الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجربتي مع المؤسسة القضائية في إقليم كردستان

آلان م نوري
(Alan M Noory)

2021 / 12 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


اسمح لي، عزيزي القارئ، أن أخيب ظنك من الوهلة الأولى. تجربتي مع القضاء في إقليم كردستان العراق محدودة. فأنا لم أمثُل أمام القضاء مختصما الأجهزة التي تسمى، للتندر، بأجهزة "احتكار العنف"، ولا متّهما من قبل من لا يطالهم القانون. و تجربتي المحدودة مع القضاء لا تسمح لي بالحديث، من خلالها، عن الضعف البنيوي للمؤسسة القضائية أمام أجهزة الدولة واللادولة العنيفة و لا عن تعامل السلطات الإدارية و الحزبية "القائدة" مع القضاء كإحدى مؤسسات هذه السلطة التي تنقسم، حالها حال كل شيء في الإقليم، إلى منطقتي نفوذ حزبي تجاوزهما الزمن منذ ستة قرون فلا زالتا تعيشان في عهد السلاطين و الحكام "بأمر الله". كما لا تسمح لي تجربتي الشخصية بالحديث عن الخلل البنيوي في نظام الادعاء العام المسمى، عند غيرنا، بمحامي الشعب، و الذي تحول في النظام القضائي، الموروث من الحكم الدكتاتوري السابق في العراق، إلى جهاز يتلقى أوامره من السلطة الإدارية، فلا يحقق مستقلا بإرادته في أي تجن على الحق العام إلا إذا أمرته بذلك سلطة إدارية تأتمر بدورها بأمر سلطة حزبية، تأتمر بدورها بأمر العائلات و حاشياتها.

لجأتُ إلى القضاء بعد خصام إداري و مالي مع الجامعة الأمريكية في العراق - السليمانية التي عملت فيها عضوا في الهيئة التدريسية لقسم العلوم الاجتماعية. و قبل الخوض في التجربة القضائية، لابد من توضيح موقع هذه الجامعة في خارطة السلطة السياسية في إقليم كردستان والعراق عموما. إذ أن كلمة "الأمريكية" توحي بكونها مؤسسة حكومية أمريكية لها فروع في اغلب أنحاء العالم و تدار من قبل وزارة الخارجية الأمريكية ويذهب أصحاب المخيلة الخصبة إلى قول بأنها تدار من قبل المخابرات المركزية الأمريكية (CIA). و الحقيقة هي أن هذه الجامعة كغيرها من الجامعات المسماة بـ "الأمريكية" هي مؤسسة خاصة، قد، و قد لا، يشكل أكاديميون أمريكيون، أفراد، لا علاقة لهم بالحكومة الأمريكية، نسبة تزيد و تنقص من مجلس أمنائها. تسعى هذه الجامعات (حسب أنظمتها الداخلية) إلى نشر النظام التعليمي الخاص، غير الهادف للربح أحيانا، الأمريكي، في العالم. و في حالة الجامعة الأمريكية في العراق - السليمانية خصوصا، فإنها تسعى إلى تبني نظام الـ Liberal Arts في منهجها الدراسي، فتشكل العلوم الاجتماعية والإنسانيات ركيزة لإنماء التفكير الانتقادي الحر في الطالب الجامعي بغض النظر عن فرع العلوم الذي يختاره الطالب (وهو نظام لو لم تنسبه إلى كلمة "أمريكي "، لإتفق العقلاء على أنه أنسب نظام دراسي لتخريج مواطنين واعين متخصصين في مجالات علمية مختلفة، تجمعهم دراية نقدية بالتاريخ البشري و أسس تعايش البشر و تفاعلهم في إطار مجتمعاتهم و كوكبنا المشترك). و من الواضح، إذا، أن هكذا جامعة تحظى باهتمام و رعاية وزارة الخارجية الأمريكية، لا لأنها سمت نفسها بالأمريكية، بل لأن الحكومة الأمريكية تعتبر نشر أنظمة التعليم الأمريكية جزءا من ما يسمى بالدبلوماسية الشعبية في التأثير على الرأي العام في الدول الأخرى للتأثير في نهاية المطاف في السياسة الخارجية لهذه الدول. لهذا تجد أن في العراق حاليا ثلاث جامعات "أمريكية" غير مرتبطة إداريا ببعضها، تتلقى مستويات مختلفة من الدعم المالي والعيني من السفارة الأمريكية. و يتبع هذا أن السفارة تدعم أي جامعة أخرى لها نفس المنظومة الإدارية و التعليمية المستوحاة من النمط الأمريكي السائد. و يحصل هذا، على الأقل، و على حد علمي، مع جامعتين عراقيتين أخرتين في إقليم كردستان و لا تسميان بالـ "أمريكية". ويتبع هذا أيضا أن السلوك الإداري- القانوني لإدارة الجامعة الأمريكية، لا تتحمله أو تحصنه الحكومة الأمريكية أمام القانون العراقي. ورغم أني لا أحسب أن هذا الأمر مفهوم بما يكفي لدى وزارتي التعليم العالي في إقليم كردستان و العراق و الأفراد من القضاة في النظام القضائي في الإقليم والعراق عموما، لكن ليس لدي دليل يفيد بأن تجربتي المؤلمة مع القضاء مردها سوء الفهم هذا لوضع هذه الجامعة في العلاقة مع بلد أجنبي له سطوة على الواقع السياسي في العراق والإقليم.

المسألة الأخرى التي يجب توضيحها هي علاقة هذه الجامعة بالرئيس العراقي الحالي، د. برهم صالح. فقد كان مؤسس هذه الجامعة، ورئيس هيئة أمنائها و لاحقا عضوا في هيئة الأمناء، ثم قطع علاقته الإدارية بالجامعة منذ سنين و بقي يشرف بشكل غير رسمي على فعالية سنوية للجامعة تسمى "ملتقى السليمانية" يديره معهد الدراسات الإقليمية والدولية الذي يفترض به أن يكون مركزا للدراسات متعددة التخصص في الجامعة لكنه لا علاقة له بالفروع العلمية في الجامعة!! استفادت هذه الجامعة من العلاقة الخاصة التي تربطها ببرهم صالح، القيادي في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ورئيس وزراء الإقليم في فترة الهدر الانفجاري للموارد العامة في العراق، فحصلت على مساحة 60 دونما من الأرض تطل على الشارع الرئيس للسليمانية و فوقها مُنحت من حكومة الإقليم أموال تجاوز مجموعها الـ 90 مليون دولار، هذا بالإضافة إلى أكثر من 23 مليون دولار من الحكومة الأمريكية، و أكثر من 15 مليون دولار من أفراد وشركات محلية و أجنبية. لكن ربما اهم من المال، في علاقة الجامعة بالرئيس العراقي الحالي هو تمكن إدارة الجامعة الأمريكية بسبب هذه العلاقة من تفادي ثقل أوامر و تعليمات و توجيهات وزارة التعليم العالي في الإقليم، وهو الأمر الذي و إن كان إيجابيا في مناح عدة، إلا أنه ولّد لدى إدارة هذه الجامعة شعورا بأنها فوق القانون و الأعراف الإدارية العراقية.

مشكلتي مع إدارة الجامعة الأمريكية كان يمكن حلها بسهولة: إدارة تماطل لمدة سنتين في تنفيذ وعد موثق، قُطع لعضو في هيئته التدريسية، فتدفع عضو الهيئة التدريسية إلى طلب تحقيق داخلي.لجنة التحقيق تؤيد عضو الهيئة التدريسية و تطلب من الإدارة تصحيح العقد ليوافق ما جاء في الوعد. الأعراف الإدارية المتحضرة في المؤسسات العامة و الخاصة في العالم، و كذلك العرف الإداري في العراق ينهي هذا الخصام لصالح المشتكي بالإمتثال لنتائج التحقيق. غير أن رئيس الجامعة قرر أن اللجنة، بعد أن قررت في غير صالحه، افتت فيما لا صلاحية لديها في الإفتاء به، وأن القسم العلمي الذي ينتمي إليه التدريسي هذا، لم يثبت له (هو!) حاجة الجامعة إلى هذا الأستاذ. بعد نزاع دام ثلاثة فصول دراسية بين القسم بكل تدريسييه و رئيس الجامعة في محاولة لإثبات هذه الحاجة و طرح حلول للخصام المالي؛ بأن اقترح كل أساتذة القسم أن يُقطع مبالغ من رواتبهم و لتضاف إلى راتب التدريسي المغبون، فيتساوى الكل بذلك! و بعد أن تيقنت الإدارة انها لن تكسب هذه المعركة قررت عدم التجديد للتدريسي و إنهاء خدمته. هذا باختصار ما حصل لي. فلجأت بعد نفاذ كل السبل الإدارية الداخلية إلى القضاء مختصما رئيس الجامعة بشخصه و وظيفته، و في ترسانتي أوليات الخلاف الموثقة بالإيميلات المتبادلة و فيها محاضر اجتماعات لجنة التحقيق ومجلس القسم و مراسلاتهما مع الإدارة.

وكما اظن انك ترى، عزيزي القارئ، فقضيتي المطروحة أمام القضاء كانت بسيطة؛ مجرد خلاف مالي-اداري بين مؤسسة غير حكومية و احد العاملين فيها، و هي مشابهة لما تنظر فيه المحاكم بشكل يومي. وهذا بالضبط سبب كتابتي لهذا المقال، فتجربتي هي معبرة عن جانب من حال القضاء في الإقليم (و ربما في العراق عموما) لا يلقى الإهتمام الإعلامي، لعدم وجود مادة خبرية دسمة فيه. لكن بسبب عدم تسليط الضوء عليها، يتوهم المتابع لإنعكاس حال المؤسسة القضائية في الإعلام، بأن هذه المؤسسة تعمل بشكل مقبول في القضايا اليومية العادية، غير السياسية و غير المرتبطة بالقوى العنيفة المتحكمة في البلد. و آمل أن تجربتي تكشف عكس ذلك في مدى انهيار هذه المؤسسة حتى في الشأن اليومي العادي للمواطن غير المسنود بالقوى العنيفة المتحكمة في المجتمع.

قاضي محكمة البداءة نظر إلى وثيقة الوعد بالعقد (Contract Proposal) محل الخلاف، المرفقة في إيميل يذكر فيه موظف مخول أن رئيس الجامعة سيوقع على العقد بعد أن أدرسه أنا و أوافق عليه موقعا. و هي نفسها الوثيقة التي يعرّفها مجلس القسم و اللجنة التحقيقية و رئيس الجامعة (الخصم في الدعوى) بأنها هي وثيقة الوعد بالعقد محل الخلاف. نظر اليها القاضي وقرر أنها ليست وعدا بالتعاقد(!!!) لأنها لا تحمل توقيع رئيس الجامعة، متجاوزا وعد مدير الأفراد بتوقيع الرئيس عليه حال موافقتي و توقيعي انا!!! هكذا قرر القاضي أن محل الخلاف لا يرتقي إلى مصاف الوعد بالعقد، و حكم برد الدعوى. و هذا استنتاج يخجل منه طالب كلية الحقوق، إذا ذكره في امتحان، في أي بلد، حتى في النظام التعليمي المتهالك في العراق.

استأنفتُ أمام لجنة من ثلاثة قضاة في محكمة الاستئناف التي قبلت النظر في طعني في قرار البداءة بأن الوثيقة محل الخلاف لا خلاف بين الطرفين على كونها وثيقة وعد بعقد، ولكنها من الوهلة الأولى في جلسة يتيمة و دون أي استفسار أو استرسال، قررت قبول قرار محكمة البداءة و رد الدعوى! (يحق للمرء التساؤل عن جدوى قبول الإستئناف أن كانت محكمة الإستئناف لا تستأنف و لا تشغل بالها بفحوى طلب استئناف قبلته شكلا)

ووصلت الدعوى إلى محكمة التمييز و عرضت على لجنة من خمسة قضاة، فأفتوا أن الدعوى هذه ما كانت من اختصاص محكمة البداءة، لكونها تتعلق بعقد عمل، و أن نزاعات عقود العمل هي من اختصاص محكمة العمل. و من المنطقي بعد هكذا رأي لمحكمة التمييز، أن ترد الدعوى لعدم اختصاص المحكمة التي نظرت فيها و تحفظ لي (المدعي) حق اللجوء إلى محكمة العمل…ولكن محكمة التمييز قررت قبول قرار محكمة البداءة رغم عدم توفر شرط الاختصاص (Jurisdiction) في الجهة التي نظرت في القضية!! وهذا أيضا مما لا ينطلي على طلاب كلية الحقوق، حتى في المؤسسات الجامعية العراقية المتهالكة! وفشلت جهودي في إقناع محكمة التمييز بتصحيح قرارها التمييزي، و بذا خسرت آخر ملجأ قانوني في قضية ما كان لها أن تنتهي هكذا إلا في بلد نخرت الزبائنية في عمق الجهاز البيروقراطي القضائي فيها، فما عاد قادرا على إنتاج قضاة يصعدون السلم القضائي بناءا على الكفاءة والاجتهاد.

إذا صح افتراضي بأن ما جرى لي هو نموذج نمطي لحال المؤسسة القضائية في إقليم كردستان في ما هو يومي و بسيط و غير سياسي، فإن من البلاهة التعويل على هذه المؤسسة لإنصاف المواطن العادي في أبسط حاجاته القضائية، و السؤال البديهي اذا، هو ما العمل؟ كيف السبيل إلى إحقاق الحقوق والحال هذه؟

أرى أن لا مناص من الاعتراف بأن علاقة القوى المؤسساتية في بلد ضلت قوى معادية للمؤسسات و لسيادة القانون تتحكم به منذ عقود، هي ليست في صالح من لا سند له. بما أن السند الذي توفره القوى الحاكمة المعادية لكل مظاهر سيادة القانون، من داخل السلطة، هو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن، إذا اللجوء إلى هكذا سند لازمه القبول باستمرار هذه القوى في نهب موارد الدولة و المجتمع و إذلال المواطنين، لذا فليس أمام المتضررين الذين يريدون كسر دائرة الذل هذه سوى الإلتقاء و التنظيم و العمل الاحتجاجي الجماعي الصبور، صلح حال القضاء أم لم يصلح…فلا سند لنا إلا بعضنا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في معرض البندقية


.. الهجوم على رفح أم الرد على إيران.. ماذا ستفعل إسرائيل؟




.. قطر تعيد تقييم دورها كوسيط في المحادثات بين إسرائيل وحماس


.. إسرائيل تواصل قصف غزة -المدمرة- وتوقع المزيد من الضحايا




.. شريحة في دماغ مصاب بالشلل تمكّنه من التحكّم بهاتفه من خلال أ