الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قضية لا تموت

شريف حتاتة

2022 / 1 / 18
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


----------------------------------

أخطو فوق البلاط الأملس يلمع من فرط النظافة . أتطلع إلى النقوش ، والجدران . إلى عواميد مستديرة من الرخام ، ولافتات مكتوبة بحروف سوداء على سطح من القيشانى. تتدلى عند كل منحنى ، أو مدخل أو باب فننقاد معها . نور قوى ينسكب على كل الأشياء فيه سهولة هادئة ، مريحة للأبصار ، وكأنه يضخ من مكان ما فى السقف العالى .
هبطت الطائرة منذ دقائق فى مطار " دمشق " . اتجه مع الركاب إلى صالة الجوازات . أغلبهم من العرب . رجال يرتدون العقال ، والجلباب الأبيض .التقط همس الثياب الواسعة حول الأجسام ، ولكنة الألفاظ والكلمات تتردد فى أذنى صلبة ، جافة مثل قطع الصخر أو الرمال . وشباب ممشوق القوام ، لدن الحركات ، يتحدث بتلك اللكنة الطازجة الآتية من السودان ، وفلسطينيون من مختلف الأعمار ، وبدو من قلب الصحراء ، تتزين نساؤهم بالحلى الفضية السميكة ، ودوائر الخلخال . وتجار من لبنان يحملون حقائب من جلد الماعز مغلقة بإحكام ، ويحشرون أردافهم المكتنزة فى السروال الذى صممه " بيير كاردان " . ونساء من الشام عيونهم السود كعيون المها أو الغزلان ، تبدو وكأنها لا تبصر ما حولها .
بطاقة دخول عربى
-----------------
رأسى أنا فيه شبه من رؤوس الشوام . الاستدارة المنبسطة من الخلف ، والاستقامة الحادة من أمام . لا حظت هذا لأول مرة وأنا شاب ، أتطلع إلى سترة صنعها لى الترزى ، وأتفقد نفسى فى المرآة . لكن قبل ذلك بأعوام حكى لى جدى ، وقد كان رجلا مهيبا يرتدى الجبة والقفطان ، إن أسلافنا الأوائل هاجروا من الجزيرة العربية ، إلى أرض ، فحطوا الرحال فى صعيد مصر ، ثم نزحوا إلى الشمال ، ليستقروا عند مصب
ترعة " القضابة " فى فرع النيل المتجه إلى دمياط . فتأكد فى اسمى ، وفى جسمى ، وفى اللغة التى نطق بها لسانى ، تلك الروابط التى لا تستطيع أن تلغيها الأنظمة الحاكمة أو الفيزات .
أجلس على المقعد ، وأسجل بياناتى على بطاقتين من الورق المصقول ، طبع على كل منهما بطاقة دخول عربى . فهنا لا يطلب من أى عربى الحصول على تصريح بالدخول . إلى جوارى رجل و امرأة يتبادلان الحديث باللغة " الأرمنية " ، وقد أحاط بهما عدد من الأطفال من مختلف الأحجام . عقلى يقفز فوق الزمن بتلك القدرة الفريدة لمخ الإنسان . فى أيام الشباب كان لى صديقان من الأرمن . عشنا سويا كطلبة فى الجامعة ، ثم بعدها كنزلاء فى سجن " قرى ميدان " . أحدهما كان رياضيا موهوبا يستطيع أن يبتكر حلولا لأعقد المسائل .. كان لقبه " اسادوريان " ( أى ابن أسادور ) . عندما ضيق عليه الخناق بسبب آرائه الاشتراكية ، ثم هاجر إلى أرمينيا السوفيتية ولم اسمع عنه بعد ذلك .
والآخر كان لقبه " باطمانيان " ( أى ابن باطمان ) ، سافر إلى فرنسا فى سنة 1950 وأصبح فى السنوات الأخيرة من المسئولين ، فى الحزب الاشتراكى الذى يرأسه " ميتران " . دعانى على الغذاء منذ سنة تقريبا ، فى مطعم قريب من كنيسة " نوتردام " . البناء الضخم يرقد فى فخامة وسط أشجار الكستناء ومواكب السياح ، والحمام . إلى أن غابت الشمس خلف أسطح المنازل ، وانطفأت اشعاتها الحمراء ، كنا نتحدث عن " الحسين " القديم فى شهر رمضان ، والأزهر ، و " كرم الشقافة " . عن " انجريد برجمان " فى أول أفلامها . عن " الريحانى " وقهوة " متاتيا " . عن عهد الملك فاروق ، والإنجليز على القتال ، والمظاهرات . وعن فلسطين التى احتلت أراضيها ، جزء لإسرائيل ، والجزء الأخر للملوك العرب ، فأصبح السكان الأصليين بلا وطن . اكتشفت فى دهشة وأنا أنصرف ، أننا كنا نتحدث عن حياتنا منذ خمسة وثلاثين سنة . وتساءلت ترى ما إحساس الفلسطينى الذى طرد أو هاجر منذ ذلك الوقت .
المفتاح
---------------
صوت ينادى فى الصالة هاتوا البطاقات . عقلى يقفز عائدا فوق المسافات إلى حيث أجلس الآن فى المطار . ضابط الجوازت ينظر إلىً من خلف الزجاج . شعره يسقط فوق جبهته عندما ينهمك فى فحص الأوراق مثل عازف البيانو . ينظر إلىً بنظرة طويلة كأن شيئا فى ملامحى أثار انتباهه ، أتوجس للحظة . يسأل : مصرى ؟. أهز رأسى وأقول نعم . فيبتسم ابتسامة ودودة فيها فرح . أعود إلى مقعدى وفى قلبى اطمئنان.
الإنسان فى الوطن العربى دائما مطارد بشكل أو آخر ، ما عدا ذوى السلطة والحكام . أسرح كثيرا ، وأنا مسافر . شىء كالحوار الدائم . ما أبعد البارحة عن اليوم ، وما أشبههما . دار التاريخ فى دائرة واسعة استغرقت العمر كله وكأنه يعود من حيث جاء . فهل الاستعمار فى شرقنا العربى قادر على سد كل المنافذ ؟ . ثورة يوليو جاءت وذهبت بما حققته ، وما ضيعته .
كادت أن تغدو من الذكريات . شيعها " السادات " مع الأصدقاء الأعزاء " كيسنجر" ،
ثم " كارتر" و " بيجن " . ومع الأقارب والأعوان فى الداخل أمثال " أشرف مروان " رجل الأعمال ذى العلاقات الطويلة مع جنوب أفريقيا . وتغيرت خريطة فلسطين إلى الأسوأ ، إلى إسرائيل بعد أن توسعت ، إلى أرض احتلتها فى حرب سنة 1967 .
هكذا تبدو المسائل عندما اقرأ جرائد الصباح ، أو أسمع الأخبار أو أعيش الحياة ، كما تعاش فى القاهرة . أقول لنفسى : ليس هذا سوى ظاهر الأشياء فنحن مثل نهر النيل تياراتنا عميقة ، وعنادنا طويل . الأحلام لم تعد قريبة المنال . تبدلت ، وغدت أكثر واقعية ، وأكثر إدراكا لعامل الزمن وطبيعة التاريخ . ومع ذلك فهناك أحلام تبدو وكأنها ضاعت إلى الأبد . مثل فلسطين الحرة . أراها من القاهرة تحتضر .
الاستعمار الجديد ، وإسرائيل ، ومصالح بترودولارية تختفى خلف حجاب الإسلام . تحدثنا عن " الواقعية " شعار النكسة ، والردة ، والهزيمة .. تحدثنا عن وسيلة لإقناع إسرائيل بالانسحاب من الأرض المحتلة ( وكأنه توجد أرض لم تحتلها إسرائيل ) والاتحاد مع مملكة الملك حسين بينما إسرائيل ماضية فى إقامة المستعمرات الصهيونية ، والمنشآت العسكرية ، والمشروعات الإنتاجية وشبكات الطرق الحديثة . ماضية فى تحويل الأرض المحتلة إلى جزء لا يتجزأ من إسرائيل ، والسكان العرب إلى مواطنين من الدرجة الثالثة ، إلى أيدى عاملة رخيصة . فهى تشعر أن توزن القوى الحالى يتيح لها السير فيما تريده . نتحدثنا عن إمكانية إقناع أمريكا بالضغط على إسرائيل ، لإرغامها على التراجع عن سياسة الضم لأراضى فلسطين ، إذا ما اختفى وفد المفاوضة الفلسطنية فى عباءة الملك حسين ، وعن أشياء أخرى من هذا القبيل ، إلى أن نواجه بأن القضية التى نتحاور حولها ، أحسن السبل لحلها لا وجود لها ، إلا فى الأرشيف .
سمعت صوتاً ينادينى . الدكتور شريف ، الدكتور شريف . خرج أحد الضباط من حجرة داخلية وسلمنى بطاقة مختومة بخاتم الدخول . قال لى " احتفظ بها ليوم السفر فستحتاج إليها " ، ثم أضاف " أهلين " ، أتمنى لك إقامة ممتعة فى بلدك " .. خرجت من فتحة تتوسط الحواجز الزجاجية . لأول مرة فى حياتى تطأ قدماى الأراضى السورية . استلمت حقيبتى من فوق السير المتحرك ، وتوجهت إلى الجمارك . رمقنى رجل قصير القامة ، أشيب الشعر يقف عند نهاية الممر ، فأشار إلى . وضعت الحقيبة على المائدة الأمامية .
نظرت إلى وجهه يطل على فى صمت مترقب . عيناه واسعان يشع منهما ضوء هادىء بنى اللون . ملامحه فيها سكون يقظ كأنه تمرس طويلا على فرز الذين يجتازون الحدود . اخذ منى الجواز ، وسأل : " مصرى " ؟ قلت " نعم " أضاءت ابتسامته ، فذابت معها بقايا الجمود ، ودون أن يفتح حقائبى مد ذراعه إلى آخر ،مداها كأنه يفتح باب بلاده واسعا للدخول . سمعته يردد أهلين ، أهلين ، ولمحت عينيه الذكيتين تتطلعان إلىً
فى ود .
كنت مدعوا إلى دمشق ، للمشاركة فى ندوة عن الأدب فى معركة القومية العربية عقدت جلساتها فى المركز الثقافى . انتهزت فرصة وجودى فى سوريا خلال الثلث الأخير من شهر أغسطس للقيام بجولة فى سهل البقاع شملت الروضة ، و " هرميل " ، و "بعلبك" ، ومدينة " بحمدون " المبنية فوق الجبل على مشارف بيروت .
فى الشهور الأخيرة التى شهدت الانتخابات فى إسرائيل ، واقتراب انتخابات الرئاسة فى أمريكا كادت أن تختفى عندنا كل مظاهر الاهتمام بالقضية الفلسطينية ، تلك المظاهر التى لم تتعد فى أحسن الأحوال بعض التصريحات الرسمية ، أو الأخبار ، أو المقالات المنشورة فى الصحف المعارضة ، والحكومية ، أو نقاش دائر بين الأحزاب السياسية عن تدعيم الروابط مع جبهة التحرير الفلسطينية ، واحسن السبل للاهتداء إلى حل سلمى يؤدى إلى انسحاب إسرائيل عن غزة والضفة الغريبة .
ولكن الوضع فى سوريا يختلف فيما يتعلق بهذه القضية . ربما لأن الغزو الصهيونى مازال مجسدا فى احتلال جنوب لبنان ، وسهل " البقاع " ، و " الجولان ". بالإضافة إلى أن هذا الوضع يتيح للحركات الفلسطينية قدرا من التحرك المحكوم باعتبارات السياسة السورية . ان قضية فلسطين مازالت جزءا من الحياة اليومية ، تحيا فى أعماق الرجال والنساء الذين تحدثت إليهم .
نجلس على السطح المفتوح لبيت أحد الأصدقاء السوريين ، فاكتشف أن سماء الدنيا مازالت فيها ملايين النجوم ، وأن العود أداة للموسيقى العربية ، وأن البيوت البسيطة محافظة على الود ، قادرة على زراعة الزهور . أن " غالب هلسا " الأردنى ما زال يكتب الرواية بصدق الموهبة .. أن فلسطين مازالت جزءا من الحياة اليومية ، تحيا فى القصة التى أعادها علىً الفنان الفلسطينى " حامد الارناؤوط " فى إحدى الأمسيات أراه الآن أشيب الشعر ، نحيل الجسم ، والملامح ، يخترق الانفعال طبقات صوته الهادىء
فى قصص" غسان كنفانى " الذى قتل ، فى المفتاح الكبير الذى حملته كل أسرة مهاجرة من فلسطين . مفتاح الدار الذى ظنت أنها ستعود إليه بعد أسبوع على أكثر تقدير . هذا هو ما أشاعته القيادات التى كانت قائمة آنذاك . مفتاح ثبتوه فى حجر الجدار الجديد ، أو فى الخشب ، أو فى الخيش ، أو الصفيح . يراه الأطفال فوق رؤوسهم ، وهم ينامون على البساط أو الحصير ، أو التراب . يتسلمه الصغار من الكبار ، أو الشباب من الشيوخ ، أو الأحياء من الذين يموتون . مفتاح الأمل الذى يبعثه الفن فى لحظة الهزيمة ، يبعثه فى كل فلسطينى ، فى الذين يحملون المدفع الرشاش ، أو الذين يحملون غصن الزيتون .
ففى المعركة ضد العدوان الاستعمارى ، والصهيونى ينبغى ن تتحد كل الصفوف ، رغم الاختلاف فى الفكر ، أو الأسلوب . فلكل اتجاه دوره ولكل فرقة موقعها . والسبل كلها مشروعة ، تستخدمها الشعوب حسب ظروفها ، وتلجأ إليها بروح التقدير السليم والمرونة .
هكذا علمنا العدو . إن شعب لبنان فى الجنوب يقاوم الاحتلال بالمدفع ، والسكين ، والشومة ، ثم يضرب عن العمل فى صيدا ، وصور .
والمسافر السورى يكاد يرى الجندى الإسرائيلى ، عندما تضطره ظروف عمله أو مصالحه إلى السير على الطريق الذى يبدأ فى دمشق وينتهى فى بيروت ، فتملاه الشكوك حول ما آلت إليه الأمور بعد اتفاقية كامب ديفيد . خطوط العدو الصهيونى قريبة إلى درجة لا يستطيع أن يتخيلها إلا منْ يراها بعينيه ، كما رأيتها ، وأنا متجه إلى
" منطقة الروضة " جالسا فى السيارة " اللاندروفر" خلف السائق . شاب فلسطينى لا يزيد سنه إلا قليلاً عن ابنى . فعدت إلى سنة 1967 إلى جنود إسرائيل الرابضين على الضفة الشرقية من القنال يتحركون فوق التلال كالحشرات السود . إلى السيارات المحترقة على الطريق ما زال يصعد منها الدخان ، إلى وجه الاسطى " فرج " ، وكلماته الغاضبة " شوف وصلوا لحد فين " .
منْ يستطيع أن يلوم السورى عندما يسير فى الليل ، إذا تذكر أن خلف آلاف الأنوار المطلة من البيوت ، الصاعدة فوق الجبال كالجواهر الممنثورة ، يوجد عدو مزود بالمدافع ، والدبابات والصاروخ على بعد خمسة وعشرين كيلو مترا من عاصمة بلاده ، وإذا بدت له كلمة السلام حتى الآن نشازا ؟ . أو إذا تساءل عن الثمن الذى سيدفعه ، بعد الثمن الذى دفعناه مقابل الاتفاق الذى مازالت تحاصره علامات الاستفهام ؟ . ومنْ يستطيع أن يلوم المقاتل الفلسطينى الذى يشاهد إسرائيل ، وهى تحاول أن تمحو شعبه ، ووطنه من الوجود إذا رفض أن يلقى سلاحه ؟ ، أو خاف من الوعود ؟ ، أو أحس أن الموت شهيدا أفضل ، من الحياة كمهاجر ، مطارد بين الدول ؟.
حوار فى الجبل
--------------------
تبعد منطقة " الروضة " عن دمشق ما يقرب من خمسين كبلو مترا . الطريق الجديد معبد بالأسفلت ، واسع ممتد ، يتلوى مثل الثعبان الضخم مخترقاً الجبال العارية من الأشجار هابطا نحو سهل البقاع . قطعنا المسافة فيما يقرب من ساعتين . فقد اضطررنا للتوقف عند مخافر المرور العسكرية التى تكثر فى هذا الجزء من الطريق . أحيانا نجتازها بنظرة من العيون فيها استطلاع ، وود ، تكفى معها التحية المقتضبة
" يعطيك العافية " ، بدت لى و كأنها كلمة السر إلى أن اكتشفت أنه عند بعض المخافر تستخدم كلمة السر الحقيقية ، " انشراح " . أحيانا تكفى نسخة من إحدى المجلات التى تصدرها فرق جبهات التحرير المختلفة ، ولكن فى أحيان أخرى كنا نتوقف أمام كشك كبير حيث تفحص أوراق السيارة والهويات . هذه الإجراءات المتنوعة التى لا تتبع نسقا واحدا ، جعلتنى أدرك فى النهاية أن الجنود الذين يقفون عدد الحواجز على هذا الطريق المتدفق بالسيارات ، والشاحنات ، والأتوبيسات ، يكاد يعرفون كل منْ يمر أمامهم ، إن لم يكن بالملامح والنظرات ، فبالأحساس . وكأن هناك لغة خاصة حميمة بين الذين يحملون السلاح دفاعا عن كيانهم ضد الغزاة . شعرت مع مرور الوقت ، ومع كل مخفر نخترقه بالسيارة أننى اقترب منهم ، وانهم يقتربون منى . وجدت نفسى ابتسم لهم وأقول " يعطيك العافية " . وانتابنى إحساس بالزهو كأننى طفل سمحوا له بأن يشترك فى اللعبة معهم ، وان يدخل فى زمرتهم ، لأن فى قلوبهم يقين ، لا أعرف من أين جاءهم ، بأننى لا يمكن أن أكون من الأعداء .
شىء ما فى جو هذا البلد مختلف ، حتى وإن ظللت أعى أن ثمة أشياء فى الوضع العام تستوجب التحفظات . كأن حمل السلاح ، والشعور بالخطر المشترك ، بالمدافع المصوبة من أعلى الجبال ، وفى الجولان ، وحول البقاع وفى جنوب لبنان ، كأن الإصرار على منع العدو من اختراق المجتمع يخلق علاقات مختلفة ، بين الإنسان والإنسان ، عن تلك التى نعيشها فى القاهرة منذ أن فتحنا أبوابنا أمام أموال ، وسلاح ، وخبراء ، وأفكار الأمريكان .
انحرفنا فى طريق جانبى يسع مرور سيارتين إلى جوار بعضهما بالكاد ، ودخلنا من باب . اخترقنا حوشا صغيرا تقف فيه سيارة إسعاف ، وتوقفنا . بساتين الأشجار تمتد أمامى حتى الأفق . يتدلى منها التفاح بالعشرات ، مختبئا تحت الأوراق مثل كرات من الشمع الأحمر . مئات الهكتارات يملكها أغنياء الموارنة . تركوا البيوت ، والمزارع ، وفروا إلى شرق بيروت ، والجبال المحيطة بها . ملكية خاصة محفوظة لحين عودتهم . طوال المدة التى قضيتها هناك ، لم أر يد فلسطينى تمتد لقطع تفاحة ، أو عنقود من العنب . فلما سألت أجابنى أحدهم . " هذه هى السياسة . تعلمنا ألا نمد أيدينا إلى ما يخص الآخرين". قلت و " لكنهم من الكتائب " . قال : " ولو". فتساؤلت : " هل كلكم كذلك " ؟. ابتسم . نحاول حتى لا ندفع الثمن الذى دفع قبل ذلك . فى المواسم يرسل أصحاب البساتين وكلاءهم لجمع التفاح وبيعه ، وإرسال المصارى ( أى النقود ) إليهم . يبيعونه الآن بثلث أو نصف الثمن .
جلسنا تحت التكعيبة . المح عناقيد العنب الشامى المستطيل ، تكاد قشرته الرقيقة أن تنفجر فوق اللحم ، والسائل . استمع إلى همس الشجر واترك وجهى للنسيم المنعش يجتاز المسافات . تدور عيناى حول هذه الجنة المزروعة بالفواكه . خيالى لا يستطيع أن يهضم ما أحسه به من تناقض ، أن يستوعب جو السلام وهؤلاء الرجال يرتدون الزى العسكرى الأخضر الغامق . يربطون خصورهم بالأحزمة الجلدية العريضة تحمل المسدسات والقنابل . يصلنى صوت " أبى نادر " الضاحك ، فالتفت إليه . الشيب زحف إلى شعره الأسود ، مثل حبات الملح المرشوشة على سطح داكن . عيناه فيهما تأمل هادىء كأنه أستقر فى حياته ، ولم يعد يجد سبباً للقلق . اسمع الرجل الجالس إلى جواره يقول : " غداً سيذهب للقاء امرأته فى دمشق بعد فراق دام ثمانية عشر عاماً " . اسأله : الم ترها أبدا طوال هذا المدة ؟. قال : " لا " أبدا . صمتت لحظة أفكر فى الأمر . ثم قلت : " وهل فكرت فى الزواج من غيرها وهى غائبة " ؟ تأملنى من أعماق المقلتين . وكرر الجملة نفسها : " لا ... أبدا .. " . فسألته حتى أري بماذا سيجيب . " لم لا " ؟ . قال ببساطة "أنا لها ، وهى لى . مثل فلسطين ... فالوفاء فى الحياة لا يتجزأ " . نظرت إلى يدى الفلاح القويتين تركهما على حجره ، كأنهما ينتظرا فرصة للعمل . هذه المرة لم أعلق .
هكذا هم . يعيشون وسط المآسى ويتقبلونها كجزء طبيعى من حياتهم . ربما تكون الوسيلة الوحيدة للحفاظ على العقل ، والثبات .كلهم تنقلوا من مكان إلى مكان ، ومن بلد إلى بلد . " أبو نادر" من " الناصرة " رحل إلى الأردن ، ومنها إلى الجزائر ، ثم لبنان . والآن استقر به الحال فى سهل البقاع وغدا ؟ . لم يعد يفكر ، أو ربما يفكر ، ولا يقول شيئاً . فما فائدة الكلام ؟ . المفتاح فى القلب ، وفى يده القوية يحمل القنابل . أتطلع إليه . كهل مدكوك الجسد ، مفتول العضلات ، فيه صلابة الصخر . وفى عينيه صفاء أكاد أصل إلى قاعه ، وكأنه لم ير شيئا مما رآه . كصوت " فيروز " سمعته يرتفع فى سكون الصباح من كوخ على الجبل . غير صوتها فى أى مكان أخر. كالبلبل فى الفراغ له جمال خاص . فلكل شىء موطنه . مثل آثار مصر ، واليونان ، شكلها فى متحف اللوفر، غيره فى أثينا أو الأقصر أو أسوان .
السيارة المرسيدس تنطلق بسرعة جنونية على الطريق المتعرج . منذ شهور كان حدا فاصلا دارت حوله أعنف المعارك ، وسقط فوقه القتلى بالمئات . يقودها شاب لبنانى . صامت ، يضع يدا على القيادة وفى الأخرى يحمل سيجارة . ينظر حوله بعينين فيهما بلادة .. السيارة تقفز فوق الحفر ، وتصفر عجلاتها عند كل منحنى . أتساءل لماذا ينطلق هكذا بعدم اكتراث ، فالمهارة وحدها لا تقى فى كل الأوقات . هل لأنه عاشر الموت عن قرب ، فأصبح يحن إلى هذا القرب فى كل اللحظات ؟ . أو ربما الإفلات من الأخطار الجسيمة ، من القنابل والرصاص يلغى الشعور بالأخطار الأبسط فى الحياة ؟ . مثل الإدمان ، كلما توغلت فيه ، أصبحت فى حاجة إلى جرعة أكبر للشعور بآثاره . أساله عن نفسه. أحاول أن اخترق السياج . طالب فى جامعة بيروت ، ترك الدراسة بعد حصار بيروت . لا يزال فى السنة الثانية من الجامعة ، قسم الكيمياء .. قال : " سأعود إذا استقرت الحوال " . متزوج من مناضلة فلسطينية ولدت فى " مخيم الجليل " ، فى
" بعلبك " ولم تر فلسطين على الإطلاق . ليس عندهما أطفال .
لم يبتسم أبدا رغم أننى داعبته عدة مرات . ولكن عندما وصلنا إلى معسكر "الهرميل " وجد أحد أصدقائه . وضع ذراعه على كتفه وصعدا الجبل وسط الأشجار . سمعتهما يضحكان كالأطفال . فأيقنت أن بين هؤلاء الناس روابط من نوع خاص ، يصعب أن أنفذ إليها . فلم أشارك معهم فى التجارب التى أصبحت محور حياتهم .
جلسنا على الدكك الخشبية ، وشربنا القهوة الداكنة التى يجيدون صنعها . تصيبنى بدوار لذيذ مع أول رشفاتها . قال أحدهم وكأنه يحكى حدثا عاديا . " مرت طائرة إسرائيلية فوق رؤوسنا اليوم " . بدا لى أن صمتا قصيرا ظل معلقا فى الهواء ، كأنه تجمد ، أو أصبحت له كثافة . فى الملامح جمود لا يفصح عن شىء . نظرت للسماء كأننى أبحث عن آثار للطائرة التى مرت قبلنا . فيها زرقة البراءة ، وحياد التنصل أو اللامبالاة . نطق الشاب اللبنانى جملة واحدة : " انهم لا يكفون عن طلعاتهم اليومية " ، ثم عاد إلى صمته . فسألته : " ألا يعنى هذا أن هناك شيئا يعدون له " ؟ . زحزح المدفع الراقد على حجره قليلا ، وظل يحملق فى الأفق دون أن يرد على سؤالى .
تجمع أفراد المعسكر حولى ودار الحوار، عن الفن وأخبار مصر ودور المرأة فى الثورة . كل شىء يهمهم ، وفى كل شىء لهم وجهة نظر يعبرون عنها ببساطة . هنا لا توجد محرمات . الإنسان على البلاط . أسألهم ما رأيكم فى الحلول السلمية ، والمفاوضات ؟ . يجيب علىً شاب متخرج من الجامعة ، سنه لا يزيد عن خمسة وعشرين عاما . الشعر الكستنائى طويل ، يبرز من تحت الطاقية العسكرية الخضراء ، والعينان تنظران فى ثبات . وجه فيه تلك البراءة المشرقة والمؤلمة للشباب . أفكاره مرتبة يعرضها بصوت هادىء . " أمريكا " وإسرائيل لن يسلما أبدا بحق من حقوقنا . نعرف أننا أصبحنا ضعفاء يصعب علينا أن نحقق شيئا ما ، فى هذا الوقت بالذات وربما لسنين طويلة قادمة . ولكننا نحمل السلاح لتظل الجذوة مشتعلة . فإذا القينا السلاح ستموت القضية " .
أنظر إليه ، وأصمت . ترى أين توجد الحقيقة . فى القاهرة لى أسرة ، وشقة صغيرة ، وحياة مستقرة إلى حد كبير . فى المساء أنام على سرير مريح . وفى الصباح اتريض إلى جوار النيل . إنه ينظر إلى الواقع من زاوية أخرى . ربما علينا نحن أن ندرس الواقع الفلسطينى من جديد بعد التطورات . غصن الزيتون والبندقية . ما دور كل منهما فى التحرير ؟.
أنا احب أمريكا
------------------
عدنا على الطريق . على الجانبين مزارع الحشيش ، وصور " الخومينى " على جدران البيوت ، أو على لافتات ضخمة تتوسط الطريق عندما نمر على القرى أو المدن الصغيرة . شعارات حزب الله منتشرة فى كل مكان . فهنا منطقة الشيعة . يرأس حركتهم "حسين موساوى" . بعض المساحات مزروعة بالفواكة ، أو الخضروات ، أو الذرة والشعير . ولكن جزءاً أساسيا من النشاط قائم على زراعة وتصدير الحشيش ، فهو منبع للمكاسب الطائلة خصوصا لبعض أغنياء الشيعة . يهرب جزء عن طريق البحر ، وجزء عن طريق إسرائيل .
لمحت سيارة مرسيدس سوداء أمامنا على الطريق ، يجلس فيها رجل يلف جسمه العملاق فى جلباب من الحرير . وجهه مربع كبير محاط بلحية داكنة وفى العينين السوداوين بريق . عندما تبطىء السيارة أكاد أستنشق رائحة المسك ، والطيب .
رأيته يحيي العسكر على الطريق بكبرياء .
وصلنا إلى الفندق فى منتصف الليل . نمت نوما عميقا ، وفى الصباح انطلقت فى شوارع دمشق . بعد ثلاثة أيام بالتحديد كنت أتناول إفطارى من الشاى بالحليب ، وأطباقا صغيرة فيها زيتون أخضر ، ولبنة ، ومربة المشمش ، وخبز شامى رفيع . فتحت جريدة
" تشرين ". على الصفحة الأولى ، عنوان الطائرات الاسرائيلية تغير على منطقة الروضة ، وتقذف مركز قيادة الجبهة الشعبية الديمقراطية . عدد من القتلى والمصابين . أغلقت الجريدة ، وسرحت .
بعد أسبوع من عودتى إلى القاهرة ، قرأت فى الأهرام خبرا مفاده أن الطائرات الاسرائيلية أغارت مرة أخرى على منطقة الروضة ، وأصابت مركز قيادة الانتفاضة ، والسجن المجاور ، فسقط عشرات من القتلى ، والجرحى .
الموت فى هذه الأرض قريب ، موجود فى كل خطوة ، محلق فى السماء ، أو زاحف على الأرض . يختفى فى مكان ما من المستقبل المجهول . قد ينقض عليك الآن ، أو فى اللحظة التالية ، أو بعد ساعات ، أو بعد يوم ، أو أسبوع . فالعدو يطل عليك بمدافعه من فوق الجبل . يحاصرك . يجعلك تحس به على أطراف الوعى ، أو ينبعث وجوده من أعماق الغريزة . والموت يحسم كثيرا من المسائل . ينحى الصغائر ، ويسمح للقضايا الهامة أن تأخذ مكانها . وهذا يفسر وعى المقاتل ، ويفسر الفارق بين الحوار الذى يدور فى سهل البقاع أو فوق الصخور ، أو تحت شجرة بلوط فى أحد المواقع ، وبين ما يدور بعيدا عن جبهة الصمود . إنه يجعلنى أتقبل بسهولة منظر المدفع التشيكى الصغير أو الكلاشينكوف ملقى إلى جوار السائق ، أو تحت المقعد ، بل ومنظر القنابل اليدوية توضع فى الجيوب الجلدية للسيارة .
العدو الخارجى متربص ، يفحص كل التحركات عن قرب . والعدو الداخلى أيضا موجود ، فى كل ركن من لبنان حيث مازالت تدور بعض المعارك . منذ ما يزيد عن خمسة وثلاثين سنة ، لم أمسك ببندقية حتى بهدف صيد الطيور . وما أفظع شعور الأعزل إذا واجه العدو المدجج بكل أنواع السلاح . خاطر يدور فى ذهنى كالاكتشاف .. كالنور يومض ، ويجعلنى أرى ما كنت أراه بصعوبة .
الغزو الأجنبى وحد الشعب فى لبنان ، فتكاتفت صفوفه . ولكن من أين جاءته القدرة على طرد الأمريكان والانتصار على أسطولهم ؟ . إجاءته من المعارك التى دارت فى طول البلاد وعرضها منذ سنوات طويلة . من المدافع المخبأة فى كل بيت ، وفى كل كوخ . من التدريب على حمل السلاح منذ الطفولة .
هكذا استطاع شعب صغير لا يزيد تعداده عن ثلاثة ملايين ، بالتعاون مع البقية الباقية من مقاتلى فلسطين ، وبحماية خلفية من السوريين أن ينتصر على " المارينز" ، ومدافع الأسطول السادس ، وان يصمد فى مواجهة الجيش الإسرائيلى ، وميليشيا الكتائب . ثم أن يقضى على الاتفاقية المعقودة مع إسرائيل قضاءا لا رجعة فيه .
لهذا السبب بالتحديد فشلت الإمبريالية الأمريكية فى غزو لبنان ، ومن قبلها فى غزو كوبا ، تلك الجزيرة التى لا يزيد عدد سكانها عن ستة ملايين ، والتى تبعد مسافة تسعين ميلا مترا عن شاطىء ميامى فى أمريكا . وهكذا لم يبق أمامها سوى أن تمارس جبروتها على جزيرة " جرينادا " ، التى لا يزيد عدد سكانها عن ثلاثمائة ألف بما فيهم العواجيز والمرضى ، والمقعدين ، والأطفال ، والذين لم يتدربوا على حمل السلاح .
يوم أن عدت إلى القاهرة ألح علىً سؤال . لماذا لم نعد قادرين على رؤية هذه الحقائق الكبيرة ، والبسيطة فى آن واحد ؟ . ظل يطاردنى وأنا أروح وأجىء . فى لحظة ما توقفت بسيارتى عند إشارة كوبرى الجلاء . وجدت سياررة فيات 128 تقف أمامى . سائقها شاب فى عمر المقاتل الفلسطينى الذى حملته معى فى الذاكرة من " هرميل " كما يحمل الإنسان شيئا ثمينا . أرى شعره الكستنائى الطويل وهو يتلفت فى مقعده ، ويلقى نظرة فيها تعالى على المارين . على زجاج السيارة الخلفى ، فى كل ركن من الركنين ألصقت راية أمريكا ، وفى الوسط لافتة كبيرة ، كتب عليها بالإنجليزية " ميتشجان
يونيفرسيتى " ، ( جامعة ميتشجان ) " ، آن أربور" ( وهى المدينة ) ، ثم تحت كل هذا مكتوب " أنا أحب أمريكا " .
إن الاستعمار الجديد يسيطر علينا بالأموال ، والسلاح . ولكن ربما يكون أخطر أنواع السيطرة هى تلك التى تمارس على عقل ومشاعر الإنسان . قلت لنفسي لكن أعلى الجبل ، هناك شباب من نوع آخر . قالوا لى أن الصليبيين احتلوا فلسطين ، مائتى سنة ثم طردوا . فمهما كانت الهزائم ، توجد قضايا لا تموت لأنها تظل حية فى قلوب الناس .
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
--------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل دعا نتنياهو إلى إعادة استيطان غزة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. روسيا تكثف الضغط على الجبهات الأوكرانية | #غرفة_الأخبار




.. إيران تهدد.. سنمحو إسرائيل إذا هاجمت أراضينا | #غرفة_الأخبار


.. 200 يوم من الحرب.. حربٌ استغلَّها الاحتلالِ للتصعيدِ بالضفةِ




.. الرئيس أردوغان يشارك في تشييع زعيم طائفة إسماعيل آغا بإسطنبو