الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الميلاد والإنسان

طوني سماحة

2021 / 12 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


زينة وأغنيات، تقاليد وأعياد، هدايا وثياب جديدة، ولائم وحلويات، ابتسامات وضحكات وأمنيات وعائلات تجتمع على طاولة الميلاد، هذا هو الميلاد في الكثير من الأماكن، حيث يذكر الناس ولادة المخلص. لكن الميلاد ليس مجرد ميلاد طفل في مذود في قرية نائية من فلسطين القديمة، بل هو ميلاد الإنسان والإنسانية، هو ميلاد التاريخ والحضارة، هو ميلاد الفكر والقيم الحديثة، هو ميلاد العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر.

العالم ما كان ليكون ما هو عليه اليوم لولا المسيحية. الطريق الطويل الذي سارت عليه البشرية منذ ألفي عاما وحتى اليوم ما كان ليشق ما لم تزرع بذوره في القرون الميلادية الأولى، لتنمو في تربة صخرية قبل أن تنبت وتثمر ثلاثين وستين ومائة. كلمات قليلة رددها معلم يهودي مجهول في بلد مقموع وناء لثلة من صيادي السمك والعشارين، بدت للوهلة الأولى وكأنها ثرثرة وترهات، لكنها كانت كفيلة باركاع أعتى أمبراطوريات العالم القديم. فنار روما وحديدها بدا عاجزا أمام الكلمة. وما تزال الكلمة تقف وتواجه حتى اليوم روما التمجددة بنارها وحديدها.

الميلاد هو ميلاد الإنسان بالدرجة الأولى. هو ميلاد المرأة الزانية التي كانت على وشك أن ترجم لو لم ترن بآذان حاملي الأحجار كلمات السيد "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر أولا". هو ميلاد نيقوديموس الشريف النسب والشيخ المعلم الذي أتى ليتعلم من يسوع كيف يمكن للشيخ أن يولد وهو كثير الأيام. هو ميلاد زكا العشار والعميل الروماني الذي كان يسرق أبناء جلدته بسطوة السيف الروماني، فما أن تقابل مع المسيح حتى نزع عنه عباءة المال والعمالة وقرر أن يعيد ما سرق أربعة أضعاف وأن يعطي نصف ثروته للفقراء.

الميلاد هو ميلاد العدالة الاجتماعية. عندما كان العالم القديم هرمي النظام أتى المسيح ليقلب المعادلة: "فالأولون آخرون والآخرون أولون". المسيحية قلبت المعادلة الرومانية التي كانت تصنف العالم بين روماني وبربري، والمعادلة اليهودية التي كانت تصنف العالم بين يهودي وأممي، وأرست معادلة المساواة بين الجميع. خرق المسيح ثقافة زمانه عندما ذهب الى السامرة التي كان اليهود يحتقرون أهلها وعندما شفى ابنة المرأة الكنعانية التي كان اليهود يصفون شعبها بالكلاب. قلب المسيح الموازين عندما تكلم مع امرأة سامرية على البئر. فالرجل اليهودي لا يكلم المرأة وخاصة السامرية. السيد المسيح أيضا أولى النساء مكانة خاصة في خدمته، في مجمتع كان ينظر للمرأة على أنها لا تساوي شيئا. وفيما بعد، أكمل الرسول بولس تعليم سيده عندما خاطب المجتمع الروماني واليهودي كاتبا لأهل غلاطية "ليس يهودي ولا يوناني ليس عبد ولا حر ليس ذكر ولا أنثى لأنكم جميعك واحد في المسيح يسوع"

الميلاد هو ميلاد الفكر والعلم. هو رهبان القرون الوسطى الذين كانوا يمضون الساعات الشاقة والمضنية في خط الوثائق والكتب لتلد على ايديهم أرقى جامعات العالم وأعرقها مثل السوربون وهارفارد. هو الراهبات اللواتي تولين في القرون الوسطى العناية بالمرضى وبالتحديد مرضى الطاعون الذي فتك بأوروبا لتلد على أيديهن أرقى المستشفيات. ومن هو ذاك الذي يشك ان المدرسة والمستشفى هما أساس المجتمع الراقي؟

الميلاد هو ميلاد الفن. هو موسيقى هانديل "المسيح “The Messiah/. هو “بؤساء/ “Les Miserables فكتور هوغو. هو “داوود “David/مايكل أنجو. هو هذا الفكر الذي أنتج موزار وبيتهوفن وشكسبير ودستويفسكي وليوناردو دا فنتشي وغيرهم من المبدعين الذين غيروا حياتنا للأبد.

الميلاد هو الثورة على الظلم. هو ثورة المسيح على الفريسيين ونظامهم المرائي. هو ثورة الشهداء المسيحيين الأوائل الذي فضلوا ان تقطع رؤوسهم وأن يصلبوا ويشنقوا على أن يقولوا تحت الضغط ما لم يكونوا يؤمنون به. هو ثورة مارتن لوثر على فساد الكنيسة وثورة مارتن لوثر كينغ على فساد النظام الطبقي الأمريكي وثورة غاندي على استغلال البريطانيين لشعبه عندما قال لهم "أحب مسيحكم لكنني لا أحبكم أيها المسيحيين. أنتم أيها المسيحيون لا تشبهون مسيحكم".

الميلاد هو ميلاد الرحمة. هو المسيح الذي لا يتردد بلمس الأبرص الذي نبذه الجيمع. هو المسيح الذي شفى المرضى وأطعم الجياع وواسى الحزانى ومعه كرت السبحة على مدى ألفي عاما. ملايين الرجال والنساء حتى يومنا هذا يعملون الخير متمثلين بسيدهم. ما تزال المستشفيات الاولى شاهدة على الرحمة، وإن كانت تخلت عن دورها، مثل أوتيل ديو "Hotel Dieu". ما يزال الصليب الأحمر يتكلم عن ألم مؤسسه "هنري دونان" إزاء قساوة الانسان وهمجيته، وما زال جيش الخلاص "Salvation Army" يطعم الفقراء والمحتاجين حتى يومنا هذا.

لا شك أن البشرية والكنيسة خاصة مرت بفترات انحطاط كثيرة. فهي ظلمت أحيانا وحاربت وقتلت وسرقت. لكن ذلك ما كان ليكون واضحا لنا لولا أن مؤسسها أرسى لنا معايير راقية جعلتنا نقيس عليها شر مرتكبيها لنقول لهم ما قاله غاندي عن البريطانيين "أحب مسيحكم لكنني لا أحبكم أيها المسيحيين. أنتم أيها المسيحيون لا تشبهون مسيحكم". لولا هذه المعايير الراقية، لكنا عميانا لا نرى شر ما ارتكبته البشرية والكنيسة ولكنا بررنا لهم ما فعلوه باسم الله.

الميلاد هو ميلاد الإنسان الذي يرفض الموت. هو ميلاد الرجاء. هو ميلاد الإيمان بحياة أفضل. إن كان من العسير ترجمة الميلاد حقيقة ثابتة في هذا العالم الساقط، إلا أنها الوعد بحياة مجيدة في عالم مجيد. الميلاد هو ميلاد هوية الانسان الذي لا يؤمن بالعنف والاستغلال والكراهية. الميلاد هو ميلاد جديد للإنسانية التي تبحث عن نفسها في عالم جاف قاس وبائس.

ميلاد مجيد لحياة جديدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53