الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بداية الإصلاح الديني في إنجلترا-2

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2021 / 12 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مارك كارترايت
موسوعة تاريخ العالم

إدوارد السادس والمزيد من الإصلاحات
خلف هنري على العرش ابنه من زوجته الثالثة جين سيمور (1509-1537م) الملقب إدوارد السادس ملك إنجلترا (1547-1553م). واستمرت عملية الإصلاح تجري بقوة تحت رعاية إدوارد وتوماس كرانمر والوصيان على العرش إدوارد سيمور، دوق سومرست (1500-1552م)، وجون دادلي، إيرل نورثمبرلاند (1504-1553م)، وشهدت حتى تغييرات أكثر تطرفاً مما وقع في السابق. في 1547م أصدر كرانمر ما أسماه ’كتاب العظات‘، وهو عبارة عن مجموعة من الخطب المعدة لاستخدامها في العبادات الكنسية، وألحقه بمؤلفه الجديد "كتاب صلاة الجماعة"، الذي صدر بالإنجليزية في 1549م وأصبح إلزامياً بموجب قانون التوحيد الصادر في العام نفسه. ثم أدخل عليهما ’كتاب الصلاة‘ تعديلات أكثر تطرفاً وبعيدة عن الكاثوليكية في 1552م حين رفضت فكرة استحالة الشكلين الكاثوليكية (القائلة بتحول عناصر قربانية مثل الخبز والخمر إلى جسد ودم عيسى المسيح).

بحلول ذلك الوقت اكتسب مصطلح ’البروتستانتية‘ (ويعني الاحتجاجية) انتشاراً واسعاً للمرة الأولى. أزيلت جميع الأيقونات والجداريات ونوافذ الزجاج المزخرف من الكنائس، وأصبحت الصلوات تقام الآن باللغة الإنجليزية، لا اللاتينية. واستبدلت المذابح الكاثوليكية بموائد العشاء الرباني الجماعية. منعت عبادة القديسين. وسمح الآن للقساوسة بالزواج. حُلت الجمعيات الدينية، وألغيت الأوقاف (الزوايا) حيث اعتاد الكهنة إقامة الصلوات ترحماً على أرواح الموتى، وتمت مصادرة أراضي الكنيسة. ثم ذهبت الثروات المجمعة مباشرة إلى جيوب النبلاء.

كما حدث مع حل الأديرة، لم يخلو الأمر من الاعتراض والاحتجاج وأعمال العنف. ومرة أخرى، انفجرت معاناة الكثيرين من سوء الوضع الاقتصادي وتذمرهم من التغييرات الفجائية والمتطرفة في الحياة الأبرشية التقليدية في صورة تمرد وعنف، هذه المرة في كورنوال ثم في نورفولك عام 1549م. كان أشدها خطورة تمرد كيت، نسبة إلى قائده روبرت كيت، لكن في أغسطس تم سحقه بلا رحمة بمذبحة للمتمردين في دوسينديل. ومضى الإصلاح بلا هوادة في حظر المزيد من الممارسات ’الباباوية‘ مثل إلغاء العناصر الأكثر بهرجاً في الرداء الكهنوتي وإلغاء الصلاة على الميت.

ماري الأولى ونكسة الإصلاح
توفى إدوارد السادس عام 1553م متأثراً بمرض السل ولم يتجاوز الخمسة عشر ربيعاً وخلفته أخته غير الشقيقة ماري الأولى ملكة إنجلترا (1553-1558م). وحينذاك خلفت محاولة فاشلة لتنصيب ابنة عم إدوارد البروتستانتية الليدي جين جراي (1537-1554م) مكانه فوق العرش كارثة لكل من تورط فيها. كانت ماري كاثوليكية متزمتة وعازمة على نقض الإصلاح، وأصدرت قانون البطلان الأول في أكتوبر 1553م الذي نقض كل التشريعات ذات الصبغة الدينية من حقبة إدوارد السادس. ثم أصدرت قانون البطلان الثاني في يناير 1555م الذي ألغى كل التشريعات الصادرة بعد 1529م بخصوص أمور الدين. وكان قانون السيادة من ضمن هذه التشريعات الملغاة، ومن ثم عاد البابا أخيراً وبشكل رسمي باعتباره رأس الكنيسة في إنجلترا من جديد.

استمدت الملكة كنيتها ’ماري الدموية‘ من حرق 287 شهيد بروتستانتي بالمحرقة خلال عهدها، من ضمنهم توماس كرانمر في مارس 1556م. ومرة أخرى، لم يكترث العامة كثيراً إزاء هذه التغييرات الكنسية لكن نبلاءهم بالتأكيد فعلوا في اعتبار ما كسبوه من ثروات طائلة كنتيجة للسياسات الجديدة تماماً مثلما حدث مع حل الأديرة من قبل. لكن ظهرت مشكلة في زواج ماري المقترح أو الفعلي حينئذ من الأمير الكاثوليكي فيليب الإسباني (1527-1598م)، إذ خشي الكثيرون من ابتلاع إنجلترا ضمن الإمبراطورية الإسبانية فاحشة الثراء والقوة حينذاك، وهو الشعور الذي غذى تمرد وايت في كينت في يناير 1554م. كان ثمة تداخل يتشكل بين الإصلاح الديني والمشاعر الوطنية الإنجليزية. وفي الواقع أراد المتمردون في العلن إيقاف ’الزواج الإسباني‘، لكنهم ربما كانوا يريدون سراً أيضاً استبدال ماري بأختها البروتستانتية غير الشقيقة إليزابيث. وكما بينت الأحداث التالية، تكفل السرطان بمهمة إزاحة ماري عن العرش وأصبح عهدها مجرد حجر عثرة صغير على طريق الإصلاح الديني الممتد. ومن سيخلف ماري لن يدخر جهداً لإفاقته مجدداً، وسيمضي فيه هذه المرة لأبعد مدى متصور.

إليزابيث الأولى وإصلاحات أكثر من ذي قبل
في 1558م خلفت إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا (1558-1603م) أختها غير الشقيقة ماري، وشرعت الملكة البروتستانتية الجديدة في استعادة الكنيسة الإنجليزية إلى سابق عهدها الإصلاحي كما كانت في عهد الملك إدوارد السادس. بيد أن المتشددين على كلا الجانبين البروتستانتي والكاثوليكي لم تعجبهم برجماتية إليزابيث حين انتهجت مقاربة أكثر وسطية راقت للسواد الأعظم من رعاياها غير المتحمسين أصلاً لعملية الإصلاح. منحت إليزابيث المتشددين حرية أكبر لممارسة معتقداتهم من دون تدخل، حتى عندما حظر البابا الملكة من الكنيسة بتهمة الردة في فبراير 1570م. كانت إليزابيث نشطة بالخارج أيضاً. حاولت فرض البروتستانتية في إيرلندا الكاثوليكية، لكن لم يؤدي ذلك سوى إلى ثورات متكررة (1569-1573، 1579-1583، 1595-1598م) بدعم مادي من إسبانيا في معظم الأحيان. كما أرسلت الملكة المال والسلاح إلى البروتستانتيين الفرنسيين في فرنسا والمعونة المالية للبروتستانتيين في هولندا.

واجهت إليزابيث والبروتستانتية تهديدين خارجيين تمثلا في ماري، ملكة الأسكتلنديين (1542-1567م) وفيليب الثاني ملك إسبانيا. كانت ماري الكاثوليكية قد فرت إلى إسكتلندا وادعت من هناك بحقها في العرش الإنجليزي بذريعة أنها حفيدة مارجريت تيودور، أخت هنري الثامن. وكان فيليب الثاني هو الحاكم الكاثوليكي الأقوى في أوروبا وبدا عازماً على توسيع الإمبراطورية الإسبانية. أصبح كلا هذين العاهلين بمثابة رأسي حربة للكاثوليك الإنجليز الراغبين في التخلص من إليزابيث والبروتستانتية دفعة واحدة. كانت غالبية الكاثوليكيين ترى في إليزابيث ملكة غير شرعية لأنهم لم يعترفوا أصلاً بطلاق والدها من زوجته الأولى كاثرين من أراغون. لذلك وضعت ماري قيد الإقامة الجبرية في قصرها، ثم أعدمت في 8 فبراير 1587م بعدما ثبت تورطها في التآمر ضد إليزابيث. ثم جاءت الضربة القاضية لتطلعات فيليب الإمبراطورية بهزيمة الأرمادا الإسبانية التي حاولت غزو إنجلترا في 1588م.

التسوية الدينية الإليزابيثية
جاءت القفزة التالية للأمام فيما يخص الإصلاح الديني فيما عرفت التسوية الدينية الإليزابيثية، وهي عبارة عن مجموعة من القوانين والقرارات التي صدرت بين عامي 1558-1563م. فقد أعاد قانون السيادة (أبريل 1559م) العاهل الإنجليزي ثانية بصفته رأس الكنيسة. وأظهرت الملكة بعض المرونة بشأن الصياغة لتكتفي بوصف نفسها ’الحاكم الأعلى‘ للكنيسة بدلاً من ’الرأس الأعلى‘، وبالتالي حققت لنفسها قبولاً أوسع لدى البروتستانتيين الذين لم ترق لهم فكرة أن تشغل امرأة ذلك المنصب. وبخلاف الحال في دول بروتستانتية أخرى، تم الإبقاء على الهيكل الكنسي الكاثوليكي القديم من أسفل منصب صاحب السيادة عبر تنظيم الأساقفة في تسلسل هرمي وتعيينهم بمعرفة العاهل.

حدد قانون التوحيد لسنة 1559 الصادر في عهد ماري شكل الكنائس والشعائر، لتصبح الصلاة في الكنيسة إلزامية وتفرض غرامة على المتقاعسين (كانت تعطى حينذاك للفقراء). وكل من رفض حضور الشعائر في الكنيسة كان يوصم عاصي. ثانياً، حظر الحضور إلى القداس الكاثوليكي وكل من ثبت تورطه دفع غرامة ضخمة. والكاهن الذي يثبت تورطه في إمامة قداس قد يواجه عقوبة الإعدام.

’الأوامر الملكية‘ هي عبارة عن مجموعة من 57 لائحة تُعنى بالأمور الكنسية ألزمت الوعاظ بالحصول الآن على رخصة وأوجبت أن يتوفر لكل كنيسة كتاب مقدس باللغة الإنجليزية وحظرت زيارة الأضرحة، من جملة أوامر ونواهي كثيرة أخرى. استؤنف العمل بكتاب صلاة الجماعة لتوماس كرانمر (مزيج وسطي من طبعتي 49 و52). يتطرق كتاب الصلاة بشكل أساسي لمسألة الخبز والخمر في تقليد العشاء الرباني، وبدلاً من معاملة هذه الأشياء باعتبارها تتحول إلى جسد ودم السيد المسيح حين مباركتها من قبل رجل الدين الكاثوليكي، اكتفى الواعظ البروتستانتي بتشجيع المؤمن على اعتبارها مجرد تذكرة بتضحيات المسيح. وفي النهاية سعت ’المواد التسعة وثلاثين‘ لسنة 1563 (صدرت في قانون في 1571م) إلى تعريف البروتستانتية الإنجليزية بطريقة صريحة وقاطعة الدلالة، فيما أصبحت تعرف اليوم ’الإنجليكية‘

الانقسام الكنسي
كان الاعتدال الذي اتسمت به التسوية لا يروق سواء للكاثوليك المتطرفين أو البروتستانت المتطرفين، خاصة الأتباع الأكثر حرفية للكالفينية كما عرضها المصلح الفرنسي جون كالفين. هذه المجموعة الأخيرة من المتطرفين عرفت باسم البوريتانيين الذين حققوا انتشاراً واسعاً من منتصف ستينات القرن السادس عشر ميلادي على خلفية اعتقادهم بأسبقية الإيمان على عيش ’حياة تقية‘ من أجل بلوغ الخلاص الروحاني. أراد بعض البوريتانيين- بالأخص المشيخيين والانفصاليين- إلغاء الهرمية الكنسية والتركيز على تفسير أكثر حرفية للكتاب المقدس؛ وفي النهاية سينشئون كنائسهم المنفصلة التي اعتبروها مستقلة عن أي سلطة ملكية وعن الكنيسة الإنجليكية.

انقسم أغلب الناس بين الاعتقاد بالكاثوليكية أو الاعتقاد بالبروتستانتية، واعتنق البعض درجات متفاوتة من وجهتي النظر المتطرفتين على طرفي الخط، ويرجح أن أناس أكثر شعرت بارتياح كاف عند التقاطع الوسطي المعتدل الذي جسدته الإنجليكية. وهكذا انجذب الكثيرون لعناصر من كلا الطرفين مثل الإعجاب بالزينة البديعة للصليب المصنوع من الذهب وفي الوقت نفسه تفضيل استعمال الإنجليزية في تأدية الشعائر. وظهرت حينئذ درجة من التسامح وكما صرحت الملكة نفسها، بقيت الأفكار الخاصة خاصة، لأنها "لن تفتش في نفس أحد" (وودوارد، 171). وجرت حركة تنقلات للمسؤولين عندما أبعدت إليزابيث من تبقى من الأساقفة الموالين للكاثوليكية، وبموجب قانون المقايضة لسنة 1559م صادرت ممتلكاتهم (أو هددت بذلك إذا لم يلزموا الصف).

كنتيجة للتسوية الإليزابيثية استقال فعلاً حوالي 400 كاهن. لكن استمر أيضاً وعاظ كثر ببساطة كما من قبل، إما في السر أو أملاً في ألا تلاحظهم عيون السلطات- الذين في بعض الحالات التف المتعاطفون حولهم على المستوى المحلي. لكن الإصلاح كان لا رجعة الآن. فرغم ردود الفعل القوية، والتغييرات المتطرفة والعنف الملحوظ في بعض الأقطار الأوروبية الأخرى التي خاضت تجاربها الخاصة من الإصلاح الديني، نجحت إنجلترا في تخطي عقبة صعبة وخطيرة وإنشاء نسختها الخاصة الفريدة والباقية من البروتستانتية.
_________________
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
رابط المقال الأصلي: https://member.worldhistory.org/English_Reformation/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة