الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدور الأناني في صناعة الآلهة والأديان

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2021 / 12 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لم أكن أتخيل يوما أن ألقى أنانيا مؤمنا يجهر بأنانيته ولا يبررها، لكن شاءت الأقدار أن ألقى ذلك في الوسط الديني منذ فترة طويلة، مما حفزني لنقد ذلك الواقع المذري نقدا أخذ مساره التطوري حتى الخروج من فخ الجماعات بالمطلق، ومن تلك القاعدة لم ءأمن لإنسان وأصفه بالإيثار وفقا لانتماءه الشخصي، فالأنانية ياعزيزي صفة بشرية لا تفرق بين مؤمن وملحد..ولا تعرف أديانا البتة..وهي الأصل في معظم خلافات البشرية حول الدين والمعتقد والسياسة..

الشخص الأناني عندما يصنع إلهه فهو يراه على صورته هو، ربّا أنانيا لا يحب إلا نفسه ويكره معارضيه لدرجة حرصه على عقابهم على تجرأهم واعتراضهم، ومن هذا المنظور يوجد ملمحُ جبري يتوافق مع الشخص الأناني فيجمع ذلك الإنسان صفتين من أقبح ما يكون وهما (الأنانية والجبرية) فالعلاقة وطيدة بينهما حتى يتصور الأناني مسائل الحرية شيئا للرفاهية واللعب وليست حقا إنسانيا أصيلا وطبيعيا يُولَد به الإنسان، فالمستبد عندما يتدين يفرض تدينه على الناس ولا يؤمن بحرية الآخر في الاختيار..وبما أن أصل (تخيير الإنسان) هو حريته فيؤمن على الفور أن ذلك التخيير نوعا من الرفاهية عارضا على الأصل، بينما الأساس هو الجبر..حتى يتطور معه المرض أكثر فيعتقد أن كل أفعاله الشريرة من قدر الله وحكمته وعلى الآخر تقبلها وإلا كَفَر..

نعم كل شخص يقيس العالم والكون بمنظوره الشخصي النسبي، ومع ذلك تجد الشخص المتسامح ذو القلب الواسع يعذر الناس على خلافهم دون تمييز، ويرى أن الآخرين متماثلين في الواقع لكنهم ليسوا متطابقين..فجميعنا بشرا لآدم وفقا للمؤمنين الإبراهيميين وكلنا بشرا مخلوقين وفقا لسائر البشرية..والبعض يرانا بشرا نتطور من أصل حيواني وفقا للتطورين، إذن فالمشترك واحد هو أننا (بشر) وعلى قدر الخلاف بيننا تزيد هوّة عدم التطابق وتتسع المساحة الشاسعة بين مصالحنا فلا يجمع بيننا سوى المعاملة، ومن تلك الجزئية أمرت الأديان جميعها بالأخلاق وجعلتها شرطا لممارسة التدين والعبادة، فالدين بلا أخلاق ليس دينا، لقد فهم البشر الأوائل ذلك..حتى ورثناه من الأجداد فدخل بصلب تشريعاتنا القانونية وعقودنا الاجتماعية، وصاح الشيوخ في منابرهم والرهبان في صوامعهم وأديرتهم والصالحين في معابدهم أن الأصل هو الأخلاق حتى صار من بدهيات أي دين هو (حُسن المعاملة)

على العكس من ذلك فالشخص الأناني ذو القلب الضيق يفترض اللؤم والشر في الآخرين، فيخلط بين مشاعره السلبية وكراهيته للناس وخوفه منهم وبين عقائده، حتى إذا تدين ظنّ أن ذلك هو الدين، والرب يأمره بالخوف والكراهية ليعيش..فالمستبد والأناني في الحقيقة لا يشعر بأنه شريرا في الواقع بل يرى العالم من ذلك المنظور الضيق فتيشبع به حتى يتعايش معه أينما كان، ومن ذلك المدخل الضيق ظهرت صفات (الحماقة والتفاهة) التي كانت أصلا لاشتعال الحروب والصراعات، والتاريخ يحكي كيف كان هؤلاء المرضى بالأنانية والحماقة هم مشعلو الحروب والصراعات ..وهم من فعلوا المجازر البشعة في الماضي والحاضر، فهو لا يرى إلهه حكيما قويا لأنه فقد تلك الصفات في نفسه..بل يراه باطشا قاسيا غليظا منتقما لا غير، فالشخص الأناني مهما يرسم صورة لنفسه بالقوة والحكمة تضيع مع أفعاله..

والواقع أن ذلك الأناني مثلما يرى إلهه قاسيا غليظا باطشا منتقما فهو يرى نفسه بذات الصورة، والأصل في ذلك أن ضرورة التحكم والسيطرة تفرض عليه ذلك السلوك، فيظن أن ضعفه عن الحكم والسيطرة في عالم الدنيا هو نفس ضعف الإله فوق السماوات وعالم الغيب، حتى عندما يؤمن ببعض النصوص الدينية يظهر منها يقينه بضعف الإله في الحقيقة، وأن التحكم والسيطرة يلزمها القوة والبطش الدائم لا الحكمة والرحمة كما هو مفترض، فالله في الإسلام مثلا كما هو منتقم هو أيضا "عفو رحيم وحكيم" لكن تلك الصفات ليس ذات أولوية ولا تشكل قاعدة للأناني في رؤية العالم، فهو يرى أن الناس لا يسوسهم سوى القوة والبطش وأن ذلك العالم لا ينضبط سوى بالخوف والرهبة..

كذلك فالشخص المتسامح ذو القلب الواسع عندما يعلم يظن أن ما عرفه لا يكفي ، وأن ما وصل إليه من العلم قليل فيطمع في المزيد، والسبب في ذلك أن تسامحه وسعته يدفعانه لتعلم المزيد ممن يحبهم..فالإنسان عندما يكره لا يتعلم..وهنا السر في حكمة العرفاء وعلم الفلاسفة أن ما وصلوا إليه من العلم لم يكن سوى نتيجة طبيعية لتسامحهم وقلبهم الواسع وعقلهم المتقد والمستعد دائما لتقبل أي معلومة من أي جهة ودراستها دون حساسية، بينما هذا شبه غائب عن الشخص الأناني الذي لا يعرف سوى القليل لكن غروره يدفعه للظن بعلمه الكثير والغزير، وكأن هناك رابطا بين أصالة العلم في الذات وبين صفات الإنسان، فالتسامح والإيثار هي صفات لا تُشعر الإنسان بالاكتفاء بل تطالبه بالمزيد لأجل مزيد من التسامح والإيثار الممتع، فيكون الشخص المتسامح هنا عالما بقدر كبير لكنه لا يرى نفسه كذلك، وهنا كان مصدر الحكمة القائلة "يظن العالم عالما حتى يظن أنه علم فقد جهل"

والمعنى أن شعور الإنسان بالكفاية العلمية هو مصدر جهله، ومن تلك الكفاية يرى نفسه عظيما دون داعي حتى يتطور ذلك الشعور وتلك الرؤية لأنانية مفرطة تدفعه للاستبداد، ومن تلك الزاوية رأيت معظم رجال الدين في الماضي جَهَلة لاعتقادهم بكفاية مذهبهم ودينهم للعلم، وهذا سر عزوف رجل الدين عن المعارف وجهله بأكثر ما وصل إليه الإنسان في العصر الحديث..بل هو سر رئيسي لعداء رجل الدين مع الحضارة والاكتشافات العلمية، فالأصل في ذلك هو الأنانية لا الدين في حد ذاته، فالمعتقد الذي يعادي العلم ليس معتقدا صالحا وينبغي تغييره واستبداله فورا أو النظر فيه بعين جديد ورؤية مبصرة ترى الفراغات والثغرات بين ثناياه الكبيرة..

المشهور عن سقراط قوله "الأمر الوحيد الذي أعلمه هو أنني لا أعلم شيئا" هذا هو احترام الإنسان والعلم معا، ومن تلك الجزئية يصل الإنسان لمنتهى الحكمة الممكنة في عالم الحس، فالشخص الذي يعلم حقا ينشغل بملاحظة الأسباب والتأثيرات والحوادث في الكون ويجتهد دوما لفهم العلاقة بينهم، وتلك مسالة معقدة جدا لا يصل الإنسان فيها لليقين..ولربما يصل إليه بعد تعب شاق وجهد يدفعه للتضحية بالمال والكرامة والسمعة والحرية، فكل متدبر في هذا الكون الفسيح يرى أن ذلك "الجُسيم الصغير" الذي يسمى كوكب الأرض ما هو إلا حبة رمل في أرض فلاه فيشعر فورا بالتواضع والزُهد واحترام الذات، ومن لا يحترم ذاته لا يحترم الآخرين، وهذا سر رئيسي من أسرار سوء خلق كثير من المتدينين والمتشددين في الواقع، فهم لا يحترمون ذواتهم ولا يتصفون بالزهد والتواضع، وقد أشغلتهم الدنيا وحوادثها ومصاعبها عن العلم، فاختاروا أقصر الطرق للمعرفة وهو (التقليد والطاعة)

نعم فالمقلد بالأصل والذي يطيع الآخرين طاعة عمياء لا يملك مساحة تواضع كافية ولا زهدا في المعارف يدفعه لتعلم المزيد، ولأنه شخص كسول يختار أقصر الطرق أن يقلد شخصا آخر ثم يلقي باللائمة عليه فيما لو كان خاطئا، وقد تدبرت في قوله تعالى "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب " [البقرة : 166] ووصلت أن في ذلك إشارة بسيطة لخطورة التلقيد والتبعية العمياء، فمن يأمرك باتباعه لن يحمل أوزارك لو كان خاطئا..بينما يستفيد منك فيما لو كان مُصيبا، وكأن هناك علاقة مادية بين التبعية العمياء وسوء الأخلاق، ولو رددنا ذلك لما تحدثنا عنه في البداية لوصلنا أن السر في فُحش أخلاق كثير من المؤمنين هو "الأنانية" فالشخص الأناني كسول في طبعه لا يحب الانفتاح ويقدم مصالحه المادية على الأخلاق والعدالة، فالذي يغلب على فئة المتبعين والمقلدين هم من الشخوص الأنانية التي لا ترى شيئا سواها في هذا الكون

وتجربة بسيطة لاختبار ذلك الأناني بمواجهته بين مصالح الناس وعقيدته الشخصية، فلو قدّم عقيدته الشخصية - وهو الأرجح – سألناه ما مصدر ذلك الترجيح؟ سيقول أن ذلك قول فلان وعلان وهذا دين الله أو ذلك الوطن..ومن يخالف ذلك إما كافر ومبتدع أو خائن، ولو سألناه ما دليل هذه الفتوى أو أن ذلك دين الله الحقيقي؟ سينقطع ويعنفك لأن الحبل الواصل بين هذا الشخص وبين العلم منقطع تماما..وصدق من قال "من قصر عقله طال لسانه" فلا يجد سبيلا لوقفك سوى الإرهاب والقمع لا المناقشة والحوار كونه أضعف من الخوض فيها دون أسلحة تمكنه من الانتصار، ومن هنا يعود الإنسان لجذوره الحيوانية المتوحشة ..ويسافر عبر الزمن للماضي ليعيش كليا في عالم الغابة اللاعقلاني واللاأخلاقي، لذا فجرى تشبيه بعض سلوكيات البشر المتوحشة بأفعال الحيوانات ليست من باب الشتائم أحيانا ولكن من باب التشبيه والحنين لسمعة وحياة الأجداد..

إن ما فعلته داعش والجماعات من وحشية لهي عودة حقيقية لحياة الإنسان في العصر الحجري، عالم فيه البقاء للأقوى وليس للأصلح أو الأكثر ذكاء وتحضرا، ولا زال البعض يدافع عن هذا الدين ويسميه إسلاما وشريعة..بل هو عالم متوحش قولا واحدا، فالإنسان قد يفعل الشر كثيرا بوازعٍ ديني إذا فقد الفضيلة ولم تعد تهمه الأخلاقيات والعقليات، وهنا في عالم داعش لا عقل ولا أخلاق البتة..فكل شئ مرهون لصالح الأمير والكاهن، ولا يحق لأحد الاعتراض أو التفكير حتى بالاعتراض..وهنا يعود الشخص الأناني للواجهة بعدما صنع إلهه المتوحش ويريد أن يفرضه على الناس بالقوة، وإذا طالبت هؤلاء الداعمين لداعش أو المروجين لأفكارها بتشخيص المرض تشخصيا صحيحا وصلوا أن المرض الحقيقي هو عدم الصحة، فالمعايير لديهم مقلوبة في مصطلح شائع لديهم أن "السر في تخلفنا هو في بعدنا عن الإسلام" هكذا يتخيلون الصحة مرضا، فالحضارة عندما ابتعدت عن إسلامهم المزيف صارت أكثر عدالة وأخلاقا مما هم عليه..

حتى إذا بحثوا عن الإسلام الحقيقي لا يجدوه كونهم يعيشون في عالم مختلف وراسخ جدا من الأوهام يبدأ من المصطلحات المزيفة والمدلولات الوهمية، فالشريعة التاريخية هي الدين والقطع والذبح وعقاب المعارضين هو أمر الله – لا أمرهم هم – وظلم الأقليات والمرأة والأطفال هو الإسلام الذي نزل به الرسول والأنبياء، فالعلاج بالأساس يبدأ من تصورهم للمرض والصحة وقياس هذا التصور على الأقل بميزان المنطق لا بميزان العلم، فميزان المنطق يضمن على الأقل أسلوبا سليما من التفكير الخاطئ قدر الإمكان، لكن فتاواهم وعقائدهم وأحكامهم الفقهية المتناقضة أكثر من أن تُحصَى، حتى إذا رأيت إحصائية ما يسمى (الرد على الشبهات) لديهم وجدتها بعشرات الآلاف، ولديهم ردا على كل شبهة وهذا غريب، فالأصل أن تلك الشبهات المؤلفة لو كانت واحدة منها صحيحة (سقط دينهم) لذا فيدافعون ويردون بلا منطق وبكثير من الكذب والغش كي لا يسقط هذا الدين المزيف..

ولو كانوا ذوي قلب واسع ورحيم ما وصلوا لتلك الحالة المحزنة من التفكير التي وضعتهم دائما في خانة الدفاع ، ومرددين لأقوال التافهين وأدلة الأغبياء، حتى غلبت قسوتهم رحمتهم فأصبحوا كائنات بذيئة لا تعرف سوى التوحش والسوء والفُحش والخداع، ولو كانوا من ذوي الإيثار والكَرَم ما وقعوا ضحية للجهل وضيق الأفق ولما أصبحوا لعنة على دينهم وسببا لتشويه الإله في قلوب المخلصين والعرفاء والعلماء، لذا كنت - ولا أزال - أرى أن الفلاح البسيط هو أكثر إيمانا منهم فهو لم يتسخ بأدران التعصب والأنانية، والطفل أكثر حكمة منهم فهو أكثر إنسانية ورحمة كونه لم يمرض بالتقليد المدمر بعد ولا زالت لديه بقايا الفكر التي نشأ عليها في مرحلة التطور قبل أن يعيده الكاهن في الكِبَر للعصر الحجري..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد