الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقال : إنسان اليوم

مراد الحسناوي

2022 / 1 / 10
المجتمع المدني


  مقال : إنسان اليوم.
كيف تقوم لنا قائمة و نحن نعيش على حواف الأشياء و ظاهرها، لا على كنهها و جوهرها؟! لعل هذا التشوه الذي أصاب تسعة أعشار حياتنا ليس وليدا للصدفة، كما أنه ليس وليدا للمؤامرة بحق، بقدر ما هو نتيجة لمجموعة من الظروف الإجتماعية و السياسية الداخلية و الخارجية عبر التاريخ، و التي لا داعي للخوض في تفاصيلها لأن الكل يعلمها في قرارة نفسه جيدا حتى و إن خشي هذا الكل البوح بها إلا لنفسه في خلوته.
إن المتأمل لواقع الحال في يومنا هذا ليجد مع بعض الإخلاص في تأمله أن الحياة من قلوبنا حتى دروبنا و من قراراتنا حتى قصورنا، لم تنهض من انهيارها بعد، بل هي ماضية في حفر قبرها بأكف أبنائها اللذين ضاق بهم الحال فقرا و ازدرت الأيام عقولهم جهلا. إننا قد نتساءل سؤالا بريئا عن فرق القيمة بين أشياءنا بالأمس و قيمة أشياءنا اليوم؟ و قد يقول أحدهم أنها هي هي فالأشياء مادية في النهاية، لكن السؤال الحقيقي الذي يمكن استنباطه من تساؤلي الأول هو مادامت الأشياء هي هي بنفس ماديتها بين الأمس و اليوم، فمن أين تستمد هذه الأشياء قيمتها الحقيقية إذاً؟! و لعل الجواب الذي أحسبه حق هو أن الأشياء لا زالت هي نفسها بين الأمس و اليوم بنفس المادية و نفس الثقل اليومي إلا أنها لم تعد بنفس القيمة، هذه القيمة التي ما أن غادرها اهتمام المرء أو زاد بها فقدت حقيقتها و بالتالي تشوهت الأشياء و فقدت الرغبات الإنسانية بها صبغتها العقلانية و المنطقية.
إذا ما قيمة الأشياء اليوم؟ إن قيمة الأشياء اليوم في حياتنا أنها فقدت قيمتها، و في نفس الوقت زادت قيمتها عن حدها الطبعي. هذا الأمر الذي جعل إنسان اليوم يقع في ازدواجية فكرية مما أدى به لتشوه إنسانيته، و بالتالي اكتفاءه اللاواعي على العيش على حواف الأشياء و اقتناعه بظاهرها لا على كنهها و جوهرها.
إننا و في أحايين كثيرة نتساءل حول مدى غرابة واقعنا المشوه اليوم، و عن ما أدى به ليصبح هكذا دون أن نلمس للجواب شفاءا. فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكننا أن نتساءل كيف يعقل أن يقع فكر الإنسان في ازدواجية فكرية في يومنا هذا بعد أن توضحت السبل الفكرية و تعددت المناهج و النظريات و المشارب المعرفية ؟! لعل الجواب يكمن في السؤال نفسه، فهذا التشعب و التعدد الكثيف ساهم بسلبية في هدم الفكر الإنساني بقدر ما ساهم بإيجابية في بناءه أيضا في مراحل كثيرة من مراحل تكونه.
إننا اليوم نجد مثالا حاضرا عن كل شيء مشوه يكون جوانب حياتنا اليومية : نجد الصحافة، و الأدب  و الفن و السياسة و المعاش اليومي و المدرسة و المقهى و الشارع و الحوارات اليومية...إلخ. لكن الحقيقة المرة هي أن هذه الأقانيم المكونة لحياتنا هي كلها أقانيم مشوهة و فارغة من محتواها الصحيح و الحقيقي. فالصحافة اليوم تتناول في صلب أخبارها التفاهة و الحمق و هي في تناولاتها الصحفية بعيدة كل البعد عن مهمة الصحافة و شروطها. و الفن بكل أقسامه هو الآخر بعيد كل البعد عن حقيقته، ففي الأدب نعيش مأساة حقيقية، فالحمق و البعد عن ذات المجتمع و ذات الإنسان هو سيد الموقف في الأعمال الأدبية اليوم، و لعل لي رأي خاص في هذا الشق إذ أعتبر أن الأدب الذي لا يكون الإنسان هو رسالته الأولى و الأخيرة ليس أدبا بل ولا يمكنه أن يكون كذلك، دون أن أنكر مساحة الخيال و الإبداع التي أرى أنها وجب أن تسخر لخدمة الواقع بطريقة أو بأخرى.و نفس الأمر يمكن إسقاطه على الموسيقى و باقي مكونات مفهوم الفن.
أما السياسة اليوم فهي قد مست كل شيء، كل شيء أصبح مسيسا، لكن سياسة اليوم في مجتمعاتنا أضحت تقوم على الخداع و الفساد و المال، لا على تحمل المسؤولية والإقناع و ثبات المواقف و التضحية، إذ يكفي أن تكون صاحب مال و أعمال حتى تتوفر لك أعظم الفرص لخوض هذا الغمار حتى و إن كنت "حمارا" مع احترامي لحيوان الحمار.
كل هذا جعل من السياسة في أوطاننا العربية مستنقعا للفساد و المفسدين. خصوصا و أن إنسان اليوم هو وليد سياسة الجهل و الجوع و الخوف و الترهيب، ما جعل همه هو معاشه اليومي و كيفية تحصيله له، فالخبز اليوم هو الهم الأكبر لتسعة أعشار مجتمعاتنا الإسلامية. حتى المدرسة نفسها فقدت بوصلتها و رسالتها في تكوين الإنسان، إذ أضحت المدرسة اليوم مجرد إسطبل لصناعة العبيد و القطعان و ترويد العقل على اللاتفكير، حتى إذا ناقشت أي شخص ذو تكوين أكاديمي بدرجات عالية وجدته ممتلئا كإناء بالمعلومات و هذا لا نعيبه فيه و لكنا نعيب غياب ذاته و تفكيره المستقل في تكوين أفكاره، إذ بنوا مدرسة اليوم لا يقولون سوى ما قيل أما عقولهم فقد قفلت و فقدت استقلالها في تبني عمليات التفكير و الشك في كل المسلمات، ما جعله عاجزا عن إنتاج أي فكرة جديدة.
إن إنسان اليوم لم يعد يملك من نفسه سوى هذه الصفة الفارغة من حمولتها الإنسانية، فما يجعل من الإنسان إنسانا حقا هو كونه كائن عاقل و مفكر، فبالعقل تستطاب و تتبث إنسانية الإنسان و به يكون الإنسان إنسانا. فكيف يكون إنسان اليوم إنسانا و قد رمى بعقله في غياهب المسلمات التي أصبح يعيش عليها، أفلا لتفكيره و شكه، و لعل كل شيء يشهد بذلك من  أحاديث مكاتب الوزارات العليا حتى أحاديث المواطن اليومية بالمقهى و الشارع.
لن تقوم للإنسان قائمة بها يطيب عيشه و حاله، مادام يعيش على حواف الأشياء لا على جوهرها. و لكي يتعلم المرء سبر أغوار الأشياء و كشف حقائقها و النفاذ إلى كنهها، وجب عليه أن يعيد النظر في طريقة تفكيره، أن يستقل به، أن يشكك في كل المسلمات و أن يكون لعقله وطأة في كشف حقيقة كل شيء و إعادة بناء المفاهيم من جديد و تصحيح الخاطئة منها، إذ يجب أن تكتسب الأشياء قيمتها من منطلق منطقي يجري مجراه نحو بناء إنسانية الإنسان و خلق إنسان مستقل بذاته، ممسكا بزمام التاريخ بين يديه من جديد، حافظا لذوقه، وليدا للمعرفة و والدا لها.
                   . مراد الحسناوي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل


.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون




.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط