الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضيلة الرجوع إلى المصدر وقراءة الكتب القديمة

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2022 / 1 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


فَكّرت في أن الدعوة للثقافة والمعرفة ينبغي أن لا تعرف الوسطاء، فقلت أن فكرة الوسيط تعني الحاجز بين المرء ومعرفته..فلو أقدم كل مثقف على قراءة المصدر دون الشروح سوف يتسنى له بناءا معرفيا مختلفا عن ما يظنه شرحا علميا موثوقا.

مشكلة مثقفينا – وأنا منهم – أننا نلجأ أحيانا لقراءة الشروح دون معاينة المصدر، فتتكون لدينا قناعات ليست لنا في الحقيقة بل هي مملوكة لشخص آخر، ومن ذلك يتبين أن قراءة الشروح دون مصادرها عمل تقليدي بالأساس لا يختلف عن من يصدق فتاوى الشيوخ دون بحث أو يقلد شيخا دون علم أو يتبع أحد الجماعات تبعية عمياء، وهذا يلزمه إعادة النظر في موقفنا من الكتب القديمة، فتلك الكتب هي النهر التي تتدفق منه معارفنا ، وهي الشاطئ التي ترسو إليه خلافاتنا في الغالب بدلالة احتجاج بعض المثقفين بهذه الكتب باعتبارها أم العلوم، وإذا فتشت وراء ذلك الاحتجاج تراه مبنيا على قراءة شروح وتحليلات فقط لا اطلاع على الكتب القديمة كما هو مفترض..

إن السياق الذي تنبع منه الكتب القديمة هو مصنع ثقافتنا في الواقع، فهو التاريخ والزمان والمكان والأحداث واللغات التي صنعت تلك الهوية الراسخة فينا، ومن ثم صار فهم ذلك السياق بمعزل عن الوسطاء عملا ضروريا لفهم تلك الهوية وتطوراتها في التاريخ ومن ثم رؤية تمثلاتها في الواقع بوضوح، فكم من جماعة بنيت معارفها بناء على رؤية وسيط أقل اطلاعا منهم وأقل ذكاءا أيضا..فيصبحوا أسرى لتلك الرؤية الضيقة وهم يظنون أنهم ينهلون من المنبع مثلما يدعون.

وشخصيا مررت بتلك التجربة فوجدت بعض الفوارق الكبرى والهامة بين المصدر وشروحاته، أو بين المصدر وملخصاته مع مصادر أخرى جامعة، مثلما قرأت كتاب "تاريخ المذاهب الإسلامية" للشيخ محمد أبو زهرة مثلا وجدته يتبنى وجهات نظر مختلفة عن التي رآها صاحب كتاب الفرق والملل والنحل، فقد أضاف من عندياته ملامح تنويرية وبحثية جيدة لم يهتم بطرح الفارق بينها وبين المصدر ، فيتوهم القارئ أن ذلك رأي المصدر لا رأي الشيخ..وهنا كنت أود الإشارة دائما لفضيلة الشيخ السيوطي ومن قبله ابن جرير الطبري على المعرفة والفكر الإسلامي بنقلهم للتاريخ دون تدخل منهم مع ذكر وتوضيح أن تلك المنقولات التاريخية ليست صادقة بالمطلق أو لا تشكل الحقيقة المطلقة التي يؤمن بها الشيخ.

إنما لأمانتهم رفضوا تدوين مذاهبهم الفكرية كحَكَم ومهيمن على الرواية، وبالتأكيد رغم بعض الأضرار التي قد تنجم عن ذلك العمل في حال تقديس تلك الكتب منهم لكن ما فعلوه يساعد المثقفين على رؤية التاريخ بشكل أوضح فيما لو قرروا التدخل، لذا فضلت عند قراءة التاريخ وفهم الماضي أن لا ألجأ للشروح وكتب الفرق الحديثة بل استقراء ذلك من مصادرها الأم، مع الوضع في الاعتبار أن الكتب الحديثة لها مزايا معتبرة في التلخيص والإيجاز ووضع اليد على بعض زوايا النظر غير المعتادة والأروع في تلك الكتب الحديثة هي المعلومات التي تزخر بها من أثر التراكم المعرفي أو الحس الموسوعي للمؤلف.

مع ذلك تكمن الفكرة المانعة لقراءة الكتب القديمة أو اللجوء للمصدر في الاعتقاد بوجوب حصر معارفها للمتخصصين، وبالطبع هؤلاء المتخصصون ينبغي لهم موافقة القائل ..فالذين يضعون شرط التخصص بالغالب يريدون من هم على رأيهم ليس إلا، ويتذرعون بمزاعم تعقيد وصعوبة فهم المصدر وأنه غير موجه للطالب العادي بل الذي يجتاز بعض الامتحانات أو يحصل على بعض الشهادات..وفي الأخير حتى لو حصلت على تلك المزايا وعبرت هذه الصعوبات لن يؤمنوا بتخصصك إذا عارضتهم، وهذا السلوك – غير العلمي – هو الذي يصنع الكهنوت بتصدير فكرة أن العلم مجرد ألغاز مبهمة وشفرات بحاجة لفرد معين يتعامل معها دون الناس..

وأنا أسألكم فورا: ما هو التعقيد في قراءة كتب التاريخ الإسلامي والصحاح والمسانيد والتفاسير؟ إن قراءتها في الواقع أسهل من قراءة بعض شروحاتها المعاصرة ، كصحيحيّ البخاري ومسلم مثلا فهي كتب مؤلفة بنظام "الاقتباسات والأقوال" منزوعة السياق بلا مقدمة ولا نتيجة، لذا فيكون فهمها مجردا من أسهل ما يكون ، فقط كعمل وعظي إرشادي لا كعمل معرفي وبناء عقلي متكامل يلزمه وضوح السياق والمقدمات والنتائج، والشئ المهم في دراسة الفكر الإسلامي أن التفريق بين القرآن والحديث لا يقوم فقط على قدسية القرآن وبشرية الحديث، أو أن هذا مصدر أول وثاني، فهناك بعدا أدبيا لا يلحظه البعض هو ما أعطى لهذا الفارق مشروعية

فالقرآن بالغالب (واضح السياق) ومبني على قصص وأحكام وتعاليم لها مركزيتها في النص، أي هي عبارة عن مقدمة أو نتيجة، وهذه طبيعة (العمل السردي) في الأدب بشكل عام، لذا فعندما تقرأ القرآن (وحده) من السهل فهم تعاليمه وسياقاته واستخراج أحكامه دون تكلف، لكن الحديث مختلف تماما، فهو مبني على مقولات واقتباسات منزوعة السياق ولا يُعرف لها مقدمة أو نتيجة، وبالتالي هي ليست سردا ولا تخرج منها بإفادة سوى أنها عمل أدبي يمكن فهمه (كأعمال الحكمة الدينية) التي لها نظائر مثلا في العهد القديم كسفر الأمثال والمزامير والحكمة..إلخ، أو كبرديات المصري القديم كتعاليم "بتاح حتب أو أمينيموبي" فهذه الأعمال يغلب عليها – أو كلها – نصائح وتعاليم أخلاقية ودينية وأدعية وصلوات..إلخ، وعلى ذلك تم تأليف أعمال دينية إسلامية في المذهب الشيعي كالصحيفة السجادية ونهج البلاغة..

في المجمل كتب الحديث يمكن الاستفادة منها لكن عندما يتم فهمها (كعمل بشري) يخضع للصواب والخطأ..وكعمل تاريخي به الصدق والكذب، فبالتالي يصبح تقديسها عملا متهورا وساذجا ينتج أغبياء يعتقدون بإمكانيتهم فهم تلك الكتب وهي (غير معروفة السياق) علما بأنه لا يوجد دين في العالم يمكن فهمه دون سياق ومقدمة ونتيجة..لذا فمن يُقدّم تلك الكتب على القرآن يصبح مثاليا جدا من شدة تأثره بتلك التعاليم المجردة، ثم يتحول لشخص متطرف لاحقا عندما يعتقد بإمكانيته فرض هذه التعاليم على الغير وإقناع الآخر بها..

القرآن هو كتاب مختلف فهو يضعك في أجواء الحدث مكانيا وربما زمانيا أيضا بحكم المعرفة المسبقة لتاريخ النص، وبالتالي فهو كتاب واقعي، شأنه كشأن التوراه (الأسفار الخمسة) والأناجيل (الأربعة) فتلك الكتب جميعها واضحة السياق ، ومن داخل النصوص يجري استخراج الأحكام والتعاليم وفهم الفرض والواجب والمندوب والمكروه...إلخ..وهنا تأتي فضيلة قراءة المصدر كما قلنا، فالقرآن فضلا على وضوح سياقاته وبيان أحكامه وموضوعاته بحيث تشكل وحدات معرفة مستقلة يمكن فهمها بالاستقراء والجمع هو أيضا كتاب قديم لا يمكن فهم العقل الديني الإسلامي والثقافة الإسلامية دون تدبره وتأمله ومن ثم وضع اليد على مواضع الاختلاف والانشقاقات الدينية والسياسية التي حدثت للمسلمين في عصر مبكر..

يحدث ذلك دون الحاجة لكتب التفاسير والشروح والحديث التي هيمنت على القرآن بمقولات واقتباسات وقصص ظهرت في عصر متأخر جدا عن نزول القرآن، والثابت أن كُتّاب الحديث والسير في الفكر الإسلامي تأثروا جدا بالفكر الغنوصي وبالخصوص (الديانة المانوية) التي تعني إعادة الاعتبار لمركزية الإنسان في تصوره لدينه ، وبالتالي إعادة صياغه الإسلام على شكل (مقولات واقتباسات وحِكَم وقصص) في معظمها أخلاقية، لكن جزءا كبيرا منها يهتم لتفسير النص القرآني بطريقة السند وهي طريقة حديثة وحصرية فقط لأهل الحديث لا يوجد مثلها في أي دين، وقد صنع ذلك قدسية هائلة لتلك التفاسير لارتباطها أساسا بتعاليم واقتباسات أخلاقية مجاورة، فعندما يراها العامي أو الفقيه – غير المطلع – يقبلها جميعا دفعة واحدة دون النظر لمتون هذه التفاسير والأحكام..

أي لو جرى اعتماد كتب الحديث ككتب فقط حكمة وتهذيبها ورفض كل ما جاءت به من قصص خرافية وتفاسير للقرآن لكانت عظيمة ولظلت نافعة للفكر الديني الإسلامي، إنما تقديسها وقبولها بكل آفاتها صنع ردود أفعال عنيفة ضدها تمثلت في فرق وطوائف واتجاهات إسلامية كاملة لا تعتبر بكل ما جاء بها خيرا أو شرا..وتلك هي المصيبة التي حلت على المسلمين، أن العقل المسلم لا يجد له هوية واضحة فيضطر للاصطفاف إما إلى تلك الكتب وقدسيتها الموروثة أو إلى خصومها..

علما بأن المسيحية تخلصت من هذه المشكلة مبكرا بالمجامع المسكونية حين أنكرت مئات الرسائل والأناجيل الخرافية التي تنتمي لنفس فئة أهل الحديث (غنوصية باطنية) ثم جمعوا تلك الكتب غير القانونية وسموها (أبو كريفا) أي مزورة، فنجحوا بضبط العقل الديني المسيحي وتوحيده لرأي الكنيسة مئات السنين وتهيئته لقبول الفلسفة والأدب ، لكن ظلت ثغرات دخل منها القادة المسيحيون لاحقا لإشعال الحروب الأهلية والخارجية..وهي طبيعة بشرية بشكل عام لا ترتكز على جوهر الدين أكثر من استغلالها لعواطف الناس وتدينها البسيط لمصالح الملوك والكهنة..

تخيل لو اجتمع سلف المسلمين مبكرا لإنكار كتب الحديث واعتبار البعض منها خرافيا أو التعامل معها كمنتج بشري تاريخي لا علاقة له بالدين..هل كان المسلمون سوف يرثون هذه التركة الثقيلة؟..وهل صعوبة التنوير في الفكر الإسلامي ناتجة من هذه المشكلة بالأساس؟..علما بأن كتب الحديث ليست مجرد نصوص ومقولات..بل منهاااج كامل ودين مختلف تم البناء عليه ومنظور عقلي مستقل يسيطر على الفقهاء ويحكم تصوراتهم للعقل والقرآن...ويمنعهم من فضيلة الاجتهاد التي كانت شائعة قبل تحكم وسيطرة تلك الكتب في مجتمعات الشرق الأوسط..

إن الاطلاع على الكتب القديمة وتحري نُسخها الصحيحة هو الواجب على كل مثقف وباحث عن الحقيقة، فهو بالدرجة الأولى يحفظ نفسه من أكاذيب وغباء الشارحين وميولهم الديني والسياسي الذي يصنع منظورا ضيقا وإطارا أضيق فيما لو كان الشارح والوسيط متعصبين، وقلت "نُسَخ صحيحة" لأن الكتب تُزوّر وتُنحَل بمعرفة مكتبات ودور نشر لها توجهات إقصائية أيدلوجية، أو لها رغبات حكم وسيطرة فتلجأ لتسويغ وشرعنة ذلك التزوير بمبررات سخيفة لأنصارها، مثلما حدث للسلفيين حين طبعوا كتاب "العواصم من القواصم" للإمام "أبو بكر بن العربي" فقد حذفوا من هذا الكتاب تكفير بن العربي لإمامهم "أبي يعلي الفراء الحنبلي" والمشهور أن ذلك الكتاب (كفّر) فيه بن العربي كبير الحنابلة في زمنه بتهمة التجسيم والتشبيه الوارد ذكره في كتاب "الصفات"..

وقد اطلعت على نسخ كتاب العواصم لدور نشر سلفية كدار الجيل ووزارة الأوقاف السعودية لم أعثر على كلام المالكي في شأن أبي يعلي، فهو تزوير فاضح ومؤكد في مكتبات ودور نشر سلفية لكتب التراث بلا رقيب ولا حسيب، علما بأن الحكمة من نشر كتاب المالكي وقبوله من دور نشر سلفية أن هذا الكتاب كان يرد فيه الإمام "أبو بكر بن العربي" على مؤرخين وفقهاء نقلوا أخبارا مسيئة للصحابة، وفيه تكفير للشيعة بالطبع لذلك نشروه، لكن المالكي كان هجوميا لم يفرق بين شيعي وحنبلي فنشروا ما يخص تكفير الشيعة وحذفوا ما يخص تكفير الحنابلة، ومن الطريف أيضا أن ما كتبه أبي يعلي في كتاب "الصفات"وأدى لتكفير ابن العربي له، دفع حنابلة آخرون كابن الجوزي البغدادي للرد عليه في كتاب "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه" لكن السلفيين لم يطبعوا كتاب ابن الجوزي أيضا لهجومه على أبي يعلي ولشكوك حول انتساب ابن الجوزي للأشاعرة بهذا الكتاب..

فعندما يقفز القارئ على كل هذه التطورات ويضع ثقته كاملة في الشارح فهو يتبع وهما في الحقيقة ولا يقف على حقيقة مذهب ودين الأئمة والرموز ولا يعرف شيئا عن أوضاع وفكر وظروف مجتمعاتنا القديمة، وقد يحدث ذلك القفز بحُسن نيّة وتواضع نفسي وزهد أخلاقي اعترافا بالعجز وضعف البصيرة والحيلة عن كشف هذه التدليسات والتزوير الفاضح، أو عن فهم مقتضيات ومضامين فكر السلف الأول، علما بأن أبسط طالب علم عادي يمكنه قراءة كتب التاريخ والروايات والتفاسير الأولى – مثلا – دون الحاجة لمُعلم، وقد يفطن لحقيقة أن الذي أشعره بالخوف من تلك المصادر والكتب القديمة هو الذي يهمه أن تتبعه في كل صغيرة وكبيرة، وتطيعه طاعة عمياء بلا حسيب ورقيب، وأحسب أن الفئة الكبرى من طلاب العلم والحقيقة لا يدركون هذه الإشكالية التي تضعهم في مواجهة مع المجتمع لجهلهم به أولا، ثم تضعهم في مواجهة مع أنفسهم مع تكشّف أخطاءهم المعرفية الكثيرة وأن نسبة كبيرة مما كانوا يعتقدوه ثوابت هو في الحقيقة كان وهما وسرابا..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عضو الكنيست السابق والحاخام المتطرف يهودا غليك يشارك في اقتح


.. فلسطين.. اقتحامات للمسجد لأقصى في عيد الفصح اليهودي




.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صبيحة عي


.. هنية: نرحب بأي قوة عربية أو إسلامية في غزة لتقديم المساعدة ل




.. تمثل من قتلوا أو أسروا يوم السابع من أكتوبر.. مقاعد فارغة عل