الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الكابوس الليبي والندم

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 1 / 17
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


" لا نرغب في شيء ما لأنه جيد، ولكن هذا الشيء جيد لأننا نرغب فيه " هذا القانون البسيط والذي صاغه سبينوزا بهذه الصورة يبقى مع ذلك معادلة مبهمة وغير قابلة للفهم من قبل العديد من المواطنين الذين تعلموا في المدارس والمساجد والجامعات المختلفة وكونوا ثقافتهم العامة من خلال شاشات التلفزيون والجرائد المحلية أو العالمية أن الأشياء "جيدة" أو "سيئة" في ذاتها بغض النظر عن علاقة الإنسان بها. وحقيقة الأمر أن رغبة الإنسان وإرادته وقصديته هي التي تضفي صفة الجودة والرداءة والجمال والقبح على الأشياء، التي بطبيعتها مجرد أشياء منغلقة على ذاتها ومحايدة. وبالتالي إذا حاولنا توسيع هذه المقولة البسيطة لتشمل أيضا المواقف والأحداث التاريخية، فقد يساعدنا ذلك على فهم هذه الأحداث ورؤيتها من زاوية مغايرة وجديدة. وعلى سبيل المثال، الوضع السياسي الراهن في بلدان ما يسمى بالربيع العربي، والذي يمكن تسميته "الكابوس العربي - الإسلامي"، فإن هذه "الثورات" هي أحداث "جيدة" ولا يمكن الندم أو الأسف على حدوثها أو الحنين إلى أوضاع سابقة، بل أنها توصف بالعظيمة والتاريخية والبطولية … فرغم الكوارث الناجمة عن هذه الأحداث ورغم العنف والدماء والأشلاء والحرائق والمذابح والتشريد، ورغم الرعب والخوف والخسائر المادية والبشرية والحضارية للمجتمعات المعنية، فإن ثوراتها "جيدة" ورائعة وناجحة، لأنها تعبيرمضيء عن "رغبة" عارمة في الحرية، لأن شعوبها أرادت هذه الثورات ورغبت في التغيير لمدة عقود طويلة من الزمن. وهذه الإرادة وهذه الرغبة هي التي جعلت هذه الثورات ضرورية ولا مفر من القيام بها، وتعطيها في نفس الوقت صفة الشرعية والقداسة. ولهذا فنحن نتفهم اليوم كل هذه الأصوات التي ترفض النقد الذاتي وترفض تحليل هذه الأحداث وترفض النظر إلى الوراء خوفا من إكتشاف مجموعة من "الحقائق - الأكاذيب" المروعة، والتي كانت تخبئها بسذاجة تحت الحصيرة، وتواصل بعناد تسمية الإنقلابات المسلحة بالثورات الشعبية والأنظمة الدينية تنعت بالديموقراطية، لأن الشعب هو الذي كان يرغب في ذلك. ولكن هناك خلل منطقي بسيط في هذا التطبيق الميكانيكي لمقولة سبينوزا على الجتمعات التي نتحدث عنها هنا، لأن الشعب كما تعودنا أن نعرف هو "الجميع" ولا أحد في نفس الوقت. فحتى لو افترضنا ان الفيلسوف لا يتحدث فقط عن حالات فردية وخاصة وأنه يمكن تطبيق هذه البديهية على كتل جماعية، فإنه بطبيعة الحال من السهل القول والتأكيد بأنني "كفرد" أرغب في هذا الشيء أو ذاك، بطريقة لا تدع مجالا للشك. بينما يكاد الأمر يكون مستحيلا عندما يتعلق الأمر بعدة ملايين من الناس وفي ظروف شديدة البلبة والغموض والتعمية الإعلامية. والسؤال الذي يمكن طرحه ثانية اليوم، حيث أنه لم يسمعه أحد عندما طرحناه سنة ٢٠١١ نتيجة الطرش والعمى الجماعي في ذلك الوقت : هل الشعب الليبي -مثلا- كان يرغب في الثورة على الدكتاتورية العسكرية التي تسيطر على المواطنين منذ أربعين عاما؟ وهل الشعب السوري كان يرغب في الثورة على الجزار الذي يحكمه؟ وهل الشعب المصري كان يرغب في الثورة على العائلة المالكة المصرية؟ لن نجد إجابة أخرى سوى "نعم" والتأكيد أن هذه الشعوب كانت لا تريد فقط تغيير شيئ ما في هذه الأنظمة، وإنما التخلص منها إلى الأبد. إن رغبة هذه الشعوب في إسقاط هذه الأنظمة كانت "الحجة" الرئيسية للترويج للتدخل العسكري الأمبريالي في المنطقة وجلب "الديموقراطية" التي نتمتع بها اليوم في الحقائب الدبلوماسية - في الواقع هي صناديق وحاويات دبلوماسية - للطبقة الحاكمة منذ عشر سنوات ويزيد. غير أنه اليوم هناك العديد من المواطنين الذين راجعوا الأحداث، وأعادوا الشريط إلى الوراء وأكتشفوا أنه لا أحد يستطيع أن يؤكد، لا نقول بنزاهة أو بصدق، وإنما بدقة علمية ورياضية أن هذه الشعوب - بأغلبيتها ـ أرادت إسقاط هذه الأنظمة. بالأحرى اكتشفوا اليوم أن ما يسمونه بالشعب هو في الحقيقة "شعبين" وربما أكثر من ذلك. بطبيعة الحال كان هناك "شعب" ممن يريد الحرية والعمل والكرامة والخدمات الصحية والتعليمية لأولاده وبناته، ومئات المواطنين دفعوا بحياتهم ثمنا لهذه القناعة ولهذه الرغبة في حياة حرة وكريمة. ولكن لايجب مطلقا أن ننسى الجانب الآخر من المعادلة، أي الشعب الآخر، والذي يريد نفس الشيء ودافع عن هذه الأنظمة ودفع بدوره حياته ثمنا لقناعته. وهو أمر طبيعي أن لا نعرف بدقة وان نقرأ الأحداث من جانب واحد، فطبيعة النظام لا تسمح بإقامة إستفتاء شعبي لمعرفة نسبة الراغبين في الثورة ونسبة الذين يريدون الدفاع عن النظام. ولذلك فإن أقلية قوية ومسلحة تستطيع أن تكون الشعب بكامله في عدة أيام، وتستحوذ على رغبة الشعب في التغيير وتقوم بالعمل نيابة عنه، ويعود الشعب إلى صمته الأول، وربما يتمتم بينه وبين نفسه بأنه لا يريد شيئا في نهاية الأمر سوى أن "يعيش" وأنه يستطيع أن يستغنى عن الحرية والديموقراطية التي لن تفيدانه في شيء. ولذلك فإنه ليس غريبا أن ترتفع أصوات اليوم تشعر بالندم وتعض أصابعها وتقارن بين الديموقراطية التي قدمها ساركوزي وكاميرون هدية لصديقهم الديموقراطي الرجعي الشيخ عبد الجليل وزمرته، وبين ديكتاتورية القذافي ونظامه الفاسد، ومعرفة من هو أكثر فسادا. أو بين النظام المصري لعائلة مبارك وبين ديموقراطية العسكر الجديدة، أو بين نظام الأسد ونظام داعش لمعرفة من هو الأكثر دموية .. غير أن هذه المقارنات لا تنفع ولا تضر وإنما تجعل المواطن يعيش حالة من الندم مثل سكان "آرغوس"، المدينة التي تفوح منها رائحة الموت ويحتلها الذباب، غارقة في الندم والشعور بالخطيئة ويطاردها شبح آجاممنون المغتال في مسرحية سارتر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا