الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تهاني الجبالي … الماعت … وداعًا!

فاطمة ناعوت

2022 / 1 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



هي الصبيّةُ المتفوقة الجميلة التي كانت من أوائل الجمهورية في شهادة الثانوية العامة، ثم اختارت أن تلتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، لتتخرج فيها حقوقيةً نابهةً ذات عقل نيّر مشرق تعرف حقوق الإنسان وحقوق المجتمع وتمتهن المهنة الأشرف: "مهنة صناعة العدل". بعد تخرجها في الجامعة امتهنت المحاماة ثلاثين عامًا لتدافع عن المظلومين وتعيد الحقوق إلى أصحابها. نظرًا لفرادتها وتميّزها، كانت أول امرأة مصرية تعتلي كرسي القضاء، لتغدو "قاضية"، بعدما ظلَّ ذلك المنصب الرفيع حكرًا على الرجال وحسب. وشكرًا للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي انتصر لصوت الحضارة وفتح الباب مشرعًا أمام سيدات نابهات قبل سنوات، لكي يتبوأن مراكزَ مرموقة في سلك القضاء، والنيابة العامة، ومجلس الدولة في قرار تاريخي جسور يعود بمصر إلى دورها الريادي والحضاري العريق الذي به شيّدت مصرُ حضارتها العظمى في فجر التاريخ، وكانت فيه المرأة تقفُ جنبًا إلى جنب جوار الرجل ندًّا لند، وسندًا لسند، وعقلا إلى جوار عقل، لكي يشيّدا معًا مجتمعًا قويًّا حضاريًّا صحيح البدن.
أتكلّم عن السيدة الجميلة التي فقدناها بالأمس، القاضية الجليلة والوطنية المحترمة سيادة المستشارة المصرية "تهاني الجبالي"، "ماعت" العصر الحديث كما يروق لي أن أناديها كلما التقيتُ بها. الفارسة القوية التي وقفت في وجه الإخوان في عزّ جبروتهم وقالت للسيد "مرسي العياط" بكامل القوة: “أنت غير مؤهل لقيادة مصر!” فتعرضت إثر ذلك لحملة اغتيال أدبي ومعنوي شعواء من قِبل فصيل الإخوان الدموي، وتم استبعادها من منصب "نائب المحكمة الدستورية". لكنها لم تنكسر ولم تتوقف عن دورها الوطني الجسور. وقبيل ثورة يونيو الشريفة في 2013 دعت لتأسيس حركة تحالف جمهوري لمواجهة الفاشية الإخوانية التي كانت تحكم مصر آنذاك، وظلت على كفاحها مه جموع شرفاء الوطن، حتى أشرق علينا يوم 3 يوليو 2013 الذي صفا فيه وجهُ مصر من غيمة الاحتلال الإخواني المعتمة. وفي عام 2015 حصلت على المركز الأول من بين السيدات الأكثر تأثيرًا في مصر.
أسميتُها "ماعت" لكي نتذكر "ربّة الحق والعدالة" في الأدبيات المصرية القديمة، التي كانت تضعُ على رأسها ريشة الضمير، الذي به تزن قلب المتوفى لتعرف حجم ما يحمل من حسنات وآثام. تُنبئُنا الجدارياتُ والبرديات الفرعونية أن أولَ قاضية ووزيرة عدل في تاريخ البشرية، هي المصرية: "نبت"، التي اعتلت كرسي القضاء المصري قبل 7000 عام. كانت "نبت" رأسَ المحكمة المصرية. قراراتُها نافذة وفقَ بنود "قانون العدالة" الذى وضعه كبارُ حكماء ومستشاري ملوك مصر القديمة. هكذا كرّست مصرُ أسطورةَ "ماعت" ربة العدل، حاملة الميزان، معصوبة العينين، التي تُزيّن تماثيلُها الآن جدر محاكمنا المصرية ومحاكم العالم. وهكذا كانت الراحلة الجميلة "تهاني الجبالي" امتدادًا مشرقًا لحضارتنا الراقية، لتطوي كلَّ الحقب الظلامية التي أخمدت صوتَ المرأة المثقفة. وشكرًا لله أنها شهدت قبل رحيلها في العهد الراهن تحقق حلمها بعودة مصرَ في "الجمهورية الجديدة" إلى ثقافة تؤمن بأن فاعلية المرأة تكريسٌ لتوازن الكون وسيادة الأمن والسلام والخصب، ونبذ العنف والاقتتال.
لم تكن المستشارة "تهاني الجبالي" قاضيةً وحسب، بل قاضيةٌ في المحكمة الدستورية العليا. في بادرة رفيعة تُحسب لمصر. ولم تكتف بما حققت، بل كافحت لتفتح الباب لقاضيات ونيابيات أخريات؛ بعدما أعلنت حزنها من التوجّه ضد استكمال التجربة النسائية في القضاء. وتساءلت متى تتواجد المرأةُ  فى كل ساحات القضاء بمصر، لكي تغدو تجربة جماعية، لا فردية؟ طالبت بوجود المرأة فى النيابة العامة والقضاء الإداري وغيرهما من مجالات السلك القضائي، إذ من العبث أن يكون أوائل الخريجين فى كليات الحقوق فتيات، ثم يُستبعدن بسبب جنسهن! في حين يجب أن تكون الكفاءةُ، لا النوع، المعيارَ الحقيقيَّ والعلميّ للاختيار! وقد تحقق لها ما
أرادت في حياتها. كان وجود نموذج المستشارة "تهاني الجبالي" معادلاً موضوعيًّا يُعزّيني عن حال المرأة العربية الذي كان يجنح نحو التبعية والخنوع. فكنتُ أفتخرُ، مثل كل مصريّ مثقف، بتلك القامة النسائية الرفيعة التي تؤكد لي أن مصرَ لن تسقط بإذن الله، مهما تكاثر الظلاميون.
أيام الإخوان المريرة، كنتُ أبكي كل يوم على اختطاف مصر. ولم أكن أجد عزائي إلا حينما أهاتف المستشارة "تهاني الجبالي" لأسألَها والدمع يطفرُ من عيني: (هو خلاص كده مصر ضاعت يا سيادة المستشارة؟!) فتجيبني بصوت واثق: (لا اطمئني. مصر لا تضيع. ده درس صغير عشان نفوق. الإخوان مصيرهم إلى زوال ومصر باقية.) فيدخلُ الاطمئنان قلبي.
وداعًا أيتها الجميلة، وفي أمان الله. رزقك الله فردوسه الأعلى وعوضنا عنك خيرًا.


***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لنقف اجلالا لبطلة مصر وكل العرب تهاني الجبالي ام ا
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2022 / 1 / 13 - 06:36 )
العدالة والقانون في شرقنا الذبيح-واتقدم بالفخر والاكرام للكاتبة الكبيرة الرائعة الاستاذه فاطمة ناعوت على مقالتها هذه وعلى ريادتها في كل ماتكتب في مسيرتنا التنويرية التي يجب ان تجمعنا كلنا اهل التقدم والثقافة خاصة وبلداننا غارقة بالتخلف والفقر واصبحنا مثلا سيئا في الدنيا كلها للاساطير والخرافات واهانة العقل والكرامة الانسانية -تحياتي

اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س