الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف استعادت باليرمو نفسها؟

محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)

2021 / 12 / 14
الفساد الإداري والمالي


ظلت باليرمو، على مدار عقود، مرادفاً للجريمة المنظمة، والفساد، والعنف. و قد أصبحت عاصمة صقلية الآن رمزاً للنهضة الحضارية والثقافية والمعرفية ، والفضل في ذلك يعود إلى عملية استثنائية تضمنت قادة سياسيين ومدنيين و أعضاء الكنيسة، ووسائل الإعلام المحلية، وأجهزة إنفاذ القانون . وهي قصة يمكن أن يُستخلص منها دروس مثيرة للغاية عن الطريقة التي يمكن من خلالها للمجتمع المحلي، وقادته المنتخبين، أن يتصدوا بنجاح للعنف والإرهاب.

يشار في صقلية إلى الجريمة المنظمة بعبارة cosa nostra ، والاسم الشائع لها حول العالم هو المافيا. وقد كثفت المافيا، خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، أنشطتها، لتتحول المنطقة إلى مفترقات طرق لتجارة المخدرات. لقد قُتِل الآلاف في شوارع باليرمو؛ وتعرض أكثر منهم بكثير إلى التهديد والابتزاز. كل ذلك دون صدور أي رد فعل حقيقي من قبل القادة السياسيين، وقادة المجتمع المدني.

وخلال فترة الثمانينيات من القرن العشرين ، بدأت حركة جديدة في اتخاذ خطواتها الأولى. وقد ضمت هذه الحركة مجموعة من شباب المحامين، والسياسيين، بل وحتى القساوسة، تحت قيادة بروفسور شاب يدعى ليولوكا أورلاندو، ونظم أعضاء هذه الحركة عدداً من الاجتماعات الجماهيرية، صرحوا خلالها بمناهضتهم لنظام اللاشرعية، داعين إلى ثقافة جديدة تقوم على المشروعية . وقد منح الضغط المنبعث من هذه الحركة المدنية قوةً للصحفيين والمحررين الأكثر شجاعة. فقد بدأوا يخصصون مساحات للقصص المتعلقة بدور الجريمة المنظمة في الاقتصاد المحلي، والسياسة المحلية، وفي الحياة اليومية لباليرمو، وترتب على ذلك أن شرع السياسيون الإيطاليون في روما، أخيراً، في اتخاذ بعض الإجراءات، ما يسر لمدعي العموم وأجهزة إنفاذ القانون مقاومةَ المافيا . وقد كان رد فعل المافيا وحشياً، ومع ذلك، فقد كان رد الفعل المضاد، الذي تولد عن موجات العنف، أقوى مما توقعت المافيا. و بدلاً من أن يتملكهم الخوف، تحلى مواطنو باليرمو بالشجاعة، واتحدت المراكز الرئيسية للسلطة الأخلاقية للنضال من أجل الحرية والديمقراطية.

وكانت الكنيسة من ضمن أقوى الأصوات التي تحدثت ضد اللاشرعية، فقد انطلق صوت كاردينال باليرمو كل يوم أحد مندداً بالجريمة والفساد، وتبعه في ذلك البابا جون بول الثاني، الذي قرر أن يجيء بنفسه إلى صقلية ليصرح بأن كل شخص كان عضواً في أية منظمة إجرامية، هو خارج أسرة الرب. وقد تم التأكيد على هذه الرسالة من خلال القساوسة المحليين، الذين بينوا للمواطنين أن هناك بديلا عن الخوف والإذعان. وتحت ضغط المواطنين الصقليين والإيطاليين، أصدر البرلمان الوطني مجموعة من القوانين الخاصة، تضمنت مصادرة ممتلكات المافيا، ووضع نظام حبس صارم لأعضاء هذه المنظمة.

وفي تشرين ثاني من عام 1993 ، انتخب مواطنو باليرمو ليولوكا أورلاندو عمدة لهم. وتم تدشين المئات من البرامج لترسيخ ثقافة المشروعية في الحياة اليومية لمواطني باليرمو. وتضمنت هذه البرامج قيام المدارس بتبني مشروع إقامة نصب تذكاري، وقد ضم هذا المشروع كافة طلاب المدارس الابتدائية والثانوية. وقد شرح هذا المشروع للنشء أن كل المناطق التي تحتويها المدينة هي ملك للمواطنين وخاضعة لسيطرتهم، وأنها ليست ملكاً للمجرمين المحليين ورجال المافيا.

وكان من ضمن البرامج الأخرى المهمة، البرنامج الذي وضعته جريدة صقلية ، وهي الجريدة اليومية الأولى في صقلية. فقد خصصت هذه الجريدة صفحة كاملة يومياً لأطفال المدارس، الذين استطاعوا أن يقدموا مقالات وخطابات بشأن القضايا الرئيسية المتعلقة بمدينتهم. وقد شجع ذلك على إجراء مناقشات حول شؤون المدينة بين النشء وأسرهم . واستجاب العمدة شخصياً إلى كافة هذه المقالات والخطابات، وكان لهذا الأمر أثر إيجابي للغاية على المجتمع بأسره، حيث أثبت أن العلاقات مع إدارة المدينة يمكن أن تكون شفافة ومباشرة، دون أدنى لزوم لممارسة الفساد أو المحاباة.

وكان نتيجة ذلك انخفاض معدل جرائم القتل السنوي في باليرمو من 240 جريمة قتل في 1984 ، إلى 3 جرائم فقط عام 2000 ، أما الآن، فهي تكاد تكون معدومة. ولعقود طويلة، كان المسؤولون عن إنفاذ القانون يبذلون جهوداً مضنية، في كل مرة تُرتكب فيها إحدى الجرائم في باليرمو، من أجل العثور على أي شاهد مستعد لأن يدلي بشهادته، حتى عندما كانت الجرائم تقع في أماكن مكتظة بالبشر. أما اليوم، فلم يعد لهذا الأمر وجود. كما ارتفع عدد السياح، ولاسيما الزوار الأجانب—إلى 87 % منذ عام 1993 إن الجريمة المنظمة لم تُقهَر في صقلية؛ ومع ذلك، فإن قصة السنوات العشرين السابقة في باليرمو أثبتت أن النتائج الإيجابية ومحاربة الجريمة المنظمة ليست أمراً خيالياً، حتى في البلدان الأكثر صعوبة.

لقد أثبتت تجربة باليرمو أنه يمكن تحقيق إحداث تغيير إيجابي مستدام، إذا ما تم إتباع منهج شمولي في التصدي لنقاط الضعف الكامنة في سيادة القانون، وللتحديات المرتبطة بها. ويؤكد منهج ثقافة سيادة القانون على ضرورة رؤية سيادة القانون ضمن إطار أوسع للتغيير المجتمعي . ويشدد المنهج أيضاً على الأدوار المتساوية للمسؤولين العموميين، وأفراد المجتمع، في خلق سيادة قوية للقانون. إن هذا المنهج يتمحور حول الشعب؛ أي إنه يقر بأن مؤسسات العدالة وأنظمتها، وكذا المؤسسات والأنظمة الأمنية، ليست مجالاً خاصاً بالنخبة وحدها، بل إنها موجودة بسبب الشعب ومن أجل الشعب، ومن ثم فإن خلق سيادة القانون، أو تقويتها، ينبغي أن يكون قضية رأي عام. ويستلزم هذا المنهج منا أن نوسع نطاق لغة سيادة القانون الخاصة بنا، لكي تتضمن الدور الذي تلعبه السياسة والسلطة، بل والأكثر أهمية من ذلك، الدور الذي يؤديه المواطنون.

لا يمكن إيقاف تمدد الفساد ومنعه من التمدد إلا بعد تضافر جميع الجهود في الدولة واتفاقها ضمنيا وعلنا على مكافحته و إيقافه ولا سنبقى كمن يحارب فرسان الهواء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. زراعة الحبوب القديمة للتكيف مع الجفاف والتغير المناخي


.. احتجاجات متزايدة مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية




.. المسافرون يتنقسون الصعداء.. عدول المراقبين الجويين في فرنسا


.. اجتياح رفح يقترب.. والعمليات العسكرية تعود إلى شمالي قطاع غز




.. الأردن يتعهد بالتصدي لأي محاولات تسعى إلى النيل من أمنه واست