعتقال السياسي، وحرصت –ومازالت- على ممارسة كل أشكال الضغط الشعبي الجماهيري من أجل إنهاء الانقسام والتمسك الدائم بإرساء أسس النظام السياسي الفلسطيني الديمقراطي التعددي.
وفي هذا المجال، أشار المؤتمر إلى ضعف البديل الديمقراطي المطلوب لمجابهة الانقسام ومظاهر الهبوط السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الفلسطيني، وذلك انطلاقاً من رؤية الجبهة الشعبية لمفهوم البديل الوطني الديمقراطي، الذي لا نعتبره ضرورة وطنية ومجتمعية وسياسية فحسب، بل نعتبره عملية سياسية اجتماعية وفكرية شاملة في مواجهة عملية سياسية اجتماعية نقيضة قادت الوضع الفلسطيني على مدار عقود نحو مواقع الفشل والهزيمة.
بناء على ما تقدم، فإن المؤتمر يرى أن بديلنا الوطني الثوري والديمقراطي ليس نزعات سياسية يومية.. أو ردات فعل سياسية من واقع الأحداث السياسية الجارية.. إنما بديلنا هو خيار استراتيجي لمواجهة استحقاقات الصراع الشامل والموضوعي والمفتوح مع الاحتلال، والصراع مع اليمين المهيمن سياسياً وفكرياً، (وذلك انطلاقاً من أن الجبهة الشعبية ترى في البديل الوطني والديمقراطي أداة صراعية مع المحتل.. ومع برامج اليمين بشقيه الليبرالي السياسي والإسلامي) في إطار رؤية شاملة للصراع التحرري والاجتماعي والديمقراطي .
أما بالنسبة للموقف من الحل المرحلي، فإن المؤتمر أعاد التأكيد على أن تبني الجبهة للمرحلية في النضال، كان هدفاً مرحلياً في إطار رؤيتنا الإستراتيجية لأنها لم تتخلى – ولن تتخلى – عن رؤيتها لطبيعة الصراع الدائر فوق أرض فلسطين من حيث كونه صراعاً يدور بين المشروع الصهيوني المُعَبِّر عن مصالح النظام الرأسمالي العالمي من جانب، وبين شعبنا الفلسطيني صاحب الأرض والتاريخ إلى جانب شعوبنا العربية التي تدرك اليوم أن الدولة الصهيونية أسهمت في احتجاز تطورها وتكريس تبعيتها وتخلفها، حيث يتضح للجميع أن الصراع مع دولة العدو هو صراع عربي صهيوني امبريالي بالدرجة الأولى.
ولذلك رأى المؤتمر أن أية مراجعة نقدية للمسارات السياسية التي شهدها الصراع مع الكيان الصهيوني، تقودنا لاستنتاج واحد محدد وهو: إن الحل النهائي لهذا الصراع لن يتم فعلاً إلا بقيام دولة فلسطين الديمقراطية على كامل تراب فلسطين التاريخية وحل المسألة اليهودية ضمن هذا المنظور.
على أن هذه الرؤية الإستراتيجية، لا يمكن أن تتوفر لها عوامل الانتصار، بدون استنهاض الحزب، واستنهاض الحركة الوطنية الفلسطينية وتطوير أوضاع المجتمع والشعب الفلسطيني في الوطن والمنافي بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والتنموية والثقافية، وبالتالي فإن المؤتمر أكد على أن مهمة إعادة التوازن للحياة الاجتماعية والسياسية الفلسطينية باتت تشكل ضرورة وواجباً وطنياً ملحاً، واستحقاقاً راهناً لا مستقبلياً، وهذا يفرض علينا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين النضال من أجل تجاوز الوضع القائم صوب وضع تحرري ، ديمقراطي وثوري على الصعيدين السياسي والمجتمعي ، يستند إلى العدالة الاجتماعية والديمقراطية في إطار رؤيتنا الوطنية المستندة إلى قطع كل علاقة سياسية واقتصادية مع الدولة الصهيونية، ومن ثم تحقيق الرؤية التنموية التي تستهدف بالأساس تعزيز صمود الإنسان الفلسطيني عبر تحسين ظروفه المعيشية وتوفير المتطلبات الأساسية الاجتماعية والثقافية والروحية، وهي تنمية تتقاطع مع عمقها العربي، وذلك انطلاقاً من إدراك المؤتمر بأن الرؤية التقدمية للتنمية، هي رؤية كفاحية، تهدف إلى تحقيق الاستقلال الوطني الناجز، لان لا تنمية حقيقية مستقلة بدون طرد الاحتلال وتحقيق الحرية والاستقلال ومن ثم مواصلة النضال – في إطار الثورات العربية- من اجل تحقيق الهدف الكبير في فلسطين الديمقراطية لكل سكانها، كبديل تاريخي وحل تاريخي .
ثانياً : الهوية الفكرية للجبهة :
إدراكاً من الوعي بأن لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية، فقد أكد المؤتمر مجدداً على الاسترشاد بالنظرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي، مشيراً إلى التعاطي معها بروح عالية من التجديد والتطور الفكري المنسجم مع قضايا واقعنا الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي بعيداً عن كل مظاهر الجمود الفكري العقائدي.
وبالتالي فإن الحديث عن تجديد الماركسية يجب أن يعني استيعابها لواقع المجتمع والشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، إلى جانب الواقع الاجتماعي لبلدان الوطن العربي وخصوصيته والتطورات التي شهدها ارتباطاً بالمتغيرات العالمية الراهنة، ويرى المؤتمر أن من واجب القوى اليسارية العربية، الاستفادة من خبرة التجربة التاريخية السابقة للعمل على إنتاج الماركسية وتطبيقها وفق خصوصية الواقع في هذا البلد أو ذاك، وذلك عبر الكشف المتصل عن القوى ذات المصلحة في التحرر والتقدم الاجتماعي والتنمية المستقلة المعتمدة على الذات، والنضال من أجل الديمقراطية الحقيقية بأبعادها السياسية الاجتماعية والاقتصادية، ومراكمة كل أشكال الوعي الثوري المنظم (الحزب) عبر الممارسة اليومية المتصلة مع الجماهير الشعبية من العمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين لمراكمة عوامل التغيير الثوري والتحولات النوعية الثورية الكفيلة بتحطيم بنية أنظمة التبعية والاستبداد والتخلف والاستغلال الطبقي وتأسيس النظام الديمقراطي الشعبي بآفاقه الاشتراكية .
هذا وقد اختتم المؤتمر أعماله بتوجيه التحية إلى الرفاق الذين أخلوا مواقعهم القيادية، ثم قام  بانتخاب لجنة الرقابة المركزية واللجنة المركزية العامة والتي بدورها اجتمعت بعد انتهاء أعمال المؤتمر وقامت بانتخاب الرفيق أحمد سعدات أميناً عاماً للجبهة والرفيق أبو أحمد فؤاد نائباً للأمين العام وبقية أعضاء المكتب السياسي بصورة ديمقراطية، وقد بلغت نسبة التجديد في اللجنة المركزية 65%، وفي المكتب السياسي 55%، ونسبة تمثيل المرأة في الهيئات المركزية بلغت 20%.
 


 
المراجعة النقدية للمرحلة الراهنة والمستقبل
 
إن الجبهة الشعبية، بالرغم من كل ما رافق هذه المسيرة المليئة بالانجازات والالتواءات والانكسارات، والمطبات السياسية وغير السياسية، استطاعت الحفاظ على دورها، وعلى أدائها، انطلاقاً من إيمانها العميق بمبادئها ورؤيتها ودورها ليس في مجابهة الاستحقاقات الراهنة في كل لحظة بما في ذلك الوضع المأزوم الراهن فحسب بل في الإسهام الثوري في صنع وبلورة معالم المستقبل الذي تتحقق فيه أهداف وأماني شعبنا وامتنا العربية في التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية.
وفي الوقت الراهن، فان الوضع الفلسطيني بات يقض مضاجع الجميع، وباتت الجبهة الشعبية أمام أسئلة مستجدة، تدعوها لإزاحة وتجاوز مشكلاتها الخاصة ، وهي قادرة للنهوض بدورها الطليعي في جبهة اليسار والتيار الديمقراطي النقيض لقوى اليمين في حركتي فتح وحماس .
ولعل المهمة الملحة التي يتوجب أن يتصدى لها عموم أعضاء الجبهة في هذه المرحلة ، هي مهمة ردم الفجوة بين القضايا السياسية والفكرية والتنظيمية كما أقرتها وثائق المؤتمرات الوطنية من ناحية ، وبين الواقع السياسي والفكري والتنظيمي من ناحية ثانية ، ففي ظل موازين القوى الدولية والعربية المختلة لصالح التحالف الإمبريالي الصهيوني وموقفه النقيض للحد الأدنى من ثوابت وأهداف شعبنا الوطنية ، بات واضحاً، أن التصوّر الصهيوني يتمسك بلاءات خمسة هي: لا انسحاب من القدس ، لا انسحاب من وادي الأردن، لا إزالة للمستوطنات، لا عودة للاجئين، ولا للدولة الفلسطينية المستقلة، الأمر الذي يفرض على الجبهة الشعبية أعباء ومسئوليات كبرى ارتباطاً بدورها في المرحلة الراهنة عموماً ودورها المستقبلي الطليعي على وجه الخصوص، وهذا يتطلب إسهام الجميع في مناقشة القضايا المطروحة بكل مسئولية ووعي – من اجل بلورة الأسس الفكرية والسياسية والتنظيمية التي تكفل نهوض الجبهة ، بما يمكنها من تحديد رؤيتها ومهامها ووحدتها الداخلية للمرحلة القادمة بدقة.
 ذلك إن صحة الوظائف السياسية والتنظيمية والفكرية والاجتماعية والجماهيرية للجبهة  تتحدد في ضوء مدى تأسيس تلك الوظائف على رؤية صائبة ، وأن تصاغ بدورها انطلاقا من قراءة واعية وموضوعية لكافة المتغيرات السياسية والمجتمعية والفكرية ، سواء على الصعيد الفلسطيني أو العربي أو الدولي ، وهنا بالضبط يتجسد المعنى الحقيقي للأعباء والمسئولية الملقاة على عاتق كل عضو من أعضائها، وصولاً إلى النتائج المأمولة التي ستمكنهم من  تحقيق عملية النهوض بالجبهة صوب دورها الطليعي المنشود.
فإذا كانت مسؤولية الرفاق أعضاء الجبهة الدخول إلى المعرفة الموضوعية في كافة القضايا والمهام الملقاة على عاتقهم، فالأولى بهم أن يتفحصوا أولا ، سلامة سلاحهم على هذا الصعيد أي الأدوات المعرفية المستخدمة، ونقصد بذلك الماركسية ومنهجها المادي الجدلي، ذلك إن نجاحهم في تأدية مهمة أرادوها لأنفسهم هو رهن تحديدها بدقة،  وإذ يواجهون اليوم مرحلة جديدة ،  فيجب أن يبقى ماثلا في أذهانهم أنها من طبيعة تراكمية وتكاملية قادت وتقود إلى حصيلة إجمالية لا يجوز رؤيتها بمعزل عن عناصرها المكونة، ومن هذا المنطلق يمكن تقييم وثائق ومؤتمرات الجبهة عبر مسيرتها ،  فالمؤتمر الوطني –في هذه المرحلة أو في المستقبل- ليس إلا جزأ من عام هو مسيرة الجبهة،  ولكن يمكن النظر إليه كعام قائم بذاته، يتكون من خاص أول، هو الوثائق، وخاص ثاني، وهو الأهم ارتباطاً بالنقاش الواعي المعمق لتلك الوثائق ، واشتقاق المهمات ووضع خطط تنفيذها واختيار القيادة التي تقود كل ذلك ، وبناء عليه ، فإن جميع الرفاق أمام مهام متصلة ، تتحدد قيمة كل واحدة منها فيما يسبقها وما يليها من مهام.
    انسجاما مع كل ما تقدم فأن منطق الأمور، أن ينطلق جميع الرفاق في نقاشهم للوثائق المطروحة –في المؤتمرات الوطنية أو الفرعية- من فكرة مركزية وجوهرية مفادها أنهم جميعاً سيتعاطون مع هذه الوثائق لكي يبلوروا معاً نصاً واضحاً للجبهة الشعبية يعكس صورتها الحقيقية والشاملة ، كما هي في الواقع والماضي وكما يجب أن تكون عليه في المستقبل ، لا نصا يمثل رأي هذا الرفيق أو ذاك ، هذه الجهة التنظيمية أو تلك، في فترة أو أخرى.
ولذا ، فإن البداية الصحيحة لنقاش أي مسألة كانت، تكمن في الاتفاق أولاً على ماهية المنهج السليم للنقاش ولإدارة الحوار ، وهذا ليس اختصارا للوقت ، بل الشرط الذي لا غنى عنه لكي يذهب البحث والنقاش صوب جوهر القضايا ولا يغرق في التفاصيل بما يضمن، تحقيق هدف المؤتمر ووظيفته التي تتحدد في استشراف الخطوط الرئيسية للمستقبل انطلاقا من الحاضر والماضي ، عبر وثائق تعكس ضرورات الواقع ورؤية المستقبل في آن واحد، خاصة وأن أي مؤتمر للجبهة ، في هذه المرحلة، سيعقد  في ظل حقبة انتقالية بين مرحلتين تاريخيتين نوعيتين، مرحلة الحركة الوطنية بكل أطيافها المحمولة بالهوية الوطنية وتراجع وهبوط القيادة المتنفذة في هذه المرحلة من ناحية ، ومرحلة صعود التيار الديني _ حماس وبروز وانتشار هوية الإسلام السياسي من ناحية ثانية، وبالتالي لا مجال لاستقامة القول بـ"الحزب الطليعي" وفي آن القول بـ"الحزب متدني المستوى فكرياً".
وفي هذا الجانب فإن البداية معروفة، وهي أن نكون –في الجبهة- غير ملتبسين، وأن نكون شيئاً حقيقياً وموحدا في الداخل أي ديمقراطيين فعلا وماركسيين ثوريين سياسياً وأيديولوجياً فعلاً في نفس الوقت.
وبالتالي فإن القول بدور تاريخي للجبهة الشعبية ليس إلا فرضية على جميع الرفاق واجب إثباتها عبر التفاعل والتطابق الجدلي بين النظرية كما بلورتها وثائق مؤتمرات الجبهة وبين الممارسة النضالية والسياسية والمجتمعية والجماهيرية.
إن ما تقدم، يتطلب من الجبهة ترسيخ الأسس العلمية الصحيحة لبناء حركة ثورية صحيحة تطرد كل مظاهر الأزمة الفكرية والتنظيمية والسياسة ، بما يمكنها من مواجهة هذه التحولات السريعة المعقدة على المستوى المحلي و القومي والعالمي، و إلا فإن مسيرتها التحررية الوطنية الديمقراطية ستضل الطريق، إذا لم نلتزم بصورة واعية وخلاقة بعيدة عن الجمود، بالأسس التي  يقوم عليها الحزب الثوري وهي تحديداً أربعة أسس :
1)    الأساس التنظيمي.
2)    الأساس الأيديولوجي.
3)    الأساس السياسي.
4)    الأساس الكفاحي بكل مضامينه التي يتوجب أن تجسد بوعي عميق وإرادة صلبة جوهر الأسس الثلاثة السابقة.
فإذا تعرضت هذه المبادئ لأي شكل من أشكال التعطيل أو الرخاوة، فلا معنى لذلك سوى تعريض الحزب بهذه الدرجة أو تلك لحالة من الركود أو التراجع والشلل ومن ثم الخضوع للنزعات الانتهازية والشللية المدمرة لأفكار الحزب ومبادئه وفاعليته.
وإذا كفّت أيديولوجيا الحزب وفكره ومنهجه الماركسي عن الاستجابة لما يرغب ويفكر به الرأي العام ويعبر عن مصالح الجماهير الشعبية وطموحاتها فإن الحزب يفقد تأثيره تدريجياً فلا حركة ثورية بدون نظرية ثورية.
فالحزب الماركسي الثوري، ليس المنظم والقائد والطليعة للجماهير الفقيرة وكافة المضطهدين فقط، بل إنه أساساً "مُدخل" الوعي لها.
وفي ضوء ما تقدم فإن عقد المؤتمر الوطني، أو المؤتمرات الفرعية ، ليس مجرد "فشة خلق" وإنما "جزء من سياسة حل "، يبقى السؤال المفتاحي حاضراً في كل لحظة: ما الذي نريده كحزب من المؤتمر؟
ما نريده من المؤتمر، محطة لإعادة النظر في فهم إدارة الصراع ضد المشروع الصهيوني من جانب، وأبعاد ومضامين وأشكال أدائنا تجاه ذلك الصراع من جانب آخر، وبما يُؤَمّن القدرة على استثمار ما تملكه الجبهة من مخزون أو أرصده نضالية راسخة في ذهنية قسم هام من أبناء شعبنا، يضاف عليها ما تملكه من رؤى ومواقف سياسية ومنطلقات فكرية هي الأكثر تعبيراً –من حيث المصداقية- عن طموحات الأغلبية الساحقة من شعبنا، لكن نجاح هذا الاستثمار مرهون بإزالة كل العقبات التي تحول دون بناء الحزب الثوري كاولوية تعلو على كل ما عداها من تحالفات او تجمعات ديمقراطية أو يسارية، إذ أن الشرط الأول لنجاح أي من هذه التحالفات أو الأطر مرهون بعملية استكمال عناصر البناء الحزبي الداخلي في هيئات ومراتب الجبهة  -بصورة ديمقراطية- تنظيمياً وفكرياً وسياسياً .
وهنا بالضبط تتجلى الأهمية القصوى المترتبة على طرح سؤال الأزمة الراهنة وكيفية تفكيكها ومجابهتها والخروج منها صوب النهوض ؟  إذا أردنا الإجابة على هذا السؤال، يجب أولاً أن نؤكد على أن اليسار الذي نعنيه هنا هو اليسار الماركسي في بعده القومي (ضمن الخصوصية ال قطر ية في كل بلد) الذي يستهدف – على الصعيد الإستراتيجي، الإسهام في الثورة القومية التحررية الديمقراطية ، وإقامة مجتمع اشتراكي عربي، الأساس فيه تحرير الوطن والمواطن. تحرير الوطن من الاغتصاب وكل أشكال الاحتلال أو السيطرة الأجنبية، ومن التخلف والتبعية والاستغلال الخارجي، وتحرير المواطن من كل أشكال الاضطهاد الوطني والاستغلال الطبقي ومن الاستبداد ومن كل ما يحول دون الارتقاء بنوعية حياته وتحقيق ذاته.
إن الحاجة الموضوعية لاستنهاض اليسار ورص صفوفه وتقوية بنيانه في فلسطين وكل أقطار الوطن العربي، تبرز كضرورة ملحة في الظروف الراهنة المحكومة بكل عوامل الهبوط السياسي والتراجع الاجتماعي مع كل مظاهر القلق والإحباط، التي باتت تشكل مساحة واسعة في الذهنية الشعبية في بلادنا كما في كل البلدان العربية، وبالتالي فإن هذه الحاجة الملحة لنهضة اليسار عموماً ، والجبهة الشعبية على وجه الخصوص تزداد إلحاحاً في الظروف الراهنة للمجتمع الفلسطيني. إذ تتصدر الساحة السياسية مجموعتان تختلفان شكلاً رغم جوهرهما الواحد : مجموعة الرأسماليين المنضوين تحت لواء السلطة أو أنظمة الحكم، ومجموعة الرأسماليين المنضوين أو المتنفذين  في قيادة حركة الإخوان المسلمين (رغم القاعدة الشعبية الفقيرة والبرجوازية الصغيرة لهذه الحركة). أي أن الساحة السياسية العربية مسيطر عليها عملياً من جانب قوة واحدة (عبر برنامجين: اليمين "العلماني"، واليمين الديني) وهى الرأسمالية الطفيلية والكومبرادورية بالتحالف مع البيروقراطية الحاكمة وكلاهما محكومان –بهذه الدرجة أو تلك-  لقاعدة التبعية والتخلف، كما أن كل منهما لا يتناقض في الجوهر مع الإمبريالية والنظام الرأسمالي.
وهنا يتجلى دور الجبهة الشعبية في العمل الاستراتيجي الجاد من أجل الإسهام الفعال في وقف انحراف قيادة حركة التحرر الوطني وإعادة توجيه مسارها التحرري الديمقراطي في إطار إستراتيجية التحرر القومي العربي الأشمل ، وذلك مرهون بشرط ضمان وضوح رؤيتنا وبرنامجنا المرحلي المرتبط بتلك الإستراتيجية، فبالرغم من كل متغيرات المرحلة السابقة ، وعلى قاعدة المكانة التاريخية للجبهة ، بوصفها رمزاً للاستمرارية التاريخية لمسيرة شعبنا في نضاله من أجل تحقيق أهدافه الوطنية والديمقراطية ، فإن الجبهة الشعبية هي الأكثر مسؤولية إزاء المستقبل بمعنى إنها الأكثر تأهيلا لإخراج التجربة الفلسطينية من مأزقها التاريخي، إن ثمة دور تاريخي واجب الجبهة أن تؤديه تجاه نفسها أولاً ، وتجاه القضية الوطنية والقومية العامة ثانياً ، وذلك انطلاقاً من رؤية إستراتيجية واضحة تقوم على إنهاء الوجود الإمبريالي والصهيوني في بلادنا ولتكون فلسطين جزء من المجتمع العربي الاشتراكي، ما يعني مقاومة كل أشكال ومظاهر الاستسلام لميزان القوى الراهن، كما للوجود الصهيوني، وبالتالي النضال مع كافة القوى اليسارية والتقدمية العربية من أجل تغيير هذا الواقع العربي المهزوم، ليصبح الصراع ضد الوجود الصهيوني صراعاً عربياً – إسرائيلياً يستهدف تحقيق التحرر الوطني والقومي وينهي كل أشكال التبعية والخضوع والتخلف على طريق التطور والحداثة والعدالة الاجتماعية والوحدة.
إن المرحلة الراهنة بكل محدداتها ومتغيراتها العربية والإقليمية والدولية تشير بوضوح إلى أن آفاق النضال القطري الفلسطيني بدون ارتباطه ببعده القومي، شبه مسدودة، بعد أن بات واضحاً أن الخيار الذي قام على أساس أنه يمكن أن يحصل الفلسطينيون على دولة مستقلة عبر طريق التسوية الذي سارت عليه القيادة المتنفذة وأوصلها لاتفاقيات أوسلو كان وهماً، قاد إلى النهاية التي نعيشها، أي تراجع المقاومة وتوسع السيطرة الصهيونية على الأرض، وأيضاً انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتفكك النظام السياسي الفلسطيني ومعه تفككت أوصال المجتمع الفلسطيني الذي يبدو أنه ينقسم إلى مجتمعين، أحدهما في الضفة والآخر في غزة، في ظل أوضاع تشير إلى أن البنية والنهج – المتحكمان- بدرجة  واسعة في صيرورة الحركة التحررية الفلسطينية، يعانيان من أزمات مستعصية مرتبطة إما باليمين السياسي / فتح أو اليمين الديني / حماس أو بكليهما معاً، وهنا بالضبط تتجلى مهمة الجبهة في إدراك طبيعة المرحلة والقوى المؤثرة فيها، ومن ثم – وهذا هو الأهم– العمل على استنهاض وبناء أوضاعها الذاتية بحيث يصبح التطابق والتفاعل بين هويتها الفكرية وسياساتها -الوطنية والقومية والأممية- ودورها النضالي، التحرري والديمقراطي  قائماً ومنسجماً بما يضمن تمايزها في الفكر والسياسة والممارسة المجتمعية، بعيداً عن كافة المواقف التوفيقية أو الانفعالية من ناحية ، ونقيضاً سياسياً وديمقراطياً لقوى اليمين في كل من السلطة الفلسطينية والتيارات الدينية من ناحية ثانية.
إن الوضع الفلسطيني الآن يفرض علينا المراجعة الجدية الهادئة والمعمقة لكافة الأفكار التي طُرحت خلال العقود الثلاث الماضية ، بعد أن بات الحل المطروح مذاك ، أسيراً للشروط الأمريكية الإسرائيلية ، في ظل ما وصلت إليه أوضاعنا الداخلية ، وفي ظل الاعتراف العربي الرسمي المتزايد بالوجود الإسرائيلي.
فبالرغم من أن الجبهة ، قد أشارت مراراً في سياق رؤيتها للحل المرحلي، إلى أن حق العودة هو الجسر الذي يربط حقنا الوطني في الاستقلال وتقرير المصير وحقوقنا التاريخية في فلسطين، ومدخل لبناء دولة ديمقراطية واحدة كحل ديمقراطي شامل للصراع في فلسطين وحول فلسطين، كما التزمت في طروحاتها السياسية التكتيكية أو المرحلية بثوابت الإجماع الوطني، كما وردت في إعلان القاهرة سنة 2005، ووثيقة الوفاق الوطني 2006، ودعت دوماً إلى إعادة بناء م.ت.ف، وشَدّدت على الوحدة الوطنية "من أجل توفير الحماية العربية والدولية ونقل ملف القضية إلى الأمم المتحدة من خلال عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة وعلى أساس قراراتها التي تستجيب لحقوق شعبنا الوطنية في العودة وتقرير المصير وإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس".
إن ما وصلت إليه قضيتنا في المرحلة الراهنة من تراجع خطير، ليس فقط بسبب الوضع العربي الرسمي التابع والخاضع للسياسات الأمريكية ، وليس بسبب احتدام الصراع الداخلي بين فتح وحماس وآثاره الضارة على قضيتنا ومستقبلها فحسب، بل أيضاً ، وهذا هو الأساس بسبب الموقف الدولي عموماً والموقف الأمريكي خصوصاً، الداعم بلا حدود للدولة الصهيونية باعتبارها الحليف الاستراتيجي له في المنطقة العربية والإقليم الشرق أوسطي.
في ضوء ذلك نسأل مجدداً ، هل ظل مفهوم مرحلة التحرر في ظل القيادة الحالية لـ م.ت.ف والأطراف النافذة فيها صحيحاً ؟ وهل ظلت التقاطعات مع هذه الفئة هي ذاتها؟ إن الوضع الراهن يفرض إعادة نظر جذرية فيه من جهة، وفي القوى التي قادته من جهة أخرى. فهل ظلت قيادة السلطة معنية بالتحرير؟ لقد أصبحت سلطة وتمارس على هذا الأساس، ومصالحها الخاصة هي التي باتت تحركها وليس القضية الوطنية. واعترفت بالدولة الصهيونية متنازلة عن 80% من فلسطين وأكثر.. وهي خاضعة للولايات المتحدة والدول المانحة ومربوطة مالياً بها ، وهي أيضاً – كما أوضحت الجبهة في العديد من أدبياتها- على استعداد للتنازل عن مبدأ العودة كجوهر قضية اللاجئين، وهي مستمرة في سياسة التفاوض التي أعطت الدولة الصهيونية كل الوقت من أجل إكمال السيطرة على الأرض وإكمال الجدار والتحكم بالضفة الغربية .
أما بالنسبة لحركة حماس، ويمكن أن نتحدث طويلاً عن حماس، لكن يمكن القول بأنها تحمل مشروعاً آخر، يرى الأمور من زاوية أصولية دينية تفرض عليها موضوعياً ، أن تخضع لمنطق أيديولوجي يُغَلّب العقيدة على ما عداه، بحيث تسعى إلى إحلال هوية الإسلام السياسي محل الهويتين الوطنية والقومية ، وكل ذلك في سياق ترابطها العضوي المباشر وغير المباشر مع شرائح وفئات كمبرادورية ومالية وعقارية وطفيلية ، فهي إذن ، في الجوهر لا تختلف عن الطبيعة الطبقية لقيادة م.ت.ف، وان اختلف الشكل السياسي الظاهري بينهما ، بهدف استمرار الصراع والتفاوض علناً وبشكل مباشر، كما هو الحال مع قيادة فتح و م.ت.ف، أو سراً أو بشكل غير مباشر ، كما هو حال حركة حماس، التي يبدو أن الفرصة باتت مهيـأة لها -إذا ما أقدمت على تلك التنازلات- تحت غطاء الإسلام السياسي المعتدل، وعلى قاعدة فقهية تقول إن الضرورات تبيح المحظورات بما يحقق هدف الولايات المتحدة وإسرائيل في إسدال الستار على م.ت.ف لحساب ما يسمى بـ "مشهد الإسلام السياسي المعتدل" إذا ما بقيت أوضاع القوى الديمقراطية واليسارية والقومية على ما هي عليه من جهة وإذا ما توفرت مقوماته وعناصره الخارجية وفق مقتضيات ومصالح النظام الإمبريالي من جهة ثانية
لكن ما ترتبه الإمبريالية والصهيونية للمنطقة عموماً ولقضيتنا الوطنية على وجه الخصوص ليس قدراً لا يرد، حتى في ظل النجاحات والانجازات النوعية والكبيرة التي حققها الحلف المعادي، فهذا الواقع لن يكون أبدياً ونهائياً، وبهذا المعنى فإن الحركة الثورية الوطنية والقومية وبالاستناد إلى طبيعة المشاريع المعادية وتناقضها الجذري مع حقوق ومصالح شعبنا وامتنا، قادرة على الفعل والمجابهة وبما يؤسس لمرحلة نهوض جديدة أكثر نضجاً وأكثر استجابة لحركة الواقع الموضوعية والذاتية وطنياً وقومياً.
هذه هي النقطة التي يجب أن ننطلق منها، وهو الأمر الذي يفرض الربط بكلية الوضع العربي، أي بالنضال العربي ككل، شرط أن يكون النضال الفلسطيني في طليعته ، انطلاقاً من أن الصراع هو صراع الطبقات الشعبية في الوطن العربي ضد السيطرة الإمبريالية بما فيها الدولة الصهيونية كونها أداة في مصلحة الشركات الاحتكارية الإمبريالية.
وفي هذا الجانب ، فإن استكمال عملة النهوض الذاتي ، السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري والكفاحي للجبهة ، من أكثر المهام الداخلية إلحاحاً تمهيداً لإعادة بناء قوى اليسار الماركسي ووحدتها.
وهنا يتجلى دور الجبهة الشعبية لكي تكون قادرة على تأطير كل المناضلين الجديين، وفق رؤية تطرح للنقاش ، تقوم على :
أن الصراع هو صراع الطبقات الشعبية العربية ضد السيطرة الإمبريالية الصهيونية، والنظم الكومبرادورية التابعة. وهنا يجب أن يتحدد دور الطبقات الشعبية الفلسطينية في إطار هذه الرؤية/ الإستراتيجية.
أن لا حل تاريخي وعادل في فلسطين إلا عبر إنهاء الدولة الصهيونية في إطار الصراع العربي العام. وأن البديل هو الدولة الديمقراطية العلمانية بحقوق متساوية لكل مواطنيها.
  إعادة بناء العلاقة مع الطبقات الشعبية الفلسطينية في كل مناطق تواجدها انطلاقاً من هذه الأسس، وتوحيد نشاطها من أجل النهوض بالنضال من جديد، وتفعيل نشاطها ضد الاحتلال بمختلف الوسائل الممكنة.
ذلك أن الضياع في تفاصيل الوضع اليومي لن تقود سوى إلى التأخر عن البدء من البداية الصحيحة، وربما الفشل النهائي الذي سيفرز بدوره مزيداً من الفرص لقوى اليمين السياسي والاجتماعي للتمدد والانتشار، ما يعني إمكانية توفير المزيد من عوامل التراجع التنظيمي والجماهيري بالنسبة لليسار عموماً وللجبهة بشكل خاص ، وهو أمر يرفضه أعضاءها وأصدقاءها بصورة كلية واثقين من إمكانية تجدد دورها الطليعي في هذه المرحلة وفي المستقبل ارتباطاً بالتزامها بالأسس السياسية والفكرية والتنظيمية التي تُؤمن بها وتناضل من أجل تحقيقها.
 
المؤتمر الوطني الثامن وأولوياته الفكرية والتنظيمية والسياسية
 
إن الجبهة الشعبية ومنذ انطلاقتها رسمت وطرحت مشروعاً وطنياً نضالياً متميزاً, بل تخطت برؤيتها المستوى الوطني, نحو المستوى القومي والإنساني الأرحب عبر منطلقاتها الفكرية التقدمية, غير أن واقع الحال يشير إلى ما هو متعاكس مع هذه الرؤية وهذا الطموح, فتلبدت في الآفاق غيوم التأزم والعجز والقصور, رغم وقفة مؤتمراتنا الوطنية (الخامس والسادس والسابع) أمام مظاهر الأزمة وتأكيدها الصريح على ضرورة مغادرتها وتجاوزها بالتركيز على إعطاء القضايا الفكرية والتنظيمية الداخلية الأولوية القصوى في جهودنا الجماعية المشتركة, باعتبارها الحلقة المركزية التي تضمن في حال تحققها, تطوير الحزب وتأهيله فكرياً وسياسياً وتنظيمياً في مواجهة استحقاقات المرحلة المنحطة الراهنة, باعتبار هذه الحلقة هي الحجر الأساس لكل فعل راهن ومستقبلي في نشاط الحزب/الجبهة ، وبدون تطبيقها سيبقى الحديث عن دور الجبهة على الصعيد الوطني والديمقراطي والصعيد القومي حديثاً لا يرقى إلى مستوى الأفعال الملموسة والآمال المرتبطة باهداف وتطلعات شعبنا.
لذا لا بد لنا من أن نواجه أنفسنا بالسؤال التالي, إذا كانت الأوضاع الراهنة المتمثلة في استمرار هذه العظرسه والعدوانية الهمجية الصهيونية ضد شعبنا في ظل أنظمة عربية رسمية منحطة متخاذلة فقدت وعيها الوطني والقومي، الى جانب الانقسام الذي يهدد وحدة مجتمعنا وشعبنا بمزيد من عوامل التراجع والتفكك والاحباط واليأس بسبب استمرار الصراع على المصالح الفئوية بين حركتي فتح وحماس، تشكل أرضية ومناخاً محفزاً ودافعاً للانتساب إلى الجبهة/ الحزب ، فلماذا لم نتوسع تنظيمياً أو نثبت حضورنا في هذه المرحلة كما ينبغي ؟
وجوابنا الصريح على هذا السؤال المفصلي يكمن في استمرار ذيول تلك الأزمة ورواسبها وتفريعاتها, لذلك كله, فإن رسم أو وضع تصور لمغادرة هذه الأزمة وتجاوزها على كافة الصعد الفكرية والتنظيمية والسياسية للحزب قضية أكثر من عاجلة وشديدة الالحاح, ونحن على ثقة بقدرة رفاقنا ووعيهم على تحقيق هذا الهدف الذي يجب أن يبدأ أولاً وبصورة متوازية بالحلقتين التنظيمية والفكرية, ما يعني استعادة الجدية الكاملة في تقييم ومتابعة وتطبيق نظامنا الداخلي ومعطياتنا الفكرية ومبادئنا السياسية في صفوف الحزب بصورة عميقة وجوهرية وحازمة.
وبالتالي فان الخطوة الاولى لإعادة الاعتبار إلى دور ووظيفة الجبهة، ينبغي ان تبدأ بنقدها -في التطبيق- خاصة وأننا نعيش اليوم امام نتيجة مفزعة تحمل في طياتها مخاطر جدية تهدد مشروعنا الوطني وحقوق شعبنا بالتبدد، ما يفرض علينا في الجبهة، مزيداً من الجهد الواعي المنظم لاستعادة دور الحزب في التأثير الفعال على كل مجريات الأحداث والقضايا الوطنية والديمقراطية في المشهد السوداوي الذي يفرض علينا أن نعمل على الخلاص من كافة العناصر والمظاهر السلبية المتراكمة وأدواتها، سواء على صعيد العلاقات التنظيمية والنشاط السياسي بين الجماهير، أو على صعيد الهوية الفكرية .
والشرط الأول لهذا التوجه يكمن في : العمل على تأكيد وبلورة الوحدة الداخلية للحزب بالمعنى التنظيمي الصارم وفق محددات وقواعد الديمقراطية المركزية، وبالمعنى الأيديولوجي الصريح والعميق بالمنهج الماركسي ومضمونه الاشتراكي، بما يكفل إلغاء حالة التمزق والانفلاش والنزعات التكتلية والشللية، وإعادة الحياة للالتزام الكامل والخلاق بدستور الحزب –نظامه الداخلي- وتطبيقاته ومبادئه وبكل بند من بنوده.
أما الشرط الثاني: أن نطرح برامج عملية لحل كافة القضايا التي يعاني منها جمهورنا، لكي نكتسب المصداقية ونضمن نجاحنا في التوسع التنظيمي والانتشار بين صفوف جماهيرنا، بما يمكننا من العمل مع الجمهور لحل مشاكله الأساسية بما يوفر ويراكم مصداقية الجبهة في أوساط جماهير شعبنا عموما وفقرائه وكادحيه خصوصاً .
إن المخاطر الجدية التي تنتصب أمام شعبنا، في ظل المشروع الأمريكي الصهيوني الذي يستهدف تصفية قضيته وحقوقه، تحت ما يسمى بصفقة القرن أو مشاريع التسوية، إلى جانب دور العديد من الأنظمة العربية، خاصة في الخليج والسعودية، باتجاه تكريس التطبيع والاعتراف بدولة العدو الصهيوني، الأمر الذي يتطلب منا أن نُعلي من درجة الرفض الصريح لكافة مخططات التحالف الإمبريالي/ الصهيوني/ الرجعي، ومواجهتها ومقاومتها بكافة السبل والإمكانيات، رغم إدراكنا لموازين القوى المختلة مع العدو.
ان رفضنا ومقاومتنا هما مؤشران على القوة والصمود في وجه هذا العدو، وهنا تحضر أهمية وأولوية الحلقة التنظيمية بمجمل أبعادها ومحدداتها الفكرية والوطنية والاجتماعية، ونحن مقبلون  على مؤتمرنا الوطني الثامن.. فلا مواجهة ومقاومة ناجعة دون تنظيم (حزب) قادر على خوضهما، التزاماً بتواصل مسيرة النضال وصولاً إلى تحقيق أهداف شعبنا في الحرية والعودة والاستقلال وتقرير المصير، وإقامة دولته الفلسطينية على كامل ترابه الوطني.
الحوار الديمقراطي الداخلي: ارتقاء بالحزب وتجسيد للإرادة الجمعية للرفاق :
انسجاما مع رؤيتنا الجبهاوية ، حول تفعيل الحوار الديمقراطي الداخلي للارتقاء بالحزب، فإن منطق الأمور، أن ننطلق في نقاشنا للوثائق المطروحة على مؤتمرنا الثامن من فكرة مركزية وجوهرية مفادها أن المؤتمر هو أعلى هيئة حزبية قيادية، وفيه تتجسد إرادة مجموع الأعضاء وفق مبدأ المساواة الكاملة بين جميع أعضاء المؤتمر، ما يعني وجوب أن يتحمل كل عضو في هذا الجانب مسئوليته الكاملة في نقاش الوثائق وتقديم المقترحات بوعي عميق وبروح ثورية نقدية لكي نبلور معاً نصاً واضحاً للجبهة الشعبية، يعكس رؤيتها وبرنامجها ونظامها الداخلي بما يستجيب لاستحقاقات المرحلة الراهنة بكل متغيراتها ومخاطرها وآمالها، أي أن يعكس بوضوح ما يجب أن تكون عليه الجبهة في المستقبل.
لذلك ندعو إلى مزيد من الوعي وإعمال العقل في كافة الوثائق المطروحة، لمناقشتها، واغنائها وتطويرها بالمقترحات والأفكار، انطلاقاً من الوعي والموقف الجماعي بأننا لا نريد نصاً يمثل رأي هذا الرفيق أو ذاك، هذه الجهة التنظيمية أو تلك، في فترة أو أخرى.
 لذا، فإن البداية الصحيحة لنقاش أي مسألة كانت تكمن في الاتفاق أولا على ماهية المنهج السليم للنقاش ولإدارة الحوار ديقراطياً، كشرط لا غنى عنه لكي يذهب الحوار والنقاش داخل المؤتمر، بما يضمن تحقيق هدف المؤتمر ووظيفته التي تتحدد في استشراف الخطوط الرئيسية للمستقبل انطلاقاً من الحاضر والماضي بكل محدداتهما وشروطهما الواقعية والملموسة.
ذلك إن صحة الرؤى والقرارات السياسية والتنظيمية والفكرية لمؤتمرنا الوطني الثامن تتحدد في ضوء مدى تأسيس حوارات المؤتمر على رؤية صائبة ، انطلاقاً من قراءة واعية وموضوعية لكافة المتغيرات السياسية والمجتمعية والفكرية، سواء على الصعيد الفلسطيني أو العربي أو الدولي، وهنا بالضبط يتجسد المعنى الحقيقي للأعباء والمسئولية الملقاة على عاتق كل عضو من أعضائه، وصولاً إلى النتائج المأمولة في تمكين الجبهة من  تحقيق عملية النهوض صوب دورها الطليعي المنشود، الأمر الذي يستوجب الوقوف والتأمل والنقاش العقلاني الهادئ أمام الكلمات والمصطلحات والمفاهيم المطروحة في وثائق المؤتمر ، بما يضمن الوصول إلى بلورة الرؤية الموضوعية الشاملة للقضايا السياسية والفكرية والتنظيمية، كضمانة لمسيرة الجبهة في نضالها الراهن والمستقبلي لتحقيق أهداف شعبنا في العودة وتقرير المصير وتحقيق الهدف الاستراتيجي في إزالة الكيان الصهيوني وتحرير كامل التراب الفلسطيني وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية لكل سكانها وحل المسألة اليهودية وفق هذا المنظور .
وفي هذا السياق، لابد من التذكير بأن انتشار حركات الإسلام السياسي الرجعية لا يمكن أن يفسر بأنه نتاج لقوة  الحركات الإسلامية، بل إلى عدد من العوامل الهامة، من أبرزها، فساد وتبعية واستبداد النظام العربي واستغلاله البشع للجماهير الشعبية، وعجز البديل اليساري الديمقراطي، وأخيراً تخلف وقدرية البنية الاجتماعية للجماهير العفوية، إلى جانب عوامل خارجية سياسية وإعلامية أخرى مرتبطة بمصالح الولايات المتحدة والنظام الرأسمالي العالمي.
لذلك، فإن رفاقنا أعضاء المؤتمر الوطني الثامن للجبهة ، يتحملون المسئولية الكبرى والرئيسية في مراجعة الأداء السياسي/الفكري/التنظيمي، ومن ثم بلورة الأسس والمنطلقات السياسية والفكرية والتنظيمية التي تتناسب وتلبي احتياجات الحزب ، ليس للخروج من أزمته صوب النهوض فحسب، بل أيضاً لترسم أسس وآليات التعامل مع المرحلة الحالية ومتغيراتها الفلسطينية والعربية والإقليمية بوتائر صحيحة تعزز الإمكانات الكفيلة باستعادة الجبهة لدورها الطليعي المأمول، وهذا يتطلب من رفاقنا عموماً، ورفاقنا أعضاء المؤتمر خصوصاً، استعادة المفاصل الرئيسية التالية والالتزام الموضوعي والعقلاني بمضامينها:
1-  الالتزام بمبدأ النزاهة الفكرية والأخلاقية وضمانته الوعي والديمقراطية، ونبذ ذهنية التكتلات والشللية.
2-  ضرورة مغادرة الذهنية التي تتعاطى مع الفكر والتنظيم والسياسة بنوع من الانفعال والنزق، مع ضرورة تعزيز الديمقراطية وآلياتها في النقاشات والمخرجات.
3-  الالتزام الواعي بمنطلقات الجبهة، الوطنية والفكرية والتنظيمية كما أقرتها مؤتمراتها الوطنية ، كشرط لاستعادة دورنا الطليعي.
4-  الحرص على مراكمة النشاط العملي والوعي الذاتي بجوانب النظرية والواقع السياسي الاقتصادي، كمدخل رئيسي للتفاعل والاندماج في أوساط الجماهير الفقيرة، واستعادة ثقتها بالجبهة ودورها في الدفاع عن قضاياها ونضالها من اجل تحقيق أهدافها.
5-  التمسك بجدلية العلاقة التاريخية والمستقبلية بين خصوصية القضية الفلسطينية وبعدها القومي العربي في إطار حركة التحرر العربية التقدمية انطلاقا من ان الصراع مع العدو هو صراع عربي -  صهيوني بالدرجة الاولى يقف شعبنا وحركاته المناضله عموما والجبهة الشعبية خصوصا في طليعته.
إن ما تقدم ، يتطلب من جميع رفاقنا، المشاركة الفاعلة في الحوار والمداخلات بما يعزز ترسيخ الأسس العلمية الصحيحة لبناء حركة ثورية صحيحة تطرد كل مظاهر الأزمة الفكرية والتنظيمية والسياسة، بما يمكنها من ممارسة دورها في مواجهة هذه التحولات السريعة المعقدة على المستويين الفلسطيني والعربي، وإلا فإن مسيرتنا التحررية الوطنية الديمقراطية ستضل الطريق، إذا لم نلتزم بصورة واعية وخلاقة بعيدة عن الجمود، بالأسس التي  يقوم عليها الحزب/الجبهة؛ الأساس التنظيمي، والأساس الأيديولوجي، والأساس السياسي، والأساس الكفاحي بكل مضامينه التي يتوجب أن تتجسد بوعي عميق وإرادة صلبة جوهر الأسس السابقة، وأن لا تتعرض هذه الأسس/المبادئ لأي شكل من أشكال التعطيل أو الرخاوة، فلا معنى لذلك سوى استمرار تعريض الحزب بهذه الدرجة أو تلك لحالة من الركود أو التراجع ومن ثم الخضوع للنزعات الانتهازية والشللية المدمرة لأفكار الحزب ومبادئه وفاعليته.
المؤتمر الثامن: والمحطة النوعية المأمولة:
إن ما نريده من هذا المؤتمر، أن يشكل محطة نوعية لإعادة النظر في فهم إدارة الصراع ضد المشروع الصهيوني والمخطط الإمبريالي والرجعي من جانب، وأبعاد ومضامين وأشكال أدائنا تجاه ذلك الصراع من جانب آخر، وبما يُؤَمّن القدرة على استثمار ما تملكه الجبهة من مخزون أو أرصده نضالية راسخة في ذهنية قسم هام من أبناء شعبنا، يضاف عليها ما تملكه من رؤى ومواقف سياسية ومنطلقات فكرية هي الأكثر تعبيراً في مسيرتها الراهنة والمستقبلية –من حيث المصداقية- عن طموحات الأغلبية الساحقة من شعبنا.
لكن نجاح هذا الاستثمار مرهون بإزالة كل العقبات التي تحول دون بناء الحزب الثوري كأولوية تعلو على كل ما عداها من تحالفات أو تجمعات ديمقراطية أو يسارية، إذ أن الشرط الأول لنجاح أي من هذه التحالفات أو الأطر مرهون بعملية استكمال عناصر البناء الحزبي الداخلي في هيئات ومراتب الجبهة  -بصورة ديمقراطية- تنظيمياً وفكرياً وسياسياً، فالمؤتمر في كل الأحوال ليس من وظيفته ملاحقة السياسات الجارية، وإنما تحديد النواظم العامة لحركة الواقع السياسي ارتباطاً بمستوياتها المتنوعة.
إن المرحلة الراهنة بكل محدداتها ومتغيراتها العربية والإقليمية والدولية تشير بوضوح إلى أن آفاق النضال القطري الفلسطيني بدون ارتباطه ببعده القومي، شبه مسدودة، بعد أن بات واضحاً أن الخيار الذي قام على أساس أنه يمكن أن يحصل الفلسطينيون على دولة مستقلة عبر طريق التسوية الذي سارت عليه القيادة المتنفذة وأوصلها لاتفاقيات أوسلو كان وهماً، قاد إلى النهاية التي نعيشها، أي تراجع المقاومة وتوسع السيطرة الصهيونية على الأرض، وأيضاً انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتفكك النظام السياسي الفلسطيني ومعه تفككت أوصال المجتمع الفلسطيني، في ظل أوضاع تشير إلى أن البنية والنهج – المتحكمان- بدرجة  واسعة في صيرورة الحركة التحررية الفلسطينية، يعانيان من أزمات مستعصية مرتبطة إما باليمين السياسي / فتح أو اليمين الديني / حماس أو بكليهما معاً، في ضوء إمكانية التوافق على المصالح بينهما وانفرادهما بالوضع الفلسطيني الراهن وعنوانه الانقسام الكارثي .
وهنا بالضبط تتجلى مهمة الرفاق أعضاء المؤتمر في إدراك طبيعة المرحلة والقوى المؤثرة فيها، ومن ثم – وهذا هو الأهم– العمل على استنهاض وبناء أوضاعنا الذاتية بحيث يصبح التطابق والتفاعل بين هوية الجبهة الفكرية وسياساتها -الوطنية والقومية والأممية- ودورها النضالي، التحرري والديمقراطي قائماً ومنسجماً بما يضمن تمايزها في الفكر والسياسة والممارسة المجتمعية، بعيداً عن كافة المواقف التوفيقية أو الانفعالية من ناحية، ونقيضاً سياسياً وديمقراطياً لقوى اليمين في كل من فتح وحماس من ناحية ثانية.
وهنا تتجلى أهمية المراجعة واستعادة المبادرة بروح عاليه من النقد والمراجعة الموضوعية، لتفسير ما وصل إليه حالنا على الصعيدين الفكري والتنظيمي، بما يمكننا من تقديم أطروحة صائبة للأسئلة الكبيرة التي ستطرح على جدول أعمال المؤتمر، بحكمة وشجاعة لتحقيق المعالجة الجديه والمطلوبه لنهوضنا، كي يعود الحزب/الجبهة لدوره الطليعي على الصعيدين الوطني والقومي، والحال هذا فإن المراجعة الجادة ومن ثم تكريس وتعميق وعي الرفاق بأطروحتنا الفكرية الماركسية، ليست ترفاً كما يتوهم البعض، بل ضرورة لا غنى عنها في معركة سياسية، نضالية، تنظيمية، فكرية مشتعلة، هي جزء لا يتجزأ من الحرب الشاملة التي شنها ويشنها العدو الصهيوني الإمبريالي وتابعه معظم النظام الرسمي العربي، لتكريس فكرة الهزيمة نظرياً ونفسياً بعد صناعتها عملياً.
ذلك إن استمرار العنجهية الصهيونية وعدوانيتها النازية، إلى جانب أوضاعنا الفلسطينية الزاخرة بالتعقيدات والصراعات الفئوية والهبوط السياسي ومظاهر المعاناة والبطالة والفقر في المرحلة الراهنة، تؤكد على أن آفاق المستقبل مفتوحة أمام الجبهة، كما تؤكد أيضاً على الحاجة الموضوعية للوجود الطليعي الفعال للجبهة في الساحة السياسية، ولكن رغم انفتاح هذه الآفاق، ورغم نضوج الظروف الموضوعية من حولنا، إلا أننا لم نتفاعل كما ينبغي مع هذه الآفاق أو الظروف، وظل العامل الذاتي (الحزب) قاصراً أو متردداً أو رخواً، رغم كل نصوص وثائق الجبهة/الحزب التي توضح دون أدنى لبس، مدى التزامنا المبدئي في الاندماج والدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية وكل الفقراء والمهمشين ، بما يحقق أعلى درجات الوعي الثوري، كطريق وحيد لكي يتولى أبناء وكوادر الكادحين والفقراء مسيرة الحزب وقيادته على طريق تحقيق أهدافه العظيمة التي تأسس من أجلها.
الخروج من الأزمة صوب النهوض عبر الضرورة المصيرية:
إن الحاجة الموضوعية لتكريس الأسس والمنطلقات الثورية السياسة والفكرية والتنظيمية، في الجبهة/الحزب  ورص صفوفه وتقوية بنيانه في الوطن والشتات، تبرز كضرورة ملحة في ظروف تتفاقم فيها مظاهر التبعية والتخلف والخضوع والانحطاط الرسمي العربي، ومفارقاتها وتناقضاتها التي تتجلى في بروز وانتشار القوى والحركات اليمينية بمختلف أطيافها، خاصة حركات الإسلام السياسي السلفية المتطرفة، وما تمثله من برامج ورؤى سياسية اقتصادية اجتماعية رجعية تعيد تجديد مظاهر التبعية والتخلف وتكرسهما، بما يتناقض مع تطلعات الجماهير الشعبية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في إطار الثورة الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.
وبالتالي فإن الحاجة لنهضة اليسار العربي عموماً، والجبهة الشعبية على وجه الخصوص تزداد إلحاحاً في الظروف الراهنة للمجتمع الفلسطيني ولكل بلداننا العربية؛ خاصة وأن القوى الرأسمالية بجناحيها " السياسي " و" الديني " – في كل بلدان الوطن العربي -  وكذلك القوى الرأسمالية خارج هذين التيارين، لا تملك في الواقع مشروعاً وطنياً أو قومياً، نقيضاً للنظام الإمبريالي الرأسمالي، كما أنها لا تملك أيضاً مشروعاً وطنياً تنموياً؛  فالتنمية عندها هي ما تأتي به قوى السوق المفتوح والمبادرات العشوائية للقطاع الخاص المحلي الكومبرادوري الطفيلي الذي لا يستهدف سوى تحقيق الربح حتى لو كان على حساب دماء الطبقات الشعبية.
وهنا بالضبط يتجلى دور الجبهة الشعبية في العمل الاستراتيجي الجاد من أجل الإسهام الفعال في مجابهة فكر وسياسات قيادتي حركة فتح، وحركة حماس ، وانهاءالانقسام الكارثي ودفنه ، عبر تمسكنا بإعادة توجيه مسار التحرر الوطني الديمقراطي في إطار إستراتيجية التحرر القومي العربي الأشمل ، وذلك مرهون بشرط ضمان وضوح رؤيتنا وبرنامجنا اللذان سيصدرهما مؤتمرنا الوطني الثامن.
 فبالرغم من كل متغيرات المرحلة السابقة، وعلى قاعدة المكانة التاريخية للجبهة، بوصفها رمز للاستمرارية التاريخية لمسيرة شعبنا في نضاله من أجل تحقيق أهدافه الوطنية والديمقراطية، فإننا لا نبالغ في القول بأن الجبهة الشعبية هي الأكثر مسؤولية إزاء المستقبل بمعنى أنها الأكثر تأهيلا ًلإخراج التجربة الفلسطينية من مأزقها التاريخي، وبالتالي فإن ثمة دور تاريخي واجب الجبهة أن تؤديه تجاه القضية الوطنية والقومية العامة أولاً وتجاه نفسها ثانياً، انطلاقاً من رؤية إستراتيجية واضحة تقوم على إنهاء الوجود الإمبريالي والصهيوني في بلادنا ولتكون فلسطين الديمقراطية لكل سكانها، جزء من المجتمع العربي الاشتراكي، ما يعني مقاومة كل أشكال ومظاهر الاستسلام لميزان القوى الراهن، كما للوجود الصهيوني، وبالتالي النضال مع كافة القوى اليسارية والتقدمية الديمقراطية العربية من أجل تغيير هذا الواقع العربي المهزوم، ليصبح الصراع ضد الوجود الصهيوني صراعاً عربياً – إسرائيلياً في طليعته شعبنا وقواه المناضلة لتحقيق التحرر الوطني والقومي وانهاء كل أشكال التبعية والخضوع والتخلف والاستبداد على طريق التطور والحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة.
النهوض كضرورة مصيرية: يعني أن نكون على قدر المهمة:
وهنا بالضبط تتجلى مهمة الرفاق أعضاء المؤتمر في إدراك طبيعة المرحلة والقوى المؤثرة فيها، ومن ثم – وهذا هو الأهم– العمل على استنهاض وبناء أوضاعنا الذاتية بحيث يصبح التطابق والتفاعل بين هوية الجبهة وسياساتها -الوطنية والقومية والأممية- ودورها النضالي، التحرري والديمقراطي  قائماً ومنسجماً بما يضمن تمايزها في الفكر والسياسة والممارسة المجتمعية، بعيداً عن كافة المواقف التوفيقية أو الانفعالية من ناحية، ونقيضاً سياسياً وديمقراطياً لقوى اليمين في فلسطين والوطن العربي من ناحية ثانية.
ذلك إن الوضع الفلسطيني الآن يفرض علينا المراجعة الجدية الهادئة والمعمقة لكافة الأفكار التي طُرحت خلال العقود الثلاثة الماضية منذ توقيع أوسلو الكارثي على الأقل، بعد أن بات الحل المطروح مذاك، أسيراً للشروط الأمريكية الإسرائيلية، في ظل ما وصلت إليه أوضاعنا الداخلية، وفي ظل الاعتراف العربي الرسمي المتزايد بالوجود الإسرائيلي من بوابة التسوية والتطبيع، وتزايد الهيمنة الإمبريالية الأمريكية على مقدرات شعوبنا العربية.
إن المرحلة تتطلب عقول وسواعد الجميع، كما تتطلب الإرادة والتصميم على استمرار النضال بكل اشكاله لكي نكون على قدر المهمة الوطنية والاجتماعية بكفاءة واقتدار، ومواصلة العمل لنقل مشروعنا الوطني التاريخي إلى مستوى التحقيق المادي الملموس.
هذه هي النقطة التي يجب أن ننطلق منها، وتكون مركز مهمتنا، وهو الأمر الذي يفرض الربط بكلية الوضع العربي، أي بالنضال العربي التحرري والديمقراطي التقدمي ككل، انطلاقاً من أن الصراع هو صراع الطبقات الشعبية في الوطن العربي ضد السيطرة الإمبريالية بما فيها الدولة الصهيونية كونها أداة في مصلحة الشركات الاحتكارية الإمبريالية.
وفي هذا الجانب، فإن استكمال عملية النهوض الذاتي، السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري والكفاحي للجبهة، من أكثر المهام إلحاحاً ، تمهيداً لإعادة بناء قوى اليسار الماركسي العربية ووحدتها، وهنا يتجلى دور ووظيفة ومهمة الجبهة الشعبية، لكي تكون قادرة على تأطير كل المناضلين الجديين، وفق رؤية تطرح للنقاش، تقوم على:
1.    إن الصراع هو صراع الطبقات الشعبية العربية ضد السيطرة الإمبريالية الصهيونية، والنظم الكومبرادورية التابعة. وهنا يجب أن يتحدد دور الطبقات الشعبية الفلسطينية في إطار هذه الرؤية/ الإستراتيجية.
2.    السعي الجدي والحقيقي نحو تأطير وتوحيد كل القوى اليسارية والديمقراطية، كشرط رئيسي لتحشيد القاعدة الشعبية في إطار المواجهة التاريخية الشاملة مع العدو الصهيوني.
3.    أن لا حل تاريخي وعادل في فلسطين إلا عبر إنهاء الكيان الصهيوني في إطار الصراع العربي العام، وأن البديل هو دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية بحقوق متساوية لكل مواطنيها.
4.    إعادة بناء العلاقة مع الطبقات الشعبية الفلسطينية في كل مناطق تواجدها انطلاقاً من هذه الأسس، وتوحيد نشاطها من أجل النهوض بالنضال من جديد، وتفعيل نشاطها ضد الاحتلال بمختلف الوسائل الممكنة.
 
ان ضعف وتراجع الالتزام بأسس ومبادئ الجبهة الفكرية والسياسية والتنظيمية ، لن يقود سوى إلى مزيد من التراجعات والتأخر عن البدء من البداية الصحيحة، وربما الفشل النهائي الذي سيفرز بدوره مزيداً من الفرص لقوى اليمين السياسي والاجتماعي( الطبقي ) للتمدد والانتشار، ما يعني إمكانية توفير المزيد من عوامل التراجع التنظيمي والجماهيري ، وهو أمرٌ مرفوض بالمعنيين الذاتي والموضوعي بصورة كلية واثقين من إمكانية تجدد دور الجبهة الطليعي في هذه المرحلة وفي المستقبل ارتباطاً بالتزامها بالأسس السياسية والفكرية والتنظيمية التي تُؤمن بها وتناضل من أجل تحقيقها طوال مسيرتها منذ تأسيسها وفي كل مؤتمراتها الوطنية منذ المؤتمر الأول حتى لحظة انعقاد المؤتمر الوطني الثامن، عبر محطات غنية بالعبر والدروس المحفزة لرفاقنا أعضاء المؤتمر لكي يمارسوا مسئولياتهم التاريخية، عبر نقاش موضوعي وعقلاني وثوري، على طريق تكريس وتطوير وتجديد بنية ومنطلقات ومواقف الجبهة، وممارساتها السياسية والفكرية والتنظيمية والكفاحية ، استناداً إلى العلاقة الجدلية والعضوية بين أهداف النضال الوطني التحرري الفلسطيني وأهداف النضال الثوري التحرري القومي الديمقراطي من ناحية، وبين الأهداف الأممية الإنسانية من ناحية ثانية، وفق أسس ومبادئ النظرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي، بروح رفاقية ترتقي بالدافعية الذاتية، ومن ثم الجماعية، الهادفة إلى تطوير وتجديد بنية الجبهة لتتبوأ مكانتها وموقعها الريادي الطليعي اليساري، في إطار النضال الوطني التحرري والديمقراطي من أجل تحقيق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة، وفي إطار النضال الاجتماعي من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية.
أخيـراً.. إن مهمة الفكر هي توضيح المسار الواقعي، بمعنى وعي الواقع، ولأننا معنيون بالنشاط الواقعي، من الضروري تحديد التصور البرنامجي الذي يشمل الأهداف السياسية المرحلية والإستراتيجية، المتعلقة بتطور مسار حركة النضال الوطني التحرري والديمقراطي، الأهداف التي يتوقف على حلها تطور مجتمعنا الفلسطيني عموما والطبقات الشعبية خصوصا في سياق النضال القومي، وهذا ما حاولته الجبهة في العديد من وثائقها وأدبياتها  وبخاصة وثائق مؤتمراتها والبرامج التي أقرتها ، والتي مازالت تحمل الإجابة على العديد من الأسئلة المطروحة في هذه المرحلة ، ولعل هذه المسألة الأخيرة هي التي تحدد جذرية نشاط الحزب/الجبهة وثوريته، وهي بالتالي التي تحدد الفارق بين الثوري والإصلاحي، الواقعي والمثالي في الرؤية الماركسية المتطورة المتجددة أبداً، ولهذا ندعو دائماً للمراجعة والنقد للوثائق وللممارسة على السواء.
 وهنا تتجلى أهمية القراءة الجادة لوثائق الجبهة ورؤاها ومنطلقاتها الفكرية ومبادئها السياسية في كل محطات مسيرتها منذ تأسيسها الى يومنا هذا، وذلك بوعي عميق  يرتكز الى عقل ثوري ونقدي موضوعي متفتح  قادر على ممارسة المراجعة  النقدية المطلوبة، بهدف الارتقاء بالجبهة ودورها، مستفيدين من محطاتها الغنية بالعبر والدروس بما يضمن تحفيز الرفاق  الجبهاويين من اجل ترسيخ انتمائهم والتزامهم، وتعميق وعيهم ، وتفعيل ممارساتهم النضالية على طريق تكريس تطوير وتجديد بنية ومنطلقات ومواقف الجبهة، وممارساتها النضالية ، والسياسية والفكرية والتنظيمية ، استناداً إلى العلاقة الجدلية والعضوية بين أهداف النضال الوطني التحرري الفلسطيني وأهداف النضال الثوري التحرري الوطني والقومي الديمقراطي من ناحية ، وبين الأهداف الأممية الإنسانية من ناحية ثانية ، وفق أسس ومبادئ النظرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي كتجسيد خلاق لمقولة لينين " لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية" ، إذ أن هذا هو الطريق الذي يضمن مزيداً من الوعي لرؤية ومواقف الجبهة وممارساتها الكفاحية والسياسية والفكرية والتنظيمية ، وبما يضمن أيضاً ، تفعيل وممارسة الحوار الداخلي بدرجة عالية من الموضوعية والحس العالي بالمسئولية ، بروح رفاقية  ترتقي بالدافعية الذاتية ، ومن ثم الجماعية ، الهادفة إلى تطوير وتجديد بنية الجبهة لتتبوأ مكانتها وموقعها الريادي الطليعي اليساري ، في إطار النضال الوطني التحرري والديمقراطي من أجل تحقيق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة ، وفي إطار النضال الاجتماعي من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية.


[1] عوض خليل – مسار اليسار الفلسطيني من الماركسية إلى البيريسترويكا – شؤون فلسطينية – العدد 212 – تشرين الثاني (نوفمبر) 1990– ص19
[2] المصدر السابق – عوض خليل –  ص 20
[3] المصدر السابق – عوض خليل – ص 21
[4] المصدر السابق – عوض خليل– ص 21
[5] المصدر السابق – ص25
[6] خليل عوض - مصدر سبق ذكره – ص 37
[7] خليل عوض - مصدر سبق ذكره – ص 31
[8] عوض خليل – مسار اليسار الفلسطيني من الماركسية إلى البيريسترويكا- مصدر سبق ذكره – ص36-37
[9] المصدر السابق– ص38
[10] المصدر السابق – ص39
[11] عوض خليل - مصدر سبق ذكره – ص 44








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئاسيات موريتانيا: ما هي حظوظ الرئيس في الفوز بولاية ثانية؟


.. ليبيا: خطوة إلى الوراء بعد اجتماع تونس الثلاثي المغاربي؟




.. تونس: ما دواعي قرار منع تغطية قضية أمن الدولة؟


.. بيرام الداه اعبيد: ترشّح الغزواني لرئاسيات موريتانيا -ترشّح




.. بعد هدوء استمر لأيام.. الحوثيون يعودون لاستهداف خطوط الملاحة