الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الأمل و اليأس

احمد المغربي

2022 / 1 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن الأمل و اليأس مترابطان رغم تناقضهما الشديد ومن يتأمل وجودهما في حركته قد يوحى له أحيانا أن عدائهما مجرد تمثيل مصطنع لخداع البشر فلا يحتضننا الأمل إلا ليهجرنا و يتركنا لليأس و بعد أن نعتاد على غرفة اليأس الكئيبة يضجر من استضافتنا فيتصل بالأمل و يدعوه لإغرائنا أملا في التخلص من وجودنا في بيته رغم أنه هو من بادر و ألحّ على دعوتنا في البداية و لا يخجل اليأس من مجاملة الأمل أمامنا نحن الذين أمضينا الليالي في سماع خطبه التحريضية و القدحية ضد الأمل
و في بعض الأحيان يتخلى الأمل و الياس عن عداوتهما المزيفة أو الحقيقية لنجدهما متآخييْن في الثورات مثلا فبخلاف الأيام العادية التي يغيب فيها الأمل و يسود فيها اليأس و التي لا يحضر فيها الأمل إلا تحت تهديد اليأس ليوهم الناس بانتظار الموت ليحيوا بعدها نجد الأمل و اليأس في الثورات متعانقين فوق نفس المنصة فلا يتحدث أحدهما إلا لدعم خطاب الآخر و لا يتحدث كلاهما إلا لإيقاظ الثورة فنجد الأمل يوصي الجماهير بتحمل مصاعب العمل الثوري مبشرا إياهم بالنصر و الحياة السعيدة و نجد اليأس يثني على كلام رفيقه الجديد و يدعوا الجماهير للتخلي عن أملها القديم الذي يوهمها بانتظار تحسن الوضاع من تلقاء ذاتها بل و يلعب اليأس الذي يكون داعما للحفاظ على النظام في الأيام العادية الدور الرئيسي في الثورة إذ لا يكتفي فقط بدعوة الجماهير لاتباع الأمل الجديد و التخلي عن الأمل القديم الذي أصبح يسميه وهما بعد سنوات من دعمه الضمني له بل أيضا يحرضهم بالتمرد العنيف و التضحية بكل شيء في سبيل تدمير الوضع الذي لا أمل في زواله من تلقاء نفسه أو بفضل صحوة ضمير الحكام و خلال كل الثورات يضمن اليأس صمود الجماهير ضد اليأس نفسه بفضل تحويله اللامبالاة السلبية إلى لا مبالاة إيجابية إذ يحث الجماهير على التضحية محرضا إياها عن طريق الشعارات الثورية التي تتلخص في "ليس لديكم ما تخسرونه سوى قيودكم"
لكن الود بين الأمل و اليأس لا يدوم طويلا و لا يدري المرء هل خُلقا ليكونا أعداء أم اتفقا على التلاعب بالبشر فخلال كل الثورات يتخلى الأمل عن الجماهير في منتصف الطريق و كل الثورات أكدت ضرورة الحذر من الأمل و اليأس فالأول دوما يفيد العدو بتذمره الدام من ضآلة المكاسب كما أنه جبان ينسحب كلما برزت المصاعب أما الثاني فهو خائن دوما ينشق في اللحظات الحرجة و ينتقل لصفوف الثورة المضادة ليغدوا من أشرس قادة جيوشها
و حين يضجر المرء من هذه التقلبات الدائمة لليأس و الأمل و يلجأ للعقل ليحميه و يخلصه منهما يخيب أمله فيتسرب له الشك في نزاهة و عصمة الحاكم الفاضل و يوحى للمرء أحيانا أن العقل متواطئ مع اليأس و الأمل فما معنى أن يخبرنا رمز الحكمة و الرزانة بأن المتقلبين لا غنى عنهما من أجل العمل ؟
إلا أن المرء يحير أمام حديث العقل و حججه التي يطرحها ليبرهن عن صحة أن اليأس و الأمل ضروريان من أجل العمل فيعجز المرء عن مجادلة العقل أو دحض حججه كما تزول الخصومة و الاستياء حين يؤكد العقل تفهمه لتوجس الانسان العقلاني من المتقلبيْن و كذلك تعود الثقة بين المواطن الذي يقطن المدينة العقلانية و العقل الذي يحكمها حين يطمئنه هذا الأخير بتعهده بحمايته و إخضاع الأمل و اليأس لسلطته إلا أن المتقلبين يعودان لمضايقة مواطن المدينة العقلانية بعد فترة قد تطول أو تقصر بحسب الظروف فرغم إعلان الأمل و اليأس التزامهما بالقوانين التي أصدرها العقل لحماية المواطن يواصلان نشاطهما القديم بطريقة جديدة تخفف حدة الضرر لكنها لا تزيله وهما لا يستغلان فقط الثغرات القانونية التي تركها العقل بل أيضا يشجعهما على نشاطها كون العقل قد استبعد طردهما من المدينة العقلانية في حالة خرقهما لقوانينها و حدد تهميشهما كأقصى عقاب لهما
و أمام هذه المعضلة قد يتخيل المرء أن لا مفر من دوامة الحيرة إلا أنه بمجرد أن يزول استيائنا من التعامل المتسامح للعقل مع الأمل و اليأس المشاكسين يغدوا بإمكاننا فهم السبب الحقيقي لتسامح العقل مع شغبهما إذ أننا سنكتشف حينها أن تسامح حاكم المدينة العقلانية معهما لا يعود لتواطئ أو تعاطف لاعقلاني معهما بل ينبع أساسا من موقعهما و وضيفتهما الفعلية في المدينة العقلانية فهما يؤديان وظائف معينة مثل الجنود و الحرفيين في جمهورية أفلاطون المثالية و مثل العمال في النظام الرأسمالية و تكمن أهميتهما في الخدمة التي يقدمانها للمجتمع في نهاية المطاف إلا أنه كما تختلف أهمية وظيفة العمال وقيمتها في المجتمع الرأسمالي عن أهمية فئات أخرى كالتجار مثلا فأهمية وظيفة الأمل و اليأس في المدينة العقلانية تختلف عن أهمية وظائف فئات أخرى
و بإدراك أهمية وظيفة الأمل واليأس بالنسبة للمدينة العقلانية لا ندرك فقط سبب تسامح حاكم المدينة معهما بل نسير أيضا في طريق استيعاب ظواهر أخرى كالتقلب و التذبذب الدائم لقيمة و أهمية اليأس و الأمل في المدينة العقلانية إذ أننا نلاحظ أن هناك فترات يتعرضان فيها للتهميش التام دون ارتكاب أي جريمة وقد توصل العقل لتقييم أهمية وظيفتهما انطلاقا من ظاهرة التذبذب الدائم لنفوذهما في المدينة العقلانية و انطلاقا من التقارير التي كشفت ملازمة تهميش الأمل و اليأس لفترات الازدهار فاستوعب حاكم المدينة العقلانية أن الأمل واليأس يقدمان للمدينة خدمات تنحصر الحاجة الملحة لها في فترات الأزمة فقط و استبعد لذلك احتمال تحولهما لخطر يهدد المدينة كما استبعد إمكانية الاستغناء عنهما بشكل نهائي إذ أدرك أن خطر استيلائهما على السلطة في المدينة العقلانية لا يكمن أن يحدث إلا بحدوث كارثة تحول المدينة العقلانية إلى مدينة لاعقلانية كما فطن لأن طردهما من المدينة يمكن أن يهدد استقرارها أو يصيب بعض أفرادها بالعجز و إذا تأملنا سياسة العقل في إدارة المدينة التي يحكمها سننتبه لأن العقل يحافظ على نفوذ رمزي للأمل حتى في فترات الازدهار مثلما تحافظ الدو على تدريب جيوشها في فترات السلم فحتى في هذه الفترات التي ينسى فيها المواطنون وجود الأمل و اليأس يلقي العقل خطبا نقدية يذَكِّر فيها مواطني المدينة بكون الازدهار قد يزول و يرحل كما رحل سابقا و يوصيهم بالعمل للحفاظ على وجوده فيدفعهم بذلك لا فقط للعمل بل أيضا للخوف و توسل الأمل
و هكذا فحتى في المدينة العقلانية التي تمثل أفضل العوالم الممكنة حافظ الأمل و اليأس على وجودهما رغم تكيفهما مع قوانينها و قد تدفع هذه الحقيقة بعض أعداء المدينة العقلانية لادعاء أنها لا تختلف عن المدن الأخرى أو أن حاكم المدينة عجز عن إخضاع الأمل واليأس لسلطته إلا أن هذه الرؤية السطحية بعيدة كل البعد عن الحقيقة إذ أنها تتغاضى عن الحقائق التي تكشف الفرق بين وضع الأمل واليأس في المدينة العقلانية و وضعها في المدن الأخرى بوضوح تام فبينما نجد أن الأمل و اليأس يعيشان في المدينة العقلانية كموظفين بسيطين يتعايشان في سلم رغم تنافسهما نجدهما في المدن الأخرى يحكمان كطاغيتين كلما سيطر أحدهما على مدينة أقصى الطرف الآخر و حرمه من أي وجود فيها وبينما نجد أن مواطن المدن الأخرى يخضع لمن يستولي منهما على السلطة خضوعا مطلقا نجد أن مواطن المدينة العقلانية يظل متحررا من عبوديتهما حتى في أقصى حالات ضعفه إذ أنه يتعامل معها بديناميكية كبيرة مستفيدا من تنافسهما الذي يغيب في المدن الأخرى و أيضا من التعليم العقلاني الذي يتلقاه طوال حياته بدون انقطاع
و بشكل عام فبينما نجد المدن الأخرى خاضعة للأمل أو اليأس نجد هذين الأخيرين خاضعين للضرورة في المدينة العقلانية و صحيح أن هذه الأخيرة أيضا لا تخلوا من بعض الظواهر الشاذة و الاستثنائية إلا أن جوهرها و روحها لا تغيره تلك الظواهر فقد راجتْ في بعض الصحف المعادية مثلا صور و مقالات ذكرت أن بعض مواطني المدينة العقلانية كانوا ينتظرون الأمل الذي لا يحدد أي مواعيد دقيقة لساعات طويلة تحت قطرات المطر لكن ما غاب عن وعي تلك الصحف المبتذلة أو أخفته عن وعي هو أن ما يلي ذلك الانتظار الذي يظهر أحيانا خلال بعض الأزمات التي تغيب فيها أي امكانية للعمل هو اليأس الذي يكون إيجابيا و منسجما مع روح المدينة العقلانية و ما يغيب و ينعدم في المدن الأخرى هو هذه الحركة الديناميكية بين اليأس و الأمل ففي حين أن سيادة أحدهما على حساب الآخر تؤدي للعجز و السكون فإن وجودهما معا تحت سلطة العقل و حكم حكمته يؤدي لتوظيفهما بشكل خلاق و إيجابي لصالح التقدم و العمل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السعودية.. شخص يطعم ناقته المال! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الادعاء الأمريكي يتهم ترامب بالانخراط في -مؤامرة إجرامية-




.. هذا ما قاله سكان مقابر رفح عن مقبرة خان يونس الجماعية وعن اس


.. ترامب يخالف تعليمات المحكمة وينتقد القضاء| #مراسلو_سكاي




.. آخر ابتكارات أوكرانيا ضد الجيش الروسي: شوكولا مفخخة