الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة العراقية ومفهوم الدلالات ح8

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 1 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ما تقترحه الفرضية هو أنه فقط عندما دخل التفاهم التعاقدي " التواصل المفهوم والمدرك بين أفراد المجموعة" حيز النفاذ على مستوى فهم المجتمع فإن الثقة في النوايا التواصلية قد أمكن قبولها تلقائيا، وذلك ما مكن "القرد الأعلى العاقل" في الآخر من التحول إلى صيغة افتراضية أكثر كفاءةً، وأصبح التعبير ليس مقبولا فقط بل ضروريا ومستعد للتحول والتطور طالما وجدت صيغة حقيقية لأسس التواصل، خاصة وأن الإشارات الإيمائية لا يمكنها في ظل ظروف أخرى أن تلبي حاجة التواصل والربط، خاصة في مجتمع عاش في ظل ظروف بيئية أحيانا تضطره لأستبدال الإيماء بالصراخ أو النداء أو أطلاق أصوات ما للتنبيه أو إدامة التواصل، فالإيماءات الجسدية قد تكون البداية الحقيقية والصالحة لوجود اللغة، ولكن عندما لا تجد لها مكانا أو ظرفا للتعبير عن حاجات ضرورية أو ملحة في غياب الأخر المفترض وجوده، صار البحث عن وسيلة أخرى أهم من البحث عن الأخر المطلوب.
إذا هناك خط حاصل بين اللغة كأداة تخاطب وبين الخطاب بذاته في الشكل والمضمون ولا يمكن جمعهما على أنهم شيء واحد، الحد الفاصل بين الخطاب واللغة يستند على أن الأخيرة ليست بالضرورة ملفوظة دوما، فقد تكون مكتوبة أو بالإشارة الإيمائية أو بأي تعبير ممكن أن يصل بالفكرة إلى الأخر، أما الخطاب فهو واحد من عدة طرق متفق عليها أو متعارف في فهمها لترميز ونقل معلومات لغوية، ويرى بعض المثقفين أن اللغة يمكن تنميتها بالمعرفة في البداية المعرفة القائمة على الأمتداد في الأستعمال ليكون عامل مشترك بين الأفراد داخل المجموعة ويمكن تعميمه للخارج تحت متطلبات أخرى، وهنا تكون تخريجه الخطاب ليخدم أغراض التواصل التي قد تأتي في التطور البشري لاحقاً، فبالنسبة لإحدى المدارس الفكرية فإن المميز الرئيس للغة الإنسانية هو التكرار المتماثل بمعنى إعادة ترسيخ عبارات داخل عبارات أخرى، لكن هناك علماء آخرين مثل دانييل إيفرت (Daniel Everett) ينكر أن صفة التكرارية عالمية فمثلاً لغات معينة كالـ بيراها (Piraha) تفتقر لهذه الصفة، قد يكون ذلك حقيقيا لكنه يبقى أستثناء من القاعدة ولعل الحالة المستثناة تتعرض بقاعدة تواصلية لا نعرفها أو لم نتوصل لها.
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن كثيرًا من العلماء يرى أنه يمكن إسقاط نظام المراحل التطورية التي يجتازها الطفل في مظهر ما من مظاهر حياته، قد تمثل نفس المراحل التي اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر "أكتشاف اللغة" في تطورها التأريخي، أما فيما يتعلق بلغات الأمم الأولى فقد لوحظ في كثير منها، أن الأصوات المبهمة وأصوات المد تفوق كثيرًا الأصوات الساكنة في كميتها وأهميتها في الدلالة، لطبيعة شكل المحاولة الأولى للإنسان في إيصال رسالة للأخر مما يتيح له القدرة على فهم المخاطب، وليس هناك من بين هذه الأدلة ما يمكن عده برهانًا قاطعًا على صحة هذه النظرية وإن كانت حقيقية في نظري البحثي، إلا إن معظم المحدثين من علماء اللغة يقطعون بفسادها، وحجتهم في ذلك أنه لا يوجد من بين اللغات الإنسانية المعروفة سواء في ذلك اللغات الحية والميتة، الراقية والساذجة لغة خالية من أصوات اللين أو من الأصوات الساكنة، وأنه من المتعذر تصور لغة إنسانية عارية عن أحد هذين النوعين لكنهم في الحقيقة يجردون النظرية من ظرفها الزماني والمكاني وتأريخا ليقارنوا بينها وبين لغة مكتملة البنيان في القواعد والقضايا المتعلقة بفقه اللغة، وهذا الخلط والإسقاط يضعف حجتهم ويؤكد صوابية النظرية الأولى، هذا عدا أن ظهور الأصوات ذات المقاطع "الأصوات الساكنة" في لغة الإنسان في رأيهم لم يكن ليتوقف على ارتقاء في لغته، أو على تطور صوتي، أو على مراحل يجتازها في هذا السبيل، كما يزعم أصحاب هذه النظرية وهذا ما يخالف كثيرا من الدراسات التي تؤكد أن تطور اللغة ليس حاصلا بسبب زيادة المفردات بقدر ما كان إرتقاء في التشكيل والتركيب اللغوي لتلك المفردات، في إطار نظام تطور بعد حين نحو أبجدية مبسطة، شكلت في بدايتها ثورة محوية في تطور عالم اللغة ذاته في تعدد المفردات المركبة والمتحولة والبدائل والأستعارات ومن ضمن ذلك التوليف الضروري في الأستعمال بين الحرف بين الساكن والمدود.
ما يفهم من بعض النظريات التي تتحدث مثلا عن طفرات وراثية كما عند تشومسكي أو نتيجة تبدلات تشريحية وتطور في شكل وبنية الإنسان أو أجزاء وظيفية محددة، وربطها جميعا في موضوع أكتشاف اللغة وتطورها عند الجنس البشري، ومن خلال البحث التاريخي لا يثبت منها إلا العكس الذي يؤيد فطرية اللغة والأستعداد العقلي عند الإنسان الأول بتركيبته الطبيعية لأن يتحدث مع الأخر ويتواصل معه وفق المتاح المفتوح، فقد لاحظ وهو المدرك العاقل أن محيطه مليء بالكائنات التي تتواصل مع بعضها بطريقة أو أخرى، ولا بد له من طريق خاص، قد يكون أبتدأ بالتقليد الحركي والإيمائي أو عبر تقليد أصوات أخرى، لكنها لم تستجيب لخياله الواسع ولا لتعدد حاجاته الضرورية، من خلال كثرة التجريب أكتشف أنه ومن خلال تصوره الذهني للمسميات أطلق عليها أسماء تتناسب أما مع حركتها أو مع شكلها أو مع ردة فعله أتجاهها.
يتساءل البعض عن توقيت المراحل التي ظهر فيها كل من الاسم والصفة والفعل والحرف في الكلام الإنساني وإن كان الكلام عن هذا المبحث سابقا لأوانه ولكنه تعقيبا على المقطع السابق حول أطلاق الأسماء على المسميات، وأشهر نظرية بهذا الصدد هي نظرية العلامة "ريبو Ribot" التي تقرر أن الصفة هي أول ما ظهر في اللغة الإنسانية بأعتبار أن الإنسان الأولي لو يتعرف بعد على الأسماء في التفريق بل أستدل على ما حوله بما يحسه ويراه، فهو يرى صفه ولا يعرف أسم، فقد رأى طير يطير فصار كل ما يطير عنده تحت مسمى الصفة طائر، كذلك عرف النباتات التي حوله تؤكل فسمى كل النباتات أكل وهكذا فهو أستعمل الوصف قبل أي دلالة أخرى، ثم تلتها أسماء المعاني تطورا وأسماء الذوات تخصيصا في مرحلة لاحقة متأخرة نسبيا، ومن المسمى الموصوف بفعله الظاهر من الصفة ظهرت دلالات الأفعال، وبظهور الأفعال دخلت اللغة الإنسانية في أهم مرحلة من مراحل رقيها، فلا يخفى أهمية الأفعال في الحديث وكثرة وظائفها في الدلالة، ثم اختتمت مراحل الارتقاء بظهور الحروف المحدد بالصوت المحدود شكلا وجوهرا ودلالة تأسيسية خاصة له.
عندما نرجع إلى لغة الطفل ولغات الأمم البدائية وإلى بعض بحوث إيتيمولوجية "دراسة أصول الكلمات" أو الأبحاث النفسية، فمن ذلك أن الأصول اللغوية الهندية الأوربية التي كشفها "مكس مولر"، يتألف معظمها من كلمات دالة على الصفات، وفي هذا دليل على أن الصفات كانت أسبق الكلمات ظهورًا في اللغة الإنسانية، هنا الصفات ليست تعني تماما المصطلح اللغوي بقدر ما هو إنعكاس ما يتصف به المسمى في ذهن المشاهد كما بينا، فهو لا يفرق مثلا بين الكلب والقطة إلا من خلال الصوت عواء الكلب أو مواء القطة، فكل حيوان يعوي هو كلب، لا فرق بين صغير أو كبير ذكر أو أنثى أبيض أم أسود، صوت العواء هو من يمنحه صفة الكلب، من هنا فأن معظم أسماء المعاني وأسماء الذوات مشتقة في كثير من اللغات من كلمات دالة على صفات، وفي هذا دليل على أن الأسماء بتحديداتها الخاصة لم تظهر في اللغة الإنسانية أو الكونية الأولى إلّا بعد ظهور الصفات الملاحظ بها الموصوف، وأن معظم الأفعال في اللغات القديمة مأخوذة من كلمات دالة على صفات أو أسماء صفة، مضاف إليها بعض أصوات من ضمائر في تطور لاحق، وفي هذا دليل على أن الأفعال قد ظهرت متأخرة جدا بعد ظهور الصفات والأسماء، وأن كثيرًا من لغات الأمم البدائية مجردة من الحروف المخصوصة بدلالتها التي نعرفها اليوم، كما وأن لغة الطفل لا تظهر فيها الحروف المنفردة الواضحة إلّا في آخر مرحلة من مراحلها، ففي المرحلة الأولى ينطق الطفل بأجزاء الجملة عارية عن الحروف وعن علامات الربط، وفي خلو اللغات البدائية ولغة الطفل في مراحلها الأولى من الكلمات الدالة على الحروف دليل على أنها كانت آخر ما ظهر في اللغات الإنسانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تقارير عن ضربة إسرائيلية ضد إيران وغموض حول التفاصيل | الأخب


.. إيران وإسرائيل .. توتر ثم تصعيد-محسوب- • فرانس 24 / FRANCE 2




.. بعد هجوم أصفهان: هل انتهت جولة -المواجهة المباشرة- الحالية ب


.. لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا




.. نار بين #إيران و #إسرائيل..فهل تزود #واشنطن إسرائيل بالقنبلة