الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مُلاحظات حول معنى التاريخ

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2022 / 1 / 13
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


كاتب المقالة: الماركسي نيكولاي يوسيفوفيتش كونراد*

ترجمة مالك أبوعليا

قبل سنوات قليلة من موته، كتب انجلز في رسالةٍ الى ميهرينغ أنه هو ماركس في أعمالهما "لم يكن لنا من بُد من وضع التشديد الرئيسي في المحل الأول، على اشتقاق المفاهيم السياسية والحقوقية وغيرها من المفاهيم الايديولوجية، واشتقاق الأفعال الحادثة بوساطة هذه المفاهيم من الوقائع الاقتصادية الأساسية" وهو قد أكد أنه "بيد أننا حين فعلنا ذلك، أهملنا الجانب الصوري-الطرق والوسائط التي نشأت بها هذه المفاهيم، الخ-من أجل المضمون". هذه المفاهيم، يُشير انجلز، هي "عملية فكرية يشتق الايديولوجي "شكلها ومضمونها على حدٍ سواء من الفكر الخالص، سواءاً أكان فكره أو فكر أسلافه"(1).
يترتب على هذه الكلمات، أن التشديد الذي قام به ماركس وانجلز على البحث في القوانين الموضوعية لتطور المُجتمع الانساني، لا يُمثل انكاراً من جانبهم لأهمية الأفكار والحاجة اليها للتعبير عن فهم مُتعدد الجوانب للعملية التاريخية. ونجد أيضاً المعنى الفلسفي للتاريخ في تشكّل مثل هذه الأفكار.
لمعرفة التاريخ في هذا الصدد، هو أن نعرف الشيء نفسه، أي التاريخ كما هو بالفعل. ان كل موضوع، فريد من نوعه، ويتطلب رؤيته فلسفياً معرفةً لكل من خصائصه الخاصة والعامة، ومعناه الخاص والعام. لذلك عند بحث التاريخ من وجهة النظر الفلسفية، يجب أن نبدأ بالكشف عن معنى التاريخ والخصائص العامة للعملية التاريخية. ومع ذلك، فان هذا الكشف لا يسير في اطار ما يُشار اليه بنظرية التاريخ. ترتبط نظرية التاريخ بالقوانين التي كشف عنها مجراه والفاعلة في مُختلف مجالاته الانسانية. تكتشف نظرية التاريخ هذه المبادئ، وتستخلص منها قوانين التاريخ، وأحد هذه القوانين، على سبيل المثال، هو الطبيعة الدياليكتيكية للعلاقة المُتبادلة بين الانسان والطبيعة المادية من جهة، وبينه وبين البشر الآخرين من جهةٍ أُخرى. ان دياليكتيك العلاقة المُتبادلة بينه وبين الطبيعة يُعبّر عنها في حقيقة أنه في حين يعتمد وجود الانسان ونشاطه على الموارد الفيزيائية المتوفرة في الطبيعة والقوى الطبيعية، فان الانسان بدوره يؤثر عليها ويُسيطر على مواردها وقواها. يتجلى دياليكتيك العلاقة بين البشر في اعتماد البشر على بعضهم البعض في حياتهم ونشاطهم ووجود المشاكل المُشتركة التي تتطلب جهداً مُشتركاً من جهة، ومن جهةٍ أُخرى، ينتُجُ عن وجود وضرورة تلبية متطلبات ومصالح مُتميزة داخل المجموعات المُختلفة، صراعاتٍ مُختلفة، تختلف في شكلها وشدتها وطبيعتها بين الجماعات والأفراد.
انه لقانونٌ تاريخي أن العامل الحاسم في العملية التاريخية هو النشاط الانتاجي للانسان، الذي يُعبّر عن درجة سيطرة الانسان على موارد وقوى الطبيعة ومستوى تطور القوى المُمنتجة المُرتبطة بها من ناحية. ومن ناحيةٍ أُخرى، يُعبّر عنه من خلال مُحتوى الأهداف المطروحة على الانسان في حياته الاجتماعية بالاقتران مع الدرجة التي يُقر بها بهذه الأهداف ويريد تحقيقها. انه قانونٌ تاريخي أن علاقات البشر الانتاجية تختلف وتعتمد على مستوى تطور قوى الانتاج. انه قانونٌ تاريخي أيضاً أن علاقات الانتاج تُحدد العلاقات الاجتماعية للانسان، والتي تقوم على مستويات مُختلفة من المساواة أو عدم المساواة الاجتماعية، التي تؤدي، في حالة المساواة الاجتماعية، الى النهوض بالمصالح المُشتركة وما يترتب عليها من حاجة الى جهود مُشتركة، وغلبَة مصالح جماعات مُعينة والصدامات الناتجة عنها في حالة عدم المساواة الاجتماعية. كما أن التاريخ ليس في جوانبه الفلسفية ما نُطلق عليه السوسيولوجيا. تهتم السوسيولوجيا بالتعميمات الشاملة حول طبيعة وخصائص الظواهر الاجتماعية والعلاقات بينها. تشمل السوسيولوجيا، على سبيل المثال، على مسائل مثل التفرّد النوعي للمبادئ السارية في مجال الظواهر الاجتماعية، والعلاقة بين الأفعال السببية الفردية وكُلية الظواهر الاجتماعية، بين الحرية والابداع الانساني الذي يسير بعقلانية نحو هدفٍ ما، والمبادئ العامة للحياة الاجتماعية.
تأخذ فلسفة التاريخ ما تؤسسه النظرية التاريخية وما تكتشفه السوسيولوجيا في الاعتبار. ولكن يوجد لفلسفة التاريخ موضوع بحث خاص بها لا يُمكن اختزاله سواءاً لافتراضات نظرية العملية التاريخية أو لِصِيَغ السوسيولوجيا. ان موضوع فلسفة التاريخ هو مُحتوى العملية التاريخية التي يتم بحثها من وجهة النظر الفلسفية، أي السؤال عن معنى العملية التاريخية واتجاهها وأهدافها، بعبارةٍ أُخرى، مغزى التاريخ.
عند اتباع هذا المسار، من السهل الدخول في مجال الميتافيزيقيا: محاولة تفسير العملية التاريخية على أساس مبدأ أسمى يقف في مكانٍ ما خارج التاريخ. من السهل أيضاً اتباع طريق الابستمولوجيا: التفكير فيما اذا كان من المُمكن فهم التاريخ على الاطلاق وبالتالي شروط وقيود ونوعية وقيمة هذا الفهم، ويُمكن أيضاً اختزال فلسفة التاريخ الى الكشف عن الطبيعة المنطقية لموضوع التاريخ. يُمكن العثور على العديد من المُقاربات المُختلفة التي تبحث عن معنى التاريخ في تأملات الفلسفة لموضوع البحث التاريخي. هذا يُثبت فقط كيف يسعى الانسان باصرار الى فهم معنى حياته وحياة الانسانية كما تسير تاريخياً. انه يُثيبت مدى ضرورة الاجابة على السؤال حول ما ان كان للنشاط التاريخي للانسان أي معنى وأي أهداف، وان كان الأمر كذلك، فما هي.
ان أفضل مُقاربة للبحث حول معنى التاريخ هو دراسته بشكلٍ مُباشر، والمُحاولة بأي طريقة تجنّب الخضوع لأي تصورات مُسبقة. يجب أن يكشف التاريخ نفسه عن معناه. من الواضح أن قبول هذا المفهوم بحد ذاته يضع قيوداً على استنتاجاتنا. ان كان التاريخ نفسه يكشف عن معناه، فهذا يعني أن جميع استنتاجاتنا مبنية على البيانات التاريخية الماضية، وحتى الى الدرجة التي فيها نعرفها. نحن نعلم جيداً كيف زادت معرفتنا حول الماضي بشكلٍ تدريجي، ومدى مساهمة الكشوفات في هذه المعرفة، وكيف لعِبَت دوراً في احداث تغيرات في المفاهيم التي بدى وكأنها راسخة. وكم من هذه الاكتشافات لم يأتِ بعد! ولكن حتى لو افترضنا أننا نعرف جيداً الخطوط العريضة للماضي الانساني وأن أي شيء جديد يُمكن اضافته الى معرفتنا التاريخية يتعلق فقط بالجوانب الفردية لهذا الماضي وتفاصيله، فانه حتى في هذه الحالة، ستكون معرفتنا بالعملية التاريخية مُقيّدة بالضرورة بحدودها الخاصة في زمننا.
ان استنتاجاتنا فيما يتعلق بمسار الانسان في التاريخ الذي صنعه تستند الى الماضي. ولكن التاريخ لا ينتهي عندنا، وسيكون من المُنافي للتاريخ افتراض أن مساره سيتبع دائماً القناة التي اتبعها حتى الآن، أو تلك التي نتوقعها. لذلك، فان أي معنى للتاريخ الانساني يعتمد على ما نستخلصه من التجربة التاريخية الانسانية وما يُمكننا توقعه في المُستقبل على هذا الأساس. صحيح أن هذه التجربة ليست محدودة للغاية. لأننا حتى لو بدأنا في استعراض التاريخ منذ ظهور الدول الأولى، أي في الألفية الرابعة قبل الميلاد، فانه لدينا صورة متحركة لحياة البشرية مدتها ستة آلاف عام. يُمكن لهذه المُدة أن تعرض لنا الخطوط العامة للمسار الذي سلكته البشرية ومحتواه واتجاهه.
ومع ذلك، لا يزال هناك ظرف آخر يجعل بحثنا أكثر قابلية لأن يكون أكثر اكتمالاً ووضوحاً ويجعلنا أكثر قُدرةً على التنبؤ بالمستقبل، أو على الأقل المستقبل القريب. هذا الظرف هو تجربتنا التاريخية الخاصة، تجربة عصرنا. تحدث لحظات في تاريخ البشرية لا تُشير فقط الى نهاية شيء مهم كان موجوداً سابقاً، ولكن تُشير كذلك الى بداية شيءٍ جديد. ونتيجةً لذلك، فهي تُسلّط الضوء على المُستقبل. هذه اللحظات هي نقاط تحول ثورية.
كانت نُقطة التحول الثورية الأولى هي انهيار العالم الذي نُسميه "المُجتمع القديم". كان هذا هو نظام العبودية اجتماعياً واقتصادياً، وكانت آخر معاقله الكُبرى امبراطورية هان في شرق آسيا، والامبراطورية الرومانية في جنوب أوروبا وشمال افريقيا والشرق الأدنى. انهار الأول في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، والثاني في القرنين الرابع والخامس. ولم تُقدّم هذه الأحداث صورةً كاملةً الى حدٍ ما عن الفترة السابقة وحسب، بل سلّطت الضوء على المُستقبل أيضاً. أظهر انهيار هذه الامبراطوريات أن العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية التي انبثقت في زمنها صارت تظهر الآن على الساحة التاريخية، وأن المُستقبل يخص هذه العلاقات على وجه التحديد، ونحن نقول عن هذه العلاقات الاقطاعية بأنها جديدة في زمنها. يُثبت تاريخ الفكر الانساني أن هذه الأحداث ألقت الضوء على المُستقبل. في هذه اللحظات من التاريخ على وجه الخصوص، سعى البشر لأن يصوروا المستقبل، بطبيعة الحال فانهم فعلوا ذلك في اطار مقولات عصرهم. في ذلك الوقت، تم تصوّر المستقبل في الصين وروما بمقياس الأديان التي ظهرت في العصور "القديمة" من وجهة نظر ذلك الوقت، ولكن ذلك لم يكن له مكانة مُهيمنة.، الآن، ومع ذلك، في نقطة التحول التاريخية هذه، كانوا يتقدمون للسيطرة على المجال الايديولوجي للفترة التاريخية الجديدة. في الصين كانت البوذية والمسيحية كانت في روما. في الشرق كان الفيمالاكيرتي سوترا Vimalakirti Sutra نصاً بوذياً عَكَسَ انطباعاً عن المُستقبل مُعبراً عن هذه الأديان. أما الغرب فقد عبّرت عن نفس الموضوعات نصوص كتاب "مدينة الرب" De civitate Dei..
كانت نقطة التحول الثورية الكُبرى الثانية هي انهيار العالم الذي نُسمية مُجتمع القرون الوسطى. لقد كان من الناحية الاقتصادية-الاجتماعية عالم النظام الاقطاعي. جاء الوقت الذي انهار فيه باعتباره النظام العالمي المُهيمن. من بين الدول الكُبرى التي حدث فيها هذا التحول في وقتٍ مُبكر انجلترا وفرنسا. حدث هذا في انجلترا في القرن السابع عشر، وفي فرنسا القرن الثامن عشر. أظهرت الأحداث أن مركز المرحلة التاريخية ستأخذه العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية الجديدة التي تشكلت مُسبقاً في رحم المُجتمع القديم. نُسمي هذه العلاقات بالرأسمالية. بدأ شكل المُستقبل يتضح، ووجهت ألمع عقول تلك الحقبة أنظارها اليه. عبّرَت هذه الأفكار عن نفسها بشكلٍ رئيسي في النصوص حول المُجتمع والحكومة بشكلٍ عام، لكن هذه النصوص كانت تعكس ما كان يحدث بالفعل. في ذلك الوقت، لم تكن هذه الخطابات والنصوص تعمل في اطار الدين، بل في اطار الفلسفة، ولا سيما الفلسفة الاجتماعية والسياسية. كان المُمثلون النموذجيون لهذا الفكر الفلسفي هم هوبز في انجلترا وروسو في فرنسا. صنّفَ ماركس هوبز مع المفكرين الذين "بدأوا بدراسة الدولة من خلال النظرة الانسانية واستنباط قوانينها الطبيعية من العقل والتجربة وليس من اللاهوت"(2). بينما قال عن روسو بأنه "استباق للمُجتمع البرجوازي"(3)، أي مُستقبل المُجتمع الذي كتب في زمنه.
حدثت نقطة التحول الثورية الثالثة ذات الأهمية لتاريخ العالم في القرن العشرين. كانت الثورات في روسيا والصين بشيراً لها. لقد شهدت بداية سقوط الرأسمالية باعتبارها النظام العالمي المُهيمن، وأظهرت أن المُستقبل ينتمي الى العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية الجديدة التي بدأت تظهر في ظل ظروف النظام الرأسمالي. نحن نُطلق على هذه العلاقات اسم الاشتراكية، وهي ليست الا المرحلة الأولى للشيوعية. في ضوء تلك المُتطلبات الأساسية للنظام الاجتماعي الجديد، كان أكثر المُفكرين الاجتماعيين تقدماً يتطلعون الى المُستقبل. نَجَحَ ماركس وانجلز في استشراف هذا المُستقبل حتى في القرن التاسع عشر. ومع ذلك، كان لنقطة التحول الثورية الثالثة هذه أهميةً تاريخيةً مُختلفةً تماماً عن سابقتها. قبل هذا، حدث التحول في اطار اجتماعي وتاريخي كبير مُتطابق: في اطار المُجتمع الطبقي، في اطار العلاقات الطبقية المُتناحرة. ونتيجةً لذلك، حل نظام اجتماعي طبقي مُتناحر محل آخر، ولم يتغير سوى الخصوم الطبقيين. لقد غيّرت الثورة الاشتراكية مجرى التاريخ بشكلٍ جذري، فهي لم تؤدي الى استبدال بعض الطبقات بأُخرى، بل أدى الى اختفاء الصراع الطبقي المعني. لذلك، فان نقطة التحول الثورية نحو الاشتراكية تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك التحولات التاريخية السابقة. في حين كان سقوط نظام مُلكية العبيد والانتقال للاقطاع وسقوطه والانتقال الى الرأسمالية يُشير الى تحولات من مرحلة في تاريخ البشرية الى أُخرى في اطار نظام اجتماعي طبقي آخر، فان انهيار الرأسمالية والانتقال الى الاشتراكية، هو انتقال الى عصر اجتماعي جديد: عصر نظام اجتماعي مُختلف جذرياً، أي المُجتمع اللاطبقي. ان التحوّل الوحيد السابق الذي ربما يكون قابلاً للمُقارنة هو انتقال الانسانية من مُجتمع بدائي لاطبقي الى مُجتمع طبقي. هذا هو السبب في أن الحُقبة الحالية توفر امكانات أكبر من أي وقتٍ مضى لفهم الماضي والمُستقبل، وهذا الأخير محدود بمنظورنا.
وهكذا، فان معرفتنا بالماضي، جنباً الى جنب مع فهم الماضي والمُستقبل الذي تُقدمه لنا الحقبة الحالية، تسمح بادراك معنى التاريخ البشري وبالتالي تصوّر المفهوم الفلسفي للتاريخ. لا يُمكن القيام بذلك الا اذا ركزنا الانتباه على تاريخ البشرية ككل وليس على تاريخ مجموعة مُعينة من الشعوب أو البُلدان. ان مفاهيم مثل "أوروبا" و"آسيا" و"افريقيا"، الخ، جُغرافية وليست تاريخية. انها في أحسن الأحوال جزء من الجغرافيا التاريخية. كما أن مفاهيماً مثل "الشرق" و"الغرب" لا يُمكن الاعتماد عليها بشكلٍ كبير. انها في أحسن الأحوال تُشير الى مجموعات مُعينة من الشعوب، ولكنها عُرضة للتغيير. وهكذا، كان لدى الصين القديمة والوسيطة مفهومها الخاص عن الغرب، والذي كان يشتمل على مناطق القارة الآسيوية التي أطلقنا عليها فيما بعد تركستان الشرقية وآسيا الوسطى. بالنسبة للصينيين المُعاصرين، الغرب هو أوروبا وأمريكا. بالنسبة للرومان القدماء، كان الشرق يتألف من سوريا وفلسطين وبلاد فارس وأرمينيا وبلاد ما بين النهرين. بالنسبة لأحفادهم الايطاليين في العصور الوسطى صار الشرق يشمل بيزنطة. أما الايطاليين المُعاصرين، كما هو الحال بالنسبة لسكان أوروبا الغربية فان الشرق هو تشيكوسلوفاكيا وبولندا ورومانيا والاتحاد السوفييتي. لذلك من المُستحيل انشاء تصوّر للعملية التاريخية على نسيج محصور في اطار مفاهيم أوروبا وآسيا، أو الغرب والشرق.
النسيج الوحيد المُمكن هو تاريخ البشرية الجمعاء، الذي يُشكّل موضوع التاريخ الحقيقي. ان مسار التاريخ الذي نعرفه يُثبت هذا قبل كل شيء. يكفي أن نقول أنه في اثنتين من نقاط التحوّل الثورية الثلاثة ذات الأهمية لتاريخ العالم، أي تلك من العبودية الى الاقطاع، ومن الرأسمالية الى الاشتراكية، كانت الانطلاقة مُتزامنة نسبياً على طرفي الأرض: الأولى في امبراطورية هان في الطرف الشرقي لقارة أوراسيا والامبراطورية الرومانية في الغرب. الثانية في روسيا، أي في أوروبا، وفي الصين، أي في آسيا. حتى تشكّل النظام الرأسمالي العالمي بدأ في القرن السادس عشر في أحد أطراف العالم في هولندا واكتمل في القرن التاسع عشر في الطرف الآخر في اليابان. يُمكننا أن نذكر أيضاً، أن أعنف ثورات الفلاحين في صراعهم ضد الاضطهاد الاقطاعي، بدءاً من عشرينيات القرن السادس عشر مع حرب الفلاحين العُظمى في ألمانيا، ثم النصف الأول من القرن السابع عشر، اجتازت العالم بأكمله تقريباً من فرنسا الى اليابان: في فرنسا من العشرينيات الى أربعينيات القرن السابع عشر (وبلغت ذروتها في ثورة حُفاة الأقدام va-nu-pieds عام 1639)، وفي روسيا في أول عقد من القرن السابع عشر (بلغت ذروتها في تمرد بولوتنيكوف Bolotnikov 1606-1607)، وفي تسعينيات القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر في تركيا العثمانية (انتفاضة كارا جاسيدي Kara Jassidji عام 1600)، وفي العشرينيات من القرن السابع عشر في بلاد فارس (انتفاضة ابيل باشا Abil pasha عام 1629) وفي العشرينيات الى الأربعينيات من القرن السابع عشر في الصين (بلغت ذروتها في انتفاضة لي تزو تشينغ Li Tzu-Ch’eng 1639-1645). وفي العشرينيات من القرن السابع عشر في اليابان (ثورة شيمابارا Shimabara 1637-1638). تُصنّف حرب الفلاحين العُظمى في الصين، من حيث الأهمية والنطاق، مع حرب الفلاحين العُظمى في ألمانيا. هذا ليس من قبيل الصدفة. لم تكن الصين في القرنين السادس عشر والسابع عشر أقل من ألمانيا من حيث التطور التاريخي. تتكشف الأهمية التاريخية العامة لهذه الانتفاضات فقط عندما تتم دراسة العملية برمتها، وعندها فقط يُمكننا أن نرى أن هذه الثورات والانتفاضات "تمهيد" للثورات البرجوازية القادمة. عندها فقط يُمكننا أن نفهم تماماً سبب ظهور أنظمة سياسية مُتطابقة (مع استبعاد الاختلافات المحلية بالطبع)، وهو النظام الذي يُطلَق عليه الاستبدادية الاقطاعية في جميع البلدان التي حدثت فها مثل هذه الحركات الشعبية. هل يُمكن فهم كل هذا ان حصرنا أنفسنا في اطار تاريخ دولة واحدة؟
يُمكن الاستشهاد بالعديد من بيانات أكثر فروع النشاط الانساني تنوعاً للتحقق من صحة اطروحتنا القائلة بأن دراسة التاريخ على نطاق عالمي فقط يكشف طبيعة الظواهر التاريخية في اكتماليتها وأهميتها. وهكذا، فان عصر النهضة، الذي بدأ في ايطاليا في القرن الرابع عشر، أخذ اسمه من حقيقة أن أُناس ذلك العصر كانوا يقولون بأن الظواهر الجديدة في الفلسفة والأدب والفن هي ولادة جديدة ونهوض لفلسفة وأدب وفن أوروبا القديمة في اليونان وروما. نحن على دراية تامة بهذه الحركة، لكن هل نفهم تماماً أهميتها التاريخية دون معرفة أن الصينيين بين القرنين الثامن والثاني عشر كانوا ينظرون الى تلك الظواهر بنفس الطريقة تماماً كنهضة (نهوض) لعصورهم القديمة؟ صحيح أن الصينيين لم يتحدثوا عن ولادة جديدة للعصور القديمة، بل عن عودة اليها، ولكن الأمر سيان في جوهره، حيث الحركة نفسها تطابقت في جوانب رئيسية من محتواها مع ما نلاحظه في ايطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. هذا يُجبرنا على طرح مسألة عصر النهضة على أنها ظاهرة تنبثق بشكلٍ متوقع في مرحلة معينة من تاريخ مُجتمعات القرون الوسطى بين الشعوب التي تمتلك تاريخاً طويلاً في العصور القديمة.
ان تاريخ أي فرع من فروع المعرفة البشرية يتجاوز تاريخ أي شعب بمفرده. هناك العديد من العلوم التي ليس من الصعب اثبات أن اكتشافاتها تعود الى البشرية جمعاء. يُمكن للمرء أن يذكر أسماء فروع من الرياضيات مثل الحساب والجبر والتي تشهد على المشاركة المهمة للعرب في انشاءها. في الوقت ذاته، نحن نعلم كم يدين العرب أنفسهم للهيلينيين والهنود القدماء في هذا المجال بالذات.
يكشف لنا تاريخ المنطق عن ثلاثة مسارات للتطور في مجالات المعرفة النظرية: الصينيون، الهنود والأوروبيون. الأول هو الهيتوفيديا Hetuvidya أو المنطق البوذي، والتي تُطوّر أعمال أكشاباد Akshapad (القرن الثاني عشر قبل الميلاد). والثاني لـ مو تي Mo Ti (القرن الخامس قبل الميلاد)، والثالث لأرسطو (القرن الرابع قبل الميلاد). نحن نعلم أن كل مسار من هذه المسارات تطور بشكلٍ مُستقل، ولكننا نعلم أن مؤلفيها ناقشوا، بشكلٍ عام، نفس الموضوعات، وحتى ناقشوا تفاصيل صغيرة متشابهة مثل "الحد الأوسط"، ليس فقط في الأورغانون لأرسطو وحسب، بل في مخطوطات مو تي، ولكن بمصطلحاته الخاصة طبعاً. على أي حال، من الواضح أنه لم يقم أي فرع من فروع المعرفة النظرية لوحده بتطوير هذا النوع من المعرفة النظرية المهم جداً لتطور المعرفة الانسانية عموماً. ان المفاهيم المألوفة لنا، والتي تبدو لنا على أنها "أوروبية"، مثل الصوتيات واللسانيات واللثويات، كانت معروفةً جيداً من قِبَل الصينيين منذ القرن الثامن، والذين تعلموا عن هذه الأمور من الهنود. باختصار، يُمكن تقديم بيانات وافرة لاثبات أن التاريخ الانساني، حرفياً، هو تاريخ البشرية جمعاء، وليس تاريخ الشعوب الفردية والدول المُنعزلة، وأنه لا يُمكن فهم العملية التاريخية الا بالرجوع الى تاريخ البشرية. كل التاريخ يزخر بمثل هذه المُعطيات.
ومع ذلك، فان هذا لا يُقلل بأي حالٍ من الأحوال من أهمية تاريخ الشعوب كُلٌ على حدة. ان كل شعب له تاريخه المُتميز وسماته الفريدة، كان كبيراً أم صغيراً. بل يمكن القول أن التاريخ البشري يتجلى في تاريخ الشعوب الفردية ومن خلاله. التاريخ البشري ليس عملية غير مُشخصة. انه ملموس للغاية ويتكون من نشاطات الشعوب المنفردة. ولكن في نفس الوقت، يحدث كثيراً أن يتكشف بشكلٍ كامل المعنى التاريخي الذي يبدو مُميزاً لشعبٍ واحد، من خلال الوسيط التاريخي المُشترك للبشرية جمعاء. ان ثورة القرن السادس عشر في هولندا تُفسّر ببيانات من تاريخ هولندا السابق، وان اقتصرنا على ذلك فقط، فستبدو أنها حلقة في تاريخ ذلك البلد الصغير. لكن علينا فقط أن نأخذ في الاعتبار أن هولندا كانت آنذاك جزءاً من الامبراطورية الاسبانية، وأن نتذكر دورها في تلك الامبراطورية كمركز مالي وتجاري وحتى صناعي. يجب أن نضع في اعتبارنا أن هذه الثورة تَبِعَها توسّع استعماري من جانب هذا البلد الصغير، مُحتضنةً جنوب افريقيا وأجزاء من الهند وأندونيسيا، وهو توسّع وصَلَ الى الطرف الآخر من العالم في ذلك الوقت، أي اليابان. نحن بحاجةٍ الى تقييم مظهر شركة الهند الشرقية الهولندية بشكلٍ صحيح كأداة أولى للاستعمار الرأسمالي الجديد، لتحل محل الاستعمار الاقطاعي الاسباني والبرتغالي القديمين. عندما نضع هذه النقاط في اعتبارنا فان الثورة في هولندا تُصبح على الفور حدثاً مُهماً في تاريخ العالم. ربما يدفع هذا المؤرخين الى التفكير في السؤال التالي: ألا يجب علينا تأريخ بداية العصر الرأسمالي في تاريخ البشرية تحديداً انطلاقاً من الثورة في هولندا؟ مثال آخر. تُعد الثورة الروسية عام 1905 أساساً جزءاً من تاريخ الشعب الروسي. يُمكن تفسير أصلها ومحتواها وشكلها، وأخيراً مصيرها من خلال مُجمل معطيات التاريخ الروسي. لكننا نحتاج فقط الى أن نتذكر أن تلك الثورة، أعقبتها حركة ضخمة في اتساعها وعمقها أطلَقَ عليها لينين استيقاظ آسيا. ان توسعنا في دراسة تاريخ هذه الثورة، خارج اطار التاريخ الروسي انطلاقاً من حركة استيقاظ آسيا، على نفس المنوال، فاننا سنكشف عن جوهرها التاريخي بشكلٍ أفضل.
ان كل محاولة لفهم معنى العملية التاريخية تطرح السؤال التالي الذي لا مفر منه: هل هذه العملية لها أي معنىً على الاطلاق؟ هل حتى لها أي اتجاه؟ يُشتَق من الاجابات المُختلفة لهذا السؤال مفهومان لفلسفة التاريخ: الأول، أنه لا يوجد معنى، ولكن مُجرّد تكرار لانهائي لنفس الشيء. الثاني، أن هناك معنى، والتاريخ هو حركة مُستمرة الى الأمام. ان أوضح تعبير عن المفهوم الأول هو نظرية الدورة المُغلقة، بينما يُعبّر عن المفهوم الثاني بنظرية التقدم. كانت كلتا النظريتين تتعرضان للنقد. ليس من الصعب انتقاد نظرية الدورة المُغلقة. يُمكننا دائماً ايراد عدد من الوقائع لاثبات أنه لا يوجد حقبة جديدة تُكرر أي حُقبة سابقة، حتى عندما تظهر خصائص مُتشابهة. سيكون من الصعب أن تجد أي شخص يُؤكّد أن الديمقراطية الأوروبية في القرن التاسع عشر كانت مُماثلة لتلك في أثينا القديمة، أو أن مبدأ الفوهرر للقرن العشرين في اطار نظام شمولي هو نفسه القنصل الروماني، أو أن مسرحية فايدرا Phedre لراسين هي مُجرّد نسخة مُعدلة من مسرحية هيبوليتوس Hippolytus للاغريقي يوربيديس أو أن تمثال مايكل انجلو Michel angelo المنحوت المُسمّى (موسى) Moses هو نفسه تمثال زيوس للاغريقي فيدياس Phidias. هناك لوحة لهنري ماتيس Henri Matisse اسمها Still life with orange عام 1898 مشابهة بشكلٍ مُثيرٍ للدهشة للوحة الاقحوان والجرة chrysanthemum and jug للفنان الصيني تشين تشو Shen Chou، ومع ذلك فهما مُختلفتان تماماً: استخدم فنان القرن الخامس عشر الصيني باستخدام ضربات الفرشاة، طريقة اختزال الأشياء الى شكل زخرفي لنقل جوهر الشيء بروح تعاليم نصوص الدايانا Dhyana الزنية البوذية. أما فنان القرن التاسع عشر الفرنسي فقد حل بهذه الطريقة، مُشكلة توازن الشكل واللون-وهي مُشكلة مُجردة تتعلق بفن أوروبا الغربية في الفترة ما بعد الانطباعية.
كانت نظرية التقدم تتعرض دائماً للنقد. تتمثل الحجة الرئيسية لهذا النقد في الاشارة الى الطبيعة الدوغمائية لمفهوم التقدم ذاته، او افتقاره الى الوضوح، أو أن ما يُعتبر تقدمياً هو دائماً قابل للنقاش والنقد، وحقيقة أن تحديد شيء ما على انه تقدمي يعتمد على وجهة نظر المرء. يتم تقديم البيانات المُختلفة لاثبات أن الظواهر التي تُعتَبَر تقدمية قد أثبتت، في كثيرٍ من الأحيان، أنها ليست كذلك على الاطلاق. ان نقد نظرية التقدم من هذه المواقف خطير للغاية، حيث انه في العادة تؤخَذ بعض الافتراضات المُسبقة ذات الطبيعة المُجردة والدوغمائية كنقطة انطلاق عند مناقشة ما يُمكن اعتباره ظاهرة تقدمية. يبدو أن أفضل طريقة لحل هذه المشكلة، والتي تُعتَبَر أساسيبة لفهم معنى التاريخ، هي اللجوء الى التاريخ نفسه وتحليل ستة آلاف عام من التاريخ الانساني دون تصورات مُسبقة نابعة من خارجه.
نحن نقول ستة آلاف عام من التاريخ لأن العمر التاريخي للانسان المُتاح لمُلاحظتنا في السجلات المكتوبة بدأ في الألفية الرابعة قبل الميلاد، عندما ظهرت الدول الأولى في منطقتين من العالم القديم: وادي النيل، وحوض نهري دجلة والفرات. هذا لا يعني أن جميع أشكال الحياة السابقة لهذا مُستثناة من التاريخ، ولكن معرفتنا بها تقتصر فقط على بيانات الانثروبولوجيا التاريخية والأركيولوجيا وأنه بهذا المعنى لا يُمكننا التحدث عن التاريخ بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. لكن لا يترتب على هذا على الاطلاق أن الحقبة الطويلة من وجود الجنس البشري ليس لها أهمية تاريخية. ان لها أهميةً هائلة. فان ظهور الدولة لا يُمكنه أن يَنتُج الا عن عملية صراع وتطور اجتماعي سابق وواسع النطاق. شَهِدَ هذا التطور العامل الأهم على الاطلاق: وصول الانسان الى خلق الأشكال الاجتماعية للحياة. صرّحَ انجلز بحدة انه في هذا الوقت، أي ما قبل التاريخ، حدثت أهم التطورات وتحدد المسار اللاحق للتطور الانساني: أصبح الانسان انساناً. وقد كَتَبَ أن "مُنطَلَق" هذا العصر هو "انفصال الانسان عن مملكة الحيوان، ومضمونه هو تذليل الصعوبات التي لن يواجهها أبداً أُناس المُستقبل المُتعاضدون"(4). وهكذا، حتى هذه الحقبة ما قبل التاريخية تُثبِت أن تطور البشرية كان منذ البداية ليس مُتكرراً بل يسير الى الأمام.
بدأ العصر الجديد مع الألفية الرابعة قبل الميلاد، عندما نشأت مصر في وادي النيل، وسومر في وادي دجلة والفرات. تتميز هذه الحقبة بحقيقة أنه، على عكس الحُقَب السابقة التي كانت ساحتها في الأساس الكرة الأرضية بأكملها، كانت الحياة التاريخية مرتبطةً بمناطق جغرافية مُحددة. كان وادي النيل وحوض دجلة والفرات من أولى المناطق. تكشف لنا حركة التاريخ اللاحقة عن عملية توسّع مستمرة في الساحة الجغرافية للحياة التاريخية. اندرج المزيد والمزيد من الشعوب. هذا واضح للغاية من خلال أي تفحّص سريع لتاريخ الانسانية.
أصبحت المناطق المُجاورة تدريجياً مُرتبطةً بالحياة التاريخية للمركزين الأولين، أي المصري والسومري. انتقل التاريخ، من احدى المراكز، أي مصر، جنوباً الى المرتفعات الأثيوبية، ومن الشرق الى شبه الجزيرة العربية، في المقام الأول الى أقرب جزءٍ منها، والذي سُمي فيما بعد فلسطين، ثم فصاعداً على طول الجزء الذي يخص البحر الأبيض المتوسط من آسيا الصُغرى، الى مناطق سوريا الحديثة ولبنان، ومن ثم انطلاقاً من تلك المناطق الى أعماق آسيا الصُغرى باتجاه وادي دجلة والفُرات. ومن المركز الثاني تقدمت الحركة أيضاً في اتجاهين: نوح آسيا الصغرى وسوريا ولبنان وفلسطين، نحو القوقاز وايران. وهكذا، احتضن التاريخ، بحلول منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد، منطقةً واسعةً تشمل مصر وجزءاً من أثيوبيا وسوريا والجزء الشرقي من آسيا الصُغرى والجزء الجنوبي الغربي من القوقاز، وبعض مناطق غرب ايران وحوض دجلة والفرات. استمرت العملية بعد ذلك في شكلٍ مُزدوج: كان هناك توسّع لهذه المنطقة في نفس الاتجاهات ودخلت مناطق جديدة-منطقة بحر ايجه- حزام آسيا الصغرى من البحر الأبيض المتوسط وجزر بحر ايجه وكريت والجزء الجنوبي من شبه جزيرة البلقان، نقول دخلت في المنطقة التي يُغطيها التاريخ المكتوب. وهكذا، دخلت منطقة كبيرة جداً في نطاق التاريخ، بحلول منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد. امتدت على الأجزاء المُتاخمة لثلاث قارات من العالم القديم والأراضي التابعة لها. خلال الألفية الثانية قبل الميلاد نفسها، انتقلت منطقتان أُخرتان من ما قبل التاريخ الى التاريخ. كان أحدها في الهند، في وديان أنهر السند والغانج Ganges، والأُخرى في وادي هوانغ هو Hwang-ho في المنطقة المعروفة الآن باسم الصين. ظهرت أولى الولايات الهندية في وديان أنهر السند والغانج خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، بينما تشكلت مملكة شانغ، وهي أول دولة صينية استطاع البحث التاريخي الوصول اليها، في وادي هوانغ هو، وهذه كانت أول ثلاثث مناطق جُغرافية تشكلت فيها الحياة التاريخية للانسان، وهي المراكز الثقافية الأولى.
بعد ذلك، اتخذت العملية التاريخية نفس المسار المُزدوج. من ناحية، اتسع نطاق كلٍ من المجالات التاريخية الثلاث السابقة، ومن ناحيةٍ أُخرى، ظهرت على الساحة مناطق جديدة. توسّعَت المجموعة الأوروبية-الأفروآسيوية نحو ايران وعبر القوقاز وآسيا الصُغرى. شَهِدَت هذه المنطقة، ابتداءاً من نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد، تاريخ آشور والامبراطورية البابلية الجديدة ومركزها على نهري دجلة والفرات، وتمركزت دولة فارس في ايران، ومملكة أورارتو Urartu في المُرتفعات الأرمينية، والدول الحيثية والفريجية Phrygia والليدية Lydia في آسيا الوسطى، وصور Tyre وصيدا Sidon ودول مُدُن فينيقية أُخرى على الجزء الجنوبي من ساحل البحر الأبيض المتوسط، اسرائيل ويهوذا في فلسطين، ومملكتي مَعين Minaean وسبأ Sabaean في جنوب شبه الجزيرة العربية، ومصر وأثيوبيا في وادي النيل. دخَلَت منطقة جديدة الى التاريخ من جانبٍ واحدٍ من المناطق المذكورة في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد: خوارزم Khorezm وباختريا Bactria، وقد كان مصير هذه المنطقة فيما بعد أن صارت حلقة وصل كانت توحّد المراكز الثلاثة القديمة في حياة الانسان التاريخية: الأوروبية-الافروآسيوية والهندية والصينية.
توسعت المنطقة الأوربية-الافروآسيوية أيضاً الى غرب البحر الأبيض المتوسط. تم التعبير عن هذا التوسع في الاستعمار الفينيقي ولاحقاً اليوناني. احتضن الاستعمار الفينيقي في البداية ساحل شمال افريقيا، وفي المقام الأول منطقة تونس الحديثة، حيث تأسست قرطاجة Carthage عام 814 قبل الميلاد، وهكذا نشأ مركز فينيقي جديد وهو الدولة القرطاجية التي أصبحت أكبر قوة استعمارية في عصرها، لأن قرطاجة أنشأت مستعمراتٍ لها في اسبانيا وصقلية وسردينيا وجزر البليار. أدى ذلك الى تشكّل منطقة تاريخية جديدة، والتي صارت تربط أراضي شرق وغرب البحر الأبيض المتوسط. كانت مهارة الملاحة التجارية التي طورها الفينيقيون بشكلٍ هائل تؤمن وسائل الاتصال. لم يجتز الفينيقيون شرق وغرب البحر الأبيض المتوسط في رحلاتهم وحسب، بل اكتشفوا بُجرأة أجزاءاً من الكرة الأرضية لم تكن معروفةً بعد آنذاك. أكملوا، في القرن السابع قبل الميلاد، أول دورة حول افريقيا في تاريخ البشرية. انطلقوامن الشرق، من البحر الأحمر، وعادوا عبر مضيق جبل طارق، الذي حصل منهم على اسمه الأول: اعمدة ملقرت pillars of Melkarth. وكان الفينيقيون هم أول من وصلوا الجُزُر البريطانية.
تطور الاستعمار اليوناني في عدة اتجاهات. كانت احداها باتجاه الغرب: نشأت المُستعمرات اليونانية في ايطاليا وصقلية، وكان هناك اتجاه آخر نحو الشمال الشرقي. بدأ الاستعمار اليوناني لساحل البحر الأسود الشمالي. في الوقت ذاته، كانت المنطقة التي يسودها العالم الهيليني تتحرك قُدماً في التطور. في النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد، ازدهرت المُدن اليونانية في ايونيا Ionia، القسم الساحلي من آسيا الصُغرى. توسعت الأراضي الهيلينية في البلقان باتجاه وسط شبه الجزيرة تلك. كما دخلت أجزاء أُخرى من شبه الجزيرة في التاريخ. نشأت تراقيا Thrace في القرن الخامس قبل الميلاد في الجزء الشمالي الشرقي من شبه الجزيرة، أما اليريا Illyria فقد نشأت في القرن الرابع على الساحل الأدرياتيكي. هناك أيضاً، ظهرت المملكة المقدونية شمال اليونان. في الوقت نفسه نشأ مركز جديد للنشاط البشري التاريخي في شبه الجزيرة الاياطلية. كان الاتروسكان Etruscans الأُناس الأوائل في هذه المنطقة، حيث نظموا لمدنهم حلفاً من القرن الثامن وحتى السادس قبل الميلاد، ثم انتقل الدور الرئيسي الى اللاتين Latins، الذين أسسوا روما عام 753 قبل الميلاد في لاتيوم Latium، روشكلوا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد دولةً قوية والتي دخلت التاريخ باسم الجمهورية الرومانية.
كما تقدّم التوسع في المركز الثاني من المراكز التاريخية القديمة-الهند- أيضاً دون انقطاع. شمل هذا المركز عدداً مُتزايداً من المناطق حول نهر الغانج والجومنا Jumna. وفقاً للأسطورة، كانت توجد 16 ولاية في هذا الجزء من هندوستان في بداية القرن السادس قبل الميلاد. ثم بدأت عملية التاريخ بالانتشار أيضاً الى الجزء الأوسط من الهند، جنوب نهر الغانج. في القرن الرابع قبل الميلاد تزايدت قوة واحدة من أقدم الممالك الهندية وهي الماغادا Magadha في شمال شرق ووسط الهند. استمر التوسع في الأراضي التي احتضنها التاريخ. سيطرت الامبراطورية الماورية Mauryan على شبه الجزيرة بأكملها باستثناء الجزء الجنوبي منها في القرن الثالث قبل الميلاد والتي حلت محل الماغادا. ثم امتدت ودخلت الى المسرح التاريخي نحو جنوب الهند في القرن الثالث قبل الميلاد.
هذا التمدد للمركزين القديمين لتاريخ العالم جعلهما على اتصال مع بعضهما البعض، وكان التطور اللاحق لتاريخهما خاضع لظروف تواصلهما. ينطبق هذا بشكلٍ خاص على شمال غرب الهند، والذي أصبح في الوقت نفسه قاعدةً استيطانية شمالية غربية للعالم الهندي، وجنوبية شرقية لعالم آسيا الوسطى. وقد انعكس ذلك في انضمام هذا الجزء من الهند، لببعض الوقت، في دول الشرق الأدنى: فارس الأخمينية Achaemenid وامبراطورية الاسكندر. يرتبط تاريخ شمال غرب الهند أيضاً بمركز الشرق الأوسط. اندمجت هاتين المنطقتين معاً في دولة واحدة خلال فترة الامبراطورية الكوشانية Kushan.
كما تمدد مركز تاريخ العالم القديم الثالث، وهو الصين. خلال الألفية الأولى لم يقتصر دخول التيار العام للتاريخ على مناطق حوض نهر هوانغ هو، بل وشَمَل أيضاً المناطق المُحاذية لنهرٍ عظيمٍ آخر وهو نهر يانغسي yangtze river. تمددت الأراضي التي احتضنها التاريخ الى الشمال الشرقي أيضاً، نحو ما أصبح يُعرَف فيما بعد بمنشوريا، والى الشمال الغربي نحو ما صار منغوليا، والى الغرب باتجاه مقاطعة سيشوان Szechwanالحديثة، وأخيراً الى الجنوب الشرقي باتجاه فييتنام المُعاصرة. في القرن الثالث قبل الميلادـ دخلت كل تلك الأراضي المهولة في اتساعها ضمن امبراطورية تشين Ch in، وهي أول دولة تضم في نطاقها الصين بأكملها.
الى جانب هذا مركز تاريخ العالم القديم الثالث والمتوسع دوماً، نشأ مركز جديد للنشاط التاريخي باتجاه الغرب في آسيا الوسطى، كان روادها الرئيسيون هم الهان Hun. أنشأوا في القرن الثالث قبل الميلاد تحالفاً قَبَلياً كبيراً أُطلِقَ عليه في كثيرٍ من الأحيان دولة الهان، وقد غطّت مناطق شاسعةً من المُنطقة المُتاخمة لبايكال Baikal في الشمال وحتى التبت جنوباً، ومن تركستان الشرقية في الغرب الى وسط منطقة نهر هوانغ هو في الشرق. هذا المركز سيلعب لاحقاً، دور الرابط الذي يصل مركز الشرق الأقصى بمركز الشرق الأوسط.
وهكذا، بحلول نهاية الألفية الأولى قبل الميلاد، ظهرت الى الوجود منطقة نشاط بشري تاريخي من شعوب متصلة ببعضها البعض الى هذه الدرجة أو تلك. هذه المنطقة لا تتضمن ثلاثة مراكز فقط كما كان الحال في المرحلة الأولى من تاريخ العالم، بل ما لا يقل عن سبعة مراكز: الثلاثة الأقدم وهي الأوراسي-الافريقي والهندي والصيني، وتجيء شمال افريقيا قرطاجة، وجنوب أوروبا اللاتين، والشرق الأوسط، وآسيا الوسطى. يشمل التاريخ الآن الجزء الأكبر من شرق آسيا وجزء كبير من آسيا الوسطى، العديد من مناطق الشرق الأوسط وايران والهند ومعظم مناطق القوقاز وكل آسيا الصغرى ووادي النيل ومناطق مُختلفة من الساحل الافريقي البحر الأبيض المتوسط وجُزُر ايجه وشبه جزيرة البلقان وشواطئ البحر الأسود الشمالية وشبه جزيرة أبنين وصقلية وبعض الأجزاء الجنوبية من فرنسا واسبانيا.
استمر نمو هذه المنطقة بشكلٍ مطرد بعد ذلك، سواءاً من خلال التمدد في المناطق المُبكرة من التاريخ، أو من خلال ظهور مناطق جديدة. دَمَجَ نمو الجمهورية الرومانية في التاريخ جُزءاً جديداً من ساحل شمال افريقيا وهو أقسام من الساحل الشمالي للجزائر في القرن الثاني قبل الميلاد واسبانيا في القرن الأول قبل الميلاد وبلاد الغال وحتى بريطانيا لاحقاً. كان هذا هو المُحيط الغربي للمنطقة الافرو-أوراسية القديمة. تطور التاريخ أيضاً في المُحيط الشمالي للجزء الأوسط من هذه المنطقة المُتمثلة بالشواطئ الشمالية للبحر الأسود. كانت المملكة السكيثية Scythian موجودةً هنا في القرنين الرابع الى الثاني قبل الميلاد، ومركزها في شبه جزيرة القرم. خلال نفس الفترة امتدت مملكة بوسبوران (البوسفور) Bosporan على جانبي مضيق البوسفور، أي مضيق كيرتش. دخلت أيضاً دول الكولش Colchis وايبيريا وألبانيا في مجرى التاريخ.
لم يستطع المجال الافرو-آسيوي القديم التوسع الى الشمال الشرقي حيث وصل مُسبقاً منذ فترةٍ طويلة الى حدوده التاريخية-أي حدود المجال الهندي. ومع ذلك، توسعت العلاقات بين هذين المجالين وتعززت كثيراً. تثبتت أهمية هذه العلاقات من خلال التحول الذي بدأ مع القرن الرابع قبل الميلاد في كل هذا العالم الضخم، والذي يتكون من شمال غرب الهند وايران وباختريا وصوقديانا Sogdiana في وسط آسيا وآسيا الصغرى وسوريا ومصر وجُزر ايجه واليونان ومقدونيا على شبه جزيرة البلقان، هذا التحول الى مُجمّع ثقافي وتاريخي واحد شديد التفاعل والذي أصبح يُعرَف بالعالم الهيليني. امتد تأثير هذا العالم أيضاً الى دول غرب البحر الأبيض المتوسط ولا سيما ايطاليا. وصلت التأثيرات أيضاً الى دول شرق آسيا مثل الصين وكوريا وحتى اليابان.
كما توسّع المجال الهندي وتقدم نحو الجنوب والشرق. دخلت سيلان التي يقطنها مُهاجرون من هندوستان هذا المجال في القرن الخامس قبل الميلاد، وظهرت الدولة السنهالية Singhalese الأولى في القرن الثالث قبل الميلاد، وهاجر الهنود في تيارات متدفقة الى جُزر أندونيسيا، مما فعّلَ العلاقات بين هذه الأخيرة والمجال الهندي. تألفت النواة الاندونيسية اذاً من اقليم يتكون من الأجزاء المُجاورة لشبه جزيرة ملقا Malacca وسومطرة الشرقية وجاوة الغربية. نشأت أولى الدول الاندونيسية خلال القرون الأولى الميلادية على هذه المنطقة. لقد كانت دولاً هنديةً الى حدٍ كبير. توسعت مجموعة الأراضي الأندونيسية نفسها، ليس فقط من خلال اندماج المناطق الشرقية من اندونيسيا في الحياة التاريخية، ولكن من خلال استعمار مدغشقر البعيدة أيضاً. أدى استيطان هذه الجزيرة من قِبَل المُهاجرين الاندونيسيين الذين اختلطوا مع السكان المحليين الى تشكيل شعب المالغاش Malgash المُرتبط اثنياً بالاندونيسيين. كان للعلاقات الوثيقة بين المجالين الهندي والاندونيسي نتائج بعيدة المدى. نتيجةً لعلاقات الهند الطويلة مع ايران وآسيا الصُغرى بثقافتها الهيلينية، كان المجال الاندونيسي بذلك على اتصال مع المجال الافرو-آسيوي. كان الطريق البحري في المُحيط المؤدي من الهند الى الموانئ الجافاكية (من جزيرة جاوا الاندونيسية)-وهو اسم لدولة تشكلت في القرنين الثاني والأول- معروفاً لدى اليونانيين.
كما توسّعَت مجموعة الأراضي التاريخية القديمة الثالثة، أي الصينية. دخلت جنوب منشوريا والأجزاء المُجاورة لكوريا الشمالية مدارها في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد. تشكّلَ بدءاً من القرن الأول قبل الميلاد ثلاثة تحالفات قَبَلية كبيرة في شبه الجزيرة: كوجوريو Koguryo في الشمال وبيكشي Paekche في الجنوب الغربي وسيلا Silla في الجنوب الشرقي. في حين كان تطورها التاريخي مستقلاً، كانت كل هذه الأراضي تقع ضمن المجال الصيني. كانت اليابان ، ابتداءاً من القرن الأول قبل الميلاد أيضاً على اتصال بهذا المجال. تمدد المجال الصيني أيضاً الى الجنوب الشرقي. نشأت في القرن الثالث قبل الميلاد دولة نامفييت Namviet في جنوب الصين الحديثة، وضمّت الجزء الشمالي الشرقي من الهند الصينية. وقعت هذه المملكة تحت سلطة امبراطورية هان الصينية في القرن الثاني، ومنذ ذلك الوقت كانت العلاقات التاريخية بين هذا الجزء من الهند الصينية والصين وثيقة. في الوقت نفسه بزغَ فجر التاريخ على أجزاء أُخرى من شبه الجزيرة والتي سكنها قبائل مُختلفة من بينها البورمان التبتيين Tibetan-Burman والمونغخمير Muongkhmers. لقد أنشأت هذه القبائل دولاً في القرن الرابع قبل الميلاد. كانت شبه جزيرة الهند الصينية أيضاً ساحة للهجرة الهندية مما أدى، كما هو الحال مع أندونيسيا، الى هندنة Indianization أجزاء كثيرة من شبه الجزيرة. من ناحيةٍ أُخرى، تغلغل النفوذ الصيني من الشمال الشرقي مما أدى الى تصيين بعض المناطق ان اسم الهند الصينية الذي يُطلَق على شبه الجزيرة هذه لديه ما يُبرره جُغرافياً وتاريخياً.
وهكذا، بقيت في القرن الأول الميلادي أراضٍ شاسعة من شواطئ بحر الشمال وبحر البلطق في أقصى الغرب الى بحار أوخوتسك واليابان في الشرق الأقصى خارج نطاق التاريخ. كانت الحدود الشمالية لهذا الفضاء هي شاطئ المحيط المُتجمد الشمالي على طوله في أوروبا وآسيا. تتألف حدوده الجنوبية من المنطقة الواقعة شمال نهر الراين والدانوب شومال ساحل البحر الأسود والقوقاز كل هذا في أوروبا، وشمال وسط آسيا وتركستان الشرقية وصحراء غوبي Gobi وجبال سايان في آسيا. عاشت كل افريقيا القارية من مصر وأثيوبيا من الشرق، والى الجنوب من مناطق البحر الأبيض المتوسط وامتداداً الى المُحيط الأطلسي في الغرب حياتها الخاصة، معزولةً عن المناطق التي ناقشناها. تم العثور على "بُقَع بيضاء" أيضاً في نطاق الأراضي التاريخية. كانت أكثر المناطق أهميةً هي منطقة التبت الحالية، ودول الهمالايا وجنوب غرب الصين. بَقيَ الجزء الشرقي من الأرخبيل الأندونيسي خارج الحياة العامة للتاريخ. وكانت استراليا ونيوزيلندا لا تزال بدون اتصال على الاطلاق بحياة بقية العالم التاريخية العامة. استمرت حياة النصف الغربي من الكرة الأرضية، والذي يتكون من الأمريكيتين في اطارٍ من العُزلة التامة عن بلدان العالم القديم هذه. ان تاريخ هذه الأراضي المعروفة لنا-وعلى ما يبدو تاريخها الفعلي- قد تطوّرَ متأخراً الى حدٍ ما.
ان السياق اللاحق للنمو الاقليمي للتاريخ معروف جيداً. كان التمدد اللاحق الأكثر أهميةً هو دخول المناطق الأوروبية المذكورة أعلاه، أي الأجزاء الشمالية غرب وكل شرق أوروبا الى التيار الرئيسي للتاريخ. وهكذا، دخل الجزء الغربي من النصف الشمالي من أوروبا الى التيار الرئيسي للتاريخ مع نشوء مملكة الفرنكيين Franks في القرن الخامس الميلادي، ودخل الجزء الأوسط مع تشكّل ألمانيا، والجزء الاسكندنافي مع اقامة المملكة الدنماركية، ومع تشكّل تحالفات السلاف البلوبيانيين Polabian Slavs في القرنين السادس الى الثامن أصبحت منطقة الحوض الذي يمر فيه نهر لابا Laba والاودر Odra والفيستولا ضمن اطار التاريخ. في القرنين السادس والسابع ظهرت الدول في بوهيميا ومورافيا وسلوفينيا. أما أراضي بولندا فقد دخلت مجرى التاريخ في القرن السابع الى التاسع، ومع ظهور الدولة الروسية دخلت أوروبا الشرقية مجرى التاريخ العام.
استمر دخول المناطق الى التاريخ أيضاً في الجزء الآسيوي من القارة الأوراسية، سواءاً من أراضي شرق آسيا المذكورة أعلاه، وفي وقتٍ لاحق الى حدٍ كبير من أوروبا الشرقية. شكّلت قبائل تجو تشان Zhu-Zhan في المنطقة المُمتدة من سلسلة جبال خينجان Khingan الى تيين شان Tien shan في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس تحالفاً كبيراً. نشأ تحالف من القبائل التركية في القرن السادس يُطلق عليه المؤرخون عادةً اسم الخانية التركية Turk khanate في ألتاي Altai وسميريتشي Semireche على حدود مجال الشرق الأوسط القديم، وشَمِلَ هذا التحالف أراضي تجو تشان الواقعة في وسط آسيا، وحتى بعض أجزاء شمال شرق آسيا حتى شواطئ البحر الأصفر. وسّعَ الأتراك ممتلكاتهم في الشرق الأوسط وآسيا، وتوغلوا في الأراضي الواقعية بين سير داريا Syr Dar’ya وأمو داريا Amu-Dar’ya. امتدت غزواتهم الى مناطق جنوب شرق بحر قزوين. نتيجةً لذلك، أصبحت هذه المنطقة الجديدةى من التاريخ المكتوب على اتصال مع مناطق الشرق الأوسط وشرق آسيا، وكذلك مع الشريط الذي يمتد من ايران والشرق الأوسط عبر تركستان الشرقية وبعض أجزاء آسيا الوسطى الى الحدود الغربية للصين. في وقتٍ لاحق، دخلت منطقة منشوريا وحوض آمور المشهد التاريخي. في القرن الثامن تشكلت مملكة بوخاي Bokhai من مجموعة من القبائل المُختلفة في منشوريا التونغوسية Tungus. لعبت هذه المملكة بدورها دوراً مهماً في توسيع العاقات بين الصين من جهة وكوريا واليابان من جهةٍ أُخرى. أدى تشكّل الدولة المغولية في بداية القرن الثالث عشر الى تحوّل الاقليم بأكمله من شواطئ اليابان والبحر الأصفر وبحر الصين الشرقي وجنوب الصين الى الشرق الأوسط ويارتن بشكلٍ شامل، ثم عبر أوروبا الشرقية الى جبال الكاربات Carpathian Mountains، الى منطقة تاريخية واحدة غير منقطعة. بدأت المنطقة التي يُغطيها التاريخ، في وقتٍ لاحق، في التوسع الى آسيا من أوروبا الشرقية. في نهاية القرن الرابع عشر، قامت قبيلة نوجاي Nogai التي نشأت على طول نهر الفولغا بتوسيع ممتلكاتها الى نهر ارتيش Irtush، ونشأت في القرن الخامس عشر الخانية السيبيرية Sibir Khanate بين أنهار توبول وتورا وارتيش جالبةً سيبيريا الى التيار الرئيسي للتاريخ.
كما اختفت "البقعة البيضاء" التاريخية بين آسيا الوسطى والهند. ظهرت الدولة التبتية في القرن السابع، وتوسعت فيما بعد باتجاه الصين الغربية والشرق الأوسط. دخلت نيبال التاريخ. نتيجةً لذلك، تم استكمال المسارين القديمين من مجال شرق آسيا (أحدهما عبر تركستان الشرقية والشرق الأوسط، والآخر عبر بورما وآسام) بمسارٍ ثالث، وهو مسار التبت ونيبال. ظهرت في القرن الثامن دولة في القسم الجنوبي الغربي من الصين الحديثة، مُجاورةً للتبت من ناحية، وفييتنام من ناحيةٍ أُخرى، والتي تُعرَف في علم التأريخ بمملكة نانتشاو Nanchao.
يعود دخول افريقيا الى التاريخ الى دخول العرب الى الساحة التاريخية والتوسع العربي اللاحق في القرنين الثامن والتاسع، وتغلغل التجار العرب في هذا الجزء القديم من العالم، وقدّم الجغرافيون العرب المعلومات الأولى عن الأراضي والشعوب التي تسكن هناك. بدأ التاريخ المكتوب في عصور مصر القديمة على طول النيل الأوسط في أراضي شرق السودان. أصبح السودان معروفاً بفضل العرب. ظهرت دول في وقتٍ لاحق في هذه المنطقة، مثل غانا وسونغاي ومالي. صار الساحل الشرقي لافريقيا، من شبه الجزيرة الصومالية الى موزمبيق معروفاً أيضاً. ظهرت هناك مُدُن الموانئ العربية مثال ماليندي Malindi. من هنا انتقلت الطُرُق البحرية الى عدن ومُدن أُخرى في جنوب الجزيرة العربية، ومن هناك الى البحر الأحمر الى هرمز وموانئ أُخرى في خليج فارس وبحر العرب وفي النهاية الى كاليكوت ونقاط أُخرى على الشاطئ الغربي لهندوستان. وقد أثبتت رحلة فاسكو دا غاما الامكانيات الكبيرة التي كان العرب يمتلكونها في السيطرة على الطرق البحرية. بعد أن قام بالدوران في الجزء الذي كان لا يزال مجهولاً من الساحل الجنوبي الشرقي لأوروبا، سافر فاسكو الى ماليندي، وهناك شعَر أنه في بيئة عالمٍ مُتحضر، حيث لم تكن الرحلات الى كاليكوت غير مألوفة. لم يكن فاسكو دا غاما هو الذي اكتشف الطريق الى الهند بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كان القبطان العربي أحمد بن ماجد Ahmad ibn Mājid. تزايَدَ ادراج افريقيا القارية اللاحق ضمن التيار الرئيسي للتاريخ، في حقبة الغزو الاستعماري من قِبَل قوى أوروبا الغربية.
استمر تاريخ الشعوب الأمريكية بمعزلٍ عن الحياة القديمة للتاريخ حتى بداية الغزوات الاستعمارية الاسبانية. يبدو أن الحياة التاريخية هناك تطورت بشكلٍ أساسي على أراضي المكسيك والبيرو. كان المايا هم أول من أسسوا دولة على أراضي المكسيك. تبدأ البيانات التاريخية المُتعلقة بهم في القرن الرابع. نَشِطَ الانكا في البيروعلى المسرح التاريخي. يعود تشكيلهم لتحالفٍ قَبَلي الى القرن الثالث عشر.

***

تُظهِر الصورة التي رسمناها بوضوح أن العملية التاريخية تحوزُ على بُعدٍ مكاني. منذ التاريخ الأول الذي يُمكننا التقاطه، يتدفق تيار التاريخ الى منطقة دائمة الاتساع حتى تدخل التاريخ كل المناطق التي يُمكن تزدهر فيها الحياة البشرية. من الواضح أيضاً وجود بُعد آخر: حقيقة أن أقسام جديدة من البشرية كانت تدخل باستمرار الى الساحة التاريخية. تم هذا الدخول بطريقتين: في بعض الحالات تم استكمال المناطق القديمة بمناطق جديدة مأهولة بالشعوب التي كانت موجودةً حتى اللحظة خارج مدار التاريخ. وفي حالاتٍ أُخرى غادرت شعوبٌ جديدة مواقع سُكناها الأولى وتطفلت على حياة مناطق تاريخية قديمة. يُمكننا أن نستشهد على الطريقة الأولى بتاريخ شعوب اليابان وكوريا واللاتين في ايطاليا والكلتيين في بلاد الغال وما الى ذلك. وكأمثلة على الطريقة الثانية، يُمكننا الاستشهاد بهجرات الشعوب وعدد من الحالات التي تكررت كثيراً في التاريخ.
نحن نعرف مستوطنة المنطقة الميسينية Mycenaean وهي جزء من احدى المناطق التاريخية القديمة والتي نشأت في الألفية الثالثة قبل الميلاد من قِبَل القبائل اليونانية. استقر الآراميين في بداية الألفية الثانية في سوريا وفينيقيا وبابل وشمال بلاد ما بين النهرين. نشأت المستوطنة القوقازية الآسيوية الوسطى الكيميرية Cimmerians في القرن الثامن قبل الميلاد. ثم كانت هناك مستوطنة في المناطق الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من الصين الحالية التي تعود للسيانبي Sianbi والهان والكيدان Kidans والجورجين Jurjens في القرن الرابع قبل الميلاد. تحرّك القوطيون Goths والسارماشيون Sarmatians والسلافيون نحو البلقان وما وراءها الى النصف الجنوبي من وسط وغرب أوروبا. بدأ تحرّك الأتراك من ألتاي الى الشرق الأوسط وتركستان الشرقية والسهول الواقعة بين بحر آرال وبحر قزوين وما وراءهما الى سهول أوروبا الشرقية في القرن السادس الميلادي، ثم هاجروا ابتداءاً من القرن الحادي عشر من الشرق الأوسط والعراق وايران وآسيا الصغرى مع غزو أذربيجان وأرمينيا. بعد ذلك بدأ تحركهم الى شبه جزيرة البلقان ابتداءاً من القرن الرابع عشر. كما كان هناك تنقّل عربي ابتدأ من القرن السابع الميلادي الى فلسطين وسوريا وايران والشرق الأوسط في اتجاهٍ واحد، والى مصر ثم مناطق ساحل البحر الأبيض المتوسط في افريقيا ومن هناك الى اسبانيا في اتجاهٍ آخر. حدث تحرّك ثالث في شرق افريقيا. سكَنَ الاسبان جُزُر الهند الغربية في نهاية القرن الخامس عشر، ومن ثم أمريكا الوسطى والجنوبية، وبدأ الاستيطان الانجلوساكسوني في أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر. كانت كل هذه أشكال متنوعة من الهجرات وتحركات الشعوب حدثت في أزمنة مُختلفة وظروف تاريخية متنوعة ولكنها أدت الى نفس النتيجة: استيطان هذه الشعوب لأراضٍ جديدة، مصحوبةً بخضوع حكومات السكان الأصليين. ولم يكن من غير المألوف حالات الابادة الشاملة لهؤلاء السكان. وهكذا، ان استشهدنا بأمثلة من التاريخ الحديث فقط، فان الاسبان قد أبادوا بالكامل سكان جُزُر الكاريبي الأصليين، وأباد الهولنديون عدداً كبيراً من سكان جنوب افريقيا من البوشمِن Bushmen والهوتينتوت Hottentots والابادة الكاملة تقريباً لسكان تزمانيا Tasmania وجزء كبير من سكان استراليا وسكان أمريكا الشمالية الأصليين.
شكّلَت هجرات العديد من الشعوب ردود فعل متسلسلة، أي أن حركة شعبٍ ما، دفعت الشعوب الأُخرى الى الحركة. وهكذا، على سبيل المثال، كانت حركة الكيميريين الى آسيا الصُغرى مدفوعةً بضغط السكيثيين، الذين أجبروا الكيميريين على ترك أماكن استيطانهم الأولى. انتقل السكيثيون، بدورهم، الى أراضي الكيميريين تحت ضغط الماساغيتيين Massagetae. أدت حركة الهان التي بدأت في القرن الأول قبل الميلاد على أسوار الصين وانتهت في القرن بعد الميلاد في وسط أوروبا، الى انتقال عدد كبير من قبائل آسي الوسطى والشرق الأوسط ثم قبائل جنوب أوروبا. أخَذّ المغول معهم في تحرهم الى الشرق والغرب مجموعةً من القبائل والشعوب المتنوعة.
في خِضَم هذه الهجرات العظيمة اختفت قبائل وشعوب معينة، بينما صار بعضها الآخر أقوى وأشد. حدث هناك اندماج للقبائل، مما أدى الى بعض التغير في الطابع الاثني للقبائل الأكثر استقراراً، أو الى تكوّن شعوب جديدة. على سبيل المثال، انحلّ الهان وسيانبي وكيدان والجورجين الذين هاجروا الى الصين تماماً في السكان الصينيين. أدت هجرة القبائل الجرمانية من أوروبا الشرقية الى أوروبا الوسطى والغربية الى اختلاط الوافدين الجُدد والسكان السابقين وصاروا أساساً لتشكّل شعوب أوروبا الغربية الحديثين كالبريطانيين والفرنسيين والاسبان والايطاليين والألمان.
وهكذا، تم، بشكل تدريجي، استعمار أراضي كوكبنا المُناسبة لحياة البشر وغزوها، في سياق التطور التاريخي. أدت عملية الاتصال المعقد للغاية بين أقسام البشرية الى تكوين مجموعات اثنية مُختلطة مستقرة، وتحوّلت الشعوب الى أُمم، وتشكلت المجموعات اللغوية، التي تشكلت لغات فردية في اطارها. تغيّرت الأهمية الاجتماعية للغات: أصبحت اللغات القَبَلية لغات شعوب، وتطورت هذه بدورها الى لغات أُممية. لم تكن العملية التاريخية، في كلٍ من هذه الجوانب، فوضويةً على الاطلاق، بل كانت ذات اتجاه مُحدد.

***

ان للعملية التاريخية اتجاهاً واضحاً في مجال النشاط البشري، وخاصةً الاقتصاد. لقد واجه الانسان دوماً، كما هو الحال الآن، مُشكلة ضمان الظروف المادية لوجوده على الأرض. حدد الفكر الصيني القديم هذه الشروط في صيغة موجزة: "الملابس، الطعام، المَسكن". ان تاريخ النشاط الاقتصادي للانسان، وتاريخ التكنولوجيا وانتاج السِلَع الملموسة هو خلق أشكال "الملابس، الطعام، المسكن" يما يتوافق مع الظروف الجغرافية التي يعيش فيها الانسان، والظروف الاجتماعية التي التي تتقدم حياته من خلالها والمتطلبات التي تخلقها هذه الظروف. فقط استخدام الموارد الطبيعية يجعل من هذا مُمكناً، لكن هذا الاستخدام يتطلب شُغلاً. ان هذا الشُغل ليس فقط مطلوب، بل ضروري في أشكال أكثر فاعليةً باستمرار، مُتحدداً بعاملين: التكنيكي والاجتماعي.
في جانبها التقني، تعتمد الفعالية على توافر أدوات العمل وجودتها، وعلى درجة السيطرة على قوى الطبيعة. يتضح هذا بوضوح من خلال العملية التاريخية. نرى العصر الحجري، يليه عصر المعادن حيث العصر النحاسي والعصر البرونزي والعصر الحديدي والذي لا يزال البشر موجودون فيه في الوقت الحاضر. لكن الخطوط العريضة لعصر البوليمرات قد يكون قريباً بالفعل، وربما قد يتحدث الأركيولوجيين في المستقبل يوماً ما عن حقبتين تقنيتين عظيمتين: عصر المواد الطبيعية التي خلقتها الطبيعية، وعصر المواد الاصطناعية، أي تلك التي خلقها الانسان. في نفس الوقت نُلاحظ سيطرة الانسان التدريجية على قوى الطبيعية: طاقة النار، الماء، البخار، الكهرباء، الكهرومغناطيسية والاشعاعية. يُمكننا أن نرى حالياً السيطرة على الطاقة الذرية، أي طاقة المادة الأولية للطبيعة، وحتى طاقة الكون في التفاعلات النووية الحرارية. ومع ذلك، فان كفاءة العمل لا تعتمد فقط على مستوى التكنولوجيا، بل تتحدد أيضاً من خلال أشكال تنظيم العمل، وهذه الأشكال، بدورها، مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية الموجودة في زمنٍ مُحدد.
يبدأ الوجود البشري حقاً عندما يبدأ الانسان في العمل بشكلٍ مُشترك مع الآخرين. تظهر أنواع مختلفة من العلاقات الاجتماعية في سياق هذا الوجود. يعضها يقوم على تعاون البشر المبني على المساواة، والبعض الآخر يقوم على استغلال البعض من قِبَل البعض الآخر. ان أقدم شكل من أشكال المُجتمع في الفئة الأولى هو المشاعات. يَنتُج عن الاستغلال أشكال مُختلفة من العلاقات الاجتماعية، من بينها نوعان يتحددان بأشد الوضوح: الاستغلال بالاكراه غير الاقتصادي، أي بالسلطة المُطلقة، والاستغلال بالاكراه الاقتصادي. يتضمن كلا النموذجين تنويعات تُحددها علاقات المُستَغلين المُختلفة بأدوات ووسائل الانتاج، بالاضافة مواقع مُختلفة يشغلها الاستغلاليين.
ان التنويعات من هذا النمط التي يُمكن تحديدها في هذا المجال من تاريخ البشرية كثيرة بالفعل. بعضها انتقالي، وبعضها الآخر دائم. نحن نرى العبودية والتبعية والحرية في تمظهرات ودرجات مُختلفة. لقد مرت البشرية بهذه الظروف المتنوعة طوال فترة وجودها. كانت في كثيرٍ من الأحيان موجودةً في زمنٍ واحد، وقد لوحِظَ هذا ليس فقط داخل مجموعات مُختلفة من البشر على مستويات مختلفة من التطور الاجتماعي وحسب، بل وحتى داخل مجموعة واحدة أيضاً. وهكذا، على سبيل المثال، تواجدت في انجلترا وفرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث كانتا دولتين متقدمتين في ذلك الوقت، أُمراء اقطاعيين قروسطيين تقريباً جنباً الى جنب مع رأسماليين برجوازيين ومُلّاك عبيد في ممتلكاتهم الاستعمارية في شمال أمريكا.
تتحدد العلاقات الانتاجية من خلال طبيعة انتاج السِلَع وأشكال النشاط الاقتصادي، لكنها بدورها تؤثر على أشكال النشاط الاقتصادي وطابع الانتاج. قد تكون هذه العملية ذات الوجهين مُتناغمة في المُحتوى ان كانت حالة قوى الانتاج وشكل المُجتمع متطابقين، وقد تكون غير مُنسجمة ان لم يكن هذا التطابق حاضراً. كما نعلم، عندما يصير هذا اللاتطابق حاداً بشكلٍ خاص، يتم استبدال الشكل الحالي للمُجتمع بآخر يتم فيه استعادة التطابق، أو يكون هذا اللاتطابق فيه أقل وضوحاً. ان قمنا بتتبع مسار التاريخ في هذا الجانب، فاننا سنجد أن هذا الاستبدال يحدث، بشكلٍ عام، كتلاشٍ تدريجي للأشكال التي تنطوي على الاكراه غير الاقتصادي، والانتقال الى أشكال قائمة على اكراهٍ اقتصادي.
يشكف هذا الاتجاه عن الطبيعة الذاهبة باتجاه التقدم وليس الطبيعة المُتكررة للعملية التاريخية. لا شك أن جميع أشكال المُجتمع التي تقوم على استغلال الانسان للانسان تنطوي على مُعاناة الغالبية العُظمى من البشر. ومع ذلك، فهي لا تُشكّل مظهراً من مظاهر الارادة الشريرة لشخصٍ ما. لقد خلقها التاريخ نفسه، من خلال الظروف التي جعل الانسان نفسه في ظلها سيد موارد الطبيعة وقواها. أجبر المستوى المُنخفض لهذه السيطرة على استبدال القوة البشرية بالأدوات، أو استخدام القوة البشرية كأداة مُساعدة للأدوات المُتاحة. حوّلَ هذا قسماً من البشرية الى أدوات انتاج حية، أي الى عبيد. يحدث موقف آخر عندما يعمل الانسان بأدوات حديثة ويتحكم في أعتى قوى الطبيعة. قام البشر، بطريقةٍ أو بأُخرى، عن طريق الأشكال الاجتماعية المُشار اليها، بالاقتران مع عملية تزايد السيطرة على قوى الطبيعة، بتوسيع نطاق انتاجه باستمرار بحيث لا يُلبي احياجات فرد واحد، ولا مجموعة ضيقة، بل احتياجات المُجتمع ككل. وقد امتد هذا بشكلٍ مُتزايد عبر حدود الدولة، وهناك امكانية في عصرنا ليمتد الى البشرية جمعاء.
اليوم تم انشاء المُتطلبات المادية الأساسية لوجود عدد غير محدود من السكان على الأرض. ولكن من الضرروري من أجل هذا اقامة التطابق المطلوب بين مُستوى القوى المُنتجة وأشكال المُجتمع، اي اقامة نظام اجتماعي يجعل من المُمكن تحويل هذه المُتطلبات الى واقع. لقد رأينا، على مدار التاريخ، اختفاء العبودية في شكلها التاريخي، والقنانة كذلك. نرى كذلك، أنه في أجزاء من الكرة الأرضية يتم استبدال الاستغلال الرأسمالي بالعمل الحر الخالي من الاستغلال. في ضوء ما سَبَق، فان هذا المنظور واقعي تماماً. ونتيجةً لذلك، يُمكننا أن نرى بوضوحٍ خاص، ليس فقط حقيقة أن التاريخ يحوي الاتجاه الى التقدم، بل أنه بطبيعته أصلاً يتقدم الى الأمام أكثر من كونه متكرراً.

***

بينما يتحرك الانسان عبر التاريخ، ينخرط في بحثٍ مُكثّف عن المعرفة. يحدث هذا في جميع الأزمان لأن هذا ما تتطلبه حياته الفيزيقية وحياته في المٌجتمع. يتركز بحثه عن المعرفة الاجتماعية والطبيعية على السواء. وبالتالي، نظراً لأن هذا البحث نابع من الخبرة وخضوعه باستمرار للتحقق من خلال الممارسة والتجربة، فان البحث يؤدي الى توسّع المعرفة حول الطبيعة والمُجتمع. ومع ذلك، فان جهود الانسان لكي يجد معنىً ما للعالم من حوله تتمظهر بقوةٍ هائلة في سياق نشاطه.
لقد اتخذ هذا البحث عن المعنى أشكالاً مُختلفة. في الصين القديمة، كان يُعتَبَر وجود الطبيعة والانسان نتيجةً لأنشطة ثلاث قوى: "السماء، الأرض، الانسان". السماء تعني ظواهر مثل تعاقب الليل والنهار وفصول السنة والمناخ والطقس والظواهر في الغلاف الجوي. الأرض تعني التربة والخضروات وعالم الحيوان والمعادن وما الى ذلك. وقد تم وضع الانسان وقدراته على قدم المساواة مع هذه العناصر. لقد طوّرَ البحث العبري القديم عن المعنى مفهوم الانسان باعتباره "تاج الخليقة"، أي الانسان السيد والقائم بالحكم على كل شيء تقدمه له الطبيعة وتضعه تحت تصرفه. طوّرَ العديد من شعوب العالم القديم الأُخرى مفهوماً آخراً، حول كون أن قوى الطبيعة تقمع الانسان، ولكنه قادرٌ على مقاومتها، بل وحتى السيطرة عليها ولكن فقط بمساعدة بعض القُوى الخارجية. يُقدّم تاريخ بحث الانسان عن المعنى في الطبيعة ومكانه فيها وعلاقته بقواها، الصورة الأكثر تعقيداً لتطورات ووتغيرات الصراع بين هذه المفاهيم الثلاثة. كانت كُل واحدة من هذه المفاهيم تجد لها، من خلال هذا الصراع، براهين جديدة لتدعمها وتفسيرات مُختلفة، وتنشأ تنويعات جديدة لاحقاً. ومع ذلك، كان هناك مسعىً واحد لكل هذا: كل كل شيء قائماً على الجُهد المبذول لايجاد طرق ووسائل الوصول الى سيطرة أكبر على موارد وقوى الطبيعة من أجل تلبية الحاجات المُتزايدة باطراد عليها. ان هذا الاتجاه، والمسار نحو التقدم وليس المسار التكراري في هذا الصدد، ليس موضع شك.
كان بحث الانسان عن المعرفة أيضاً يركز على حياته في المُجتمع. في العصور القديمة، في الصين حتى في النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد، كان يُنظَر الى حياة المُجتمع على أنها نشاط "العلاقات الخمس": الحُكّام والمحكومون، الآباء والأطفال، الزوج والزوجة، الأشقاء الكبار والصغار، وأخيراً الأصدقاء. ليس من الصعب أن نرى في هذه الصيغة المفاهيم التي نُطلق عليها الأُسرة والمُجتمع والدولة. ان كل مفاهيم المُجتمع الأُخرى تقوم على هذا الأساس: الاجتماعي والشخصي، الاكراه والحرية، الهيمنة والخضوع، الحقوق والواجبات، الشرعية والعسف، العدل والظلم، الخير والشر الاجتماعيين، مآثر البطولة ومثالب الجريمة، الخ. وهذه كانت تُفهم بطُرُق متنوعة. كانت الاختلافات شديدة فيما يتعلق بدرجة أهمية كلٍ منها، وحتى بدرجة ضرورتها. كان مبدأ آرك (Arkhe) كرمز لنظام تُقيمه معايير عالمية والزامية ضرورية لوجود البشرية، يُقابله مبدأ آخر يتحداه، وهو مبدأ الأنارك "Anarchy" أي غياب السُلطة، وهو رمز اجتماعي يخلو من كل اكراه. في فجر عصرنا، تصوّر الشاعر الروماني بوبليوس اوفيديوس ناسو Ovid مُجتمعاً أطلق عليه "العصر الذهبي"، وهو عصر يتمسك فيه الناس بـ"ايمانٍ عميق ومبادئ سامية، لم يشرع لهم قانون يلزمون حدوده أو يخافون عقابه، وعاشوا ليس لهم وازعٌ غير الضمير: فلا قُضاةٌ يفصلون بينهم، ولا حكامٌ يجازونهم، اذ لم يكن ثمة نزاعٌ أو عداون"(5). بغض النظر عن مدى الاختلاف في فهم هذه المفاهيم ومدى الصراع المرير التي خاضتها ضد بعضها البعض، وعمل العقل البشري المُستمر لاكتشاف أحدها والتحقق من صحته وتأكيده ونفي الآخر، فان كل هذا هو دليل واضح على المسار التقدمي لبحث الانسان عن المعرفة في هذا المجال.
يكشف التاريخ بنفس القدر عن بحث الانسان حول نفسه. "اعرف نفسك" هو النقش الذي رُسِمَ، حسب الأسطورة، على بوابات معبد ديلفي أوراكل Delphic oracle، والذي شدد على السؤال الذي واجه الانسان بشكلٍ أو بآخر بدءاً من أبكر مرحلة من مراحل حياته التاريخية. لم يكن هذا في شكله الأولي سؤالاً تم تقديم اجابة عليه بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كان قناعاتٍ داخلية، أو بالأحرى، تصوراً عن الذات. اعتبر الانسان نفسه، بوعي أو من غير وعيٍ منه، كائناً عقلانياً في المقام الأول، وكائناً اجتماعياً في المقام الثاني. هذا التصور الذاتي مُستمد من التجربة المُباشرة ومن المُلاحظات المُباشرة لنفسه وللآخرين من حوله، وتعزز من خلال توسّع الخبرة والملاحظة. باختصار، اعتبر الانسان نفسه ما عرّفه البيولوجيين لاحقاً: الانسان العاقل Homo Sapiens، وفي نفس الوقت وصفه أرسطو بأنه حيوان سياسي Zoon Politikon.
تجلّى تصور الانسان عن نفسه ككائن عقلاني في بحثه عن المعرفة وفي عمله الابداعي. مع تطور هذا التصور، تم ادماجه مع الجهد لتفسير أصل العقل باعتباره الصفة المُميزة للانسان. وقد أدّى هذا التفسير الى انبثاق مفهومين حوله: مفهوم التلقّي، ومفهوم التحصيل. يقضي المفهوم الأول بأنه تلقى عقله من كائنٍ أعلى منه، ويأخذ هذا الكائن عادةً شكل الاله. وهكذا، أكدت المسيحية، واليهودية قبلها أن الاله خلق الانسان على "صورته"، لكنها كانت لا تزال تتحدث عن ولادة المسيح باعتبارها ظهور "نور العقل". أما المفهوم الثاني يقضي بأن الانسان يُحصّل مَلَكة العقل من خلال وجوده ذاته كشكل خاص من أشكال الوجود، والذي يُميزه عن أي كائن آخر. تجلّى هذا المفهوم بشكلٍ كبير في البوذية، التي تقول بأن كل ما هو موجود، بما في ذلك الانسان، يتكون من حُزَمٍ من الخيوط المترابطة والقوية التي تمر عبر تيارٍ من الوجود الذي لا يحوز أي بداية أو نهاية، وتتجلى في مجموعة متنوعة من التمظهرات المُختلفة. ان خاصية العقل هي فقط تلك التي تُميّز حُزمة معينة من الخيوط تُسمّى الانسان.
تمثّلَ هذين الموقفين في التاريخ من خلال عدد لا حصر له من التنويعات الفكرية، مُعبراً عنها بأساطير وأقوال وخرافات وأغاني شعرية ومفاهيم دينية وفلسفية وعلمية. وبالتالي، يُمكن أن نعتبر أن مفهوم العقل الذي تم تلقيه من كائنٍ أعلى، بأن هذا الكائن يمتلك هذه الخاصية أصلاً وهو غير راغب بتقديمها للبشر. تم التعبير عن هذا التصوّر في اسطورة بروميثيوس الذي سَرَقَ النار من زيوس. يُمكن أن يُفهَم تلقّي العقل من كائنٍ أعلى على أنه فعل طبيعي بحكم قرب البشر من هذا الكائن أو حتى بسبب التطابق معه. تم التعبير عن هذا التصور في اليهودية التي تحدث عن خلق الانسان على صورة الاله، وفي الاوبانيشاد Upanishads الهندية التي تؤكد تطابق الاله والانسان، وفي شكل آخر طرحه المفهوم اليوناني القديم عن الآلهة التي تُشبه البشر في كل شيء.
غالباً ما يتم العثور على المفهوم القائل بأن الانسان قد حصّلَ العقل بشكلٍ مستقل بالاقتران مع فكرة أن هذه الخاصية مُتأصلة فيه، وبالتالي يتم التأكيد في تعاليم الشارفاكا Charvaka الهندوسية الهندية القديمة أن العقل هو خاصية لوجود الانسان الجسدي. يشبه هذا المفهوم أحد تعاليم الصينيين القدامى الذين قالوا بوجود ثلاث صفات متأصلة في الانسان: العقل، الانسانية، الشجاعة. هذا الأفكار مُشابهة جداً لتلك التي نُشير اليها بعبارة: "العقل، الحساسية، الارادة". يُمكن أن تندمج التصورات حول الاكتساب المُستقل للعقل، مع الأفكار التي تتصور تطور هذه الخاصية عند المرء في سياق خبرة العمل والكفاح والحياة. وهكذا، فان تاريخ بحث الانسان عن المعرفة، في هذا الصدد، هو صورة لجهدٍ فكري متواصل ركّزَ على طُرُق استيعاب الثروات الفكرية الهائلة ومفهمتها والتعبير عنها بالأمثلة والرموز.
ركزّ بحث الانسان عن المعرفة أيضاً على مسألة حل أبسط الأسئلة: جوهر عملية الحياة ذاتها.
لم يكن هذا السؤال تجريدياً بأي حالٍ من الأحوال، فقد كان نشاط الانسان بحد ذاته هو المسؤول عن طرح المسألة. ان هذا السؤال يتقدم بأكثر أشكاله عموميةً كما يلي: هل تسير كامل حياة الانسان بشكلٍ مُستقل عن ارادته ورغبته، أم هل يُحدد الانسان بنفسه طريقه ومصيره؟ وانطلاقاً من مصير الانسان الفردي، انتقل السؤال الى مصير حياة المُجتمع ككل، وأخيراً الى مصير وجود العالم برمته. طُرِحَت اجابات مُختلفة على هذا السؤال، ولكن كان أقدم الاجابات وأكثرهما نموذجيةً اثنتين: ان حياة ومصير الانسان والمُجتمع والعالم بأسره يسير بشكلٍ مستقل عن ارادة الانسان ورغباته، والاجابة الثانية كانت تؤكد أن مصير الانسان والمُجتمع يُحدده البشر أنفسهم. في الأول يُحدد مسار الانسان والمُجتمع والعالم كائنٌ كان يُعتبر الهاً، أو قَدَراً، أو قوةً قانونية تعمل بشكلٍ مُستقل عن ارادة الانسان. في الثاني يُعتَبَر الانسان نفسه خالق حياة ومصير الانسان والمُجتمع وخالق قوانينه. كان هناك اجابة ثالثة، وهي في الواقع الأكثر شيوعاً: تحكم حياة ومصير الانسان والمُجتمع والطبيعة قوة من نوعٍ خاص يُمكن للانسان أن يؤثر عليها بالصلاة والقرابين والتهديدات وتطبيق القوى الخاصة الموجودة في تصرف الانسان، والتي حتى الآلهة تخضع لها. وأخيراً، هناك فكرة تقول كذلك بأن أي حياة تسير وفقاً للثوانين، ولكن هذه القوانين خلقتها الحياة نفسها ولا يستطيع الانسان فهمها أو السيطرة عليها بأي شكلٍ من الأشكال.
يُظهِر تاريخ الدين والفلسفة صورة معقدة ومتنوعة تمت فيها صياغة تنويعات كثيرة منها. ومع ذلك، فان الفكرة الأكثر شيوعاً من هذه المقاربات هي وجود مبدأين يحكمان الوجود. واحدة من أبسط التنويعات عن هذا المفهوم تطرحها رموز يهوه والشيطان Jehovah and Satan، واورموزد واهريمان Ormuzd and Ahriman. يرتكز هذا المفهوم على المُلاحظة الحياتية لما هو نافع وضار للانسان والطبيعة، كالخير والشر. تعبير بسيط آخر بنفس القَدَر عن هذه الفكرة، والذي تأسس أيضاً على المُلاحظة، وهو رموز الأضداد: النور والظلام، الحرارة والبرودة، القاسي واللين، الشيخوخة والشباب، الرجل والمرأة، الخ. هناك أيضاً مفهوم القوتان يانغ ويين Yang and Yin والذي طوره الصينيين القُدامى، ومفهوم الأضداد الذي أنشأه الفكر اليوناني وعبّرَ عنه فيثاغورس. تم التعبير هم مفهوم مماثل في رمزية الأرقام عند اليونانيين القُدامى، والرموز الخطّية عند الصينيين القُدامى: الأول يُرمَز له بخطٍ واحد، والثاني يُرمز بخط مُقسّم الى جُزأين. وهذا يُعبّر عن فكرة عمل قُوى الوحدة والانقسام والتكامل والتمايز. تم تطوير نموذج لحركة هاتين القوتين وعُبِرَ عنهما في رموزٍ بيانية صوّرَت عملية التطور المُتعاقبة للتركيبات والانتقالات واستبدالها. يتم تصوير مبدأ عملية الحياة، في البوذية، بصيغة السبب-النتيجة، مع ادراك أن كل سبب يؤدي الى نتيجة، وأن النتيجة تُصبح هدفاً.
وهكذا، وبغض النظر عن مجال بحث الانسان عن المعرفة الذي نتحدث عنه، يكشف التاريخ عن جُهدٍ بشري عقلي متواصلٍ وكبير لفهم كل ما يتعلق بالمُجتمع والطبيعة والانسان نفسه. ظهرت أسئلة جديدة في سياق هذا الجُهد، وتغيّرَ مُحتوى الأسئلة القديمة كما تغير فهمها، وتطورت مناهج كثيرة لحلها. كانت هناك، بشكلٍ عام، عملية مُعقدة ومتناقضة ولكنها غير مُنقطعة لتوسيع المعارف وتنقيح تفاصيلها، وفي نفس الوقت كانت المعرفة تخدم دائماً الأهداف التي تطرحها الحياة على مجموعة من الناس أو على البشرية جمعاء. يتم وضع هذه الأهداف باستمرار في شكل أكثر تعقيداً أكثر مما مضى، ويشير البحث عن المعرفة التي تدمج خبرة البحث السابقة، بدرجةٍ أو بأُخرى، الى طرق ووسائل حل تلك المشكلات.
ان كان الانسان ولا يزال هو خالق التاريخ، فان التاريخ بدوره كان ولا يزال هو خالق الانسان. ان النظام الاجتماعي الذي أنشأه الانسان يُشكّل ويصوغ الانسان نفسه. ان المعرفة من صنع الانسان، لكنها بدورها تصنع عقله. لذلك، يتطور الانسان نفسه من كلا الجانبين، ككائن عقلاني وكائن اجتماعي في سياق التاريخ وفي نشاطه الاقتصادي والاجتماعي الذي يرتبط دائماً بالبحث عن المعرفة. انه لدى السؤال حول ما يُمكن اعتباره "تحسيناً" للانسان اجاباتٍ عديدة، وقد قام الفكر الصيني القديم بطرح واحدة من أقدم الاجابات التي اشتُقّت من فكرة طبيعة الانسان كحيوان عقلاني واجتماعي، والتي توفّر على الأرجح، أكثر معيار من حيث اتساع نطاق تبنيه من أجل القياس: يفهم الانسان "الأشياء"، أي العالم بأسره من حوله وكذلك نفسه، وهو يخلق المعرفة على هذا الأساس. المعرفة تجعل أفكاره متطابقةً مع الحقيقة، وينتُج عن صحة أفكاره "صحة القلب"، أي بكلماتٍ أُخرى العواطف. تتحسن شخصية الانسان من خلال كل هذا. عندما تكون شخصية الانسان كاملة تكون الاسرة في أحسن أوضاعها وتُحكَم الدولة بشكلٍ صحيح وبذلك يسود السلام على كل شيء تحت سقف السماء.
بهذا الشكل أو ذاك، فان فكرة امكانية وضرورة تحسين الانسان والعلاقة بين حالة المُجتمع التي يُمكن فيها تحسين الانسان تُلاحق فكر الانسان طوال تاريخه بأكمله. يتميز المفهوم الصيني القديم المذكور أعلاه بالاقتناع أن الكمال الشخصي يبدأ بتحصيل معرفة "الأشياء"، أي عالم الوجود الموضوعي. بمعنىً آخر، أنه يبدأ بعمل العقل بناءاً على الخبرة والتجربة. لا تقل أهميةً في هذا المفهوم، الفكرة حول أن نشاط الانسان يتركز على هدف واحد أثناء تحسين شخصيته وأوضاعه الاجتماعية والحكومية: تحقيق السلام في "العالم بأسره"، أي على الأرض حيث يعيش البشر. تمت صياغة الكلمات القديمة حول "السلام على الأرض" و"حُسن النية تجاه البشر" في أزمنة أُخرى وبين شعوب متنوعة وفي اطار منظومات مفاهيمية مُتعددة. لكنها كانت تتحدث حول الشيء نفسه، أي حول "نور العقل" على وجه التحديد. تحمل هذه التعبيرات وما شابهها-وهناك عدد كبير منها-بصمة الحلم الأزلي الأبدي للانسان حول وجودٍ بشريٍ حقيقي.

***

لغة البشر هي مؤشر واضح ومباشر بشكلٍ استثنائي على تطور الانسان الفكري. تتحقق المعرفة بالفكر، لكن الفكر يأخذ شكلاً مُحدداً و"ملموساً" فقط في الاطار الصوتي. يقول ماركس: "ان اللغة قديمة قِدَم الوعي، فاللغة هي الوعي الفعلي، العملي، الموجود أيضاً من البشر الآخرين، وبالتالي موجود اذاً، كذلك بصورة فعلية من أجلي فقط"(6). لذلك يُمكننا من خلال اللغة أن نحكم على حالة الفكر وعملياته ومستواه.
نحن نجد في كل لغة، عدد من الكُليات وعدد آخر من الجُزئيات بهذا الشكل أو ذاك. يتكون فعل اللغة كتعبير عن فعل الادراك من معرفة العلاقة بين الظواهر المُختلفة التي يتم فهمها في اطار اللغة، أو في الكشف عن الكُل على أنه وحدة أجزاءه. يكشف فعل الاندماج والتمايز هذا عن مُحتوى العالم الموضوعي حيث تُشكّل جميع الظاهرات كياناتٍ بذاتها من ناحية، وتشكيلة من عناصر متنوعة من ناحيةٍ أُخرى. هذا يعني، أن الفكر، كوظيفة للعقل، يُحدده الوجود وهو يتلائم معه وهذا يخلق امكانية أن يتمكن العقل من الوصول الى معرفة كافية عن الواقع. يُمكن استيعاب الواقع بلغة المفاهيم والصور والرموز. ان لغة المفاهيم هي أداة العلم، ولُغة الصور هي أداة الابداع الأدبي والرموز هي لغة الأساطير.ولكن يُمكن لهذا أن يكون صحيحاً عندما نتحدث فقط عن أشكال الفكر "النقية" من خلال المفاهيم والصور والرموز ان جاز التعبير، على الرغم من عدم وجود مثل هذه الأشكال النقية في الواقع. لا يستطيع الابداع الأدبي أن يستغني عن لغات المفاهيم والرموز. لا يُمكن تصوّر الأساطير بدون الصور. بينما لا نجد الرموز في الأدب ولا سيما الشعر وحسب، بل وفي العلم أيضاً. انهم يطرحون في هذا الأخير الرموز الرياضية والصِيَغ الكيميائية وما الى ذلك. كل هذا يُصبت التنوع الكبير في أشكال الفكر والطبيعة مُتعددة الجوانب لاستيعاب الانسان للواقع بعمق، اي التغلغل الى جوهر الظواهر المُراد فهمها.
اللغة هي أيضاً وسيلة تواصل انها على حد تعبير ماركس، "مثل الوعي" "تنشأ من الحاجة، من الضرورة المُلحة للتعامل مع البشر الآخرين"(7). هذه الوظيفة الأخيرة، تكشف عن الطبيعة الاجتماعية للانسان، ولكن يجب أن لا يُفهم التواصل على أنه عملية استخراج Externalization: ان التواصل يتضمن الفهم، قبل كل شيء. التواصل من خلال اللغة مُمكن فقط لأن اللغة تحتوي على فئات وأشكال فكرية مُشتركة لمجموعة مُعينة، والسبب في ذلك أن المفاهيم والصور والرموز تُوضَع في تعبيرات تمتلك نفس المعنى لجميع من هم في المجموعة. اللغة ليست فقط أداة تواصل ونشاط مُشترك، ولكنها أيضاً تعبير عن التواصل الفكري بين أفراد المجموعة المُعطاة. وليس من دون سبب أن نعتبر اللغة عنصراً من أهم عناصر الأمة، وهي أعلى شكل من أشكال الوحدة الاجتماعية التي حققتها الانسانية حتى الآن.
يُبرهن التاريخ والواقع المُعاصر على وجود عدد هائل من اللغات، مما يُثبت مدى تنوع المسارات التي استوعب من خلالها الانسان معنى الواقع ويستوعبه اليوم، ومدى تعدد وتنوع أشكال التعبير اللعوي عن هذا الوعي بالعالم المُحيط. لكن في الوقت نفسه، تكشف لنا العملية التاريخية أن هذه اللغات تقترب من باستمرار من بعضها. لا يتأتى من ذلك أن هناك لغة واحدة ستنشأ من مجموعة مختلفة من اللغات. لا تكمن عقبة التواصل الجماهيري عبر قناة اللغة في الاختلاف بين اللغات بحد ذاته، بل بسبب الاختلاف في التركيب السيمانطيقي للغات المُختلفة، أي الاختلاف في محتواها وعدد المفاهيم والصور والرموز والاختلاف في معناها والاختلاف في شروط وامكانيات ربط هذه المفاهيم والصور والرموز. يتطلب التواصل الجماهيري والنشاط المُشترك للانسان فهم ما يقوله الانسان الآخر بغض النظر عن اللغة التي يتحدث بها، وأي فهم من هذا القبيل مبني على تشابه المستويات الفكرية، وبالتالي، على مستوى التعليم والثقافة في التحليل النهائي. فَهِمَ الرومان واليونانيون بعضهم بعضاً في العصر الهيليني ليس فقط لأن كثيرين منهم كانوا يعرفون كلتا اللغتين، ولكن تعلّم كلٌ منهم لغة الآخر بسهولة لأن الشعبين كانا يقفان على نفس المستوى من التطور الفكري، وكان لديهم ثقافة مُتطابقة تقريباً. لقد فَهِمَ الكوريون واليابانيون الصينيين في العصور الوسطى ليس فقط لأنهم كانوا يعرفون اللغة الصينية، ولكن لأن محتوى تفكيرهم تحدد الى حدٍ كبير من خلال نفس الظروف التي حكمت التفكير الصيني. كانت وحدة النظام السيمانطيقي في لغات الشعوب الأوروبية زمن عصر النهضة هي التربة التي تطور عليها التواصل الدولي بعد ذلك بشكلٍ شاملٍ وفعّال.
تُظهر العملية التاريخية أن لغات مختلف قطاعات البشرية تقترب من بعضها باستمرار، مع احتفاظ كُلٍ منها بسماتها، وهذا التقارب هو انعكاس في اللغة لعملية توسّع الروابط بين الشعوب وتعززها وتبادل المعرفة والثقافة، وهو ما يرجع بدوره الى الحاجة المتزايدة لبذل جهودٍ دولية مُشتركة. يرجع تشابه اللغات في هذه الحالة الى تطابق النظام الدلالي، على الرغم من اختلاف الأشكال التي يتم التعبير عنها، يتقدم هذا التشابه في سياق الأنشطة المُشتركة التي تضم اليوم جميع البشر تقريباً وتُشارك فيه جميع فروع العلم والثقافة.
أدى اتساع نظاق هذا الترابط الفكري الى انبثاق ظواهر تشير بشكلٍ مُتزايد الى اتجاه هذه العملية. ظَهَرَ ما نُطلق عليه التواصل الجماهيري، أي التوسع اللامحدود لنطاق التواصل اللغوي، في حدود اللغات الفردية. وغنيٌ عن البيان أن هذا التوسع نَتَجَ عن حاجات الحياة الاجتماعية المُلحة بكل تناقضاتها. ومع ذلك، نَتَجَ عن هذه الضرورة وسائل جديدة للتواصل اللغوي مصممة خصيصاً للتواصل على نطاقٍ واسع. هذه الوسائل هي الراديو والتلفزيون والصور المتحركة وأنظمة الاشارة وكل أشكال التواصل الصوتي والبصري الأُخرى والصحافة الشعبية وغيرها من أشكال الطباعة الكثيرة. ظَهَرَ شكل جديد تماماً من أشكال التواصل على مستوى التواصل بلغاتٍ مُختلفة. يُمكن أن يُطلق عليه اتصال متزامن مُتعدد اللغات. لكن أصبحَ هذا التواصل ممكناً لأن الشعوب تتحدث بلغاتٍ مُختلفة لكنهم يتحدثون عن الأمر نفسه. قد يكون لديهم واقف مُختلفة تجاه الأشياء التي يتحدثون عنها، لكن الموضوعات مُتطابقة والصلات بين الموضوعات التي يتحدثون عنها يتم تصورها بطريقة متطابقة. هذه اللغة الانسانية المُشتركة تقوم على التفاهم المُتبادل بالمعنى اللغوي للمصطلح، وبدون هذا الفهم المُتبادل لن يكون من المُمكن التقدم أو النضال من أجل هدفٍ مُشترك للبشرية جمعاء، وهو السلام، كما فَهِمَهُ بشر العصور القديمة.
تُظهر حالة اللغة البشرية والطريقة التي يسير بها النشاط اللغوي في يومنا هذا بشكلٍ مُقنع التطور الهائل لكلٍ من الشخصية الانسانية والعقل البشري على الخصوص. ان تاريخ اللغات الذي تحدثنا عنه جنباً الى جنب مع تاريخ المعرفة والعلاقات الاجتماعية يُبت بشكلٍ مُقنع الطبيعة التقدمية للعملية التاريخية.

***

وهكذا، عملَ الانسان خلال فترة وجوده التاريخي، بلا كلل، على السيطرة على الأرض التي وجد نفسه يعيش عليها. لقد سيطر على قوى الطبيعة ووضعها في خدمته وبالتالي أشبَعَ احتياجاته التي نمت كمياً ونوعياً وأثبتَ أن الأرض يُمكنها أن تُعيل أي عددٍ من الناس. خلال هذه العملية، اكتشف قوانين الطبيعة وطوّرَ وسائل استخدامها لتحقيق غاياته وابتكر أدوات ووسائل العمل وبالتالي أظهَرَ أنه من الممكن تطوير التكنولوجيا بشكلٍ مُستمر من خلال تحصيل المزيد من المعارف عن الطبيعة.
ولم يدخر الانسان جهداً كذلك، لخلق أشكال اجتماعية تناسب كل مرحلة رئيسية في تاريخه كل مستوىً من مستويات التكنولوجيا والانتاج المادي. لقد تجاوَزَ الأشكال التي نشأت في المراحل الماضية واستبدلها بأشكالٍ جديدة تناسب المرحلة اللاحقة. لقد وَجَدَ أشكال من التنظيم الاجتماعي أفضل من تلك السابقة ووضع معايير لتنظيم العلاقات بين أفراد المُجتمع. لقد توصّل الى فهم المطالب الاجتماعية للمجتمع والفرد، وهي مطالب كامنة في الطبيعة الاجتماعية للانسان، حيث أصبَحَت أكثر تعقيداً في سياق تقدم المُجتمع ككل. لقد طوّرَ المؤسسات الاجتماعية الضرورية، وأظهَرَ بذلك امكانية النمو المطرد للمعارف حول المُجتمع والبشر وامكانية التطوير اللاحق للمؤسسات الاجتماعية على أساس هذه المعرفة، من أجل ضمان تعايش البشر دون عوائق لتحقيق الأهداف المنشودة.

ان الطبيعة التقدمية لنشاطات الانسان في بحثه عن المعرفة واضحة أيضاً. اتسع نطاق معارفه المُكتسبة تدريجياً بشكلٍ مُطرد، ليشمل ليس فقط ما وجده الانسان على الأرض، بل ما رآه في السماء كذلك. رافَقَت التعميمات المعرفة التجريبية، أي كانت المعرفة النظرية التي انتشرت باستمرار الى مجالاتٍ أوسع من المعرفة. تم التعبير عن تطور العقل البشري في هذه العملية من خلال خلق الانسان لجميع الأدوات التي ساعدته في بحثه. هذه الأدوات تتخذ شكل الأجهزة وأيضاً شكل العلوم المتنوعة. أثبَتَ التاريخ أن هناك امكانيات هائلة لتوسيع نطاق البحث عن المعرفة.
ان تطور الانسان المُستمر في مسار تاريخه مُثبَت أيضاً من خلال ابداعه لأشكال مُختلفة من المعرفة، وفي نفس الموقت، تلبيته للاحتياجات مُتعددة الجوانب للفرد وللمجتمع بكل تعقيداته. تشمل هذه الابداعات العلم والدين والفلسفة والفن، واستخدام الكلمات والأصوات الموسيقية والخطوط والألوان والمواد الصلبة ثلاثية الأبعاد. هذه الظواهر، القديمة قِدَم الانسانية نفسها، هي من ابداعات الانسان، ولكنها تكتسب، في المُجتمع البشري، استقلالها الخاص، وتُصبح عواملاً تؤثر على حياة الانسان والمُجتمع. يُثبت التاريخ التطور المُستمر لهذه الابداعات البشرية وازدياد تعقيدها وتغير شكلها وتزايد أهميتها في الحياة الاجتماعية. ان كل أداة عمل صُنِعَت للتو، يصنعها الانسان على أساس خبرته ومعرفته. ومع ذلك، فانها تؤثر على صانعها وتوجه عمله وأفكاره بمجرد انشاءها. ان كل شكل من أشكال الوجود الاجتماعي الذي تتم اقامته من قِبَل البشر أنفسهم، يؤثر على المُجتمع الذي أنشأه، ويؤثر بعمق على وعي الانسان واتجاه التطور التاريخي اللاحق.
ينطبق هذا أيضاً على العلم والفلسفة والأدب والفن.
وغنيٌّ عن البيان أن حركة الانسان الى الأمام لم تكن مُنتظمة ولا مُستمرة على طول هذا الطريق. عرَفَ التاريخ فتراتٍ من الركود، وحتى التراجع عن المُنجزات السابقة. تُعرَف أيضاً فتراتٍ من الحركة المُكثفة الصاعدة الى أمام بشكلٍ خاص. نحن نُدركُ أيضاً أنه تكون الحركة العامة في فترةٍ ما غير متزامنة: نرى تقدماً في بعض فروع الحياة الاجتماعية والفكرية، وتقهقراً أو ركوداً في فروعٍ أُخرى. لكن يجب أن نضع في اعتبارنا، من أجل فهم حركة التاريخ في هذا الصدد، أن تقييمات المُعاصرين فيما يتعلق بعصرهم وماضيهم قد يُمليها فهم ضيق جداً للعملية لتاريخية ككل. مثال على هذا، كانت التقييمات التي طرحها انسانيو عصر النهضة الايطاليون فيما يتعلق بالعصور الوسطى والعصور القديمة، نابعةً من وجهة نظر المشاكل التي واجهت المُجتمع الأكثر تقدماً في ذلك العصر، أي المُجتمع الايطالي، كانت الحياة التي عاش بها المُجتمع حتى ذلك الحين، أي في القرون التي أطلَق الانسانيون عليها اسم "القرون الوسطى" تعني حياةً راكدة، وأن تجاوز ما هو قائم يتطلب تبريراً. ان وصف العصور الوسطى بأنها عصور الظلام والانحطاط قدّمَ هذا التبرير. ومع ذلك، فان هذا الوصف يُمثل تقييماً من وجهة نظر الرغبات الحالية والمُستقبلية، ولكن ليس من وجهة نظر الفترة التي ظهرت منها هذه العصور الوسطى. يجب علينا، من أجل تحديد أهمية كل حقبة في التاريخ، أن نُقيّم كلٌ منها في ضوء مساهماتها الجديدة مُقارنةً بالفترة السابقة، وما ان كان هذا الجديد قد ساهم بمزيدٍ من التقدم أم لا.
يجب أن نكون حذرين كذلك عند تقييم الماضي كشيء استثنائي لا يُشبه أي شيء يتعلق بالفترات اللاحقة. هذا هو موقف الانسانيين من العصور الأوروبية القديمة، أي تاريخ روما واليونان القديمة. يجب على الحُكم السليم على هذه التقييمات أن يأخذ في الاعتبار أن هؤلاء الكُتّاب لم يعتبروا العصر ككل هو المثل الأعلى، ولكنهم انتقوا منه ما بدا لهم أنه لافتٌ للنظر بشكلٍ خاص. يجب أيضاً أن نتذكر أن مثل هذا التقييم للماضي هو في الأساس صورة لحاضرٍ أو مستقبلٍ مرغوبٍ فيه، واسقاط لمُثُل الحاضر على الماضي. يُقدّم هذا الاجراء أبسط طريقة لتصوير المطلوب بصورةٍ ملموسة. تم أيضاً أمثَلَة العصور القديمة في وقتٍ لاحق عندما كانت البرجوازية لا تزال تلعب دوراً تقدمياً. لقد بالغت في تضخيم دور الديمقراطية الأثينية والمؤسسة الجمهورية الرومانية في سعيها لتأسيس أنظمة ديمقراطية ضمن حدودٍ برجوازية. لا داعي بالطبع للتأكيد على أن الديمقراطية القديمة، لم تكن، بمعناها التاريخ والاجتماعي، مُماثلةً اطلاقاً للديمقراطية البرجوازية.لذلك، من الضروري، عند وصف المسار المُستقبلي للتاريخ، مُعالجة هذا النوع من الأحكام للوصول الى صورة أكثر واقعيةً لما كان المُجتمع يرغب أو لا يرغب في التوصل اليه في حقبةٍ مُعينة، أي ما يعتبره تقدمياً تظهَر الأهمية التاريخية لكل عصر بالمقارنة مع العصور السابقة واللاحقة. وفي اطار هذه الملاحظات فقط، فنحن مضطرون الى عدم أخذ اللحظات الفردية في مسار التاريخ بعين الاعتبار، بل في نطاقه كاملاً، وبهذا يظهر بأن حركته تسير الأمام وأن تطور البشرية كان ثابتاً من جميع الجوانب.

***

هل يجب أن نطرح السؤال عما اذا كان هذا التطور يُمثل تقدماً؟ تعتمد الاجابة على هذا السؤال تماماً على ما هو التقدم المعني. ان استبدال السهم بالمسدس وماسكت البارود بالبندقية الأوتوماتيكية يُشير الى تطور ليس فقط التكنولوجي، بل وكل المعرفة العلمية ذات الصلة. لكن هل هذا تقدّم؟ ان الانتقال من القتال وجهاً لوجه، مع وجود مخاطر مُماثلة لكل مُشارك، الى القتل عن بُعد، حيث يكون أحد الأطراف في مكان آمن، تطلّب بلا شك تقدماً في العلوم والتكنولوجيا. القدرة على قتل جمهورٍ من الناس في وقتٍ واحد وما يتبعه من مُعاناةٍ وحزن وجرائم هو بالطبع نتيجةً لتطور العلم والتكنولوجيا. لكن هل يُمكن أن يُسمّى هذا تقدماً؟ أصبح استخدام الكماشة الساخنة بالتيار الكهربائي في التعذيب أمراً مُمكناً بفضل التقدم التكنيكي الهائل واكتشاف الكهرباء، وهو حدث ساطع. هذا هذا يعني تقدماً؟ كراهية البشر التي نشأت مع البشرية ذاتها منذ بداياتها والتي تتكرر باستمرار بأشكال وأنواع مُختلفة، هل يُثبت هذا أي تقدّم؟ لا يُمكن انكار وجود مثل هذه الظواهر في الماضي والحاضر. يُمكن للمرء أن يعرض مُقابل كل شيء ايجابي في التاريخ شيئاً سلبياً، وكثير من الأشياء التي تحتوي شيئاً ايجابياً تحوي في ذاتها شيئاً سلبياً أيضاً. لذلك، للاجابة عما ان كان مسار التاريخ يُثبت التقدم، يجب أن نُحدد في البداية ما يجب اعتباره تقدمياً. ولتجنب الدوغمائية في الاجابة على هذا السؤال، يجب أن نتخذ بعض الحقائق التي لا خلاف حولها كنقطة انطلاق ان الانسان هو صانع التاريخ، بطبيعته الاجتماعية دون أن نتعاطى معها بشكلٍ تجريدي، بل كما ظهرت في نشاطه عبر التاريخ، هي حقيقة واقعة. لكن التاريخ يُظهر أن الانسان كائن عقلاني واجتماعي. لذلك، لا يُمكن اعتبار أي شيء تقدمي الا تلك الأشياء التي تظهر كنتيجة لنشاط الانسان التاريخي والتي تتفق مع مبادئ طبيعته الاجتماعية وتُعزز تحقيقها. ومع ذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار، أن هذين المبدأين ليسا مُنعزلين في الطبيعة الانسانية، ولكنهما موجودان بالاقتران مع بعضهما البعض. لذلك، لا يُمكننا أن نعتبر الشيء التقدمي هو ذلك الذي يتمظهر من خلال العقل الانساني، أو فقط ما يُحرره من كل القيود الناشئة عن تطوره الاجتماعي. يُمكن اعتبار النشاط العقلاني تقدمياً حقاً فقط عندما يتزامن مع نشاط المبدأ الاجتماعي من طبيعته. يصبح النشاط تقدمياً حينما يتزامن المبدأ الاجتماعي والعقلاني معاً.
لا يكفي ما سبق وقلناه من أجل وضع تعريف كامل لمفهوم التقدمي. يُشكل ما هو عقلاني وما هو اجتماعي خصائص لكيان واحد وهو الانسان، وهذا يعني أنهما مرتبطان في شيء يُميز الانسان ككيانٍ واحد. اعترف الانسان منذ زمنٍ بعيد بوجود هذه الخاصية، وهي أعلى قانون في الطبيعة البشرية، وقد وصف هذه الخاصية بكلماتٍ مُختلفة، وفُهِمَت بطرق متنوعة في عصورٍ مُختلفة في التاريخ وفي ظروف اجتماعية مُختلفة. لكن جوهرها، على العموم، قد فُهِمَ بنفس الطريقة. هذه الخاصية هي الانسانية.
منذ منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد، فَهِمَ كونفوشيوس واولئك الذين تحدثوا على لسانه "الانسانية" zhen بمعنى التعاطف، مثل شيء قلبي. كل انسان له نفس "القلب" مثل أي شخصٍ آخر، ومن هنا يترتب على ذلك أنه لا يشعر فقط بكل شيء كما يشعر الآخر به وحسب، بل ولا يُمكنه أن يكون لامُبالٍ بما يشعر به الآخرين: حُزن الآخر هو حُزنه، وسعادة الآخر هو سعادته نفسه. وبالتالي، يعيش كُلٌ منهم من خلال ما يعيشه الآخرين، ويفعلون ذلك بكل "صدق". يتكشف طابع هذه الكلمة الأخيرة عن معناه من خلال لفظة "وسط القلب" أو "داخل القلب". يجب أن يكون الشعور صادقاً، أي يجب أن يأتي من "داخل القلب". في نفس الزمن تقريباً، عبّر الهنود، وهم مركز تاريخي قديم، عن مفهوم مُشابه من خلال كلمة "التعاطف". أصبحت هذه الصيغة جُزءاً من التعاليم البوذية. تم التعبير عن الطبيعة النشطة للتعاطف بمطلَب "الاحسان". في فجر عصرنا، وَجَدَ المفهوم نفسه تعبيراً عنه في كلمة "حبوا بعضكم" التي نُسِبَت الى اليسوع، وتطلت هذه العبارة نشاطاً مُحدداً.
نجد في هذه الصيَغ وغيرها التي عبّرَ عنها الأنبياء والحكماء بغض النظر عن دورهم كمؤسسي أديان أو مُبدعي مدارس فلسفية أو شخصيات عامة أو كُتّاب أو علماء، نجد أوضح تعبير للمبدأ الاجتماعي في طبيعة الانسان مقترناً بالعقل.
كانت هناك أزمنة في التاريخ اكتسب فيها موضوع "الانسانية" زخماً مُعيناً عندما أصبَحَ مركز اهتمام الجمهور وأصبحَ قوةً دافعةً للتنوير والثقافة. كان هناك العديد من هذه الأزمنة. عصر النهضة ما هو الا الأحدث. لقد مرّت الشعوب التي كان تطورها الثقافي طويلاً ومتواصلاً بفترات مُشابهة في أزمنة مُختلفة. حَدَثَ هذا في تاريخ الشعب الصيني بين القرنين الثامن والثاني عشر، وفي تاريخ الشعوب الايرانية وشعوب الشرق الأوسط المرتبطين بهم وشمال غرب الهند من القرن التاسع الى القرن الثاني عشر،، وفي تاريخ الشعب الايطالي وبين الشعوب الأوروبية الذين كانوا على اتصالٍ بهم منذ القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر. أعلن المتحدثين باسم عصر النهضة الصينية قيمة الانسان من حيث قدرته على الكمال الذاتي بشكلٍ رئيسي، بينما أكدوا أن صفة "الانسانية" تكمن تحديداً في "حب الجميع". رأى رواد عصر النهضة الايرانية-الهندية في الشرق الأوسط أن قيمة الانسان تكمن في قدرته على أن يكون أخلاقياً بدرجة عالية، كأن يكون نبيل الروح وكريماً ومُحباً للصداقة. اعتبر رواد عصر النهضة الأوروبية أن الانسان هو حامل العقل بالدرجة الأولى. لقد اعتبروا أن العقل هو أعلى مظهر من مظاهر الطبيعة البشرية ولذلك حثّوا على احترام الانسان على هذا النحو وتحرير عقله مما يُعيق تطوره. ان التطور الثقافي اللاحق للبشرية مدين بكل العمق لكل هؤلاء. لذلك فان أسماء مثل لي بو Li Po وتو فو Tu Fu وبو تشو Po Chu وأبوقاسم الفردوسي والسعدي وجلال الدين الرومي وفرانسيسكو بترارك Francesco Petrarca وبيير رونسارد Pierre de Ronsard، والمفكرين والعلماء أمثال هان يو Han Yueh ولو تسان وان Liu Tsun-yuan والفارابي والبيروني وابن سينا وجيوفاني ميراندولا Giovanni Pico della Mirandola وديدرو
Desiderius Erasmus Roterodamus واولريك فون هوتين
Ulrich von Hutten وجيودارنو برونو، نقول، هذه الأسماء جديرة بالاحترام في يومنا هذا. لقد وَجَدَ جميع رواد النهضة العالميين في جميع أنحاء العالم الكلمة التي كانت بالنسبة لهم التعبير الدقيق عن الانسان والتي نستخدمها اليوم بهذا المعنى. يتم نطق هذه الكلمة في لغاتٍ مُختلفة. وهي كلمة Humanism بالنسبة لشعوب أوروبا.
وهكذا، فان المعيار الذي طوره تاريخ البشرية ذاته، موجود بالفعل لتحديد ما هو تقدمي حقاً. يُشير هذا المعيار، المُعبّر عنه بكلمة "الانسانية" الى تلك الصفات الخاصة بالطبيعة البشرية، وتقييمها على أنها أعلى مبادئ للحياة الاجتماعية. ما هو تقدمي يتوافق مع ما هو انساني.
يُمكننا، في ضوء هذا الطرح، أن نرى ما هو مُظلم في التاريخ. لكن الانجاز البشري العظيم حقاً، وربما يكون أعلى تمظهرات التقدم هو حقيقة أن الناس قد ميّزوا ذلك، وسمّوا الشر بأنه شر، والاكراه اكراهاً والجريمة جريمة. ان ظهور المفاهيم التي تدل عليها هذه المصطلحات هو
دليل على التقدم، فهذه كلمات لا تصف الظواهر والأفعال فحسب، بل يتم تقييمها وادانتها. لم تنشأ هذه الكلمات عسفاً، بل وُلِدَت في خِضَم عملية التطور والتواصل. نلقد نَتَجَت عن وجود مبادئ العقلانية والاجتماعية في الطبيعة البشرية.
ان تطور فهم ما يجب تقييمه على أنه شر هو دليل آخر على التقدم. وتألف هذا التطور من الفصل التدريجي لمفاهيم الشر نفسها عن العوامل التي تربطها بمصالح هذه الفئة والطبقة أو تلك. بالطبع، قد يكون الشر الرئيسي هو ما تعتبره مجموعة مُعينة شراً: يحدث هذا عندما تكون مثل هذه المجموعة هي المُسيطرة. في المُجتمع الطبقي تكون الطبقة الأكثر تقدماً في فترة تاريخية مُعينة هي الأداة للتعبير عن ذلك. ولكن حتى في المُجتمع الطبقي فان أفضل مُمثلي البشرية لم ينسوا أبداً أن الشر يطبق على الجميع بشكلٍ مُتساوٍ، أي أنهم حولوا مفهوم الشر من المجال الاجتماعي الضيق الى مجال البشرية قاطبةً. على الرغم من أنه لم يكن بامكان هذا المفهوم أن يتطور أبعد من هذا في عصرهم التاريخي، الا أنه كان بمثابة مَعلَم على الطريق التاريخي للانسان.
تتشابك مفاهيم الشر والعنف والجريمة مع مفهوم واجب مُحاربة كل هذا، أي واجب القضاء على الشر من حياة الانسان. لطالما تم خوض هذا النضال، وهذا بدوره دليل واضح على التقدم. كان النضال يُشَن، بطبيعة الحال، ضد ما كان يُعتَبَر أنه الشر الرئيسي في زمنه، في المقام الأول. في هذا الصدد، لم يكن مُحتوى النضال هو الذي يتغير، بل أهدافه. يتكشف التقدم في هذا المجال في حقيقة أن النضال لم يكن متوجهاً ضد مظاهر الشر، بل الى مصادره وأسبابه. هنا، يظهر جلياً التحسن المستمر في فهم مصادر الشر و والوضوح المتزايد باستمرار لطبيعته الاجتماعية والهدف الرئيسي للنضال وما هو مسار النضال الأكثر فعالية ضده.
ما الذي نراه كأصلٍ للشر في عصرنا هذا، عندما أتاح لنا تطور قوى الانتاج وقدرتنا على السيطرة على الطبيعة، أن نطرح المسألة العملية تماماً حول ضمان حياة تليق بالانسانية جمعاء؟ ان مصدر الشر في عصرنا هو استغلال الانسان للانسان واللجوء الى الحرب، أي القتل الجماعي المُنظم كوسيلة لحل النزاعات الاجتماعية. من الناحية التاريخية، فان استغلال الانسان للانسان ليس بالأمر المُستجد، ونحن نفهم أنه كان لا مفر منه في مرحلةٍ مُعينةٍ من تطور قوى الانتاج. والحرب كذلك كانت مُبررة تاريخياً. لكننا في نفس الوقت نفهم أنه يُمكن، مع المستوى العالي لتطور القوى المُنتجة، وقيام ثورة أُكتوبر بفتح الأبواب للشيوعية، أن يتم القضاء على استغلال الانسان لأخيه الانسان، وأن الحرب، في المُجتمع الحديث هي ببساطة لامعقولة. لا يُمكننا أن نطرح فكرة أن استغلال الانسان للانسان الى جانب الحرب هي جرائم ضد الانسانية بدون مفهوم "الانسانية" الذي ناقشناه أعلاه. احتلف محتوى "الانسانية" في مُختلف العصور التاريخية. في عصرنا’، يتمثل المفهوم البارز للانسانية، قبل كل شيء، في أن المصادر الرئيسية لكل الشرور الاجتماعية هي استغلال الانسان للانسان والحروب. لذلك، فان النضال من أجل القضاء على هذه الشرور هو أسمى تعبير عن التقدم الاجتماعي. ومع ذلك، يجب أن يتم هذا النضال وفقاً لما هو انساني في الانسان.
هنا أود أن أعود الى ما بدأت به. الانسانية في محتواها الاجتماعي، هي أهم الأفكار العظيمة التي قدمتها البشرية خلال آلاف السنين من تاريخها. ان فكرة "الانسانية" هي أيضاً الأكثر أهميةً اجتماعياً من بين جميع المقولات الأخلاقية. لقد كانت دائماً أعلى معيار للتقدم البشري الحقيقي.
أعلن انجلز، في الرسالة الى ميهرينغ التي استشهدنا منها سابقاً، أنه من غير المقول الاعتقاد بأنه هو وماركس غير راغبين في الاعتراف بأن كل مجال من مجالات الايديولوجيا يحوز على تطور تاريخي مستقل خاص به، وبالتالي يُزعَم انهم يُنكرون أن لها أي تأثير على التاريخ. كتب انجلز: "وأن أساس ذذلك هو التصور غير الجدلي المُشترك عن السبب والنتيجة من حيث هما قطبان متعارضة بصوردة جامدة، والجهل التام بالتفاعل المُتبادل"(8). الن يكون القضاء على استغلال الانسان للانسان وخطر الحرب-مصادر الشر هذه التي تُسببت وتُسبب للبشرية مثل هذه المعاناة- ألن يصل المجتمع البشري الى حالة يُمكن فيها توحيد تيار التطور التاريخي والنهوض بالمفاهيم الأخلاقية التي وُلِدَت في الفكر، بما في ذلك المفهوم الاجتماعي الأكثر أهميةً "الانسانية"؟ الن تتحقق هذه الوحدة من خلال التحويل المستمر للمفاهيم الأخلاقية بشكلٍ عام، ومفهوم "الانسانية" في المقام الأول، الى معيار طبيعي للسلوك البشري؟ ان كل تاريخ البشرية السابق، وكل الواقع الحالي يتطلب هذا. ونحن نعيش بثقةٍ راسخة في أن هذا سيحدث.
هل هناك حد لتحرك الانسان الى الأمام؟ تتوقف الاجابة على هذا السؤال على اجابة سؤال آخر: هل يُمكن أن يكون هناك حد لمثل هذه الحركة بشكلٍ عام؟ يبدو أن الاجابة هي نعم ولا. لا، لأننا لا نستطيع تخمين أشكال وأنواع الشر التي قد تنشأ في المستقبل عندما يتم القضاء على شرور اليوم. ومع ذلك، يوجد هناك حد، وان شئنا الدقة، هناك فكرة حول حدٍ ما. ظَهَرَ هذا الفكر في شكل صورة لمُجتمع مثالي. رُسِمَت هذه الصورة بطرق مُختلفة جداً. ففي القرن التاسع قبل الميلاد ظهرت فكرة حول دولة الشعب الصيني على شكل "الأرض السعيدة"، وعبروا عن آمالهم في تحقيق ذلك بانشاد أغنية: "هناك أرضٌ سعيدة! نعم، أرضٌ سعيدة! في تلك الأرض بعيداً سنجد وطننا الجديد". تصوّرَ الرومان واليونانيون القدماء المُجتمع الكامل على صورة"العصر الذهبي". ان فكرة هذا الهدف التي تم التعبير عنها بصور مُختلفة لم تُبارح البشرية أبداً وألهمتها للنضال ضد كل ما يُعيق تحقيق الحالة الاجتماعية المُثلى التي تليق بالانسان. هذا ما وصفه دوستويفيسكي بوضوح كبير: "ان العصر الذهبي هو أكثر الأحلام غير المُمكنة، لكنه الحلم الذي كرّسَ الناس من أجله كل حياتهم وكل قوتهم والذي من أجله صُلِبَ الناس وقُتِلَ الأنبياء، والذي بدونه لا يريد الناس أن يعيشوا أو حتى أن يموتوا". ربما يكون هذا الحلم هو أسمى مظهر من مظاهر الانسانية عند الانسان، مظهر من مظاهر تلك الانسانية التي كانت دائماً ولا تزال أعظم الأفكار في البرنامج الاجتماعي.

* الماركسي نيكولاي يوسيفوفيتش كونراد 1891-1970، مُستشرق سوفييتي، حاصل على دكتوراه في الفيلولوجيا وأكاديمي في أكاديمية العلوم السوفييتية 1958.
تخرّجَ من القسم الصيني الياباني التابع لكلية اللغات الشرقية في جامعة سان بطرسبورغ عام 1912. دَرَسَ اللغتين اليابانية والصينية والثقافة اليابانية الكلاسيكية في جامعة طوكيو أعوام 1914-1917. كان استاذاً في معهد لينينغراد للغات الشرقية الحية منذ عام 1926-1938. في الوقت نفسه عمل أستاذاً في المعهد الجغرافي لجامعة لينينغراد. كان باحثاً في معهد الدراسات الاستشراقية التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية منذ عام 1931. كان استاذاً في كلية موسكو للدراسات الاستشراقية في جامعة موسكو الحكومية منذ عام 1941-1950، وعضو في قسم الأدب واللغة في أكاديمية العلوم السوفييتية منذ عام 1958.
كان مجال اهتمامه يشمل الأدب الياباني الكلاسيكي والحديث، والتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ليابان العصور الوسطى ونظام التعليم الياباني والفلسفتين اليابانية والصينية واللغويات. نَشَرَ ترجمات لعدد من كُتُب الأدب الكلاسيكي الياباني باللغة الروسية. حَصَل على وسامين لينين عامي 1945 و1954، ووسام الشمس المُشرقة الياباني عام 1969. من مقالاته: (حول اللغة الصينية) 1952، (مُختصر تاريخ الأدب الصيني) 1959، (أدب شعوب الشرق ومسائل حول المعرفة الأدبية العامة) 1961. (شكسبير وعصره) 1964.

1- مراسلات ماركس وانجلز، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب، دار دمشق 1981، ص538، 539
2- Marx, K., and Engels, F soch, Vol.1 2d ed p. 111
3- نقد الاقتصاد السياسي، كارل ماركس، ترجمة راشد البرواي، دار النهضة العربية 1969، ص92
4- ضد دوهرينغ، فريدريك انجلز، دار التقدم 1984، ص135
5- مسخ الكائنات، الشاعر أوفيد، ترجمة د. ثروت عكاشة، الطبعة الثالثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992، ص33.
6- الايديولوجيا الألمانية، ماركس وانجلز، ترجمة فؤاد أيوب، دار الفارابي 2016، ص49
7- نفس المصدر
8- مراسلات ماركس وانجلز، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب، دار دمشق 1981، ص540

ترجمة لمقالة:
N. I. Konrad (1962) Notes on the Meaning of History, Soviet Studies in History, 1:1, 3-23

#مالك_ابوعليا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي