الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لم كل هذه الدموع … ؟! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 12 / 25
الادب والفن


ياسر .. طفل جاد .. هادئ .. هدوئاً أقرب الى الصمت .. هدوءه وصمته يلفانه بطبيعة حلوة وادعة تجعله يبدو أكبر من سنه الحقيقي الذي لم يكن يتجاوز السابعة إلا بأشهر قليلة .. قليل الكلام .. عزوف عن لهو الطفولة ، ولو أمعنت فيه البصر قليلاً تراه .. طفلاً نظيفاً وسيماً تبدو على نظراته الشاردة دلائل الحزن والحيرة كأنه لا يعيش طفولته بل يقفز عليها أو يتجاهلها .. لم يكن في حقيقته طفلا .. كان رجلا في طفل .. يعيش وأمه المشكلة العادية التي تعيشها ملايين العائلات على سطح هذا الكوكب .. الفقر والعوز ، فهو وحيدها المدلل بعد وفاة أبيه بمرض عضال استنزف منهم كل ما كانوا يملكون ، وفي النهاية وسَّده القبر ، و واراه الثرى .. وتركهم مهيضي الجناح .. يواجهون الحياة عزّل بدون أي سلاح .. كلٌ الى قدره ، وبالكاد يوفرون ما يُقيم أودهم .. !
كان الوقت عصراً من ذات يوم صيفي حار …
يُخرج الضجر ياسر من البيت بعد خروج أمه .. يتسلل الى الشارع بهدوء ، وينزوي لوحده جالساً على صفيحة فارغة مستنداً الى عامود كهرباء .. يتابع الاطفال ، وهم يلعبون الكرة دون أن يشاركهم .. يضحك لحركاتهم ، وهم يتدافعون ويتبادلون الشتائم والاتهامات ثم يشتد صياحهم .. يتشاجرون .. بعدها بلحظات يتضاحكون ، ويعودون الى طبيعتهم كأن الموضوع لا يتعدى أن يكون مجرد شقاوة أطفال !
يقطع عليه مشوار تأملاته ( أبو سعد ) وهو يشير اليه من بعيد أن يأتي .. انه يعرف هذا الرجل .. يستثقل دمه ، ولا يحبه ولا يحب ابنه سعد الاعرج ، ولا حتى زوجته .. كلهم كتلة شر وأذى .. ماذا يريد منه ؟ ربما شاهده غير مشغول باللعب ، ويريده أن يشتري له علبة سجاير .. يستجيب للنداء متأففاً متبرماً !
يبادره أبو سعد على الفور بأن يدس في يده درهماً ، ويوعده بآخر دون أن ينتظر منه رداً كأنه ضامنٌ موافقته .. ثم يميل على أذنه هامساً بصوت متكلف الرقة ، ويكسو وجهه بظل إبتسامة صفراء يغرق الطفل المسكين في معانيها :
— هل تعرف أم سعد ؟
يكرر ياسر ما قاله الرجل متسائلاً بعفوية :
— أم سعد الاعرج ؟!
يتضايق أبو سعد قليلاً ، ويسحب ابتسامته ، ويبدو جاداً أكثر ، ثم يرد باقتضاب وفتور :
— هي بعينها …
يبتلع ياسر فرحته عندما يسمع بأسم أم سعد ، وهو يصغي في صمت .. ثم يقول في صوت تائه خفيض كأنه يحادث نفسه :
— أعرفها .. ومن لا يعرف أم سعد ؟!
يقول الرجل بلهجةِ من يُعلن أمراً خطيراً :
— عظيم .. إذا رأيتها قادمة من بعيد أطرق عليَّ الباب بسرعة .. وانتبهْ جيداً … لا تغفل ولا لحظة واحدة ، واياك أن تنسى ذلك .. اتفقنا ؟
فترة صمت قصيرة …
— هه.. ما رأيك ؟! كأنه يستعجل رده …
لم يفهم الطفل شيئا .. لكنه يواصل الاستماع صامتاً .. يتحسس الدرهم الراقد في جيبه .. يستكين أمام اغراء الفلوس ، فيهز رأسه موافقاً ! يخطو أبو سعد بسرعة الى داخل الدار .. يبدو على وجهه الحماس والسرور ، ثم يغلق الباب !
يفترش ياسر الأرض أمام بيت أبو سعد عند اقدام شجرة عجفاء جرداء مترنحة الأغصان .. متساقطة الأوراق .. تتنازعه مشاعر متعددة ، وهو يسترق النظر من حوله ، ويركز اهتمامه على مدخل الزقاق دون أن يرف له جفن كأنه تمثال صُبَّ من شمع ، وآذانه مفتوحة متأهبة تتحرك في كل اتجاه كآذان القطط تلتقط كل صوت تحسباً لمجئ أم سعد ، وكل ما حوله يوحي بالغموض والتوتر والصمت .. !
يدرك ياسر بذكائه السابق عمره ، ومن كثرة تحذيرات أبو سعد أن في الأمر شيء مريب ، وربما خطير .. يتملكه الخوف حتى الموت من أن يخطيء ، ولو مجرد خطأ بسيط في مهمته الغريبة هذه .. كأن يسهو مثلاً أو يغفو ، أو لا سمح الله يغالبه النوم ، فيضيع عليه الدرهم الآخر ، وربما تحل الكارثة عليه ، وعلى أبو سعد ، فلا أحد يعرف مالذي سيأتي من أم سعد هذه المرة ، وهي التي باتت تعرف زوجها .. العبان مخادع دائم اللعب بذيله ، فهو كما يقول الناس عنه .. سرسري .. لا يستقر على امرأة واحدة ، ودائم الشجار مع زوجته التي لا تقل عنه شراً !
يجد ياسر نفسه يُجر الى مغامرة أكبر من امكانياته .. عليه أن يتحمل مسؤوليتها ومخاطرها ، ومع من .. ؟ مع أم سعد .. والعياذ بالله ! يعتدل وينفض عن نفسه الخمول والكسل ، ويُشغل نفسه بقضم أظافره .. ربما ليداري خوفه وقلقه .. !
لم يتحرك ياسر ، وانما يتحرك ذهنه ، وينشط ويملأ رأسه ، ويحيطه بخيالات شهية ، وأوهام لذيذة يشكلها كما يشاء بالأشياء الكثيرة التي سيشتريها بهذا المبلغ الكبير .. ثم تنطلق في صدره ضحكة صغيرة مكبوتة ، وهو يتخيل فرحة أمه عندما يُريها النقود التي كسبها ! ورويدا يتبدد الجزع من نفسه ، ويحل محله الإحساس بالارتياح والطمأنينة .
لكن الوقت يمضي .. طويلاً ثقيلا مملاً ، وغيبة الرجل طالت أو هكذا خُيل اليه ، وهو حائر بين فرحته بالنقود ، وبين جزعه من هذه المغامرة التي ما كان يجب أن يقبل بها .. ثم يهمس لنفسه في صوت مرتعش :
كيف إذا جاءت أم سعد الان .. ماذا سيفعل ؟ يدق الباب حتماً .. ثم ماذا بعد .. ؟
فهو يعرفها وكل أهل الحي يعرفونها .. شرسة قبيحة سليطة اللسان وشريرة .. لا يستطيع أحد أن يتوقع ردة فعلها .. ماذا سيقول لها إن سألته مالذي جاء به الى هنا ؟ يتنهد كأنه يعيش خوفاً وشقاءً لمجرد مرور هذا الخاطر المرعب برأسه الصغير ..
يعود اليه الخوف ، ويتسع أمامه ويتمدد ، وتتبدد الطمأنينة وتتلاشى .. يهِّم بمغادرة المكان ، ويعود من حيث أتى ، فقد بدأ يحن الى أمه .. الصدر الحنون والقلب الرحيم .. حنين السمكة الى الماء .
وبينما هو مسترسل في هذه الخواطر والعواطف .. يخدش السكون دبيب خطى أو وقع اقدام تروح وتغدوا داخل البيت .. يُبقي نظره معلقاً على الباب .. ثم يرى أكرة الباب تدور بهدوء وحذر .
وأخيراً وبعد طول انتظار .. يُفتح الباب !
ينتفض ياسر واقفا كمن وخزته أبرة .. يحس بفرحة كأنها سقطت عليه من السماء .. لقد انتهت مهمته ومعاناته بسلام .. يتنفس الصعداء بارتياح .. سيحصل على الدرهم الآخر ، ويعود الى البيت .. إلى دفء أعز الناس .. أمه الغالية وحنانها ، فحنان الام كلبنها ليس له بديل .. سيخبرها بالتأكيد بكل شيء !
لكن … !
وفي لحظة نادرة يتجمع فيها العمر كله .. تفجعه مفاجأة لا يتوقعها حتى ولو بعد ألف عام ، عندما يرى أمه تخرج من الباب بوجهها الناصع الجميل ، وقامتها الممشوقة ، وهي تتخبط بخطواتها ، وبجانبها أبو سعد .. راعها هي الأخرى عندما تفاجأت به أمامها .. تنظر اليه مذعورة القسمات في تساؤل غير مصدقة ، تتجمد ملامحها لا تتحرك كأنها ميتة ، وتشهق شهقة كأنها صرخة جريحة ، وتضرب بيدها على صدرها بعنف .. ثم تهتف بدهشة وفزع :
— صخام .. ما الذي جاء بك الى هنا .. ؟
يقف أمامها فاغراً فاه .. !
وتمضي برهة صمت موجعة .. !
تتيقظ حواسه من غفلتها كمن عاد من حلم مزعج ، وواجه الحقيقة .. يفيق من هول المفاجأة كأن جردل ماء بارد قد دُلق عليه .. ثم ينسى في لحظة كل شيء في غمرة انفعاله بوجودها كأنه يستعيد طفولته التي نسيها أو كاد ، فيقفز فرِحاً ، ويتعلق برقبتها ويعانقها كأنها طوق نجاة قد القيت اليه .. تبادله العناق بالعناق ، وتقبله بصمت كصمت الموت .. يعطيه أبو سعد الدرهم الآخر ، ثم يربت على ظهره كأنه ينفض عنه ذرات التعب العالقة .. !
تحاول الأم أن تخفي هزيمتها تحت ظل ابتسامة باهتة سرعان ما تستردها خائبة .. تقذف أبو سعد بنظرة عتب بصيغة الاشمئزاز كأنها قد فهمت .. تتصاعد زفرة الم من شفتيها ، وتغمض عينيها على دمعة فائضة مكبوتة توشك ان تفر من مآقيها !
يغادران الزقاق متسللين كأن اشباحا مفزعة تطاردهما .. يلتصق ياسر بأمه ، ويمطرها بتفاصيل مملة عن مهمته .. رافعاً أمام عينيها النقود التي اعطاها إياه أبو سعد ..
تنهمر الدموع على وجنتي الام ، ويرتفع نشيجها يكاد يمزق انفاسها اللاهثة ، وتبدو على وجهها مسحة حزينة مسكينة ، ثم تكتم شهقاتها وتبتلع دموعها إشفاقاً على طفلها البرئ الذي تعذبه الحيرة ، ويمزقه التساؤل .. يجول ياسر بعينيه موزعاً مشتتاً مضطرباً بين دموع أمه ولوعتها وصمتها ، فيشتد به الضيق ، وتقف الكلمات حائرة تتأرجح على أعتاب شفتيه .. ثم يُقبل عليها يسألها بحيرة لا تخلو من تبرم :
— لماذا تبكين ، يا أمي ؟!
هي نفسها لا تدري لم هذا البكاء ، ولم كل هذه الدموع .. ؟ أهي على حظها العاثر .. أم على ولدها اليتيم المسكين ، وما تسببت له من ألم لا يستحقه .. أم على تلك الظروف التي داهمتها ، وأهالت عليها أتربة الهموم والمتاعب ومشاكل الحياة ، وأجبرتها على تأجير جسدها لتُجنب ولدها مشقة الحياة ومعاناتها ، وتنزع الشوك والآلام من طريقه ، وتجنبه العقد التي يزرعها الفقر في النفس .. أم على ذكرى ذلك الصاحب الغائب الذي رماها بداء الحياة وانسلَّ .. ليرقد بسلام تحت التراب الى الأبد ؟!
ولما لم يتلقى ياسر جواباً .. يقف أمامها صامتا ساهما مبهور الانفاس ، وهو مطرق الرأس إلى الأرض كأنه ينظر بعينين تائهتين في أحشاءها الى تلك الصور التي تمرق في خياله في تلك اللحظة الغريبة ، وهو يتخيل الضباع المسعورة تنهش جمال أمه المريمي النقي العذب ، وسؤال حائر يترنح في رأسه .. ما الذي جاء بأمه الى ذلك البيت اللعين ، ولماذا ؟
سؤال سيبقى يدور في خاطره كالرحى لا يتوقف أبداً ، وحتماً سيتركه مصاباً بجروح في نفسه ، ورضوض في أعماقه .. ستبقى تلازمه الى الأبد .. ثم تعود الافكار والصور والتهيئات تتردد وتتزاحم في رأسه تحتاج الى فهم وتفسير ، ويبدء الضيق على وجهه ..
يزفر بتنهيدة حارة كأنها تخرج من أعماق أعماقه لا تنسجم أبداً ، وطفولته المبكرة كأنه قد فهم شيئاً كان غائباً عنه .. يبدو أن الصورة السامية الملائكية التي كان يرسمها لأمه قد اهتزت ، وأمام هذا المشهد المذل المؤلم يشعر أن عليه أن يقوم بشيئٍ حاسم ..
يرمي فجأةً بالدراهم على الأرض ، ويدوسها بقدمه ، ووجهه يمور غضباً ، ويهتف باكياً بصوت كأنه حشرجة الموت :
— لا أريدها ، خذيها .. لا أريدك أن تذهبي الى بيت هذا الرجل التافه ، فأنا أكرهه .. أكرهه .. أكرهه ، وأكره …. ! أراد صوت في داخله كأنه صوت شخصٍ آخر لا صلة له به أن يقول : وأكرهكِ .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد