الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مراجعات في فكر نيكولو مكيافيلي

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2022 / 1 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.

طالما تفاوت تقييم البشر للسياسيين بين الأمل وخيبة الأمل منذ اختراع السياسية والتي قد يكون عمرها الفعلي بعمر البشرية نفسها. فمن ناحية، لدينا فكرة مثالية أن السياسي يجب أن يكون بطلاً مستقيماً، يمكنه أن ينفث حياة أخلاقية جديدة في الأعمال الفاسدة للدولة. ومع ذلك، فإننا أيضاً ننظر بعين الريبة والسخط إلى أولئك السياسيين عندما ندرك عدد وحجم صفقات الكواليس ومدى الكذب الذي يذهب إليه السياسيون في كل حركاتهم وسكناتهم. يبدو أننا ممزقون بين آمالنا المثالية ومخاوفنا المتشائمة والواقعية في كثير من الأحيان بشأن البواطن الخفية الخبيثة الأفعوانية للسياسة. من المثير للدهشة، أن الرجل الذي قام بتأطير مذهب "الذرائعية السياسية"، وهي مفهوم توصيفي يستخدم في كثير من الأحيان لوصف أسوأ المخططات السياسية، يمكن أن يساعدنا في فهم مخاطر هذا الانقسام الثنائي المرهق. تشير كتابات نيكولو مكيافيلي إلى أننا يجب ألا نتفاجأ إذا كان السياسيون يكذبون وينافقون، ولكن لا ينبغي لنا أن نعتقد أنهم غير أخلاقيين وببساطة "سيئون" لقيامهم بذلك. السياسي الجيد - من وجهة نظر مكيافيلي الصادمة ليس شخصاً لطيفاً وودوداً وصادقاً؛ إنه شخص - مهما كان كئيباً ومخاتلا وحاداً في بعض الأحيان - يعرف كيفية الدفاع عن الدولة وإثرائها وجلب الشرف إليها. بمجرد أن نفهم هذا الشرط الأساسي، سنكون أقل خيبة أمل وأكثر وضوحاً بشأن ما نريد أن يكون عليه السياسيون لدينا.
وُلد نيكولو مكيافيلي في فلورنسا عام 1469. كان والده محامياً ثرياً ومؤثراً، وهكذا تلقى مكيافيلي تعليماً رسمياً مكثفاً وحصل على أول وظيفة له كسكرتير للمدينة، حيث قام بصياغة الوثائق الحكومية. ولكن بعد فترة وجيزة من تعيينه، انفجرت فلورنسا سياسياً، وطُردت عائلة ميديشي، التي حكمتها لمدة ستين عاماً، وعانت من عقود من عدم الاستقرار السياسي، ونتيجة لذلك عانى مكيافيلي من سلسلة من الانتكاسات المهنية.
كان مكيافيلي منشغلاً بمشكلة جوهرية في السياسة تتمثل في السعي للإجابة عن السؤال المحوري التالي: هل من الممكن أن تكون سياسياً جيداً وشخصاً مستقيماً في نفس الوقت؟ وكان مكيافيلي لديه الشجاعة لمواجهة الجواب المهول المأساوي الذي وصل إليه والذي كان مفاده: لا قاطعة وجازمة. إنه لا يعتقد فقط أن التقدم والنجاح السياسي يأتي بسهولة أكبر إلى عديمي الضمير، ولكنه يدفعنا إلى التفكير في واقع مستبطن أكثر قتامة جوهره أن القيام بعمل بشكل صحيح وبصورة جيدة والوفاء بالواجبات المناسبة للقيادة السياسية، لا بد أن يكون على خلاف مع كون السياسي شخصاً جيداً وخيراً. وبمعنىً آخر فإن القيادة والرياسة الناجحة لا بد أن تكون من نصيب المنافقين والأشرار وليس الطيبين المستقيمين الأخيار.
كتب مكيافيلي عمله الأكثر شهرة، كتاب الأمير (1513)، حول كيفية الحصول على السلطة والحفاظ عليها وما الذي يجعل الأفراد قادة فعالين. اقترح أن المسؤولية الأولى والتي لا تعلو عليها مهمة للأمير الصالح هي الدفاع عن الدولة من التهديدات الخارجية والداخلية من أجل تحقيق الحكم المستقر. وهذا يعني أنه يجب أن يعرف كيفية القتال، ولكن الأهم من ذلك أنه يجب أن يعرف فن إدارة أولئك الذين من حوله. فلا ينبغي للناس أن يعتقدوا أنه ناعم ويسهل عصيانه، ولا ينبغي أن يجدوه قاسياً لدرجة أنه يثير اشمئزاز مجتمعه. يجب أن يبدو صارماً بشكل غير قابل للتفلت منه، ولكن دون إفراط. عندما التفت إلى مسألة ما إذا كان من الأفضل لأمير أن يكون محبوباً أو مخيفاً متجبراً، كتب مكيافيلي أنه في حين أنه سيكون من الرائع نظرياً أن يكون الزعيم محبوباً ومطاعاً على حد السواء، ولكن لا يجب ألا يخطئ يتناسى إلهام الإرهاب والتخويف والقمع، فهذا هو ما يجعل الناس في نهاية المطاف مكبوحين.
كانت رؤية مكيافيلي الأكثر تطرفاً وتميزاً هي رفضه للفضيلة المسيحية كدليل إرشادي للقادة. وكان معاصري مكيافيلي المسيحيين قد اقترحوا أن يكون الأمراء رحماء، مسالمين، كريمين، ومتسامحين، وصادقين. لقد اعتقدوا أن كونك سياسياً جيداً - باختصار - هو نفسه كونك مسيحياً جيداً وفق تعاليم السيد المسيح والوصايا العشر. ولكن جادل مكيافيلي على نحو مختلف من الفكر المسيحي المعاصر له. طلب من قرائه التركيز على عدم التوافق بين الأخلاقيات المسيحية والحكم الرشيد عبر قضية جيرولامو سافونارولا. كان سافونارولا مسيحياً مثالياً طهرانياً أراد بناء مدينة الله على الأرض في فلورنسا. لقد كان يعظ ضد التجاوزات والاستبداد لحكومة ميديشي، وقد نجح لبضع سنوات في قيادة فلورنسا كدولة سلمية وديمقراطية يسوسها قادة أخيار مستقيمون نسبياً. ومع ذلك، فإن نجاح سافونارولا لا يمكن أن يدوم، لأنه - من وجهة نظر مكيافيلي - كان قائماً على الضعف الذي دائماً ما ينظر إليه بكونه "جيداً" بالمعنى المسيحي. ويضيف مكيافيلي بانه لم يمضِ وقت طويل قبل أن يصبح نظام سافونارولا تهديداً للبابا ألكساندر الفاسد، وهو الذي قام أتباعه بتدبير مكيدة لسافونارولا نفسه وإلقاء القبض عليه وتعذيبه، وشنقه، وحرقه في وسط فلورنسا. هذا - من وجهة نظر مكيافيلي - هو ما يحدث حتماً للأفراد الطيبين الأخيار في السياسة. في النهاية سوف يواجهون مشكلة لا يمكن حلها بالسخاء أو الرحمة أو اللطف، لأنهم سيواجهون خصومهم أو أعداءهم الذين لا يلعبون بهذه القواعد. سوف يكون لدى عديمي الضمير دائما ميزة تفاضلية كبيرة. وسيكون من المستحيل الفوز في تلك المواجهة البشعة بين الأخيار والأشرار بشكل أخلاقي ودوود سلمي. ومع ذلك فمن الضروري تحقيق فوز فريق على آخر من أجل الحفاظ على مجتمع آمن.
بدلاً من اتباع هذا المثال المسيحي المؤسف مشخصاً بنظام سافونارولا الضعيف، اقترح مكيافيلي أن القائد يمكن أن يفعل كل ما هو ممكن للاستفادة الحكيمة مما وصفه باسم "الفضيلة الإجرامية". وقد قدم مكيافيلي بعض المعايير لما يشكل المناسبة الصحيحة للفضيلة الإجرامية: يجب أن تكون ضرورية من أجل أمن الدولة، ويجب أن يتم القيام بها بسرعة (غالباً في الليل)، ويجب ألا تتكرر كثيراً، خشية أن تكون سمعة لتراكم الوحشية الغافلة. أعطى مكيافيلي مثالاً على معاصره الزعيم سيزار بورجيا، الذي كان يحظى لديه بإعجاب كبير كقائد. عندما غزا سيزار مدينة تشيزينا، أمر مرتزقاً يدعى ريميرو دي أوركو وعصبته بتطبيق النظام في المنطقة، وهو ما فعله فصيل المرتزقة بطرق سريعة ووحشية. إذ قاموا بقطع رؤوس الرجال أمام زوجاتهم وأطفالهم، وقاموا بالاستيلاء على الممتلكات الخاصة للمنتفضين، وإخصاء رموزهم. ثم بعد ذلك انقلب سيزار على دي أوركو نفسه، وقام بتقطيعه إلى نصفين وعلق أوصاله في الساحة العامة، لتذكير أهل البلدة بمن هو الحاكم الحقيقي. ولكن بعد ذلك كما لاحظ مكيافيلي كان ذاك كافياً لإيقاف حمام إراقة الدماء واستعادة الأمن في المدينة بالإرهاب والرعب. وبعدها اتجه سيزار إلى خفض الضرائب، وقام باستيراد القمح الذي كان شحيحاً للمدينة، وبنى مسرحاً فيها، ونظم سلسلة من المهرجانات الجميلة لمنع الناس من الخوض في الذكريات المؤسفة.
حظرت الكنيسة الكاثوليكية أعمال مكيافيلي لأكثر من قرنين بسبب القوة التي جادل بها عن أن كونك مسيحياً جيداً يتعارض مع كونك قائداً جيداً. لكن حتى بالنسبة إلى الكثير من الملحدين وأولئك الذين لم يشتغلوا بالسياسة، فإن رؤى مكيافيلي كانت لافتة وجذابة. لقد كتب بأننا لا يمكن أن نكون جيدين أو أخيار في أو لأجل كل شيء. يجب علينا اختيار الحقول التي نريد التفوق فيها، وندع الأخرى تمر بسبب قدراتنا ومواردنا المحدودة. وقد تتطلب بعض الحقول التي تعايشها – حتى إن لم تكن أميراً، وهو ما يعني مشتغلاً بالسياسة- ربما في حياتك التجارية، أو المهنية، أو العائلية، ما يسميه بمراوغة: "القرارات الصعبة"، والتي نعني بها حقاً المقايضات الأخلاقية. برأي مكيافيلي قد نضطر إلى التضحية برؤانا المثالية عن الرحمة والاستقامة من أجل الفعالية العملية، وقد نضطر إلى الكذب من أجل الحفاظ على علاقة مع الآخرين ثابتة على قدميها، وقد نضطر إلى تجاهل مشاعر ومعاناة الأيدي العاملة التي نستغلها من أجل مواصلة العمل. هذا – كما يُصِّر مكيافيلي - هو ثمن التعامل مع العالم كما هو، وليس كما نشعر أنه ينبغي أن يكون. لقد واصل العالم السياسي محبته وكرهه مكيافيلي بنفس القدر بسبب إصراره على هذه الأطروحة الجارحة في واقعيتها السوداوية.

كان كتاب الأمير لمكيافيلي الكتاب المفضل لأدولف هتلر الذي كاد يذهب بكوكب الأرض كله في حربه العالمية الثانية، ومن قبله بسمارك الذي وحد الإمارات الألمانية الكثيرة بالقوة والحديد والنار في العام 1886، وقد يكون الكتاب المفضل تاريخياً وراهناً للكثير من الطغاة والأفاقين والمنافقين وأرباب الدعاية السوداء، لأنه يمكنهم تلفيقياً من التحرر من أي وزر أخلاقي في سياق ممارساتهم كلها بحيث يصبح الوصول إلى أي غاية ممكناً بأي وسائل مهما كانت وحشية، وبربرية، وغير منصفة، وظالمة.

وقد يستقم القول بأن إن مكيافيلي ضحية لسوء الفهم الطبيعي وإخراج أفكاره من سياقها التاريخي إذ يبدو أنه في جانب السفاحين أو الوحشيين وهو يهتف ويهلل لأولئك المجرمين الأفذاذ في إجرامهم، بينما الواقع هو أن معاناته الشخصية من حال عدم الاستقرار في فلورنس وحلمه بتحقق ذلك الاستقرار بأي ثمن دفعته لكتابة كتاب الأمير، وهو الكتاب الذي تلقفه كل الأشرار وخاصة السياسيون منهم ليكون بمثابة كتابهم الفكري المقدس الذي يطهرهم من رجس ودنس أفعالهم الشريرة وعقابيلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل دعا نتنياهو إلى إعادة استيطان غزة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. روسيا تكثف الضغط على الجبهات الأوكرانية | #غرفة_الأخبار




.. إيران تهدد.. سنمحو إسرائيل إذا هاجمت أراضينا | #غرفة_الأخبار


.. 200 يوم من الحرب.. حربٌ استغلَّها الاحتلالِ للتصعيدِ بالضفةِ




.. الرئيس أردوغان يشارك في تشييع زعيم طائفة إسماعيل آغا بإسطنبو