الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة ذوات المحركات

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2021 / 12 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


لما استوى على عوده وانتصب واقفاً فوق قدمين، بدأت صفحة جديدة في حياة مخلوق اسمه "الإنسان"، ولا تزال مفتوحة معه حتى يوميه هذا. هاتان القدمان مكنتاه من الحركة والتنقل والسفر والترحال من موضع لآخر، ومن الركض هرباً من الأخطار والمفترسات، ومن مطاردة وإيقاع الطرائد التي اعتمد عليها غذاؤه وبقاؤه. لقد حدث ذلك منذ ملايين السنين الماضية، لكن المفارقة المدهشة أنه لا يزال يحدث كما كان بالضبط حتى اليوم. لا شك أن إنسان اليوم لا يزال يمشي ويتنقل على قدمين، يركض ويجري كما قد ظل يفعل منذ ملايين السنين.

ثم في مرحلة تطورية تالية، روض الإنسان الدواب وسخرها في وظائف مشابهة وموازية لوظائف القدمين. أصبح يستطيع التنقل، والركض والمطاردة، بسرعة وفاعلية أكبر كثيراً من قبل. كانت الحمير والخيول فرسان المرحلة، والشعوب التي كان لها السبق والريادة في ترويضها وحسن استغلالها، خاصة في ساحات القتال، هي التي اصطفاها التاريخ لتغلب وتسود على شعوب أخرى إما انزوت أو اندمجت أو اندثرت وانقرضت ببساطة. لقد أحدثت الدواب الحيوانية ثورة غير مسبوقة في حياة الإنسان على كل الأصعدة، لتقرب المسافات وتساعد في تكوين الإمبراطوريات وتنشئ شكل من العولمة ربط بين أطراف الأرض وأركانها الأربع.

ولم يقف أمر التطور طويلاً عند ثورتي الأقدام والدواب، بل تجاوزهما في الزمن المناسب ليفجر ثورة أكبر غطت آثارها على كل ما سبقها، الثورة الصناعية. كانت ذوات المحركات من أبرز وأهم مخلوقات هذه الثورة الفولاذية الميكانيكية. لأول مرة في حياته على الأرض يصنع الإنسان أجهزة من الحديد قادرة على الحركة وقطع مئات وآلاف الأميال في زمن قصير جداً مقارنة بكل ما كان مستخدماً قبل ظهورها. أحدثت ذوات المحركات ثورة أوسع وأعمق كثيراً في حياة الإنسان بكل أوجهها وتفاصيلها ومجالاتها، ليصبح بمقدور الشعوب التي أتقنت صناعتها واستغلالها أن تجوب الأرض كلها في غضون ساعات، وتغادر حتى الأرض لتنطلق في رحلات مكوكية عبر الفضاء الواسع. وانتشرت وتكاثرت ذوات المحركات لتسع حياة البشر كلها، في البيت والشارع والمصنع وكل مكان، لدرجة أن أعدادها قد أصبحت تفوق أضعاف أضعاف أعداد مبتدعيها أنفسهم، البشر. لكن لا يظن أحد أن ذوات المحركات هي نهاية المطاف. في الزمن المناسب ستظهر مبتكرات جديدة.

اللافت أن أي من تلك التطورات الكبرى لم تلغي سابقتها، بل أضافت إليها. فالدواب أضافت إلى استعمال الأقدم ولم تلغيها، بمعنى أن الإنسان لا يزال يستعمل قدماه كما استعملهما منذ ملايين السنين حين تكون الأقدام أجدى وأنفع له اقتصادياً أو صحياً أو ترفيهياً أو خلافه، وسوف يستبدلهما بالدابة كلما وجد لنفسه مصلحة فيها. إذا كانت الوظيفة أبسط وأسهل من الحاجة لدابة لتأديتها، لماذا تحمل كلفة الدابة؟! اليدان أو القدمان أوفر وأجدى وأنفع وأسرع. وحين تعجز اليدان والقدمان، تدخل الدابة على خط المنفعة. وحين يعجز الجميع، يأتي الدور على ذوات المحركات. الهدف في النهاية هو المصلحة والمنفعة، بأي وسيلة متوفرة ومجدية. هكذا، لا يزال الفلاح في الحقل يستعمل حتى اليوم يداه وقدماه كما قد ظل يفعل منذ آلاف السنين، وأحياناً يضيف إليهما دوابه، وفي أحيان أخرى يستقدم ذوات المحركات من أجل زراعة وحصاد غلته.

وهكذا الحال في الجيوش، حيث لا تزال الخيول تستعمل لكن في وظائف متطورة ومتغيرة مقارنة بأسلافها قبل آلاف السنين، جنباً إلى جنب مع الدبابات والمدرعات والمدفعية والصواريخ والطائرات. كما لا تزال الحمير والخيول تستخدم في النقل والسفر في المناطق الوعرة حيث لا تتوفر الطرق الممهدة لسير ذوات المحركات، أو حيث تكون هذه الدواب هي الأكثر جدوى اقتصادياً، أو هي فقط المتوفرة.

عبر مراحل تطور حياة الإنسان، كلما ظهر تطور جديد أضاف إلى السابق عليه، ولم يلغيه. كل ما هنالك أنه عدل من وظيفة القديم وأكسبه طابعاً ودوراً جديداً. الابتكارات تضيف خيارات أوسع، وقدرات أعظم. لذلك لم يعد الإنسان مضطراً للسفر عبر مسافات طويلة على قدميه أو فوق ظهر دابته، إذا كان يستطيع السفر بالسيارة أو الطائرة أو الباخرة بسرعة وراحة أكبر بكثير. رغم ذلك لا يزال الإنسان، أي وكل إنسان، يمشي على قدمين كما قد ظل يفعل أسلافه منذ ملايين السنين. والمفارقة المدهشة أنه لا يستطيع أن يستغني أبداً عنهما، حتى لو استغنى عن دابته وسيارته.

خلاصة القول، الجديد لا يلغي القديم، مجرد يضيف إليه ويكسبه وظيفة جديدة متطورة ربما لم تكن له من قبل. في كافة أوجه حياة الإنسان، سواء في اللغة أو الدين أو الثقافة أو المعرفة أو الحكم أو القيم أو الأخلاق أو الاقتصاد أو الترفيه أو أي شيء آخر، هناك دائماً تطور وتغيير، لكن لم يحدث أبداً أن أي جديد قد ألغى بقدومه أو أزال من الوجود أي مما كان يسبقه. الجديد دائماً يضيف إلى القديم، يعيد صياغته في أشكال ووظائف جديدة ربما لم تكن له من قبل. فبعد ظهور ذوات المحركات، لم تعد الأقدام الوسيلة الرئيسية للسفر وتكيفت مع الاكتفاء بمجرد المشي والتنقل والقيادة والتريض.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا