الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيفَ نشأت نظرية العلاج بالمعنى؟

داود السلمان

2022 / 1 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لعلّ من بين أصعب وأشد ما تمرّ على الإنسان من شدائد ومحنّ وخطوب، أن تُقتل أسرته بمرأى ومسمع منه، وهو لا يستطيع أن يحرّك ساكنا؛ ذلك لأنه مقيّد الحريّة، مسلوب الإرادة والقوة.
هذه قصة شخص فريدة من نوعها، قد حدثت بالفعل، لكنّه بالتالي تجاوزها فيما بعد، وأسس على إثرها نظرية علمية كان لها ثقلها الواقعي في علم النفس و"العلاج بالمعنى".
نعم، تمرّ على الإنسان أحيانا مواقف صعبة، يلاقي فيها صنوف من عذابٍ لا تتحملها الجبال الراسيات، حتى ساعتها يتمنى الموت مقابل هذا العذاب الذي ألمَ به، حتى يستريح، فيفكر بالانتحار كي يتخلصّ مما هو فيه؛ ألّا أنّ "فرانكل" يرفض فكرة الإنتحار، جملة وتفصيلا، معتبرًا أنّ الحياة يجب أن نعيشها على علاتها ومرارتها، وليس من العقل، ولا من الشجاعة بمكان، أن نستسلم للمحن التي تكدر صفو هذه الحياة.
ويعتقد "فرانكل" أنّ الحياة يمكن أن يكون لها معنى حتى في أسوأ الحال وأحلك الظروف، وأن الدافع للعيش يأتي من العثور على هذا المعنى، وكان يرى أنّه يمكن أخذ كل شيء من رجل، ما عدا شيء واحد: الحرية الإنسانية، لاختيار موقف المرء في أي مجموعة من الظروف.
وهذا ما يذكرنا بالفلسفة الرواقية، تلك الفلسفة التي أعطتنا الأمل للتشبث بالحياة مهما لاقينا من شدائد وأنصاب.
وملخّص فلسفة الرواقية إنّ كلّ معرفة هي معرفة حسيّة أو ترجع إلى الحسّ، بدقة أكثر، والأصل في المعرفة أن الشيء يطبع صورته في الحس بفعل مباشر لا بواسطة «أشباه»، والمعرفة التي من هذا القبيل «فكرة حقيقية» يقينية تمتاز بالقوة والدقة والوضوح، تحمل معها الشهادة بحقيقة موضوعها ويستحيل الخلط بينها وبين فكرة أخرى، والأفكار الحقيقية هي الدرجة الأولى من درجات المعرفة، يشبهها زينون، مؤسس هذه الفلسفة باليد المبسوطة. والدرجة الثانية يشبهها باليد المقبوضة قبضًا خفيفًا، ويعني بها التصديق الذي يقوم في النفس مجاوبة على التأثير الخارجي، وهذا التصديق متعلق بالإرادة ولو أنه يصدر عفوًا كلما تصورت النفس فكرة حقيقية. والدرجة الثالثة الفهم يشبه اليد المقبوضة تمامًا. والدرجة الرابعة والأخيرة العلم يشبه اليد مقبوضة بقوة ومضغوطًا عليها باليد الأخرى.
وطالما نحنُ نمتلك إرادة نفسية يجب علينا أن نقاوم اليأس من كل شيء كي نواصل المسير ونستأنف الحياة، حتى لو كان على بصيص من أمل ضئيل.
ونعود إلى قصة "فرانكل" ففي عام 1942 القت النازية على أكثر من خمسة عشرة الف شخصًا ورحلت بهم الى بولندا، في رحلة استغرقت بحدود أربعة أيام بلياليها، رحلة شاقة لاقى فيها السُجناء الذلّ والهوان، والتعذيب النفسي. وعند وصولهم إلى مشارف بولندا قسموا السجناء إلى قسمين، قسم أتجهوا بهم يمينا، وقسمًا أتجهوا به يسارًا، وهُم الأكثرية، فاليمين اختاروا لهم الأعمال الشاقة، وأما اليسار فزجوا بهم إلى المحرقة، وكان فيهم صديق "فرانكل" حيث تألم عليه كثيرا عندما علم بمصيره.
وزجوا بالبقية داخل السجن، وفي هذا السجن الرهيب الذي يصفه "فرانكل" بالمُذل والمهين حيث يتعاملون مع السجناء أكثر مما يتعاملون مع الحيوانات، حيث يخرجونهم من الصباح الباكر حتى المساء لأداء أعمال شاقة، وحينما يعودون بهم يطعمونهم لقمة واحدة من الخبر، فقط تسد رقهم كي لا يموتوا، حتى ظهر عليهم الهزال وتكالبت عليهم صنوف الأمراض، كما يصف فرانك تلك الحال، والذي يبان عليه المرض والهزال يبعثونه إلى المحرقة، للتخلص منه، وبذلك أخدت اعدادهم بالنقصان فمات منهم أكثر من النصف، والبعض من السجناء أنتحر، لأنه ما عاد يتحمل عذاب السجن والمرض والجوع والأعمال الشاقة، والتعامل غير الإنساني من قبل السّجانين.
ومع ذلك، ظل "فرانكل" يضغط بالمزيد على نفسه، وهو يُصارع العذاب والألم، وتحمّل الضغوطات النفسيّة والجسديّة، مستعينا بالصبر، وهو يحلم بالإفراج ويمني النفس بالخلاص الأبدي من هذا العذاب، والتحرر من هذا الجحيم.
يقول "فرانكل" وكنا نداري آلامنا بالحديث عن الماضي حيث يشطح بنا الخيال إلى تلك الأيام التي كنا فيها أحرارًا في بلدنا وبين أسُرنا، في محاولة يائسة مننا لمدارات ما نحن فيه من ضغوطات هي أشبه بالجنون والهذيان. كل هذا وكان "فرانكل" يكتب بعض الملاحظات (حيث سرق عدد من الأوراق من داخل المعسكر وخبأها في ملابسه الداخلية) ودوّن بها جرات قلم وملاحظات حول حال المساجين والمعاناة التي لا أحد يدرك مداها إلّا هُم، وما يشاهده يوميًا من تعامل السجانين القاسي، على أمل أن يتم تحرره فيكتب تلك الملاحظات في كتاب وينشرها، وهو ما تم له ذلك بالفعل.
لقد وجد "فرانكل" نفسه، كسجين مخضرم في معسكرات رهيبة للاعتقال، متجردًا متعريًا في وجوده. فوالداه وأخوه وزوجته قد لقوا حتفهم في معسكرات أو أرسلوهم إلى أفران الإعدام بالغاز، أي أن كل أسرته عدا أخته قد هلكت في هذه المعسكرات. وكلُّ ما يملكه قد ذهب أدراج الرياح، كلُّ قيمة قد تحطمت ليعاني من الجوع والبرد والقسوة، ومن توقع الإبادة في كل ساعة (إنسان هذا شأنه كيف يجد في الحياة ما يجعلها جديرة بالبقاء؟).
لماذا لا تكون كذلك؟، إنّ الحياة يمكن أن يكون لها معنى، حتى في أسوأ الظروف، وأن الدافع للعيش يأتي من العثور على هذا المعنى، وأستند في هذا الرأي إلى تجاربه في المعاناة، وموقفه في إيجاد المعنى من خلال المعاناة، وبهذه الطريقة اعتقد "فرانكل" أنّه عندما لا نستطيع تغيير وضع ما، فإننا مضطرون لتغيير أنفسنا، لأنه لا يوجد حلّ آخر أمامنا. "الحياة لها معنى في جميع الظروف، حتى الأكثرها بؤسًا، وهذا يعني أنه حتى عندما تبدو المواقف مخيفة بشكل موضوعي، هناك مستوى أعلى من النظام يتضمن المعنى".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هنية يزور تركيا لإجراء محادثات مع الرئيس التركي رجب طيب أردو


.. توقعات بموجة جديدة من ارتفاع أسعار المنتجات الغدائية بروسيا




.. سكاي نيوز عربية تزور أحد مخيمات النزوح في رفح جنوبي قطاع غزة


.. حزب -تقدّم- مهدد بالتفكك بعد انسحاب مرشحه لمنصب رئاسة مجلس ا




.. آثار الدمار نتيجة قصف استهدف قاعدة كالسو شمالي بابل في العرا