الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمواج متلاطمة

حبيب لكناسي

2021 / 12 / 21
الادب والفن


لم يضع نصب عينيه أن تسوقه أحلامه ليتعلق قلبه بامرأة ما قط، فشروده الدائم يحجب عنه كل الأطياف، وتفكيره أضحى في صراع دائم مع تقلبات أحاسيس جميلة مهما كانت درجة تراشقها بين ثنايا تأملاته وسهاده المتكرر. ولكنه في لحظاته تلك، و هو ينظر إلى مرآته المغبرة و المعلقة خلف الباب مباشرة، فجوة تفصله بين عالمين متصارعين، بين ذواته الحالمة المطمئنة وذاته الثائرة المستفزة. فكلما اقترب منها يلقى نظرة خاطفة على ذلك الطيف الذي يسكنه، مثل متلصص يسترق النظر قبل بدء عملية نشل صبيانية. ها هو أخيرا يتفطن إلى ذلك الشيب الذي بدأ يغزو شعره الخفيف والمحادي لصلعته اللامعة، لقد بدت له مقلتاه غائرتين براقتين مثل عيني قط متشرد في ركن داج بعد أن دب الجرب إلى جسده الهزيل، إنهما تحملان من التيه الشيء الكثير، بدتا عميقتين بشكل ملحوظ حتى أن اليسرى منهما يغشاها ضباب كثيف بين الفينة و الأخرى، ما يجعله لا يفارق نظارتيه اللتان يربطهما بحزام مطاطي حتى في استلقاءاته المتكررة طلبا لراحة مسروقة. وتلك الأسنان المتباعدة التي تزين فمه الصائم عن الكلام إلا من أنات و همهمات متفرقة، لا تكاد تحمل من البياض إلا اليسير منه، أصبحت اللقمة في فمه تتعرض إلى ما لا نهاية له من القطع و التمزيق الممل قبل أن تستقر في غياهب النسيان. ها هو الآن ينهض بتثاقل واضح و يجلس بسرعة كجثة هوت من عل، وكم يمني النفس في لحظات شروده تلك أن تكون بجانبه امرأة يرتاح لها و ترتاح له، يستند إليها وتستند إليه، يتقاسم معها لحظاته الأخيرة من عمره الرتيب، يحدثها و تحدثه، يتبادلان الشوق المنبعث من تحث رماد النسيان، البارحة فقط كلمها من وراء حجاب:
- أألقاك مجددا هناك؟
- نعم يا ملهمتي، وهل يتوقف الموج عن مداعبة الشاطئᵎ

بين الفينة و الأخرى، وفي أوقات يشتد فيها حر الشاطئ المجاور لبيت أحلامه المتكسرة، تسوقه خطاه المتثاقلة إلى المكان عينه، قرب أجراف تشرئب إلى الموج في غضب حانق، هناك يقتنص لنفسه هنيهات تدغدغ غيابه المتكرر، ويتسارع شريط عمره كالبرق في ليلة عاصفة. يظل قابعا ينتظرها دهرا، وبعد أن يشبع منه الزوار جيئة وذهابا، يجلس قبالة الأمواج المتلاطمة، بعد أن يغرز قصبته الشاحبة عميقا تحت الرمل المبلل، تلك القصبة الخيزرانية التي تشبهه في انحناءته وسحنته المائلة إلى اللون البني القاتم. في جيبه العلوي مذياع بصغير متآكل الجنبات،يحيط به سلك صدئ، هو كل ما تبقى له من والديه المتوفيين منذ مدة قصيرة، وقد تسمر مؤشره على القناة ذاتها منذ أمد بعيد. يجلس على كرسيه الخشبي الصغير المتهالك ، يخرج كراسته وقلمه الرصاصي ليكتب أشياءه المعهودة. الأوراق تعبث بها نسائم البحر الباردة و القلم يتراقص بين أنامله في مد وجزر. رسم وجهها قبالة وجهه، بدا له شعرها يتطاير بفعل النسائم التي ترسلها أمواج البحر بين الفينة و الأخرى، مد سبابته ومررها على شفتيها، أراد أن يقبلها لكن شعوره باهتزاز القصبة نبهه إلى أن أعينا تترصده في حركاته وسكناته تلك، أمسك بقصبته المتجمدة يتفقد اهتزازها الخفيف، تلك القصبة التي تعب من مداعبتها ولفها لتستقيم كما كانت في أيام شبابه، لم يقو على جذبها أو بالأحرى لم تكن الأسماك هدفه الأول، بل ذلك الاهتزاز الذي يشعره بالنشوة و الحياة.

يعرفه الجميع هنا، خاصة من يدأبون على المجيء إلى هذا الشاطئ في مثل هذا الوقت من كل أسبوع، أناس مثله يبحثون عن الخلوة والهدوء، لا يكلمونه ولا يكلمهم، يراقبهم و يراقبونه منذ زمن بعيد، يبادلهم ابتسامته المصطنعة وتغدو تلك النظرة الحزينة بادية للعيان. هو بدوره يعرفهم واخدا تلو الآخر وإن لم يتبادل معهم أطراف الحديث، لأنهم يسكنون أوراقه تلك منذ أمد بعيد، هاهم تارة يتضاحكون ويغنون، يبكون و يصرخون طورا آخر، يتمرغون فوق الرمل مثل فقمات أنتركتيكا، يستغيثون ويرقصون، عرايا يسبحون وقسمات وجوههم المتهللة تزين صفحاته تلك، بل حتى أعمق مكنوناتهم الهاربة تتبدى له بين ثنايا سطوره الزئبقية تلك، ووحدها بين الأجراف تبدو كحورية تؤثث هذا الفضاء الممتد. هو لا يقترب منها كثيرا كي لا يفسد ذلك المنظر البهي و تلك اللوحة المعلقة في متحف الأحلام، أحلامه هو. وحينما يعود إلى شقته مساء بعد أن يودعه الغروب، يشرع في ترتيب شخصياته المتشظية مجهدا نفسه كي تظل مؤنسه في وحدته و كي تقاسمه أحاسيسه الآسنة، ثم يسعى جاهدا كي يمنحها قسطا من سعادة عابرة دون تفاضل أو تمييز، فيعطي الانطباع لنفسه أنه الملاك الوحيد الذي يحرسهم في لحظاتهم الجميلة تلك، به ستظل حية ترزق، وإن أرادت أن تحيا فعليها ألا تنغص عليه تلك الحياة الرتيبة و ذلك التواصل الأثيري، عليها أن تكون الحاضرة الغائبة، الشاهدة المتواطئة، يحرسه و تحرسه وفقط.

هي تعرف أن وجودها هناك، ما كان له ليكون لو لم يمنحها روحا تعشق الأفق، لتظل ساكنة تنظر إليه في حنو، تنتظر أن يفرغ من خربشاته المتكررة التي تراها هامشية، كي يمنحها مزيدا من الوجود الرمزي، وليبعثها مجددا كي تشاطره أحلامه المتلاطمة مثل موج بحر هادر، ورغم أنه خط لنفسه اعترافا وسم فيه نفسه بأنه السبب الوحيد و الأوحد لتواجدها هناك قبالة ذلك البساط الأزرق ، إلا أن ذلك العناد الطفولي الذي كبرت عليه أو بالأحرى تربت عليه بين أنامله، جعلها تساهم في منحه بعضا من القوة والتحمل على مضض، فبعض الناس يميلون إلى من يتمنع عنهم، لأنهم يعتبرون ذلك مغامرة تستحق أن تعاش، وأن الوصول إلى هدفهم بعد جهد جهيد يعد بطولة لا يشق لها غبار و انتصارا ملحميا لا حد له و لا قرار. لذلك ستظل في مكانها هناك مثل لوحة معلقة بين السماء و الأرض.

وتمر الأيام بسرعة قاتلة ويزداد تعبه وتشتد حرقة وحدته، فلم يعد بمقدوره الآن أن يرأف بأصدقائه العابرين لبياض كراريسه، بينما يرى نفسه ينضب كجمرة تدروها الرياح العاتية في ركن ربع خال وسط صحراء قاحلة. لقد قرر أن يلقي بنفسه وسط رحى لواعج حب لم تكتب له البداية، يريده حبا يخلده كل العشاق، يكتبون قصته على أجراف البحر، يريد أن يختبر ذلك الجسد المنهك الذي يحمله منذ أمد بعيد، أليس من حقه أن يكون مثل بقية الأنام؟ᵎ إنه يريد أن يحترق إلى أبعد مدى، يريد أن يسقي عطشه الأزلي، يريد أن يذيب صخرة الجليد الذي يلفحه كل ليلة حينما يأوي إلى فراشه مغشيا عليه من فرط الاصطكاك المتواصل. أسئلة كثيرة تتقاطر عليه، ترمي بثقلها دون أن يدري كيف يجيب عنها. ورغم كل ذلك تراوده أحلام جميلة لم يعهدها من قبل، إنه يكتب بين براثن أحزانه كل ما مر به حتى يتذكر أنه كان هنا. غير أنه الآن ما من كوابيس تراوده، أتراه بدأ يشعر بذلك الفوران يغلي في جسده من جديد، يتساءل:هل من امرأة ستحبه رغم شيخوخته المبكرة، وهل تستطيع أن تتعهده بالدفء حتى تثوي بذرته المنسية وسط ارتباطهما ببعض، وهل من الممكن أن يحيا مجددا، أن يسترد نظارة وجهه، أن يقول أنا هنا، أنا حي يرزق؟

إنها تشبهه في خلوته تلك كثيرا، لذلك تلوذ دائما ودون كلل إلى صخرة مطلة على أمواج البحر الهادرة، تشرئب إليها متأملة حركتها اللولبية، إنها ترى نفسها فيها، وقد لا ينغص عليها شرودها إلا صوت تلاطمها مع تلك الأحراش بين الفينة و الأخرى، وتلك النوارس التي تحوم حولها مشكلة عالما من الأحلام و كأنها صور تتراءى أمام عينيها في لمح البرق، تتعجب لتلك الحركات في كل اتجاه دون أن يصطدم بعضها ببعض، تظل تنظر و تنظر علها تظفر ببعض من ضالتها بين ثنايا تلك الرقصات في الفضاء. هي فعلا تشبهه كثيرا في ترقبه وملاحظاته الدقيقة لكل عابر جديد، إنهما يعرفان بعضهما حق المعرفة، ذلك الخيط الذي يربطهما معا خطه القدر، يتقلص مع توالي الأشهر و الأيام والساعات و الدقائق و حتى الثواني. و هاهما ينجذبان إلى بعضهما ذات مساء هادئ، فقد كانا يمشيان جنبا إلى جنب فوق الرمال الذهبية التي مازالت تحتفظ بدفئها رغم أن هيكل الشمس لا يكاد يظهر منه إلا الثلث تقريبا أو أقل بقليل. جلس بقربها على اليمين مباشرة دون أن ينبس ببنت شفة، كان ينظر إلى الشفق الأحمر الحزين المنعكس على وجنتيها، بينما كانت تدخل يدها اليسرى تحت الرمل ببطء و تخرجها في الحين، فتعيد الكرة تلو الكرة كما يفعل أي طفل جالس على كومة رمل، نظر إليها ثم قال:
- لن أقول لك ما اسمك و من أين جئت، فأنا أعرفك منذ زمن بعيد، أعرفك حق المعرفة، فأنت حارسة هذه الأمواج، وكلما غبت عنها تتلاطم بقوة مزمجرة حتى لكأنها تستوحش غيابك، أعرفك من خلال الملابس التي ترتدينها، ومن خلال مشيتك، من خلال زفراتك وتنهداتك، من خلال صمتك العميق، من خلال ذلك الشفق الأحمر، أعرفك حق المعرفة، لأنك ببساطة تسكنينيᵎ
كانت تستمع إليه و الابتسامة تعلو محياها، وكأنها تحاول أن تخبره أنها تعرفه أكثر مما بدا له عنها، بل أكثر من نفسها هي، ولكنها اكتفت بأن قالت:
- صحيح، كلانا يعرف البعض، أنت كذلك جزء من هذا المكان، فكلما غبت عنه، تتراءى لي قصبتك مثل شبح يرقص، أو ثور هائج يريد أن يقتحم الموج مثل حمم بركانية، وآثار كرسيك الصغير تأبى الأمواج أن تمحوه عنوة، فقط لكي تمجد ذكراك، أسمع همهماتك و أناتك تختلط بهدير الموج، أشعر حينها أنني حية، أنني اساهم في ذلك الوجود فتنبعث مني صرخة دفينة تكمل ذلك الزخم من الأحاسيس.

لم يكن تواجدهما في ذلك المكان صدفة عابرة، بل سفينة تواصل إبحارها، تمخر عباب البحر يقودها أقوى ملاح، و تواصل مستمر خطه القدر عميقا بأعتى سلاح، وكلاهما يعرف أن تلك الأنامل المرتعشة تخط أشياء كل يوم دون توقف، وأن كلا منهما يحمل في ذهنه صورا أزلية، تتشكل بين صفحات مذكراتهما اليومية، ولا أحد منهما يرغب في أن يندس فيما يكتبه الآخر عنه من لواعج و أشجان. ولكن لقاءهما ذلك اليوم أحدث تغييرا جذريا في حياتهما، فلقد تسربت إليها هي فسحة أمل جديدة، ولقد اختفى ذلك الشحوب في عينيها، وتلك الملابس الغامقة ألوانها أضحت زاهية بألوان تؤثثها فراشات وحباحب، وذلك الثقل في جسده هو قد استحال خفة، وكلما نظر إلى المرآة رأى شخصا آخر بلا شحوب ولا تجاعيد تذكر، وتلك الشفة أضحت رطبة يعلوها الريق، وتلك الشقة التي يسكنها لم تعد مرتعا للأشباح، لقد نضبت ظلالها المخيفة و بات النور يتسرب إليها من ثغورها الباسمة، وكأنه نور انبثق، وكأنها نجم انطلق.

وقع الموسيقى الحالمة يتردد من بعيد، تتخلله ضحكات طفولية تنعش الروح، و تجري الدم في عروق الظمآى. وكلما غابت عنه يأخذ صفحاته تلك، يبعثرها أمامه بسرعة، فتطيش أصابعه بينها، وتحبو على ملمسها برفق و كل صفحة يتلقفها يشمها بأريحية ويتنفس عميقا عبقها عميقا عميقا فتجيبه بشهقة وزفرة ترديه ثملا قتيلا. وبين ثنايا أسطره الحالمة تلك، تنظر إليه في ترقب ملتهب، قلبها ينبض بشدة حتى ليكاد ينخلع من مكانه، وتلك الأنامل تتراقص شوقا وهي تكتب اسمه من جديد على الرمل وعلى الصخر، ليظهر لها مجددا مثل طيف وهو يرنو إلى أمواج البحر في حيرة و ترقب، يتأمل السماء جهة استقامة القصبة الخيزرانية، يحركها برفق حالم عساها تحظى بصيد مباغث طالما انتظره، لا ليأكله أو يبيعه، ولكن لينتشي بانتصاره على تلك الأمواج المتعنتة الغاضبة والمصطدمة بحافة تلك الصخور المتمنعة الناقمة تضاريسها، والتي طالما أشبعته لطما كلما زار ذلك المكان على حين غرة، حيث السحر العظيم و الدفء الحميم، حيث صوت أمواج البحر و صوت النوارس و الضحكات الطفولية..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع