الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن المصري في رياح الوهابية وقيم الريف

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2022 / 1 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لمصلحة من يجري تدمير الفن المصري؟
ومن المسئول عن إرهاب الفنانين ودفعهم لهجرة الصناعة والاعتزال؟

عندما عثرت البشرية على قوانين حمورابي كأقدم قوانين تاريخية مسجلة لم يكن من المتوقع أنها تختلف كثيرا عن شريعة البدائيين، بحيث لا يوجد تناسب بين الجريمة والعقوبة..فالقتل لم يكن فقط للقصاص بل لأمور أخرى غير مسئول عنها المتهم كقتل أبناء المخطئين ، لكن عندما تطور الإنسان عقليا وحضاريا وبالتراكم القضائي تبين أن هذه التشريعات ظالمة بالفعل وتقضي بموت أبرياء..وهنا كانت رحمة القاضي هي الفيصل في تطور التشريعات حتى أنقذت هذه الرحمة ملايين الأبرياء في عصور لاحقة..

الذي حدث هو أن القاضي صار أكثر رحمة وإنسانية بعدما تهذب عقله ومجتمعه ، فتم تسجيل هذا التطور في سلسلة تشريعات قانونية جديدة بالتدريج حتى تُوّجت بميثاق العالم لحقوق الإنسان في الأربعينات، الذي قضى على كثير من مفاهيم البدائيين والقرون الوسطى عن ما يسمى "القانون" وعالج مشاكل (الأنا والهو) المتجذرة في نفس الإنسان بحيث لم يعد الميثاق يميز بين الأنا والهو في الحقوق، فالناس سواسية وحقوقهم متساوية دون أي اعتبار للدين والجنس واللغة والقومية والطبقة..إلخ، حتى دخلت هذه التشريعات الحقوقية معظم دساتير العالم وخاضت بمفردها صراعا بين القوانين القديمة المستمدة من الهوية والتي يحرسها رجال الدين في الغالب، لذا فمفهوم حقوق الإنسان هو أكثر المفاهيم الدولية بُغضا لدى طائفة رجال الدين لهذا السبب كونه يمثل أرقى وأحدث ما وصلت إليه البشرية من دستور عالمي قضى على كل الشرائع القديمة..

في الفنون لم يحصل هذا التطور بعد بالشكل الذي حدث بحقوق الإنسان، فلا زالت الفنون خاضعة بشكل كبير لأخلاق المجتمع وبالخصوص الطبقة الدنيا..وهو الذي دفع المختصين لضبط الفنون عبر محاكم خاصة هي (الرقابة والنقابة) تكون بعيدة عن أدوات التشريع والمحاكم المدنية الأخرى، والهدف من تلك المحاكم الخاصة هو أن لا يخضع الفنان لمحاكمة قاضي غير متخصص..وهو شئ جيد بالطبع لكن الضابط الأخلاقي الذي لا زال يحكم تلك الرقابة لم يميز بعد بين أخلاق الريف والمدينة، أو بين أخلاق المثقفين والجهلة، أو بين أخلاق وعلم الفلاسفة وبين تكفير وتشدد رجال الدين، فماهية الأخلاق المنوط بها حكم الفنون لا زالت مجهولة، وبالتالي فالجملة الشائعة "لابد أن يلتزم الفنان بقيم المجتمع" غير صحيحة علميا ولم تُحرر بعد لنعلم أي قيم مقصودة هذه، ولأي أخلاق تنتمي..

مشكلة السوشال ميديا والإنترنت آخر 20 سنة أنها فاقمت المشكلة، فخرجت بأخلاق القرية والمتشددين والجهلة لتصبح هي قيم المجتمع بحكم (الأغلبية العددية) والدعوى في ذلك أن الديمقراطية تفرض على الفنان والمشرع والمحكمة المتخصصة أن تنصاع لرغبة هذه الأغلبية العددية، ولضعف هذه المحاكم الفنية المختصة بدأت تضعف بالفعل أمام هذا الهجوم متعدد الأذرع بإضافة طبقة أخرى مشهورة وهي "المتزلفين والمنافقين" الذين يريدون تحقيق المكاسب بالتقرب لهذه الأغلبية دون النظر لصحة وصدقية ما يفعلوه أو تأثير ذلك على العلم والثقافة بشكل عام..

فأصبح أي عمل فني عن الجنس والدين ممنوع..وصارت مشاهد القبلات والنقد الديني أيضا ممنوعة، فالطابو الذي يحكم الفنون لم يميز هنا بين معالجة فنية للجنس والدين تكون ملتزمة بالحد الأدنى من الأخلاق من عدمه، وكما رأينا في مشهد الممثلة "منى زكي" في فيلم "أصحاب والا أعز" حين خلعت الأندر وير دون عُري أو إسفاف، لكن مجرد الخلع في حد ذاته صار جريمة..والسبب أن خيال المتلقي يعلم ما بعد هذا الخلع ويتصوره في ذهنه بوضوح، وهنا كانت قصدية الفنان والمخرج بالعمل دون عري وإسفاف أي خروج عن المألوف بمشاهد جنسية وخلافه، فخيال الإنسان أقوى من واقعه وبالتالي صارت مشكلة من ثاروا على ذلك المشهد هو (خيالهم) بالأساس، وكلما كان ذلك الخيال بريئا وغير مهتم فلن يهتم وكلما كان مليئا بالعُري والجنس فتثور ثائرته، وهنا كان ملمح نقدي لهذا الخيال باتهام أصحابه بالشهوانية..

يفترض في الأخلاق التي تحكم الفنون أن تكون متطورة من أخلاق سابقة عليها، أي أن قوانين الرقابة الآن في سنة 2022 يجب أن تكون أكثر خبرى من رقابة 1980 وهكذا، فالتراكم المعرفي يعرض تجارب السينمات والفنون السابقة ورقابة الأسلاف عليها، فإذا كانت التجارب تقول بتطور الفنون والإنسان أو أن هذه الرقابة كانت متشددة دون داعي فينبغي دراسة رقابة المعاصرين بتوسع، مما يعني أن رقابة 2022 ينبغي أن تكون وفقا للسياق التاريخي والتراكم المعرفي والتفكير المنطقي (هي أكثر تحررا وانفتاحا) من رقابة 1980، لأن الأخلاق ببساطة تغيرت، والمجتمع المنغلق قبل 40 عاما لم يعد موجودا، فالسماوات المفتوحة والأقمار الصناعية نقلت هذا المجتمع نقلة انفتاحية كبيرة جعلته أكثر دراية ووعيا بالمجتمعات الأكثر تطورا، ومن ثم تحدث المقارنات.

الآن بعد الإنترنت والسوشال ميديا والترجمة الفورية انتقلت المجتمعات وصارت أكثر انفتاحا مما كانت عليه قبل 20 عاما وهو ما يلزمه رقابة جديدة لمعالجة الأخلاق الجديدة التي اكتسبها الناس بعد ثورة الإنترنت.

لكن الذي يحدث في مصر هو العكس..أي كلما تطور الزمن وانفتح المصريون تتشدد الرقابة أكثر حتى صار مصطلح "السينما النظيفة" رائجا، وهو مصطلح قذر لكونه يفترض وساخة السينما المصرية منذ نشأتها وبالخصوص عندما انفتح العالم على قضايا الجنس في الفنون بحقبة السبعينات وبالتالي وساخة كل فناني مصر ومبدعيها في ذلك الزمن، وهو الوقت الذي صارت فيه كافة فنون العالم تقريبا – ليست مصر وحدها – أكثر تحررا وانفتاحا، والسر في تشدد الرقابة الفنية هو استجابتها لأخلاق الريف والجهلة والمتشددين من رجال الدين كما شرحنا عاليه، والحجة في ذلك هي الاستجابة لرغبات الأغلبية وهي دعوى ساذجة تفترض أن مشاهد المثلية وقضايا الجنس والقبلات في السينما المصرية طوال عشرات السنين كانت استجابة لرغبات الأغلبية..!

فالمُشرع الفني هنا أكثر قصورا وأقل إدراكا لماهية عمله، وأن الفنون لا يشترط فيها رغبة الأغلبية لأن صناعتها من نخبة المثقفين (مؤلفين – سيناريستات – أدباء – مخرجين – ممثلين) تكون محكومة أكثر بعمق القضية المطروحة وجدواها، وهذا عمل ثقافي بحت لا يفهمه العامة ولا تدركه تلك الأغلبية..وبالتالي تكون قد أعطيت البندقية لأعمى، وقبل أن يمنع المراقب يجب أولا تحرير معنى الأخلاق والقيم المقصودة لتنوعها واختلاف فئات المجتمع ونسيجه حول مفهوم واضح للأخلاق والمعايير التي يجب أن يلزمها الفنان، علاوة على دور تشريعي آخر يخص البرلمان ومهمته في فك الاشتباك بين المصطلحات القانونية وتوضح الممنوع كي لا يكون هذا المصطلح حجة للمتشددين والقضاة الدينيون في المنع وفقا لمذاهبهم، وبالتالي تكون قد مارست الدولة الدينية الكهنوتية دون وعي، وأبر مثال على ذلك مصطلح "الفسق والفجور" الذي يجب توضيحه وفك طلاسمه وشفراته التي يستخدمها القضاة الدينيون في معاقبة الأبرياء وسجن المُصلحين والمفكرين..

ودون الدخول في هذه المعركة التأويلية أسعدني بيان نقابة الممثلين الذي دعم فيها الفنانين بلهجة قوية كالتالي "أن الحفاظ علي حرية الإبداع في دولة مدنية تؤمن بالحرية جزء أساسي من وجدان الفنانين المصريين تحميه النقابة وتدافع عنه، كما أن النقابة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي اعتداء لفظي أو محاولة ترهيب معنوية لأي فنان مصري والنيل منه" انتهى وهو بيان قوي بكل تأكيد يشير إلى تقدمية أبناء النقابة لكنه لا زال معزولا في مضمونه عن عمل الرقابة، وبالتالي فيجب أن يُترجَم هذا البيان القوي مع الرقابة لخطة عمل تمنع إرهاب الفنانين بدعوى الدين والعُرف وإلزام كافة ممثلي المنطقة لأخلاق القرية والكهنة المتشددة، فموقف هذه الأخلاق من المرأة سلبي في عذر المتحرشين الذكور بالإناث بينما قتل النساء لأبسط التهم، واتهامهن بالظنون والاحتمالات، وعليه نفهم أن الرقابة والنقابات الفنية لا ينبغي لها التقيد بهذه الأخلاق لسببين اثنين:

أولا: أن المساحة الثقافية ما بين الريف والمدينة تضاءلت كثيرا لصالح الريف بعد موجة تحريف وتصحّر وجمود فكري آخر 40 سنة لأسباب تخص الصحوة الدينية الوهابية، وبالتالي فالمعايير الأخلاقية التي يرسمها المراقبون لأنفسهم ليست مصرية في الحقيقة ولا مدنية بل أجنبية دينية، وأن سيطرة تلك المعايير آخر 4 عقود لا يعني صحتها، والاستسلام لها يعني تدمير تام للثقافة والفنون المصرية التي نشأ عليها المصريون منذ قرون والتي تجلت بإنشاء المسرح المصري كأول مسرح في الشرق الأوسط أواخر القرن 19..

ثانيا: أن الانفتاح الذي سببه الإنترنت والأقمار الصناعية جعل تلك المعايير مختلة، فهي قد أكسبت العوام دراية ووعيا جيدا (وحُبّا) للثقافة الدولية وفنون الأجانب..لكن سيطرة الصحوة الدينية جعلت قبول هذه الثقافة (ظاهريا) ممنوع..فأصبح العوام يعانون من متلازمة (الظاهر والباطن) فبالظاهر يحرصون على التدين والتقوى والورع، لكن الباطن أكثر تحررا وانفتاحا ورغبة في الحصول على هذا العالم المفقود، فيكون هجوم العوام على الفنانين مصدره الحرمان من تلك الرغبة بشكل أولي وتزلفا لمجتمع متدين كما يظنوه بشكل ثانوي..

لذا فمقاومة النقابات الفنية والرقابة لهذه الثقافة المتشددة وهجوم الدهماء على الفنانين فرض عين سوف يشجع كافة فناني المنطقة للعمل بأريحية دون ضغوط مما يرفع منسوب الوعي والإدراك والإبداع لتعود السينما المصرية سلاحا ناعما كما كانت، ولتلك المقاومة مزيد من الآثار الإيجابية التي يجنيها الفنانون سريعا وهي منع أي تأثير سلبي لكافة الحملات التي يشنها المتشددون ، مما يشعرهم باليأس والضعف فيصمتون أو يضطروا لمراجعة مواقفهم تجاه الفنانين لتبني موقفا أكثر اعتدالا، وهذه من نتائج القوة الإيجابية في دفع الخصم للتراجع والتفكير في مستقبله ومصيره إذا وجد أن سلاحه لم يعد مؤثرا، وهذا يعني أن الاستجابة للمتشددين تعطيهم دفعة معنوية بالأساس وتشجع أنصارهم على العمل وهؤلاء في الحقيقة لا يعملون بشكل منفرد بل منهم فئة كبيرة تتبع الإسلام السياسي الذي يستفيد من العراك لبناء أرضية شعبية له تمكنه من حكم الدولة المصرية من جديد..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الفن والوهابية
ابو ازهر الشامي ( 2022 / 2 / 2 - 17:49 )
الفن والوهابية
خطان متوازيان
والخطان المتوازيان لا يتقاطعان ولو طال الزمن
هنالك امور اخرى لا تتقاطع مع الوهابية
مثل
1
العلم
2
العقل
3
الحرية
4
التطور
5
التسامح
6
التقدم للامام
7
المحبة
8
الامانة العلمية
9
الامانة
10
الصدق

اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد