الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحلم بليليث

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 1 / 13
الادب والفن


وحيدا في وجه الرياح، أسس قضيته على اللاشيء. على العدم الذي لا يحتمل المساومة، اللاشيء المطلق. فالأمور كلها تبدو متساوية، متعادلة ومتماثلة، ولا مجال للإختيار العقلي المبني على الحسابات والموازنات المعقدة، كل الكائنات من البشر والحيوان والنبات والجماد والأماكن والأوطان والتواريخ والحوادث والأفكار، تتركز في نقطة وحيدة معتمة في نهاية الجملة. غير انه في لحظات معينة - الآن مستلقيا على السرير محدقا في السقف، ذلك أنه فتح عينيه منذ دقيقتين قبل نهاية الصفحة السابقة - يحس بتلك الرغبة الانسانية البدائية في معرفة هدوء البيوت الدافئة، والحصول على مكان ثابت فوق سطح الأرض يدس فيه رأسه، مكان دافئ يحتضن جسده المقرور، وعنوان يستقبل فيه رسائل الناس الذين غابوا، أو غاب هو عنهم ونسي وجوههم المتعبة ونسي آلامهم وأحلامهم، وأختلطت عليه اسماءهم في ذهنه. تمنى ذلك في يوم من الأيام، لكنه لم يكتب أبدا أية رسالة. صوت مطرب شرقي ميت ينوح من بعيد، يلتف حوله مرة، ومرتين، يكاد يخنقه، ثم يعاود النواح، ويرجعه إلى الشارع حيث الزحمة والصخب والقذارة والتعب والموت خلف الأبواب. ويقفل النافذه ليتنفس. رغوة البيرة وطعمها المميز يحمله بعيدا، لا شك في أنه طعم البيرة، هذا الطعم الخاص الذي لا يشابهه أي طعم آخرهو الذي جعله يتذكر البحرالذي لم يره منذ أعوام وأعوام. سأعود حتما إلى البحر، يقول ذلك ملوحا بيده، سأعود إلى أساطيره وأمواجه وزبده وشواطئه الرملية، سأجري على الشاطئ وأجمع الأحجار اللامعة وأدفن جسدي في الرمال الساخنة، سأعود إليه قريبا وأغطس في مياهه المالحة، هكذا أخبرته العرافة ذات يوم، قبل بداية الرحلة.. ستجتازالمياه ياولدي، مرة ومرتين وثلاث. ويشعل لفافة أخرى، ليخفي إحساسه بالخجل، فهو لم ير البحر في حياته، سوى في المجلات المصورة وبعض الأفلام الشعبية، كما أنه لم يبتعد عن شارعه أكثر من بضعة كيلومترات، ولكنه سيكتب لكم من عرض البحر، ستعرفون أخباره، وسيحدثكم عن أحزانه وعن رحلاته الطويلة وهو يصارع عناصر الطبيعة من الرياح والعواصف والأمواج العالية، وستعرفون معاناته بعيدا عنكم وحيدا في قاربه الضائع وسط المحيطات تتربص به الأقراش الجائعة. ويواصل رحلته اليومية، يراقب سقف الحجرة الصغيرة ويتنقل ببصره من زاوية لأخرى يتتبع النتوءات والشقوق والبقع وخيوط العنكبوت وآثار الذباب على الجدران الشبه بيضاء. ومن حين لآخر يردد في نفسه "مفتاح" قضيته الأولى والأخيرة، "نحن نوجد في هذا العالم .. وهذا لا علاج له". وتتناهى إلى سمعه أصوات بعيدة، صوت خطوات تزداد اقترابا، خطى ثقيلة متباطئة ممزوجة بصوت لهاث حيواني منتظم، يقترب ويقترب، كتلة من الظلمة الداكنة تتحرك في اتجاهه، يميز جسده الضخم في أشعة الضوء الخفيفة المتسربة من نوافذ البيوت الواطئة، يواجهه، يتوقف أمامه، تفصله مرآة رقيقة عن أنفاسه الساخنة ولهاثه الرتيب، وتشده إليه عيناه المشعتان ببريق متوهج. من أنت؟ يسأله ببراءة ممزوجة بقليل من الخوف، ربما لا إسم لك، أو ربما ..لا أستطيع أن أسميك، ومع ذلك أعرفك وتوقعت مرورك من هذا المكان، لا بد أنك تمر من هنا كل يوم. وحاول أن يضحك ليخفي قلقه المتزايد، وبدلا من ذلك وضع يده في جيب معطفه وأخرج سيجارة ثانية، وعلى ضوء عود الكبريت المرتجف ترائى له الوجه المعذب تعربد فيه أصوات الغابات الكثيفة ورائحة المستنقعات وغياب البحر، وأسنانه تتلألأ في الظلمة. وحش خرافي ام مخلوق وهمي من الهواء والدخان والضوء الكابي، يصدر عدة أصوات متوحشة غامضة، أم مجرد صورة ترسمها كلمات ضيعت معانيها وأخطأت الطريق؟ ويزيحه بيده الغليظة جانبا، ويواصل سيره مترنحا. يحدق في ظهره المنحني وهو يبتعد متثاقلا، أي هم يحمل في قلبه هذا الحيوان التائه ليلا، أي هم ينخر جسده وروحه، وأي ألم يسمم وجوده، وأية أحلام يراها في نومه؟ تنغرز الأسئلة في لحمه كالإبر الساخنة، ويشعر بالرغبة مرة أخرى في غسل أمعائه بالعرق الرديء. فللعرق خاصية عجيبة، يمتص الأسئلة، ويذوب إشارات الاستفهام، ينشر اللهب في العروق، ويحيل كل شيء إلى رماد. وها هو يتحرك بثقل مثل تمثال من الملح، يرفع قدمه الأولى عن الأرض قليلا، ثم يضعها.. ثم يرفع قدمه الثانية ويعاود وضعها هي الأخرى على الأرض بنفس الرتابة، ثم يعاود رفع القدم الأولى .. وهكذا منذ الأزل وبرتابة قاتلة إلى ما لا نهاية، مستمعا إلى صوت وقع خطواته على الطريق، صوت الحصى والبرك القذرة والعلب الفارغة وأصوات أخرى تتناهي إليه في بعض الأحيان قادمة من تلك المغارات المحفورة تحت جلده والمسكونة بالرعب والأشباح. ولكن ها هو صوت آخر، صوت يعرفه ويسميه في أحلامه بالصدى، صدى صوت ليليث، يخترق هذا الكابوس ويلاشيه في لحظة. يأتيه الصوت خفيفا شفافا مثل أشعة القمر، مثل أغنية قديمة لا يتذكر كلماتها، يقول له الصوت الخافت شيئا ما، كأنه يناديه من بعيد. ويدرك النبرة الكاذبة في صوته، ونداء ليليث يبتعد حيث تدرك أنها لن تراه قبل أن تتكون وعيا وذاتا. ولكنها مع الوقت ستنسى، بل ستنسى كل شيء بعد لحظات من وضع سماعة الهاتف في مكانها، وستعود إلى عالمها الطفولي المليء بالشمس والشفافية والحياة .. يمكنه هو أيضا أن ينسى هذا النسيان، ان ينسى هذا الصوت، ولكن هل يريد أن ينسى؟ ويمكنه أيضا انتزاعه من داخل أعصاب دماغه وإخراجه من حلمه وقذفعه بعيدا خارج الصفحة، كما فعل مع إبليس ذاته منذ لحظات قبل ظهور ليليث. لنتوقف إذا لحظة واحدة، لنراجع الأمور ولا داعي للعجلة، فرشفات قليلة من العرق، ربما ستركز حواسه كلها على هذا الطعم اللاذع، طعم الفقر والأرض المحروقة، هذا هو الحل الوحيد الذي تفتق عليه ذهنه بعد التفكير الطويل، والليلة أيضا تبدو طويلة، سوداء ومعتمة، والوحدة باردة، والشوارع الخالية تبعث على القلق، وهذا الخوف المتركز في عيون القطط، والتي ما أن تحس بتواجد بشري حتى تختفي تحت السيارات وخلف علب القمامة، وتنتظر. وهذه الجدران .. هذه الجدران العالية التي لا تنتهي على مد البصر.. والبشر المختبئون وراء الجدران .. يجترون الهم الملتصق بجلودهم، ويحلمون، وربما يحلمون أيضا بليليث وبإعادة خلق البشرية، بدون جدران هذه المرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه