الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مباحث في الاستخبارات (302) المعايشة

بشير الوندي

2022 / 1 / 16
الارهاب, الحرب والسلام


مباحث في الاستخبارات (302)
المعايشة
---------
مدخل
---------
في الاحاديث النبوية , ندب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام في مهمة إلى اليمن. فسأله الإمام: أأكون كالسكة المحماة أو الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ - أي اجتهد رأيي فيما بين يدي مما ليس بين يديك - قال عليه الصلاة والسلام "بل الشاهد يرى ما لا يراه الغائب" , وهي اشارة بالغة الى دور المعايشة الاستخبارية لمجتمع العدو وطبيعة بلاده من اجل التمكن منه تهيئة الظروف للانتصار.
------------------
قِدَمٌ وحيوية
------------------
المعايشة الاستخبارية تعني ان تتم دراسة الدولة المستهدفة او الهدف المحدد على ارض الواقع , فالواقع عادة مايكون عارياً عن اية مكياجات اعلامية او معلوماتية تأتي عن بعد , وهي طريقة قديمة لكنها فعالة في رسم التصورات الاستخبارية .
وحين نقول انها طريقة قديمة فلانعني انها بدائية , لكن عدم توافر تقنيات الاتصال والتواصل الاجتماعي ادت بالمعايشة البشرية المباشرة الى ان تتصدر العمل الاستخباري , ورغم تطور التكنولوجيات التجسسية والمراقبة الالكترونية , الا انها لم تستطع الاستعاضة عن المعايشة الاستخبارية في فهم واستيعاب مجتمع ما , ولكن التطور التقني الحديث ساعد رجال المعايشة في نقل معلوماتهم الميدانية وملاحظاتهم ومراسلاتهم بشكل اسرع وتعزيزها بالصور والافلام .
----------------------
الارض وماعليها
----------------------
المعروف في استخبارات الميدان والجغرافيا الاستخبارية هو مبدأ الارض وما عليها , اي وصف دقيق للارض و الناس والمنطقة والثقافة والاخلاق والمميزات السلبية والايجابية للمجتمع والتعايش معه لمعرفة نقاط القوة والضعف في الدين والمعتقد ,القوميات ,العشائر,الصنوف , المهن ,الاعمال ,اليوميات ,النكات,القصص , الاثار , الاخلاق ,الطقوس , المعالم المهمة,الثروات,التاريخ,نظام الحكم ,التقاليد والاعراف,الامثلة الشعبية,المناسبات , المقدسات والمحرمات, وغير ذلك.
ان المعايشة تأتي بالمعرفة المباشرة من مشاهداتك انت ومسموعاتك انت وحواراتك انت , ولعل انجح الدول في الدبلوماسية الخارجية هي تلك التي تعتمد على سفارتها في البلد الهدف ولا تعتمدعلى العمل المكتبي في وزارة الخارجية , اي ان السفير لديه الخطوط العامة لاهداف بلاده فقط لكنه هو صاحب التخطيط والتنفيذ ضمن سياسات بلده لا ان يتلقى الاوامر من الخارجية التي لا تعرف عن البيئة بقدر ما يعرف, وقد سمعت بواسطة
واحدة من السفير البريطاني في العراق : "ان الفرق بيننا وبين الامريكان , انهم يديرون السفارات من واشنطن لكن اسلوبنا نحن ان ندير السفارة من بغداد".
-------------------------------
بريطانيا رائدة المعايشة
-------------------------------
كانت بريطانيا رائدة المعايشة الاستخبارية منذ قيام امبراطوريتها وقام رحالتها ومستشرقوها الاستخباريون خلال القرن التاسع عشر بمئات الرحلات الاستخبارية لينتشروا بين المجتمعات المستهدفة , وكان لهم دوراً كبيراً في توسيع الامبراطورية , وقبيل احتلال العراق عام 1914 , قدمت الاستخبارات البريطانية تقارير كاملة ومفصلة عن طبيعة العشائر ومدى صدامها او تعاونها مع الجيوش البريطانية , وينم التقرير (الذي كتبته آنذات مسؤولة الاستخبارات مسز بيل ونشر جزء منه بكتاب عنوانه العشائر والسياسة) عن تغلغل استخباري اجتماعي كبير وسط العشائر على طول خط السير الذي ستسلكه القوات الغازية التي نجحت حين افادت من تقارير المعايشة , بينما حين تعامل بعض قادتهم العسكريين في مناطق الفرات الاوسط بعجرفة متجاهلين طبيعة المجتمع العراقي ولم يلتفتوا الى نصائح الاستخبارات البريطانية حول عادات وتقاليد العشائر العراقية كانوا من اهم اسباب اندلاع ثورة العشرين , ولعل الخبرة البريطانية التي اكتسبتها من المعايشة الاستخبارية هي ماجعلت بريطانيا حتى وقت قريب - برغم افول امبراطوريتها – الاستشاري الاهم للامريكان في الشؤون الخليجية والشرق الاوسط.
ويمكن للقاريء ان يطلع على الكتب التي اصدرناها اعتماداً على ارشيف الاستخبارات البريطانية , وهي عبارة عن زيارات ميدانية لضباط استخبارات مستترين انذاك شاهدوا وعاشيوا المجتمع العراقي عن قرب , وهي (رحلة ماليسون السرية , رجال كردستان في ملفات الاستخبارات البريطانية, رحلة رسام رسمي الى جنة عدن ).
وبعد غزو أفغانستان والعراق برزت الى السطح مرة اخرى الحاجة الاستخبارية الملحة لمعرفة مزاج الشعوب وطبائعهم الاجتماعية للحفاظ على الغزو من خلال تفكيك غضب السكان المحليين للسيطرة عليهم برغم الفوارق المجتمعية من مكان الى آخر , فهنالك تفاوت وفوارق بين الشعوب وأسلوب تفكيرها ومزاجها وتصرفاتها , فالبعض ينسجم مع الأجانب وآخر يرفض التعامل معهم , والرفض ذاته قد يكون سلمياً في بقعة جغرافية , فيما يكون عنيفاً في بيئة وبقعة اخرى , فصار من المهم للاجهزة الاستخبارية ان تعطي تحليلات للجيوش لتنبهها الى طبيعة السكان الذين سيتعامل معهم الجيش , وهذا الامر ولّد الحاجة الماسة الى بحوث اجتماعية وجغرافية وتاريخية ليتم تحليلها واستنتاج الصورة الحالية واسبابها وطرق نزع فتيل السلبي منها وتعزيز مايعزز التعاون منها ايضاً , ونتج عن ذلك بلورة نظام استخباري تخصصي يسمى بنظام التضاريس البشرية (human terrain system) , يتولى القائمون عليه بدراسة الانثروبولوجيا والثقافات والمعتقدات والموروثات وطبيعة السكان -الذين يراد السيطرة عليهم – فتصبح مهمته انارة الطريق للجيوش لفهم طبيعة المجتمعات التي تتعامل معها لتقليل الخسائر ولبناء جسور التعاون , او لشق وتشتيت انتباه تلك المجتمعات.
--------------------------------
المعايشة كرافعة تحليلية
--------------------------------
يروي لي صديق دبلوماسي , انه كلف ليكون سفيرا في الصين , فطلب حينها تأخير ارساله عدة اشهر لأنه اراد الاطلاع على طبيعة البلد الذي سيذهب ليعمل فيه , ويردف "قرأت طيلة اربعة اشهر عن تاريخ الصين بما فيها دائرة معارف الصين وقرأت عن اخلاقيات الشعب الصيني وتراثهم ونظام الحكم واقتصادهم , وتمرنت على اهم الجمل والكلمات التي قد احتاجها , ورغم ذلك , عندما وصلت الى هناك احسست اني غريب جدا وبعيد جدا ولاافقه شيئاً, ثم بعد سنتين من العمل اصبحت افهم هذا الشعب ونظامه" .
ان المثال السابق يعطينا تصور من انه مهما تطورت الطباعة والملفات عبر الانترنيت , وبرغم تطور وسائل التواصل الاجتماعية الكتابية والصورية والفيلمية , الا انها لاتغني المحلل الاستخباري عن معايشة الواقع على الارض .
ان اشهر وافضل وادق التحليلات جاءت بالمعايشة والحضور الميداني وفهم البيئة وخرجت من رحم المعايشة ومشاهدة الواقع ولمس الحقائق بشكل مباشر , فالمعايشة تعطي العقل الاستخباري التحليلي دفعة من الاثراء والفطنة والفهم , ولا يكتمل التحليل ولا يفهم العقل التحليلي دون المعايشة , وحتى في مجال فن التمثيل , يعمد الممثلون الكبار الى معايشة دور الشخصية التي يجب تقمصها , فيذهب احدهم مثلا الى مستشفى المجانين لمشاهدة يومياتهم , او يذهب الى السجن لمعايشة السجناء , لذا تعتمد الاستخبارات المحترفة في كل دول العالم على اجراء برامج معايشة لضابط الملف الخاص يشتمل بالدرجة الاولى ان يذهب بنفسه الى المنطقة المستهدفة والتعرف عليها والسفر اليها تحت غطاء محكم وآمن كالسياحة او كعنصر دبلوماسي او تاجر اوبصفة طالب جامعي وغير ذلك , فمن يفهم امريكا هو الشخص الذي يسكن فيها, ومن يفهم الصين هو الشخص الذي يسكن الصين.
---------------------------------
المحاكاة مدخل للمعايشة
---------------------------------
يقول المفكر الصيني سون تي سوي "ان أولئك الذين لا يعرفون أحوال الجبال والغابات والاودية الخطرة والمستنقعات لا يمكنهم قيادة الجيوش".
بطبيعة الحال , لايستطيع كل الاستخباريين ان يذهبوا الى المعايشة , ولايستطيع كل من تريد الاجهزة الاستخبارية ان تزرعهم في البلد المستهدف ان يتوجه على عماه الى ذلك البلد , ومن هنا يقوم المعايشون لبلد ما او لمجتمع ما باستخدام الكثير من ادوات المحاكاة واساليبها (كمحاكاة قيادة الطائرات ) , ففي الحرب الباردة كانت استخبارات القطبين العالميين – امريكا والاتحاد السوفيتي - قد وصلت الى اعلى اساليب المحاكاة الميدانية , فاقام كل منهما بانشاء مدن مصغرة مشابهة للاهداف وللمدن المطلوب زرع عملاء فيها ومحاكاة اساليب الحياة فيها من شوارع وعجلات وازياء واسواق ومطاعم ونقود وشرطة وقنوات تلفاز وراديو واسلوب الحياة.
فكان العميل يقضي اشهراً في هذه المدن التدريبية المصغرة ليتم تدريبه بشكل متقن على البيئة التي سيرسل اليها كمقدمة لعمله ليعايش بيئة العدو , فهو يجب ان لايتقن اللغة فقط , بل يجب ان يتعرف على اسلوب الحياة واسلوب التفكير كي يتأقلم , بشكل جيد ودقيق بلا اخطاء , مع المكان الذي سيرسل له ويزرع فيه , فاصبحت المحاكاة التي يديرها معايشون سابقون هي مقدمة لمعايشين جدد بحسب واجباتهم المحددة , وصار ادخال المحاكاة في التدريب والتحليل وجمع المعلومات اساسيٌّ في رسم صوره عن المخاطر والتهديدات والفرضيات المحتملة واهم السيناريوهات وافضل الخيارات .
--------------------------
المعايشة والجيوش
--------------------------
من المؤكد ان الانتشار العسكري الصحيح يعتمد بشكل حاسم على المسح الاستخباري الشامل للدولة المستهدفة , وهو المسح الذي يتم تحديثه بشكل مستمر , فتستلم قيادة الجيش كل المتغيرات على ارض العدو من الاستخبارت لطباعة وتعديل الخرائط العسكرية باستمرار , وينقسم جمع المعلومات الاستخبارية العسكرية بمحورين اساسيين هما :
1- استخبارات الميدان او استخبارات المعركة او الاستكشاف الميداني والاستطلاع.
2- الاستطلاع العميق والذي يتضمن معرفة قدرات العدو العسكرية واللوجستية والمالية وغيرها.
وهنا يكون للمعايشة الاستخبارية على ارض العدو دور كبير في رسم التصورات الكاملة للاستخبارات العسكرية عن تحركات العدو وعن بيئة المعركة ومجتمعات المدن المجاورة لارض المعركة لاسيما عند اجتياحها من قبل الجيش , فالمعارك لاتقتصر دوماً على ارض جرداء وجيشان متقابلان ومتمترسان , كما ان تطورات المعارك تتطلب معلومات مستمرة في مجتمع العدو اثناء الحرب .
------------
خلاصة
------------
ان المعايشة الاستخبارية هي التي تضع المجتمع المستهدف امام المحللين الاستخباريين وامام المخططين , فالمعايشة هي نقل حي مباشر من قلب ارض العدو توصف فيه كافة جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية , عدا عن ان المعايشون يكشفون نقاط قوة العدو ونقاط ضعفه , والله الموفق.
للمزيد انظر : - مباحث في الاستخبارات (47) استخبارات الميدان , (50) الاستخبارات والجغرافيا , (82) المحاكاة , ( 90) التضاريس البشرية Human terrain, (115) المشاهدة والتوصيف , ( 260) تحديات استخبارات الميدان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقطاب طلابي في الجامعات الأمريكية بين مؤيد لغزة ومناهض لمع


.. العملية البرية الإسرائيلية في رفح قد تستغرق 6 أسابيع ومسؤولو




.. حزب الله اللبناني استهداف مبنى يتواجد فيه جنود إسرائيليون في


.. مجلس الجامعة العربية يبحث الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والض




.. أوكرانيا.. انفراجة في الدعم الغربي | #الظهيرة