الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرات في علم الهندسة عند الأغريق

هاني عبيد

2021 / 12 / 19
الطب , والعلوم


الهندسة هي أحد فروع العلم الرياضي الحديث وتتعلق بدراسة النقاط والخطوط والأشكال على السطوح المستوية. إن ترجمة كلمة "هندسة" من الأغريقية تعني "مساحة الأرض". ففي الأزمنة الغابرة كانت هذه الترجمة تطابق الواقع، فالهندسة وقوانينها الأولية ظهرت وتطورت في حضارات الفراعنة والبابلين والأغريق والهنود والصينين. ففي زمن المصريين القدماء ظهرت الحاجة الملحة إلى استخدام المفاهيم الهندسية لإعادة قسمة الأرض بعد فيضان النيل، فالنيل يحمل الطمي والغرّين للأرض بعد فيضانه فيكسبها خصباً، وبذلك اكتسبت حدود الأراضي بعداً خاصاً ومساحتها قيمة عالية. لقد لعبت هذه المفاهيم دوراً كبيراً في بناء المعابد الكبيرة والقصور الفخمة وأخيراً الاهرامات التي ما زالت من أعظم الشواهد على عظمة الفراعنة وتقدمهم. كانت المفاهيم الهندسية في بداياتها الأولى سراً من الأسرار تتوارثها الأجيال ولا يباح بهذا السر اطلاقاً، وهذا من أهم الاسباب التي حدّت من انتشار هذه المفاهيم وحصرها في جماعة معينة، كما أن ذلك أدى في العصور اللاحقة إلى تبعثر هذه المعلومات وعدم تجميعها أو تبويبها. وفي هذا المجال تكمن عظمة الحضارة الأغريقية مما حدا بالفيلسوف بتراند راسل أن يكتب " فالفلسفة والعلم كما نعرفهما اختراعان يونانيان".
ولا بد من الاشارة هنا إلى أن الشعوب المختلفة قبل الأغريق لم تكن تستعمل كلمات مثل " الفرضية" أو " النظرية" في علم الهندسة، ولم يحتاج العلماء إلى علم المنطق في برهنة هذه المفاهيم، فكانت الأخيرة تتوارث كحقائق ثابتة لا تحتاج الى برهان. وهنا أيضاً يكمن سر ابداع الأغريق في علم الهندسة. فإذا كان البابليون وقدماء المصريين قد صاغوا المفاهيم الأولية في علم الهندسة كمسائل وقضايا مسلم بها فإن الأغريق قد حولوا ذلك وصاغوه في نظريات مبرهنة.
أسس البحث العلمي عند الأغريق
إن العلاقة بين العبد والسيد في المجتمع الأغريقي، واحتقار السيد للعمل اليدوي لانه من صلب عمل الرقيق والعبيد، قد أدت إلى بروز أهم أسس البحث العلمي الذي كان نظرياً ويعتمد على الملاحظة دون التحقق العملي في صحة الفرضية أو النظرية. فالفكر الأغريقي عندما كان يقدم الفرضيات فإنه يلاحظ النتيجة التي كان يعتقد إنها نتاج لسبب معين (مشكلة) فيبحث عن السبب، ومن البديهي أن النتيجة الواحدة تولّد في فكر مجموعة من العلماء أسباب عدة، ولذلك وجدت عدة فرضيات مختلفة حول نفس الظاهرة الطبيعية. فلتحديد مفهوم جديد فإننا ننطلق ونستخدم مفاهيماً أخرى معروفة لدينا، وهذه بدورها تعتمد على مفاهيم أخرى وهكذا دواليك حتى نصل إلى نقطة البداية أو المفهوم "الأصل" الذي لا يمكن تحديده باستخدام مفاهيم أخرى لأنه الأساس وبالتالي لا تنطبق عليه أسس البحث السابقة. ولإيضاح ذلك دعونا ننظر إلى المسألة الرئيسية في الفكر الأغريقي وهي كيف تولد الأشياء وتفنى؟ لقد كان كل مفكر إغريقي يفسر ذلك بإعتماده على مفهوم أصلي لا يخضع حسب اعتقاده للبحث والتمحيص بل يعطيه خصائص معينة يجب أن تؤخذ كمسلمات، وبعد ذلك يبدأ بالجواب على السؤال الرئيسي وينطلق في تفسير الطبيعة والكون. إن هذه الطريقة المتدرجة في البحث والتي تعتمد على التدرج والتسلسل من الصعب إلى الأسهل حتى نصل إلى نقطة البداية، أو بعبارة أخرى التدرج في ملاحظة النتيجة لبحث السبب الذي بدوره يكون نتيجة لسبب آخر، وهكذا حتى نصل إلى سبب الأسباب كما يقال. ولكن الهندسة والعلم الرياضي عند الأغريق قد شذّا عن هذه القاعدة قليلاً والتي تتلخص بالاعتماد على الملاحظة وخاصة النظر وذلك لعدة أسباب منها أن برهان المسائل الرياضية والهندسية لا تحتاج إلى عمل يدوي كعمل العبد وإنما تعتمد في الاساس على علم المنطق الذي كان متطوراً في زمن الأغريق. كما أن طريقة الملاحظة (أو النظر) لا يمكن الاعتماد عليها كلياً لأن الانسان قد يخطئ، فقد يخيل لاحدهم تساوي خطين بينما هما غير ذلك أو توازي مستقيمين بينما هما في الحقيقة غير ذلك. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى براهين علمية صحيحة للمفاهيم الهندسية.
كانت المفاهيم الاساسية في علم الهندسة قبل الأغريق تعتمد على الرسومات الهندسية التي بدورها كانت نتاجاً لعملية التصور فقط، حيث لا دخل لعلم المنطق فيها، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى استخدام قوانين المنطق في برهنة المفاهيم الهندسية، وكانت الفرضيات الرئيسية المستخدمة في عملية البرهان لا تحتاج إلى أية اثباتات لانها حصيلة تجربة الانسان الطويلة وناتج خبرته العملية.
هندسة أفلاطون
يعتبر أفلاطون (باليونانية Platon) (427-347) ق.م. من عمالقة الفكر الأغريقي، فقد عاش في القرن الرابع قبل الميلاد. وهو مؤسس المدرسة العلمية الشهيرة في اثينا والتي أطلق عليها اسم "أكاديمية"، وأختار لها حديقة جميلة لتكون مكان لقاء المفكرين لمناقشة المسائل الفكرية المختلف عليها. أبدع أفلاطون في فنون المنطق والجدل وله نظريات شهيرة في المعرفة والفكر والجمال والتي أصبحت فيما بعد موضع نقاش وجدل بينه وبين المفكر الأغريقي الشهير ارسطوطاليس. كان أفلاطون يعتبر الهندسة علماً من علوم المعرفة لا غنى للمفكر عنها، ولذلك كتب على مدخل حديقة مدرسته العبارة الشهيرة التالية " لا يسمح بالدخول إلى هنا لمن لا يعرف الهندسة". لقد طالب أفلاطون العلماء عند استنتاجهم للقواعد الهندسية بالاعتماد على الفرضيات المثبتة سابقاً، وباستخدام طرق التحليل، ونهاهم عن الاعتماد على تصوراتهم وتجاربهم في اثبات قواعدها. انطلق أفلاطون من أية مسألة في الرياضيات لا بد أن تتكون من الفرضية والبرهان وبشكل آخر من معلومات معطاة لنا وعلينا ايجاد المجهول، فإذا كانت المسألة الرياضية في غاية الصعوبة فعلينا قسمتها إلى عدة مسائل يسهل حلها. إن طريقة حل هذه المسائل يجب أن تتدرج من المجهول الى المعلوم، من الشيئ المطلوب ايجاده الى الشيئ المعطى لنا في فرضية المسألة. لقد أطلق أفلاطون على هذه الطريقة اسم – الطريقة التحليلية -، فإذا استطعنا ايجاد المجهول بواسطة هذه الطريقة فعلينا استخدام طريقة الرجوع العكسي في حل المسألة ثانية، وهذه الطريقة تتدرج من الفرضيات إلى ايجاد الكميات المجهولة، أي الانطلاق من المعلوم لايجاد المجهول، وقد سميت هذه الطريقة في زمنه بطريقة التركيب. وفيما بعد فقد سميت هاتان الطريقتان معاً في حل المسائل بطريقة التحليل والتركيب عند أفلاطون.
هندسة أرسطوطاليس
ولد هذا المفكر الأغريقي في مقاطعة مكدونيا في عام 384 ق.م. كان ابوه طبيباً مشهوراً. قدِمَ إلى اثينا للتتلمذ على يد المفكر أفلاطون في أكاديميته الشهيرة وغادرها عام 347 ق.م. عند وفاة أستاذه أفلاطون. وفي عام 343 ق.م. وُجِهت الدعوة إليه من قيصر مكدونيا فيليب ليصبح مربياً لابنه الإسكندر المكدوني، واستمر في تربيته ثلاث سنوات وترك تأثيراً كبيراً عليه. أسس مدرسة علمية على غرار مدرسة أستاذه أفلاطون. نقد أستاذه أفلاطون في نظريات الفكر والمعرفة وترك أثاراً عديدة في كافة فروع المعرفة الانسانية. إن إحدى مآثر هذا المفكر هو ادخاله المنطق في برهان القواعد الهندسية. لقد ظهرت الحاجة إلى برهان المفاهيم الهندسية قبل أربعة الآف سنة عند الهنود، وقد استخدموا الرسم الهندسي في البرهان دون الرجوع إلى المنطق. أما ارسطوطاليس فقد قال أن في اساس علم الهندسة تكمن الفرضيات التي لا يشك اطلاقاً في صحتها، ولكن عدد هذه الفرضيات لا بد وأن يكون ثابتاً ومحدداً غير متغير، أما المفاهيم الهندسية الأخرى فيجب ادراجها تحت مفهوم النظرية. من هنا نستنتج أن الفرضية في رأي ارسطوطاليس لا تحتاج لبرهان. فالبرهان أو الاثبات في نظر ارسطوطاليس يعني التوصل اليه عن طريق الجدل المنطقي كنتيجة لفرضيات سابقة صحيحة أو نظريات تمت البرهنة عليها بدقة باستخدام المنطق. إن طريقة ارسطوطاليس هذه والتي تعتمد على الانتقال من الفرضية إلى النظرية أو التدرج من الحقائق العامة إلى الحقائق الخاصة قد أَسميت بالطريقة الاستنتاجية. لذلك، فهندسة ارسطوطاليس بُنيت على أسس استنتاجية، وبالتالي شكلت القانون الرياضي الاستنتاجي الذي على أساسه بنى اقليدس هندسته.
هندسة أقليدس
عن حياة هذا العالِم لم يصلنا إلا القليل، فقد عاش في القرن الثالث قبل الميلاد في زمن القيصر بطليموس، علّم الرياضيات في الاسكندرية. استطاع أن يجمع المعلومات الهندسية عمن سبقوه وعاصروه، بل اضاف إلى هذه المعلومات ثمرات فكره فوحّدها ونسّقها في نظام هندسي ومنطقي بديع كعلم مستقل في كتبه الثلاثة عشرة والمخصصة للهندسة والتي اطلق عليها اسم "البداية"، عدا هذه الكتب فقد ألف كتب "المعطيات" و "قسمة الاشكال" و "العدسات". كذلك، دَرَسَ الفلك وابدع فيه وترك عدة اثار في هذا المجال.
اعتمد اقليدس على الجدل المنطقي في اثبات المفاهيم الهندسية وفقاً لطريقة ارسطوطاليس الإستنتاجية، ثم جمع كافة المفاهيم الهندسية والقواعد المتعلقة بها والتي كانت معروفة عند الأغريق ورتبها ونسقها كما اشرنا سابقاً في كتابه الشهير " البداية".
ففي الكتاب الأول لخص شروط تساوي المثلثات ونظرية المستقيمات المتوازية والعلاقة بين زوايا واضلاع المثلث وتعاليم في ايجاد مساحة المثلثات ثم اثبت نظرية فيثاغوراس باسلوب استنتاجي.
ويتعلق الكتاب الثاني بهندسة الجبر ويحتوي على مجموهة من المتطابقات المثلثية مثبتة بطرق هندسية وينتهي بحل المعادلات التربيعية بطرق هندسية أيضاً.
أما الكتاب الثالث فهو عبارة عن تعاليم في الدائرة والمماسات والاوتار.
كما يلخص الكتاب الرابع تعاليم رسم المضلعات حول الدائرة وداخلها، و ويعطي في الكتاب الخامس الشكل الهندسي للاعداد المنطقية والصماء ونظرية النسبة. ويتابع في كتابه السادس استخدام نظرية النسبة في ايجاد تماثل الاشكال. وتحتوي الكتب السابع والثامن والتاسع على الأس الهندسية لنظرية الاعداد وطرق ايجاد القاسم المشترك الاعظم والقاسم المشترك الأصغر. كتابه العاشر عبارة عن تتمة لما بدأه في الكتب السابقة حول نظرية الاعداد. أما الكتب الثلاثة الأخيرة فهي تلخيص للهندسة المستوية وايجاد المساحات والحجوم ثم رسم المضلعات وايجاد مساحاتها.
لقد ذكرنا سابقاً أن الاساس في هندسة أقليدس هو المنطق والتسلسل المنطقي في برهنة القواعد الهندسية، لكنه مع ذلك استخدم الرسومات الهندسية واعطاها دوراً ثانوياً في البرهان واستخدمها كوسيلة من وسائل الايضاح والتعبير. كان يعتقد بأن المفهوم الهندسي مهما كان واضحاً وبسيطاً فلا بد من اثباته حتى يمكن الاعتماد عليه في الاشتقاقات الهندسية لغيره من المفاهيم.
استخدم أقليدس في هندسته مفهوم المسلمات Postulates ومفهوم البديهية Axioms. إن هذين المفهومين في عصرنا متطابقان، ولكن الأمر كان يختلف عن ذلك في زمن الأغريق. ففي كتابه "البداية" نجد أنه قد استخدم خمسة مسلمات وتسع بديهيات. فالمسلمة الأولى تنص على أن "المطلوب أن بين نقطتين يمكن رسم خط مستقيم"، أما نص البديهية الثانية عنده فهي "إذا أضفت إلى كميات متساوية أخرى متساوية، فإن الناتج يكون متساوياً". فالأولى تبدأ بكلمة "المطلوب" وهذا واضح من الترجمة الحرفية للكلمة الأغريقية Postulate والتي تعني "المطلوب"، وهي مفهوم خاص بالهندسة فقط. أما البديهيات فهي أمور جامعة ولا تخص علم الهندسة فقط ويمكن استخدامها في علوم أخرى، كالفيزياء مثلاً. ولكن كيف ظهرت هذه المفاهيم في الحضارة الأغريقية، هذا ما سنبينه في الفقرة التالية.
الصراع في الفكر الأغريقي
إن طبيعة مجتمع الرق في بلاد الأغريق جعلت الاسياد يمتازون بمآثر كثيرة، وأهمها عدم اللجؤ إلى العمل اليدوي لتأمين معيشتهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن كثرة أوقات الفراغ لديهم دفعهم إلى الاشتغال بالفكر والعلم وفتح المدارس العلمية الخاصة بهم فقط دون العبيد، ومن هنا فإن طفل السيد عندما يولد يلاقي عناية خاصة في تربيته وتهذيبه سواءً من الناحية الجسدية (كالرياضة وكمال الأجسام) أو من الناحية الفكرية (تلقينه معارف عصره واختيار المربين له). وقد ولدت هذه الطريقة في التربية عنصر المنافسة بينهم، وبدأت فكرة الصراع تنمو من أجل ظهور الرجل القوي، أو الرجل المفكر، وبما أنهم من طبقة الاسياد فقد ضمن القانون الأغريقي لهم حق كل فرد فيهم في الدخول في مبارزة مع رجل آخر كي يثبت تفوقه عليه. إن هذه المفاهيم كالمبارزة والمنافسة والصراع والتي ابتدأت بطابع فردي قد تحولت بمرور الزمن إلى شكل آخر تغلب عليه المسحة الجماعية فتكونت نظمها وطرقها الخاصة بها والقوانين التي تحكمها، واتسعت لكي تشمل المجتمع بأسره، ووصلت القمة في ظهور الالعاب الاولمبية. ومع تطور علوم المنطق والجدل وظهور الفلسفات المادية والمثالية عندهم وتشعب طرق البحث الجدلية والميتافيزيقية انعكس عنصر الجدال والصراع على الفكر، فاخذ العلماء يشكلون الحلقات لمناقشة المسائل المختلف عليها، وجاء زمن أصبحت فيه المبارزة بين عالمين أو مفكرين أمراً محتوماً لاثبات صحة آراء احدهم. فكان، مثلاً، يجتمع عالمان امام الجمهور وبحضور القضاة والحكام ويتفقوا على سبيل المثال على حل عشر مسائل علمية، وهنا يمكن لكل منهما استخدام المفاهيم البديهية دون حدود في اثبات الحل، غير أن كل منهما يحدد عدد المسلمات التي يمكن استخدامها والتي يجب أن تكون قليلة وثابتة ومعترف بها. فإذا كانت هذه المسائل العشرة في علم الهندسة فإن المسلمات تتعلق بها فقط، أما البديهيات فيمكن استخدامها من أي فرع من فروع المعرفة، ومن هنا ظهر الاحتلاف بين هذين المفهومين في العصر الأغريقي.
نقد هندسة أقليدس
لقد كانت هندسة أقليدس إلى وقت طويل تعد نظاماً متناسقاً ونظرية كاملة لا يشوبها أي عيب أو نقص، حتى جاء التطور العاصف في العلم والمعرفة بعد نهاية القرن السابع عشر ليثبت أن هذا البناء الجميل يحتوي على نقص وفجوات تشوهه ولكنها لا تنقضه، تعطيه مظهراً من مظاهر الضعف والسلبية، ولكنها لا تحكم عليه بالموت.
إن الهندسة كعلم تختلف عن الهندسة كمادة، في أن الأولى تعتمد على نظام بديهي متكامل غير ناقص ولا تحتاج إلى بديهيات مساعدة في شكل رسوم هندسية أو تصورات أو غيرها. إن اضعف مكان في هندسة أقليدس هو عدم تحديده للمفاهيم الهندسية (الكلمات) الرئيسية بشكل دقيق بحيث يمكن استخدامها في التعاريف والمشتقات اللاحقة. فقد اورد أقليدس في كتبه تعاريفاً هندسية لمفاهيم النقطة والخط المستقيم والسطح المستوي، ثم انطلق منها إلى تعريف الزاوية والشكل ..الخ. فمثلاً، فقد عرّف النقطة بأنها "الشيئ الذي لا يحتوي على أجزاء"، فهنا اثبت أقليدس هذا التعريف دون أن يحدد مسبقاً كلمات أو مفاهيم اولية لينطلق منها ليكون التعريف واضحاً ومتكاملاً. إن علم المنطق يتطلب في تعريف المفهوم الهندسي تحديده من خلال مفهوم مطابق له في الجنس. فكلمة "شيئ" في التعريف السابق كلمة عامة يمكن أن يُفهم منها بيتاً أو حجراً ..الخ، وهذا مفهوم واسع، أما من ناحية النوع فإن كلمة "جزء" ايضاً كلمة شاملة ويلزم لتحديدها مفاهيم وكلمات أخرى وهكذا. فمن تعريف أقليدس للنقطة فإنه يلزمنا لتحديد معنى المثلث مفهومين، الأول لتحديد الجنس وآخر للنوع، ولكل من الاخيرين يلزمنا مفهومين وهكذا دواليك إلى ما لانهاية، وهذا قطعاً في العلم غير جائز. كما أن أقليدس يعطي تعريفاً عاماً للنقطة ثم ينطلق من هذا التعريف لاعطاء تعريف للخط المستقيم ومن هذا الأخير لتعريف السطح المستوي، أي أنه يعّرف الشيء المجهول بشيئ آخر يحتاج إلى تفسير، وهنا يكمن الضعف في بناء هندسة أقليدس.
يورد أقليدس في كتابه "البداية" 14 بديهية (من ضمنها خمس مسلمات)، ويعتمد عليها كلياً عند برهنته المفاهيم والقواعد الهندسية. فإذا درسنا برهان أقليدس للنظرية الأولى في كتبه نجدها تحتوي على خطأ في المنطق، فهو يورد اموراً لا يثبتها ولا يمكن استنتاجها من خلال النظام البديهي الذي وضعه. ومن هنا نستنتج أن برهان النظرية الأولى كان ناقصاً، وهذا النقص ينعكس على برهان معظم النظريات التي دخل برهان النظرية الأولى فيها كعامل مساعد. إن ذلك يؤدي إلى نتيجة مفادها أن النظام البديهي الذي وضعه أقليدس هو نظام ناقص غير كامل، وهذا لا يقبله العلم الحديث. ففي أساس أي علم تكمن مجموعة من البديهيات تشكل نظاماً كاملاً غير متعارض (متناقض). إن هذا النقص في بناء هندسة أقليدس قد ولّد مشكلة علمية حادة سميت مشكلة المسلمة الخامسة The fifth postulate، فما هي هذه المشكلة؟
لقد حاول رجال العلم وعلى امتداد الفي سنة من اثبات المسلمة الخامسة كنظرية وتفسير أن المسلمة الخامسة معقدة وصعبة وتحتوي على مفهوم "ما لانهاية"، كما أن أقليدس نفسه لم يلجأ إلى استخدامها في براهينه الاّ في وقت متأخر عند اثباته النظرية الواحدة والعشرين. فمنذ زمن أقليدس وحتى القرن التاسع عشر لم يوجد عالم واحد لم يبحث في هذه المشكلة، ولكن جهودهم ذهبت ادراج الرياح، حتى جاء العالم الروسي "لوباشيفسكسي". واستطاع برهنتها باستخدام بديهية متممة لها. إن عدم نجاح العلماء في حل هذه المشكلة يرجع إلى أن نظام البديهيات عند أقليدس كان ناقصاً ويحتاج إلى بديهية مكملة، وهذا ما اوجده ذلك العالم الروسي. إن هذا العالم قد اعاد صياغة هندسة أقليدس بالاعتماد على نظام البديهيات الكامل، وقد لاقلى تكريماً في الوسط العلمي حيث سُميت هذه الهندسة باسمه، وبذلك جلس على القمة جنباً إلى جنب مع ابو الهندسة أقليدس.
ورغم السلبيات في بناء هندسة أقليدس فإنها لاقت مجداً وشهرة في العالم على امتداد تاريخه الطويل، فقد بقيت ولوقت قريب المرجع الوحيد والرئيسي للعلوم الهندسية. ففي بريطانيا ولبداية القرن العشرين كانت العادة السائدة في العلوم أن يتلقى الطالب معارفه الهندسية من كتاب أقليدس "البداية". كما إن هندسته كانت حجر الاساس في تطور علم الهندسة كعلم رياضي مستقل. فالعالم الانجليزي اسحق نيوتن (1643-1727) درس هندسة أقليدس وعلى اساسها وضع قوانينه الميكانيكية الثلاثة المشهورة وأسس الميكانيكا الكلاسيكية، كما أن الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط (1724-1804) كتب عن بديهيات أقليدس " بأنها تحمل طابعاً فوق التجربة، أي لا تعتمد على تجربة الناس وتطور المجتمع البشري".
أما العالم الهولندي سبينوزا (1632-1677) فقد استخدم نظام أقليدس في بناء هندسته واعتمد عليه عندما كتب مؤلفه الشهير في علم الأخلاق، حيث أثبت في بداية كتابه عدة بديهيات في علم الاخلاق ومنها انطلق في اثبات آرائه ونظرياته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مشروع قانون بريطاني يسعى لخلق جيل خال من التدخين


.. خدمة جديدة من غوغل للعثور على الهاتف وإن كان مغلقاً




.. طفل فلسطيني يجمع قطرات المياه من خزان متنقل في غزة ليرتوي


.. الثاني عربياً والأول سورياً.. وفاة رائد الفضاء محمد فارس




.. معهد في كاليفورنيا يجمع أكبر كاميرا فلكية في العالم