الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاقاريط (الخبيزة)

عذري مازغ

2022 / 1 / 22
الادب والفن


إلى رس ماء، تلك المراة التي ذكرتني بالطفولة البائسة والجميلة في نفس الوقت
"تاقاريط" هي تلك الخبيزة التي تصنعها النساء لأطفالهن بالأطلس المتوسط، حيث تظهر غريزة الأمومة رائعة في تجلياتها ما بعد القطيعة مع حليب الثدي، كن يصنعنها بدافع التحبيب ومرات كثيرة لأن قليلا من عجين الخبز قد شاط فيصنعن به تلك الخبزة الصغيرة، وغالبا ما يضفن إليها قليلا من السكر ليتلذذها الطفل أكثر، كانت لذيذة جدا حتى بدون سكر وربما كان ذلك بسبب تركز الحرارة عليها أثناء الطبخ بسبب صغرها وليس كالخبزات الكبيرة التي يفترض تحريكها في الفرن ومراقبتها حتى تطبخ من كل جوانبها، وعادة كان الاكثر صغرا منا هو من يفوز بها بشكل ندخل في لعبة قذرة بسببها منذ الصغر، لعبة المساومة، مساومة الصغير منا بلعبة ما أو بالتهديد أحيانا بضربه حين تغيب الأم عن المنزل، وكنا نعرف ذلك: حين يغيب الأب وتغيب الأم تصبح السلطة المنزلية للكبير منا أو الكبيرة، وبشكل عام كانت "تاقاريط" عربون مودة بين الأم واطفالها أثناء طبخ الخبز، ماعدا ذلك تكون الام مثل مدير البنك حين تطلب منه سلفة، كنا نتبعها طيلة اليوم نطلب منها الخبزوكان المجاعة شبح فوق رؤوسنا، وصراحة لا أدري هل كانت تلك السنوات من بداية السبعينات تخيم عليها المجاعة أم أن هناك اسباب اخرى لجوع الأطفال، كنا نلتصق بأمهاتنا وهن خارجات للحطب او لغسيل الثياب نطلب الخبز: "أويد أغروم" وكثيرا ما يكون الرد صفعة او قرصة بأصابعهن القاسية والصلبة، لم تكن اياديهن بالطيبة والليونة كأيادي النساء في هذا الزمن الطيب، لكن الغريب في ذلك الزمن وانا اتذكر هذا جيدا هو اننا كنا نطلب الخبز على مدار اليوم، كنا مثل الحيوانات الداجنة تبحث عن القوت طوال النهار بشكل يوحي لي الآن بأن شبح المجاعة يخيم علينا، وقد يكون الامر حقيقيا، أتذكر ان "أعريش" مليء بالحبوب والقطنيات، واتذكر اني واختي نصعد السلم إليه بحثا عن الخبز او قطعة سكر، كنا بالصدفة وجدنا يوما قطعة سكر بمخزون القمح وبالصدفة أيضا وجدنا قطعة ملح واعتقد كان اهالينا يضعون السكر والملح في المحاصيل تيمنا بباروك معين وأذكر شاهدت الأمر ذات يوم كنا ندرس القمح، وعندما ظهر القمح من التبن رمى احدهم قطعة سكر تيمنا في أن يكبر المحصول عن نهاية عزل التبن من المحصول، كانت منازلنا مسقفة بشكل هرمي، ليس بالقرمود كما منازل الأغنياء، كان السقف الخارجي على شكل هرمي مسقف بالخشب بشكل يمنع دخول المطر، وتحته سقف ثاني مصنوع بالخشب ايضا وبشكل جيد يمنع سقوط المزروعات التي نخزنها فيه، "أعريش" هو سقف على شكل هرمي هو بمثابة مخزن للمنتوجات الغذائية وبالخصوص المحاصيل الزراعية، قمح، شعير، قطاني، بصل وذرة لمن يملك مزاريع تحت مياه السقي وكانت مقسمة على شكل مربعات او مثلثات، مربع للقمح الصلب وآخر للشعيروذواليك.. وعلى الجنبات الاخرى الفارغة نضع قنينات زيت ومخزونات وآليات فلاحية أو آليات للصيد كالمصائد وسكة المحراث وغير ذلك.. وكان أكيدا ان المحاصيل لا تكفي لطول السنة وربما ذلك هو ما يظهر فين ذلك الشغف الكبير لأكل الخبز وطلبه طول النهار، كان تدبير أبائنا قاسيا جدا، عليهم ان يوفقوا بين الطلبات اليومية وضمان الأكل طوال السنة وتوفير محصول للزرع في الموسم القادم ، يعني تلك الكميات التي في "أعريش" ليست كلها للأكل بل إن جزء منها يخزن لإعادة زرعه، وكانت امهاتنا يبدين قاسيات جدا برغم ما يظهرنه من حميمية الأمومة في "ثاقاريط"، كان تدبيرهن علميا بالمعيار الحديث الآن فيما يسمى بالإقتصاد العلمي كان تدبيرا محكما موفقا إذا اردنا أن ننزع تلك العاطفة بين الطفل وحميمية الأمومة، كان عليهن تدبير المحاصيل بشكل يوازي بين حاجاتنا في الاكل طيلة السنة وحاجات إعادة الزرع للسنة المقبلة، كان المنزل بإغرم نسكنه مؤقتا فقط لكنه رغم ذلك هو أيضا بنكنا المالي حتى وإن كنا نسكن أغلب أيام السنة في الخيمة ولذلك تدبير آخر، لم نكن نعتمد في التغذية على المحاصيل الزراعية فقط بل كنا نعتمد على تربية المواشي وكنا نعتمد في التغذية على ألبانها وفي الملابس على صوفها، كانت امهاتنا عظيمات جدا وسأقول لكم لماذا:
كان عملهن مكثفا جدا، في الصباخ يستيقظن باكرا لإيجاد فطور دسم، اقول دسما وليس فطورا عاديا، فالاباء سيخرجن للعمل الشاق (الحرث بالبغال في موسم الحرث او الخروج للحطب (حطب الآباء هنا مخصص للبيع او لصناعة الكاربون (الفاخربالمغربية)أوالذهب الأسود: مقارنة الكاربون (الفاخر) بالذهب الأسود له حكاية ظريفة لا علاقة لها بالبيترول: بعد سياسة مخزنة الغابات الموروثة أصلا من الإستعمار الفرنسي لأسباب لا أريد الآن الدخول في تفاصيلها وهي أسباب معقدة في التحليل لشرح كيف أصبحت المناطق الغابوية التي هي اصلا تابعة لتكتلات قبلية مثل الأراضي السلالية إلى غابات مخزنية.. كان الناس يصنعون "الفاخر" وسط الغابات بشكل سري من الصعب حتى على حراس الغابة المخزنيين اكتشافها، وكانو ينقلون منتوجهم هذا ليلا للمدن لبيعه، يدقون فجرا على المنازل لإخبارهم بوجود "فاخر" للبيع، ولأن الجمر وكل ما هو أسود هو حامل شؤم في الفجرأو الصباح الباكر، كان البائع يخبر أهل البيت بأن عنده ذهب للبيع، ينطق ذهب عوض "الفاخر".
مسالة أخرى: كان حارس الغابة إذا اكتشف وجود "كوشة" لصناعة الفاخر بسبب الدخان احيانا يحرقها عوض أن يستفيد منها المخزن نفسه، بمعنى لا المخزن ولا الذي صنعها، تعامل سلبي مع الثروات الطبيعية فالذي صنعها إذا ضبط سيغرم او يسجن ولكن إذا لم يضبط سيحرق المنتوج كما تحرق المخدرات والحال انه غذا لم يصبط صانعها (وهو عمل غير قانوني) يجب ان تستفيد الخزينة العامة من الكمية عوض إحراقها وهذه سياسة غير مفهومة من المركز تماما، وبشكل عام كان عمل الأباء مكثفا كما عمل الأمهات: حرث، حطب، صناعة "الفاخر" وصيد في الليل وغير ذلك من الاعمال الأخرى كالرعي و"تاسبابت" (الإتجار في المواشي) وغيرها، أما الأمهات فكان امرهن مكثفا بشكل لا يقاس: قلت سابقا بأن فطورنا دسم: حريرة زائد كؤوس من الشاي والزيت البلدية (زيت الزيتون)، عليها إيجاد هذا الفطور الدسم في الصباح (وطبعا هو فطور لا يحبه الاطفال)، عليها حلب المواشي في ذلك الصباح والعملية ليست سهلة كما يفترض، عليها عجن الطحين لصناعة الخبز، عليها الذهاب للحطب إذا لم يكن هناك حطب، عليها غسل الملابس (هو عمل أسبوعي وليس يومي)، عليها تربية اطفالها ولو بالقرص والصفع ، عليها نسج الملابس اونسج الأفرشة (حصائر الدوم وافرشة اخرى صوفية)، تهييء حبوب الكسكس (في تلك الفترة لم يكن يباع جاهزا كما الآن)، عليها دك الملح (في تلك الفترة كنا نشتري الملح حجرا وليس دقيقا كما الآن وبنسبة اليود، ملح الحجر ليس فيه "يود" وكان الكثير من النساء تظهر عليهن انتفاخات في العنق أو الوجه بسبب انعدام "اليود" في الملح. عندما أتذكر الآن كل هذه الكثافة البئيسة في عمل أبائنا وأمهاتنا واعتقد أن هذه الكثافة موجودة حتى الآن في مجتمعنا أتساءل بشكل عميق: ما الذي يربطنا بالدولة ؟؟
مع كل هذا البؤس الشديد، في ذلك الزمن الرهيب كنا نمنح للدولة شيء من طاقتنا، كنا نشتري من السوق بعض المواد الغذائية المغروسة بضريبة ما، كنا ندفع للدولة حين نبيع رأس حيوان ولو كان حمامة، اتذكر في منتصف الثمينينات، اشترى احد الرأسمالين السوق الاسبوعي لخنيفرة (أو اكتراه لا اتذكر) وفرض ضريبة ملزمة على الباعة (يسمونها محليا ضريبة "الصنك")، دخل شيخ امازيغي كبير يحمل قفصا فيه حمام يقصد بيعه، طلب منه المعاون المخزني الاداء على رأس كل حمامة، فطلب منه الشيخ أن يتركه يبيع اولا لأن ليس لديه ما يدفعه له الآن فلم يقبل العون ففتح الشيخ قفص حماماته فطارت ثم نظر إلى عين العون فقال له بالأمازيغية : "صنك واسا!" يقصد خذ ضريبتك الآن منهن في السماء، كان يقصد ان حماماته ستعود إلى المنزل وأن العون ومستخدمه هم من لن يستفيدوا وان الاعمال في الإقتصاد تستلزم المرونة .
في الأخير: كوني شيوعي هو امر نابع من الاعماق، ابي وامي كانا شيوعيين والشيوعية كما أفهمها ليست شيوعية ماركس وانجلز، بل في كونها تتمثل في هذه الاسرة التي كانت تعمل بكثافة بتدبير ممنهج غير مرسوم على الورق، كان والدي ووالدتي مؤمنان بالله، لكن حياتهما كانت شيوعية او اناركية من حيث لا يعلمان، لم ينتظروا ود المخزن ولا سلات البؤس الرمضانية، كان أثر المخزن علينا هو حين يضبط أبي وهو يبيع الحطب او يبيع "الفاخر" أو الذهب الاسود، كان اثر المخزن علينا هو إغرامنا وكان والدي يدفع الغرامة من حطب سري أو ذهب أسود آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في