الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة45

محمود شقير

2022 / 1 / 3
الادب والفن


نذهب، أنا وصديقان آخران، ذات صباح إلى بلدة شفا عمرو، التي لا تبعد كثيراً عن الناصرة، ولا تبعد كثيراً عن حيفا. نتجه إلى بيت صديقنا إلياس نصر الله (كان طالباً في الجامعة العبرية بالقدس آنذاك، وهو يعمل صحافياً في لندن هذه الأيام). مزاج الشباب الذين التقيناهم في شفا عمرو أميل إلى السخرية والرغبة في إطلاق النكات، أما نحن القادمين من القدس، فلم نكن نحبذ الإفراط في الضحك. ثم أدركنا فيما بعد، أن هذا الجزء من شعبنا، الباقي في وطنه، إنما يستعين بالسخرية وبالنكتة وبالضحك، لتحمل ما ابتلي به من جور وأذى، ولمواجهة ما تخبئه له في جعبتها السلطة الإسرائيلية من مفاجآت.
نتجه من شفا عمرو إلى الناصرة. هناك، في المكتبة الشعبية، نلتقي صدفة، إميل حبيبي، ممثل الحزب الشيوعي الإسرائيلي في الكنيست، الكاتب والصحافي الذي ينشر مقالات سياسية بشكل منتظم في صحيفة الاتحاد، وينشر كذلك بعض القصص في مجلة الجديد. لم يكن إميل قد أصدر بعد "سداسية الأيام الستة"، ولم يكن قد شرع في كتابة روايته الشهيرة "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل". يدور بيننا حديث عابر ثم نتفرق، لنلتقي بعد ذلك لقاءات كثيرة.
نتوجه إلى حيفا ليلاً، ننبهر بالأضواء المنبعثة من جبل الكرمل، نجوب شوارع المدينة بلهفة، فلطالما أبصرنا بعض صورها على جدران الغرف في مدارسنا، وقد كتب تحتها بخط بارز: حيفا عروس البحر تناديكم. نسير في شوارعها على غير هدى ونحن نتنقل في مدى واسع يبدأ من ذاكرة مجروحة، وينتهي بواقع صلد لا يقيم للمشاعر الإنسانية وزنا أو قيمة. نسير، نتوقف، نتلفت، نشير بأيدينا في كل اتجاه، نتأوه، نمعن في التأمل، نقارن بين ما نختزنه في الذاكرة من قراءات، وما نراه ماثلاً أمام أعيننا من وقائع جديدة لا تمثلنا، ثم فجأة، يتوقف كل شيء، تقترب منا سيارة، يهبط منها رجال شرطة مسلحون، يحشروننا في السيارة، يقتادوننا إلى مخفر للشرطة، نخضع لتحقيق كريه، يعيد لنا الإحساس بأننا لا نملك حرية التجوال في حيفا كما نشتهي، أو كما نشاء. يطلقون سراحنا بعد التثبت من هوياتنا، نعود إلى شفا عمرو لقضاء ليلة أخيرة فيها.
نحمل حقائبنا في الصباح متجهين من جديد إلى حيفا، نقصد مكاتب صحيفة الاتحاد، حيث يعمل الشاعران محمود درويش وسميح القاسم اللذان أتيح لنا، عبر ما كتبه عنهما، وعن غيرهما، غسان كنفاني قبل النكسة (التقيته العام 1965 في بيته وفي مكتبه بصحيفة المحرر البيروتية)، أن نتعرف إلى بعض ما كتباه من أشعار، كان لها في نفوسنا وقع المفاجأة، ثم واصلنا قراءة ما يقومان بنشره من أشعار في مجلة الجديد وفي صحيفة الاتحاد الحيفاويتين، فتصادف أن ذلك اليوم كان يوم عيد تعطل فيه الاتحاد، فلم يقيض لنا أن نلتقيهما، ولم يتحقق هذا اللقاء بيني وبين محمود درويش، أول مرة، إلا في بيروت، حينما وصلتها مبعداً من سجن بيت ليد العام 1975. كان محمود آنذاك يشغل موقع رئيس تحرير مجلة "شؤون فلسطينية" الصادرة عن مركز الأبحاث الفلسطيني. وما زلت أذكر ذلك اللقاء الذي أعقب تعارفنا بأشهر، وجرى في بيتي الذي سكنته بالقرب من مبنى جامعة بيروت العربية. جاء محمود إلى البيت في المساء، وانعقدت بشكل تلقائي سهرة ممتعة، حضرها الكاتب عدي مدانات القادم من عمان، والفنان مصطفى الكرد القادم من القدس، والشاعر عز الدين المناصرة والناقد السينمائي عدنان مدانات، اللذان كانا يقيمان في بيروت.
انتبهت في ذلك اللقاء إلى معرفة محمود الواسعة وإلى ثقافته العميقة وحدته في بعض الأحيان ، وهو يحاور الحضور حول الأغنية الثورية شكلاً ومضموناً، والنقد الأدبي ودوره في تطوير العملية الإبداعية، وقضايا ثقافية أخرى لم أعد أذكرها الآن.
تعددت اللقاءات بيننا بعد ذلك. وأذكر أنه جاء إلى عمان في العام 1978 لإحياء أمسية شعرية جرى تنظيمها في مجمع النقابات المهنية في الشميساني، وكنت آنذاك قد انتقلت إلى عمان للعيش فيها، ثم أصبحت عضواً في الهيئة الإدارية لرابطة الكتاب الأردنيين. بعد الأمسية الحاشدة في مجمع النقابات، اقترحت على محمود أن يزور مقر الرابطة لمحاورة الكتاب في أمسية خاصة. وافق على ذلك واقترح ألا نقوم بالإعلان عن الأمسية لكي يكون الحضور محدوداً.
جاء إلى مقر الرابطة، وقمت بتقديمه إلى الكتاب وإلى الجمهور الذي غصت به قاعة الرابطة رغم عدم إعلاننا عن الأمسية. وقد جرى حوار متبادل بينه وبين والجمهور حول تفاصيل إبداعه الشعري امتد حوالي ساعتين. كان محمود بالغ الحيوية والتألق طوال الوقت.
وحينما انعقد في العام 1987 مؤتمر الكتاب والصحافيين الفلسطينيين في الجزائر، انتخب محمود رئيساً للاتحاد، وانتخبتْ أمانة عامة للاتحاد كنت أنا أحد أعضائها. وقد استمر عملنا المشترك في الاتحاد سبعة عشر عاماً.
وفي العام 1997 تشكلت بمبادرة من وزارة الثقافة الفلسطينية لجنة جوائز فلسطين للآداب والفنون والعلوم الإنسانية، وانتخب محمود رئيساً للجنة وانتخبت أنا أميناً للسر، واستمر عملنا المشترك في هذا الميدان حتى العام 2001 .
في خضم هذه الأنشطة المشتركة وفي أثنائها وعلى هامشها، التقيت محمود درويش عدداً غير قليل من المرات. كانت لنا لقاءات في بيروت، عمان، براغ، تونس، الجزائر، غزة ورام الله. التقيته مرة في براغ العام 1988 وكان قادماً ضمن وفد برئاسة الرئيس ياسر عرفات في زيارة رسمية لتشيكوسلوفاكيا، وقد زار الوفد آنذاك مجلة قضايا السلم والاشتراكية التي كنت أعمل فيها، وقمت بتقديم عرفات ومعه محمود وبقية أعضاء الوفد، لمجلس تحرير المجلة المكون من عدد كبير من المندوبين من مختلف أنحاء العالم. ويومها قدم ياسر عرفات مداخلة عن القضية الفلسطينية أمام أعضاء مجلس التحرير. والتقيته مرة في عمان العام 1995 ، وكنت قادماً من القدس لاستكمال التشاور معه، الذي ابتدأه وزير الثقافة الفلسطينية آنذاك ياسر عبد ربه، حول إعادة إصدار مجلة الكرمل في رام الله، وهي الفصلية الثقافية التي أصدرها محمود في بيروت ومن ثم في قبرص منذ العام 1980 . ولم تكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي سمحت له حتى ذلك الوقت، بالدخول إلى فلسطين.
بدا محمود منذ اللحظة الأولى راغباً في إعادة إصدار المجلة في رام الله، واقترح أن أتولى رئاسة تحريرها لأنه لا يرغب في أن يكون رئيساً لتحرير المجلة وهو بعيد، فلم أوافق على هذا الاقتراح لأن المجلة ارتبط اسمها باسمه، وبقي الحوار مستمراً لبضعة أشهر أخرى حول هذا الأمر، ولم يلبث محمود أن عاد إلى الوطن، إذ سمحت له سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالإقامة في قطاع غزة.
أقام محمود في غزة بعض الوقت، وأثناء ذلك، جرى تنسيق بينه وبين وزير الثقافة ياسر عبد ربه، لعقد اجتماع يحضره مثقفون وكتاب وأثرياء فلسطينيون للنظر في فرص دعم هؤلاء الأثرياء لمشروعات ثقافية من شأنها الإسهام في تطوير الثقافة الوطنية الفلسطينية. كنت واحداً من الكتاب الذين حضروا هذا الاجتماع، وهناك أتيحت لي فرصة اللقاء بمحمود درويش مجدداً، والتداول في بعض همومنا الثقافية والتعليق على بعض مظاهر القصور في واقعنا الثقافي. كان محمود مستوعباً لأوضاعنا الثقافية والسياسية في شكل عميق، وحينما وافقت سلطات الاحتلال على دخوله إلى رام الله، واصل إصدار مجلة الكرمل منها، وكان مغتبطاً بذلك.
طوال هذه السنوات، تعززت قناعتي بما لمحمود من قدرة على العمل المنظم في قيادة الاجتماعات ومتابعة تنفيذ المهمات الثقافية. وسوف يقترح علي محمود أن أكتب مادة لمجلة "الكرمل"، فأكتب المادة التي نشرت في الكرمل تحت باب ثابت هو "ذاكرة المكان.. مكان الذاكرة" وستكون تلك المادة، اللبنة الأولى في صرح هذا الكتاب الذي أراجع طبعته الأولى الآن، وأنقحها وأضيف إليها بعض إضافات.
وكان آخر نشاطاتنا العملية المشتركة، في اللجنة المشرفة على المهرجان الثقافي الفلسطيني الذي أقيم في بروكسل ابتداء من الثامن من تشرين الأول 2008 . كان محمود هو الرئيس الفخري لهذه اللجنة وكنت أنا أحد أعضائها، وكان من المقرر أن يجري افتتاح المهرجان بأمسية شعرية لمحمود. ومع الأسف، فإن أمسيته هذه لم تتم، لأن الموت اختطفه منا.
وسأغادر القدس ذات صباح إلى رام الله لأكون هناك في جنازة محمود التي شارك فيها عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وشاركت فيها حورية، أم محمود التي لطالما أعلن عن عشقه للحياة كي لا يموت ويخجل جراء موته من دمعها، وسأكتب في ذلك الصباح الحزين من يوم الأربعاء 13 / 8 / 2008 :
"غاب محمود درويش على نحو مفجع مثير للحزن والكآبة.
رغم تحذيرات الأطباء ونصائح الوالدة وبقية الأصدقاء، من مغبة إجراء العملية الجراحية الثالثة لقلب محمود، فإن عشقه للحياة دفعه إلى المجازفة بإجراء العملية، رغبة منه في عدم الاستسلام للموت دون دفاع ما، عن حياته التي لم تعد ملكه الشخصي وحده، بل هي ملك للملايين من أبناء شعبه وأصدقائه ومحبيه على امتداد هذا العالم.
كان من الممكن أن يستسلم محمود لمشيئة الموت، وأن يبقى حياً لفترة أخرى وفي داخله لغم قد ينفجر في أي وقت مثلما أخبره أحد الأطباء، فلم يتقبل محمود ذلك. مضى إلى العملية الجراحية الخطرة. وقد نجحت العملية بالفعل كما قيل لنا، غير أن الجلطات الدماغية التي أعقبتها هي التي أودت بحياة كبير الشعراء.
مات محمود، ولم يعد ممكناً صعوده درجات مبنى السكاكيني في رام الله متقدماً نحو مكتبه. لم يعد ممكناً جلوسه في المكتب الذي داوم فيه سنوات، ولن يشرب مزيداً من القهوة وهو يقرأ الصحف ويتلقى هواتف الأصدقاء، أو وهو يستقبلهم في مكتبه. يرحب بهم بما عرف عنه من حيوية وتوهج وتهذيب، ثم يندمج معهم في أحاديث شتى عما هو راهن من أحوالنا، وعما هو موجع للقلب، وسيكون ثمة وقت للكلام على الأدب، على الشعر والرواية والقصة القصيرة وآخر الكتب، وسيكون ثمة وقت للمزاح وللسخريات، وسيكون محمود سيد الساخرين وأمير المزاح الظريف. ستكون ثمة فسحة للضحك، وستلتمع عينا محمود خلف نظارته الطبية في صفاء، وسيكتسي محياه بمسحة من ألق وبهاء. وواأسفاه، فإن تلك البساطة المحببة لم تعد ممكنة.
ولم يعد ممكناً ذلك المشوار اليومي الذي اعتاد محمود أن يقطعه وحده أو مع بعض الأصدقاء، في شوارع الحي القريب من بيته، انصياعاً لنصائح الأطباء بضرورة ممارسة المشي حفاظاً على القلب من طارئ ما. لم يعد ممكناً لمحمود أن يتأمل شجر الطريق ولا النساء ولا غسيل الشرفات، ولم يعد ممكناً أن يرى الشمس وهي تغطس ناحية الغرب على مسافة، من القرية التي شهدت صرخته الأولى في آذار البعيد. أو أن يستمتع بهواء البلاد الذي يهب رخياً، رغم المستوطنة التي تجثم على رأس الجبل القريب.
غاب محمود، وما الذي لم يصبه النقصان جراء هذا الغياب! لا المكتب سيبقى على الحالة التي كان عليها يوم كان محمود هناك، ولا الشارع ولا الحي ولا المقهى ولا الصحيفة ولا الكتاب، ولا القضية ولا الشعر ولا نبات الأرض ولا غيم السماء، ولا كل من كان يحيط بمحمود من بشر وأصدقاء".
أما سميح القاسم، فلم ألتق به، أول مرة، إلا في مدينة براغ، حينما جاءها زائراً العام 1987، ثم التقيته مرة أخرى فيها، وكان معه يومها الكاتبان محمد على طه وزكي درويش (سوف تتعدد لقاءاتي مع سميح في المنفى وفي الوطن، سوف نكون معاً في الناصرة، حيفا، رام الله وبيت لحم، وسوف يفوز سميح بجائزة فلسطين التقديرية للآداب. وسوف تتعدد اللقاءات بيني وبين محمد، وكذلك - وإن على نحو محدود - بيني وبين زكي درويش).
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة