الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طريق -أغبال-

عذري مازغ

2022 / 1 / 26
الادب والفن


طريق "أغبال"، تعني اغبال في الامازيغية عين وتسمى ايضا اغبالو وتؤنث تاغبالت، لكن هنا نتكلم عن منطقة في الاطلس المتوسط تسمى اغبال لكثرة العيون المائية فيها
في السبعينات نادرا ما يذكر موضوع خاص بمنطقتنا في الإذاعة الوطنية، او على الأقل ليس فيها موضوع ذي أهمية قصوى لدى السكان، كنا خارج الحضارة وخارج التاريخ ايضا، وحتى حين تغطي الثلوج منطقتنا يكون الموضوع مبشرا بالخير في الإذاعة الوطنية وكانت الناس تتلقى خبر الثلوج بصدر رحب يوحي بالفسحة في مناطق مدينة إفران، أما بالنسبة إلينا نحن قاطني هذه المناطق فكان الأمر كارثيا واول شيء تتكلم عنه النشرات بفرح عجيب على شكل تحذير هو ذكر طريق أغبال: "الطريق رقم كذا الرابطة بين مدينة أزرو ومدينة خنيفرة مقطوعة عند الكيلومتر كذا إلى النقطة كذا، كان الخبر يثير نوعا من الغبطة في نفوس السكان، في هذا الخبر القصير يشعر الناس بالإنتماء للوطن وأن الثلوج فرضت على القائمين على إذاعتنا الوطنية ذكر منطقتنا ويكون الأمر أغرب حين تنظر بفضول ععجيب إلى هذا الصندوق السحري: كيف عرفت هذه العلبة الصغيرة ان الثلوج أغلقت طريق "أغبال"، كان "الراديو" عجيب، علبة صغيرة تتكلم كالبشر، تصور حتى حين يفتحون هذه العلبة العجيبة لتغيير البطاريات تكون عيوننا فضولية لرؤية تلك الكائنات التي تتكلم في العلبة، كنا نتزاحم على الرؤية بسبب الفضول وبشكل مزعج للشخص الذي فتحها ولا نرى إلا دور مربعة صغير مسقفة باللوالب، عدا ذلك لا شيء، كان أغلب الناس لا يفهمون ماذا يقول "الراديو" وكان أصلا هذا الجهاز محدودا يوجد فقط عند بعض العائلات التي لها القليل من فائض القمح اما الأغلبية من السكان فلا يتوفرون عليه وكانت منطقة أغبال صافية تماما من ضجيج الإذاعة اما جهاز التلفزة فكان بالكاد غير موجود ولم يظهر عند بعض الأسر إلا في اواخر السبعينات وبداية الثمانينات وكان يشغل ب"البطارية" هو الآخر، وكان لاقتناء البطارية لتشغيل التلفاز حدث آخر حيث يخصص له حمار لنقله إلى المدينة قصد تعبئته، كان جهازا عجائبيا أكثر من اننا كنا نستفيذ منه في شيء: نشرات الأخبار الطويلة التي لا يفهمها احد، الافلام باللغة الفرنسية التي هي ايضا لا يفهمها احد واغلب البرامج عموما كانت فرنسية قبل أن يظهر فيض المسلسلات المصرية، لكن الأسر التي اشترته كان يمتعها بالعجائبية، حتى النساء حين يجتمعن في مساء ما لقتل القمل يتكلمن عما رأوه في الجهاز العجيب من قبيل بغل يتكلم كالبشروكذا وصف للخصومات والعنف من فيلم أمريكي مفرنس بطله تشبه تحليقة رأسه جيمي كارتر الأمريكي الوسيم.
كان الكبار حينها يضحكون حين يتكلمون عن ذكر قطع طريق أغبال بسبب الثلوج، وكانوا يستملحون الخبر: "إبي أوبريذ لاحقاش لاذيكس إيكاثن إكعبيون ثافراوث..!" (قطعت الطريق لأن الثعالب تمارس فيها الفروسية أو التبوريدة) ومعنى هذا الكلام الساخر ان الطريق أصلا لا تهمهم لأن لا أحد يستعملها. وبغض النظر عما إذا كانت الإذاعة الوطنية تسميها بالرقم كذا كنا نحن نسميها بأسماء المناطق التي تخترقها: نسميه نحن طريق أغبال، في الجهة الأخر بين مربيع وعين اللوح نسميها طريق ويوان (لانها تمر على بحيرة ويوان) وعندما تمر على اغبال نسميها طريق أكلمام أزكزة وهكاذ ذواليك، حتى وصولها إلى اخنيفرة. وكانت في الأصل طريقا عملت لنهب الغابات وليس لفك عزلة مناطقنا عن العالم الآخر، عالم الضجيج الحضري. وحتى تلك الطرق الغير معبدة التي توصلها بالسكان كانت في الأصل طرقا عبئت لشاحنات نقل الحطب من الاماكن الوعرة، كان أغلب تلك الشاحنات ذات مقود ميكانيكي وليس هيدروليكي ولا يسوقها إلا "الشيفور العفريت" الذي يستطيع بقوته العضلية التحكم في مقودها، كانت شاحنات من نوع "فور، وبيد فورد" الامريكية الصنع قبل أن تهب عاصفة لشاحنات النقل الإيطاية "بيرليت"ذات المقود الهيدروليكي والخاصة في الغالب بنقل أحجار البناء والرمل وهي التي نهبت جدار واطلال مدينة "معادن عوام" المعروفة الآن بإغرم اوسار والتي استعملت حجارتها في بناء بعض أحياء مدينة مريرت الحديثة.
كانت الثلوج في تلك الفترة كثيفة او هكذا يبدو لي كطفل حيث كان يصل او يفوت ركبتي، لكن هناك ما كان يظهر كثافتها بغض النظر عن معيار اقدامنا الطفولية المرتشية بسبب حجم الكوارث التي تصيب أهلنا، كان الثلج نعمة في أمور ما، لكن من وجهة أخرى، وتقييما لتلك الأمور كانت كارثية خصوصا على حال المواشي، الكثير من المواشي تموت فيها خصوصا الغنم اما الماعز فكان قويا بفضل خصوصياته المتميزة بحيث يستطيع تسلق الأشجار واكل اوراقها اما الغنم فكانت حاله مصيبة خصوصا حين يبدأ الثلج في التراكم والتحول إلى ثلج صلب حيث كان يصيبها بأمراض على مستوى أفواهها، تموت المواشي خصوصا الغير قوية منها بسبب انعدام الكلأ او بسبب الثلج المتصلب، كان الثلج نعمة من حيث كنا نذبخ تلك الأغنام المؤهلة للموت ونأكلها، أحيانا كنا نذبحها للتحلية وهي تحتضر ولم يكن احد حينها يحرم علينا اكل لحم المحتضرة بسبب مرضها، بل كانت عملية الذبح هي عملية إحلال لحمها (من حلال)، في هذه الفترة يكثر اللحم سواء بذبح مواشينا او بالقنص من خلال استعمال البنادق او المصائد، كان الوصول إلى الحيوانات الغابوية سهلا في الثلج حيث نعرف مواقعهم من خلال أثار ارجلهم في الثلج وكنا ننصب لهم وفقا لخريطة أرجلهم فيه.
في الثلوج أيضا تقترب منا الحيوانات المفترسة خصوصا الذئاب، فوجود اثار أقدام الذئاب بالقرب من مخابئنا هو إعلان حالة طواريء تتخللها حركة مكثفة من جهد الآباء، عملية دعم زرائب الغنم وتصميك سياجها بعروش الأشجار، إطلاق الكلاب وربط الوعرة منها قرب الزرائب لأن إطلاقها يجعلها تبحث هي الأخرى عن الدفء وتترك دورها في إنذارنا عن الوحوش، حالة من الإرتقاب وجس النبض كأننا في حرب: في النهار لا يجب ترك الأطفال وحدهم، وفي الليل حركة دؤوبة من الترقب والمراقبة، كلما نبحت الكلام على أحدنا ان يخرج ويطمئن على الماشية وكثيرا ماتكون إنذارات الكلاب تعبر عن مرور خنزير أو اي حيوان آخر بينما نحن نترقب فقط تلك المفترسة، فالذئب مثلا قد يقتل نصف الغنم إن لم ننتبه له أما الثعالب فكانت متخصصة في صيد الدجاج وبشكل عام كان ضررها أقل وكان جلده عادة يباع بقيمة دجاجتين ..
آخر مرة فكرت في الثلج بمنطقتنا، حين أقارنه بثلوج هذا اليوم اعود واتذكر انه كان يصل ركبتي بشكل يحيل إلى انها كانت تسقط بشكل عارم، وانسى أن ركبتي تلك كانت ركبة طفل، لكن مع ذلك كانت هناك أحداث اتذكرها توحي بانها كانت تفوق ركبتي او تفوت قدي بشكل كامل، أتذكر أن احدا جاء يسألنا ما إذا رأينا بغلة شائعة في منطقتنا، دعاه والدي لتناول الشاي واثناءها تكلما عن رعب آخر أصاب المنطقة، لقد أخبرنا بأن الكلاب بدواره أصيبت بداء الكلب وعلينا ان نحترس من قدوم كلاب تائهة إلى مجالنا، وان لا نثق في أكل لحوم الذئاب حين نصطادها وهنا افتح قوسا: لقد أشرت كثيرا إلى الصيد في الثلج لكن لم اتكلم عن الطرائد في هذا الصيد: كانت لحوم كل وحوش الغابة في منطقة هي لحوم حلال ماعدا لحوم الخنازير البرية والقرود واعتقد أن لحوم القرود حرمت في منطقتنا لأنها تشبهنا في مسلكيات معينة اما الخنزير فهو محرم بنص صريح مضطرب ايضا (... ومن اضطر غير باغ فلا حرج.. الآية)، لكن اعتقد شخصيا ان تحريمه هو بسبب كونه وجبة رائعة عند النصارى الذين على المسلم الحقيقي أن لا يتشبه بهم، أما باقي الحيوانات فكانت تؤكل ولا أعرف تماما كيف شرع الفقه في منطقتنا لأكل لحم الذئاب التي هي في الحقيقة شقيقة الكلاب، أكثر من ذلك كانت لحوم القطط الموحشة حلال عندنا، وعندما تكلمت عن الصيد ونصب المصائد كان من بين المصائد التي كنا نقيمها هو وضع جثث الحيوانات التي ماتت بدون ذبح في أماكن خاصة لاقتناص الذئاب او الثعالب أو أي قط وحشي، وأعتقد شخصيا ان الكثير من الحيوانات والقطط في منطقتنا انقرضت بسبب احلال لحومها، بسب افتراسنا لها، واذكر أن آخر فهد بمنطقتنا قتله احد اعمامي بمنطقة "تاغبالت"وكان لسنين كثيرة يحكي تلك القصة كما لو كان بطلا قوميا، وكنا جميعا كبارا وصغارا نسمع تلك القصة الأسطورية، وكان جميلا ان ترى قريبا لك بطل اسطوري قتل فهدا عملاقا، لكن قيمة ذلك العمل البطولي الآن مقارنة مع وعيي البيئي الآن أصبحت من وجهة نظر بيئية عمل إجرامي، لكن مع ذلك حينما أقارن ما كان يحكيه لنا عمي مع هذه البرامج الكثيرة حول هذه الحيوانات في أدغال إفريقيا أميل إلى التشكيك في قصة عمي الجميل ذي اللسان الحكواتي، عمي الذي قتل فهدا بشكل عجائبي صنع به بطولته، ما كان يصفه عن الفهد ينطبق موضوعيا على الأسد وليس الفهد، وهذه قصة سأحكيها حين تسمح بها ظروف الكتابة.
بعد مرور أسبوع من بحثه على بغلته الشائعة، في ذات صباح، جاءه خبر من راعي البقر، كان هذا الراعي في سن الخمسينات، متوسط السمنة وكان أكولا، وكان يرعى قطيعا من البقر مختلط (مختلط التملك) كان الأهالي يمتلكون البقر بشكل نوعي، هناك عائلات لها بقرة واحدة وأخرى لها أاثنتان وغير ذلك، وكانوا متفقون على تأجير راعي خاص يرعى لهم بشكل جماعي، مقابل أجر مادي مع التناوب في تغذيته ونومه: يوما يتغذى وينام عندنا وفي اليوم الآخر عند جارنا وهكذا مع كل الأسر التي أجرته أو التي لها أبقار، وكان هذا الراعي الجميل الذي لا يكلم إلا أناس يعاملونه بالحسنى، كانت كل احاديثه مع رعاة آخرين حول الأكل الذي يتناوله من مؤجريه، لا يتكلم بسوء على أحد إلا من حيث ماقدم له من أكل، إذا كان اكلا جيدا شكره وإذا لم يكن تكلم عنه بلوم حزين وأذكر أنه ذات يوم اضرب عن الطعام احتجاجا على معاملة سيدة في تغذيته، كانت عروس جديدة بالمنطقة، قدمت له شيئا غير مقنعا، أضرب عن الطعام وأقسم أنه لن يأكل بعد تلك المعاملة السيئة، وحين ذهب إليه صاحب المنزل يلومه عن تشويه سمعته ويذكره أنه كان يعامله بشكل جيد، أقسم له الراعي درءا للوم السيد، أقسم أنه لم يضرب عن الطعام بسبب سوء معاملة سيدته بل لأن فمه هو من أعياه بالأكل، كان يشير إلى فمه ويقول: "هذا الفم الذي تراه يئس من الأكل"، تصوروا! هذه القصة قد تبدوا إبداعا مني، لكن الحقيقة اني عشتها في طفولتي، كان الناس في قريتي طيبون إلى درجة ان ينفي الراعي إضرابه عن الطعام ويلوم فمه في الأكل، إن فمه الجامح هو المشكلة وليس عروس السيد.
هذا الراعي اسمه "مولود"، لا أعرف عنه شيء سوى أنه كان يرعى بقر القبيلة، وكانت الناس تعامله في التغذية والنوم حسب إمكانياتها وأذكر انه كان يشرب ثلاث "زلافات" او اكثر من "الحريرة" لدرجة حين تسأل امك عن زلافة أخرى ترد عليك هل أنت "مولود" .
كان هذا الراعي هو من أخبر صاحب البغلة بأن بغلته معلقة في شجرة شاهقة مما أثار الرعب في الاهالي بشكل تساءلوا : "هل مازال بالمنطقة فهود؟".
بعد أخذ ورد، وحيث أن البغلة الميتة المعلقة في الشجرليس في جثتها ما يشير إلى افتراس، وبسبب محاداة الشجرة لشاهق صخري جبلي، التصق سقف الشاهق الصخري بسقف الشجر بغطاء ثلجي بشكل بدا كمساحة عادية ليس تحتها فراغ بشكل مرت البغلة إلى فوق الشجر دون أن تستوعب أنها مرت فوق فجوة وبقيت عالقة حتى اكتشفها الراعي بعد ذوبان الجليد ، ماتت البغلة بالجوع، كانت هذه الحادثة في بداية السبعينات هي من يغطي على كثافة الثلوج في ذلك الزمن وليس كما الآن حيث يذيب السياح بأياديهم وانتشارهم نفثا ثلجية لم تينع بعد ولم تتحول إلى جليد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - السلامة والصحة
Almousawi A.S ( 2022 / 1 / 27 - 10:25 )
رائع انت دوما استاذ عذري مازغ
فانت تدون ابسط التفاصيل الانسانية اليومية المحلية
ولكنها عميقة ومتجذرة وعامة ورابطة للذاكرة البشرية
فها انت تعيدني لذاكرة عراقية
حول فلاح قام بكسرالراديوالذي يملكة
لكونة ينشر اخبارا خارجه عن دارة
ويتناسى خبرا هاما
وهو وفاة البقرة الوحيدة التي يملكها
واما الثلج فلن انسى ثلج موسكو
الذي طلبت مساعدة احد الزملاء
بعد مسيرة ليست قصيرة مع حقيبة ثقيلة
بان يفتح كفي المتجمدة لاسقاط هذا العبء ارضا
لك السلامة والصحة عزيزي

اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا