الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استنتاجات عن كرونشتاد

جان جاك ماري

2021 / 12 / 14
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


الفصل الأخير من كتاب جان جاك ماري، كرونشتاد، Fayard، ٢٠٠٥



هل كانت كرونشتاد انفجاراً عفوياً أو، كما ادعت الحكومة السوفياتية، نتيجة مؤامرة معدة بعناية من قبل الجيش الأبيض المدعوم من الخارج؟ في تقريره السري المرسل يوم 18 آذار/مارس إلى رؤسائه، كتب ممثل المركز الإداري، منظمة مناهضة للبلاشفة وقريبة من الجناح اليميني للاشتراكيين الثوريين، بروشفيت: “اندلعت الحركة بشكل عفوي وغير منظم وغير متوقع. خلال شهر، لم يكن بإمكان البلاشفة الوصول إلى كرونشتاد وكانت ستكون أخطر بمئة مرة بالنسبة إليهم(1)”. في تقرير سري صدر في اليوم نفسه، كتب الضابط بوراديلوف، من مركز العمل، إلى رؤسائه في باريس أنه في منظمات المهاجرين المقيمين في هلسنكي على بعد 30 كيلومترا من كرونشتاد: “فاجأت الانتفاضة الجميع، بالنسبة للبعض كان الأمر غير متوقع على الإطلاق، ورأى البعض الآخر أنه يجب التعامل معها بحذر. لم يكن المسؤولون الروس في فنلندا يتوقعون انتفاضة في كرونشتاد(2)”. إذاً، لم يكن قد استعد لها أي أحد.

كما كتب ممثل بوريس سافينكوف في فنلندا، كوتوغوروف، في تقرير له في أواسط شهر نيسان/أبريل إلى رئيسه، حيث أكد أنه كان على اتصال بـ 9 منظمات مناهضة للبلاشفة في بتروغراد التي كانت تخطط لانتفاضة ما إن تعود حركة الإبحار، في نهاية شهر نيسان/أبريل. ولكنه يؤكد: “الأحداث التي حصلت في بتروغراد وكرونشتاد لم تكن منظمة من تلك المنظمات، وقد حصلت بشكل عفوي وكانت خارجة عن إرادتها”. حتى أنه يرى فيها “تحريضاً” من البلاشفة الذين ضغطوا لحصولها من أجل “تجنب مبادرة منظَّمة تستطيع السيطرة على القاعدة والبحارة بواسطة انفجار مبكر، بشكل يعطيهم الإمكانية لعرقلة خطط المنظمين وتطهير فعلي لبتروغراد وكرونشتاد(3)”. ويبدو أن اللين الذي تعاطت من خلاله السلطات مع إضراب العمال ومظاهرات بتروغراد قد أكدت فرضيته المغامرة. فالبحارة الـ 12 الذين جالوا على المصانع المضربة يوم 26 شباط/فبراير، كانوا معروفين من أعضاء التشيكا، قد حيوها خلال الانتفاضة. ولإنقاذ أنفسهم، أشعلوا الآلاف من البحارة والجنود. هذه الأسطورة غير القابلة للتصديق تؤكد أن انتفاضة كرونشتاد لم تنظمها أي مجموعة مؤامراتية في بتروغراد، أو أي مهاجر روسي في فنلندا، أو أي مخابرات أجنبية سرية، فالجميع تفاجأ بانتفاضة توقعوا أن تأتي لاحقاً وبالتالي لم يساهموا بانفجارها.

في تقريره الصادر يوم 5 نيسان/أبريل حول أسباب الانتفاضة، كذّب عضو جهاز التشيكا، أغرانوف، تصريحات لينين وتروتسكي وزينوفييف العلنية، وأكد: “لم يثبت التحقيق أن اندلاع الانتفاضة كان محضراً من أي منظمة معادية للثورة أو نتيجة عمل مخابراتي غربي داخل قيادة القاعدة. كل مسار الحركة يعاكس هذا الاحتمال. إذا كانت الانتفاضة نتيجة تحضير مسبق لمنظمة سرية، هذه المنظمة، بكل الأحوال، لم تحدد أنه بذلك التاريخ لن يبقى لديها من احتياطات الوقود والإمدادات ما يكفيها بالكاد لمدة أسبوعين، وحيث لن يبقى وقت طويل قبل ذوبان الجليد.” هذا البديهي؛ ولكن هل الحركة كانت ستنجو من المنظمين المحتملين؟ لن يكون المثل الأول في التاريخ.

يرفض أغرانوف هذه الفرضية ويصر مرتين على الطابع العفوي والجماعي للانتفاضة. وينفي وجود روابط بين المنتفضين و”الأحزاب والمنظمات المناهضة للثورة التي تنشط على أراضي روسيا السوفياتية وفي الخارج. […] الانتفاضة اندلعت بشكل عفوي وسببت زوبعة شارك فيها تقريبا كل السكان في القاعدة (4).”

رئيس جهاز التشيكا في بتروغراد، كوماروف، له نفس وجهة النظر. فمرؤوسه، سيفيي، العضو إلى جانبه ضمن مجموعة من التشيكا المكلفة بالتحقيق بالانتفاضة، يتذمر في تقريره المرسل منذ يوم 8 آذار/مارس إلى تروتسكي الذي أعاد إرساله بدوره إلى نائب رئيس التشيكا، مينجينسكي. فيستنكر سيفيي: “يعتبر كوماروف أن الأحداث في كرونشتاد هي حركة عفوية”، مسبباً الشلل لمجموعة التشيكا. اتهمه سيفيي بالخضوع لـ”تأثيرات محلية” (لم يحددها) وأنه لعب لعبة المناشفة، لأنه يضيف قائلاً: “إنه متضامن مع دان بالكامل في تعريفه للأسباب التي أدت إلى اندلاع هذه الحركة(5)”. لكن كوماروف نفسه كان قد رمى دان نفسه في السجن يوم 2 آذار/مارس! بعد 6 أسابيع، في تقريره الصادر يوم 20 نيسان/أبريل حول نشاط الترويكا القضائية التي استجوبت المئات من المنتفضين، لاحظ رئيسه نفس الأمر: “على الرغم من كل جهودنا، لم ننجح في إظهار وجود أي منظمة واعتقال أعضائها(6)”. لم يتمكنوا من إثبات المستحيل. استبعد أعضاء التشيكا الثلاثة من دون شك مسؤولية التشيكا المحلية، بحيث لم يتمكنوا من لومها لأنها لم تكتشف المؤامرة غير الموجودة. ولكن لم يبحث أي أحد باستنتاجاتها التي بقيت داخلية وسرية.

بعد النيب، خرجت انتفاضة كرونشتاد من المجال السياسي لتدخل في التاريخ. فالاشتراكيون الثوريون، سواء الجناح اليميني واليساري، الذين دعموها اختفوا. الأناركيون وحدهم من تبنى إرثها، حيث اكتفوا بشكل عام بإعادة صياغة التصريحات والبيانات والنداءات، المأخوذة بظاهرها، من دون تحليل الواقع الاجتماعي للحركات، كما لو كان بإمكاننا دراسة مجموعة رجال من خلال أخذ ما يقولونه عن أنفسهم كمعيار للحقيقة. التأثير الدولي للثورة الروسية والصراع داخلها بين اشتراكية ستالين (القومية) داخل بلد واحد والثورة الأممية التي دعا إليها تروتسكي، الخطة الخمسية، التأميم، كل هذا طغى على كرونشتاد، التي غرقت في غياهب النسيان، تماما كماخنو، الذي مات مسلولاً مرهقاً في مستشفى بباريس عام 1934. وكتاب الأناركي الروسي فولين، الثورة المجهولة، التي كرس جزءاً كبيراً منه لكرونشتاد لم ينشر حتى عام 1947، بعد مرور عامين على وفاته.

قلما اهتم تروتسكي بالانتفاضة. في خطاب ألقاه يوم 28 تموز/يوليو عام 1924 حول الوضع العالمي، استذكر تروتسكي كرونشتاد كمثال للانفجار الاجتماعي: “التقنين ضمن بلد جائع، هو أمر صعب، فلقد اختبرنا ذلك […]. لقد لاحظنا أن نظام الحصص خلال المجاعة كان مرتبطاً بتزايد الاضطرابات التي أدت في نهاية الأمر إلى انتفاضة كرونشتاد (7)”، وبالتالي قدمها كنتيجة لقسوة شيوعية الحرب. في كتابه حياتي، الذي نشره عام 1929، خصص لها نصف سطر فقط. في الثورة المغدورة، الذي كتبه ونشره عام 1936، ذكر تروتسكي هذه الانتفاضة بإيجاز “التي جذبت عدداً غير قليل من البلاشفة (8)”.

أعادت الحرب الأهلية الاسبانية التي بدأت في تموز/يوليو عام 1936 ومحاكمات موسكو التي بدأت جلساتها في آب/أغسطس عام 1936، كرونشتاد إلى النور. في كاتالونيا وأراغون، حيث كان أناركيو الكونفدرالية الوطنية للعمال أقوياء جداً، أنشأ العمال والفلاحون، الذين هزموا تقريباً لوحدهم الانقلاب الفرانكي، اللجان وأمموا الأراضي والمصانع وألفوا الميليشيات فضلاً عن إنشاء لجنة مركزية للميليشيات المناهضة للفاشية التي تضم الفلاحين والعمال المسلحين. أما أنصار النظام القائم، بقيادة الحزب الشيوعي الستاليني، فطالبوا بحل هذه المنظمات الشعبية المستقلة. فوافقت الكونفدرالية على ذلك ودخلت الحكومة بـ 3 وزراء، التي أعلنت لاحقاً حرمة الملكية الخاصة لوسائل الانتاج والأرض. بذلك، سيجد الأناركي، غارسيا أوليفر، وزيراً للعدل، على رأس الجهاز الذي لطالما نكّل بمناضلي منظمته. رداً على الانتقادات، برر الأناركيون تعاونهم الحكومي مع الحزب الشيوعي الاسباني ضمن مقالات مجدوا فيها الانتفاضة ضد البلاشفة في كرونشتاد، التي أعلنوا أنهم ورثتها. كان سهلاً تمجيد ماخنو وكرونشتاد في برشلونة عوضاً عن مناهضة سياسة ستالين هناك. في كانون الأول/ديسمبر عام 1937، رد تروتسكي عليهم: في مواجهة كرونشتاد وماخنو: “لقد دافعنا عن الثورة البروليتارية ضد الثورة المضادة للفلاحين. دافع الأناركيون الاسبان، وما زالوا يدافعون، عن الثورة المضادة ضد الثورة البروليتارية (9)”.

أدانت محاكمات موسكو خلال آب/أغسطس 1936 وكانون الثاني/يناير 1937 وآذار/مارس 1938 تروتسكي كإرهابي عميل للنازيين. حاول تروتسكي تشكيل لجنة تحقيق مستقلة حول محاكمات موسكو. سأله علناً النائب الألماني السابق، وينديلين توماس، واللاجئ في الولايات المتحدة والعضو في اللجنة الفرعية الأميركية، عن كرونشتاد وماخنو معتبراً أن سلوك البلاشفة في هاتين الحالتين يدل على ستالين والستالينية.

رد تروتسكي من خلال رسالة قصيرة أكد فيها أن بحارة العام 1917 انتشروا في عدة جبهات، ومن بقي في كرونشتاد “كانوا من الكتلة الرمادية الكثيرة الذرائع، ولكن غير المثقفة سياسياً وغير مستعدة للتضحيات الثورية. في وقت كانت البلاد تموت من الجوع، طالب سكان كرونشتاد بالحصول على امتيازات. الانتفاضة فرضتها الرغبة بالحصول على حصة من الامتيازات”. بعد هذا النص المختصر المذهل، أكد تروتسكي أن انتصار المنتفضين كان سيؤدي إلى انتصار الثورة المضادة: “بغض النظر عن الأفكار التي يمكن أن تكون في رؤوس البحارة”، والتي يراها علاوة على ذلك، “رجعية للغاية: لأنهم أظهروا عداء الفلاحين المتخلفين للعمال، وغطرسة الجندي أو البحار لمدينة بطرسبرغ “المدنية”، وكراهية البرجوازية الصغيرة للانضباط الثوري”. في وقت كانوا مسيطرين على القاعدة، لم يكن من الممكن وضع حد لهم إلا بواسطة السلاح (10).

بعد شهر، كتب ضمن رسالة إلى إروين وولف: “كانت رسالتي قصيرة جداً وغير كافية(11)”. في أيلول/سبتمبر عام 1937، كتب فيكتور سيرج مقالاً نقدياً للغاية تجاه موقف البلاشفة حول كرونشتاد. بعد أن علم بذلك، كتب تروتسكي يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر رسالة قصيرة إلى التروتسكي الأميركي واسيرمان من دار نشر بايونيرز، أكد فيها ضرورة توضيح تاريخ كرونشتاد حتى يتمكن من النقاش مع الأناركيين، ولكنه يضيف: “لأسباب كثيرة، لا يمكنني كتابة مقال حول هذه المسألة (12)”، وأكد أنه اقترح على ابنه، ليون سيدوف، كتابة دراسة مفصلة وموثقة بحيث يكتب التقديم. أصرّ واسيرمان على الكتابة. لكن تروتسكي أجابه يوم 14 تشرين الثاني/نوفمبر أنه يتفهم إلحاحه، ولكنه أجاب أنه لم يكن لديه في ذلك الوقت “لا المواد الضرورية ولا الوقت لكتابة هذا المقال […] الشامل بكل تأكيد”. إذا تمكن ليون سيدوف من كتابة هذه الدراسة، فسيستعملها تروتسكي في مقال له. بعد 5 أيام، كتب إلى ابنه: “من الضروري للغاية الكتابة عن كرونشتاد”. وأصر على نقطة: “البحارة الفلاحون، الذين قادهم أكثر العناصر المناهضة للبروليتاريا، لم يكن بإمكانهم فعل أي شيء بالسلطة، حتى لو تخلينا عنها. قوتهم لم تكن سوى جسراً، قصيراً جداً، للسلطة البرجوازية.” مشدداً على أن “السخط كان كبيراً جداً”، خاتماً: “إن البحارة المتمردين يمثلون تيرمدور الفلاح (13)”، هذا الرأي يختلف عن اختزال الثورة بالرغبة في الحصول على الامتيازات. فانكب ليون سيدوف على إنجاز الدراسة.

عاد تروتسكي، يوم 16 كانون الأول/ديسمبر، إلى طرح الموضوع من جديد في رسالة موجهة إلى التروتسكي الأميركي رايت الذي كان أنهى مقالاً حول الانتفاضة. فتناول المسألة من زاوية مختلفة قليلاً. رفض فكرة أن الجنود والبحارة قد انتفضوا من أجل الشعار السياسي المطالب بحرية السوفيتات. يضيف: “أما بقية سكان كرونشتاد فكانوا متخلفين وسلبيين لا يمكن استخدامهم بالحرب الأهلية. هؤلاء الأشخاص لا يمكن أن ينجروا إلى الانتفاض إلا بسبب الحاجات والمصالح الاقتصادية العميقة. […] وآباء وإخوة هؤلاء البحارة والجنود، أي الفلاحون وتجار المنتجات الغذائية والمواد الأولية. بكلام آخر، كانت الانتفاضة تعبيراً عن ردة فعل البرجوازية الصغيرة ضد الصعوبات والحرمان اللذين فرضتهما الثورة البروليتارية (14)”.

مواجهاً حملة ضده حول كرونشتاد الأمر الذي صعّب من معركته ضد تزويرات محاكمات موسكو، فأوضح تحليله حول الموضوع في مقالين: ضجيج كثير حول كرونشتاد (15 كانون الثاني/يناير 1938)، ومرة جديدة حول قمع كرونشتاد (6 تموز/يوليو 1938). التمرد، أوضح بداية، يعبر عن انتفاضة الفلاحين ضد مصادرة الانتاج. أما البحارة، فبأغلبهم من أصل فلاحي، فكانوا المتحدثين باسم “جيش رجعية البرجوازية الصغيرة [الفلاحين] ضد الصعوبات التي تمر بها الثورة الاشتراكية ومتطلبات ديكتاتورية البروليتاريا. هذا بالضبط ما يعنيه الشعار المهيمن على كرونشتاد “السوفيات من دون الشيوعيين” (15)”. كما أكد لاحقاً أنه لم يكن له أي دور في سحق الانتفاضة، ولا بالقمع الذي تبعها، وهو الأمر الذي لم يكن له أي أهمية سياسية بحسب وجهة نظره، لأنه، كعضو في الحكومة، كانت ترى من الضروري تصفية الانتفاضة، وقد شارك في قرار استكمال التصفية في حال لم تفضِ المفاوضات والإنذار إلى نتيجة وبالتالي هو يتحمل جزءاً من المسؤولية السياسية.

كما عاد وكتب عن الموضوع في كتابه ستالين غير المنجز، عامي 1939-1940 حيث صنف كرونشتاد ضمن “الأساطير القائمة على الجهل والمشاعر […]. ما قامت به الحكومة السوفياتية في كرونشتاد كان رغماً عنها وكان ضرورة مأساوية؛ من دون شك لا يمكن للحكومة الثورية أن “تقدم هدية” إلى البحارة المتمردين في القاعدة التي تحمي بتروغراد، فقط لأنه هناك بعض الأناركيين والاشتراكيين الثوريين المتشككين يتحكمون ببضعة فلاحين رجعيين وجنود متمردين (16)”. مع بعض التعديلات الطفيفة، حافظ تروتسكي منذ عام 1921 حتى وفاته على نفس التحليل حيال الانتفاضة.

طوال سبعين عاماً من عمر الاتحاد السوفياتي، كانت انتفاضة كرونشتاد (باستثناء نادر لخطابات لينين في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي) مجرد أعمال شغب مضادة للثورة. يخصص كتاب “تاريخ الحزب الشيوعي الدقيق” المنشور عام 1938، والذي راجعه ودققه ستالين شخصياً، أكثر من صفحة لهذه الحقبة. وفي حين يعترف الكتاب باستياء الفلاحين إزاء أعمال المصادرة، فإنه يعتبر “أعمال الشغب المضادة للثورة في كرونشتاد مثالاً بارزاً للتكتيكات الجديدة للعدو الطبقي الذي يموه نفسه من خلال استعارة الألوان السوفياتية، وبدلاً من اعتماد الشعار القديم الفاشل “يسقط السوفيات” أطلقوا شعاراً جديداً “نعم للسوفيات ولكن من دون الشيوعيين” (17)”. من الذي انتفض، من هم المنتفضون، لن يتمكن قارئ هذه الدقة غير الدقيقة أن يعرف. كما وضع الكتاب “الحرس الأبيض والاشتراكيين الثوريين والمناشفة” على رأس أعمال شغب قام بها مشاغبون مجهولي الهوية. أما في المجلد 23 من الموسوعة السوفياتية الكبرى الذي نشر عام 1953، العام نفسه الذي مات فيه ستالين، فيستعيد الكتاب نفس المعزوفة ولكن مع إضافة أن الانتفاضة كان يقف خلفها “الخونة التروتسكو-زينوفييفيين” الذين كانوا مسؤولين حقاً عن الانتفاضة، الظاهر أن ستالين قد نسي ذلك عام 1938 [إشارة إلى الكتاب المذكور في أول المقطع].

بعد عشرين عاماً، عدلت الطبعة الثالثة من ذات الموسوعة الصورة بشكل كامل، فاختفى منها تلاعب المخابرات الأجنبية، و”الخونة التروتسكو-زينوفييفيين” المذكورين عام 1953، ليحل مكانها: أن الثورة “عكست التردد السياسي لجماهير البرجوازية الصغيرة […]. فقد سيطرت النقمة على سياسة شيوعية الحرب على الفلاحين وجزء من العمال، الذين استعملتهم أحزاب البرجوازية الصغيرة لتنظيم المؤامرات وأعمال الشغب (في منطقة تامبوف، والفولغا السفلى، وأوكرانيا، وسيبيريا،…) (18)”. تلخص الموسوعة بإيجاز المطالب الأساسية للقرار الصادر يوم 1 آذار/مارس؛ وهي حرية عمل “الأحزاب الاشتراكية اليسارية”، وضع حد للمفوضين، وحرية التجارة وإعادة انتخاب السوفيتات، ولكن أغفلوا ذكر الاحتجاج ضد الامتيازات. ويكمل الكاتب المجهول: “رفع قادة الانتفاضة شعار: “سوفيتات من دون شيوعيين”، آملين نقل السلطة إلى الأحزاب البرجوازية الصغيرة”، ويؤكد أن “اللجنة الثورية المؤقتة برئاسة س.م. بيترتشينكو” التي تشكلت يوم 2 آذار/مارس من عناصر “أناركيين ومناشفة واشتراكيين ثوريين غير منظمين”، دون ذكر تهديد [الجنرال] كوزولوفسكي أو الحرس الأبيض. فكرونشتاد تنتمي إلى تاريخ قديم ويمكن التخلي عن بعض القوالب النمطية (19).

لكن قصة كرونشتاد تعود من التاريخ المصنوع من التحويرات غير المتوقعة، والمختلفة في الوقت عينه في نطاقها وحجمها، لكن المعبرة أيضاً.

خلال الـ 1970ات بدأ مشروع إعادة الاعتبار إلى جيش فلاسوف، ولا سيما من سولجينيتسين في أرخبيل الغولاغ. ثم نشرت المؤرخة البريطانية كاترين أندرييف كتاباً تعتبر فيه أن جيش فلاسوف هو وريث منتفضي كرونشتاد. شكل الجنرال فلاسوف، الموالي لستالين، بعد اعتقاله من الفيرماخت[الجيش الألماني]، جيشاً رديفاً للأخير ويرتدي زيّه نفسه، فأطلق ما يسمى بحركة تحرير روسيا، التي يسيطر عليها النازيون بشدة. وبحسب كاترين أندرييف “القبول بثورة تشرين الأول/أكتوبر كبداية للديمقراطية الأصيلة في روسيا يربط حركة تحرير روسيا […] بانتفاضة كرونشتاد عام 1921 […] الناجون منها […] يعتبرون انتفاضة كرونشتاد مقدمة للمعارضة خلال الحرب.” من دون شك، تعترف أندرييف، “لا يوجد الكثير من الوثائق المكتوبة التي تظهر أن أنصار حركة تحرير روسيا اهتموا كثيراً بانتفاضة كرونشتاد […] ولكن يوجد الكثير من أوجه التشابه المثيرة للاهتمام للحركتين”. ما هي؟ أرادت الحركتان “إصلاحات سلمية من شأنها أن تغيّر من هيمنة الحزب الشيوعي” و”ثورة ثالثة” […]. كذلك […] فإن فلاسوف دعا إلى إنجاز الثورة الوطنية(20)”، التي لا علاقة لها بـ”الثورة الثالثة” في كرونشتاد، مهما كانت الأخيرة غامضة. من الواضح أن ما يسمى بـ”الإصلاحات السلمية” التي أراد فلاسوف تحقيقها في الاتحاد السوفياتي بمساعدة من الفيرماخت والغيستابو وقوات الأمن الخاصة كانت أقل من ذلك بكثير…

دفع سقوط الاتحاد السوفياتي الأحزاب الشيوعية وعدداً من الحركات التي تدعي أنها شيوعية إلى إعادة النظر بماضيها، تبعاً لموقفها الاجتماعي والسياسي الجديد. على سبيل المثال، في فرنسا نشر مقال بعنوان “80 عاماً بعد كرونشتاد، “أسطورة الضرورة المأساوية” يوم 29 آذار/مارس 2001 في أسبوعية أحمر Rouge، أسبوعية الرابطة الشيوعية الثورية، انتقد فيه الكاتب سياسة البلاشفة في كرونشتاد. يجري المقال مراجعة عامة تتجاوز كرونشتاد، حيث يستنكر الكاتب “عدم ثقة الحزب البلشفي بالسوفيتات”، ويؤكد الكاتب على أن “الأمر تحوّل، منذ منتصف عام 1918، إلى تساؤل مبطن حول شرعية السوفيتات […]. إنشاء جهاز التشيكا […]، أدى إلى إنشاء بنية قمعية مستقلة بشكل متزايد التي لم تهاجم فقط من يحن إلى النظام القيصري، إنما أيضاً كل التيارات في الحركة العاملة والمعارضة لسياسة البلاشفة […]. فنفذت عشرات الآلاف من الاعتقالات الجائرة، وآلاف الإعدامات التعسفية والتي لا يمكن تبريرها بأي شكل من الأشكال بأنها نتيجة الحرب الأهلية”. ورداً على الإضرابات، ردت السلطة بقمع “كل التيارات السياسية المستقلة المتموضعة ضمن معسكر الثورة”. ينتقد الكاتب تصوير قمع كرونشتاد بأنه ضرورة مأساوية” ويؤكد على “مسؤولية الحزب البلشفي وقادته الرئيسيين على انحطاط الثورة الروسية، بسبب الخيارات التي قاموا بها”. الاهتمام بهذا التحليل الجديد نسبياً يأتي لكونه نشر في مجلة تدعي أنها تنتمي إلى الأممية الرابعة، أي حاملة الإرث السياسي لتروتسكي، والمعتمدة الصوابية السياسية [حيال القضايا التي تخص تروتسكي 🙂 ]. وعلى الرغم من أن المقال قد أثار وقتها زوبعة من النقاشات على صفحات المجلة إلا أن نشره فيها له دلالة كبيرة.

إعادة الاعتبار إلى المنتفضين في كرونشتاد من قبل بوريس يلتسين، رئيس روسيا بين عامي 1992 و2000، كانت دلالتها أكبر بكثير. بوريس يلتسين، بعد أن كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي ولاحقاً في مكتبه السياسي، وقّع، يوم 8 كانون الأول/ديسمبر 1991، قرار حلّ الاتحاد السوفياتي. تحت راية الديمقراطية، تخلص يلتسين من احتكار الدولة للتجارة الخارجية، ومراقبة صرف العملات، والتخطيط المركزي، ونظّم عملية التدمير الممنهج لملكية الدولة، وسمح كذلك لمجموعات صغيرة من الأوليغارشية لتنظيم عملية النهب والبيع بثمن بخس، وحتى التدمير الكامل إلى هذا الحد أو ذاك بحيث جمعوا على أنقاض كل ذلك ثروات هائلة. هدفت ترمي إعادة الاعتبار إلى منتفضي كرونشتاد، من بين غيرها من القرارات، إلى وضع تلك السياسة تحت رعاية المناضلين الرواد من أجل الديمقراطية، ضحايا النظام الشمولي.

ستخرج انتفاضة كرونشتاد دوماً من الماضي حيث كانت مخفية لوقت طويل طالما أن تاريخ الثورة الروسية سيبقى مرتبطاً بالتاريخ الذي حصل.

الهوامش:

1. Kronstadtskaia traguedia, op. cit., tome 1, p. 544.

2. Ibid, p. 550.

3. Ibid., tome 2, p. 61.

4. Ibid., pp. 39-40 et 42.

5. Ibid., tome 1, p. 294.

6. Ibid, tome 2, p. 93.

7. L. Trotsky» Europe et Amérique, Paris, Anthropos, 1971, P – 45.

8. L, Trotsky, La Révolution trahie, Paris, 10-18, 1969, p. 99.

9. L. Trotsky, Œuvres, op. cit., tome 15, p. 385.

10. Ibid., op. cit., tome 14, p. 177.

11. Ibid., p. 253.

12. Ibid, tome 15, p. 283.

13. Ibid.t pp. 297-298.

14. Ibid, pp. 385.

15. Ibid, tome 15, pp. 75 et 78.

16. L. Trotsky, Staline, édition américaine, New York» 1941, p. 337.

17. Histoire du Parti communiste (bolchevik) de VURSS, Moscou, Bureau d’Éditions, 1939, pp. 235-236.

18. Bolchaia Sovietskaia Entsyclopedia, op. cit., 1953, tome 23, p. 473.

19. Ibid, réédition 1973, tome 23, p. 480.

20. Catherine Andreiev, Vlassov and the Russian Liberation Movement, Cambridge, 1987, pp. 167-169.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا استدعت الشرطة الفرنسية رئيسة الكتلة النيابية لحزب -فرن


.. فى الاحتفال بيوم الأرض.. بابا الفاتيكان يحذر: الكوكب يتجه نح




.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل


.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا




.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا