الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توسيع عملية التمدين لإضعاف العصبيات الخلدونية

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2022 / 1 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


قلنا وأثبتنا في عدة مقالات سابقة أن مجتمعات منطقتنا لازالت تعيش في العصر الخلدوني بكل تخلفه وعصبياته الطائفية واللسانية والقبلية والجهوية وغيرها، فهذه العصبيات هي التي تعرقل، وتقف في وجه أي محاولة للإنتقال الديمقراطي وتحقيق مجتمع حداثي، فمثلا أثناء الكفاح ضد الإستعمار نجد نوعان من المكافحين، حيث نجد سكان المدن أو المهاجرين إلى الخارج مثل فرنسا بالنسبة للجزائر مثلا يحملون فكرا حداثيا نسبيا بحكم الإحتكاك مع الأوروبيين سواء في الداخل أو الخارج على عكس الريفيين الذين كانوا يشكلون الأغلبية، لكن بثقافة تقليدية لم تخرج بعد مما نسميه بالعصر الخلدوني، ففي الجزائر مثلا يتحدث فرانز فانون عن ثورة الفلاحين الذين يشكلون قاعدة الثورة الجزائرية، وكان يعتقد أنه بإمكان إحداث ثورة إشتراكية بطبقة فلاحية مادام لاتوجد طبقة البروليتاريا لعدم وجود الصناعة، فطرحه شبيه إلى حد كبير بطرح ماوتسي تونغ في الصين، لكن رفيقه في الكفاح عبان رمضان كان يسعى لجعل قيادة الثورة في يد المثقفين والمدينيين كأنه قرأ بن خلدون، وأستوعبه جيدا، ونقول "كأنه" لأنه لم يـتأكد لنا إلى حد اليوم اليوم إن كان هذا الثوري الجزائري الكبير قد قرأ فعلا بن خلدون، لكن ما هو مؤكد أنه دفع ثمنا باهظا أدت إلى تصفيته بحكم دخوله في صراع حاد مع الكثير من القيادات العسكرية ذات الجذور الريفية.
لكن بعد إسترجاع بلدان منطقتنا إستقلالها أختلفت الطبقات التي أخذت السلطة في جذورها الإجتماعية، فمثلا سيطرت في تونس الطبقة المدينية أو ما يسمى بالساحل بقيادة بورقيبة مقابل إقصاء الريفيين والبدو المتمثلين في جماعة صالح بن يوسف، ونجد نفس الأمر في المغرب الأقصى أين سيطر الفاسيون على دواليب السلطة على حساب الريف المغربي رغم أنه كان وقود الكفاح المسلح، وقد أزال الجيش الملكي المغربي الذي سيطر عليه ضباط تكونوا في الجيش الفرنسي في 1959 كل ما تبقى من جيش التحرير المغربي في عملية وحشية يندى لها الجبين في الريف المغربي، أما في الجزائر فقد وقع العكس، فالذين أخذوا السلطة هم في أغلبيتهم ذوي جذور ريفية، لكن كانوا مضطرين للإستعانة بمدينيين، لكن النتيجة في الأخير هي نفسها بحكم كل محاولات بناء مجتمع حداثي وإحداث قطيعة مع العصر الخلدوني تبوء بالفشل، وذلك بسبب تزايد الهجرات الريفية بقوة بعد إسترجاع هذه البلدان إستقلالها بسبب أن الريف كان مهمشا، وأستفادت المدينة أكثر من نتائج إسترجاع الإستقلال، فكان ذلك سببا في حدوث تغيرات سلبية وإجهاض كل محاولات البناء الإقتصادي وتحقيق الحداثة، فالذين هاجروا إلى المدن وجدوا أنفسهم في مأزق كبير فلم يتمكنوا من التمدن ولا الحفاظ على تقاليدهم الريفية، فوقعوا في أزمة هوياتية عميقة دفعتهم إلى الإرتماء في أحضان تدين مرضي، أي ليس تدين طبيعي، بل نوع من لجوء وهروب من مآزق ثقافية وإقتصادية بحكم البطالة والبؤس والتهميش، ليجد هؤلاء أنفسهم دون شعور في أيدي التطرف الديني الذي صعد بقوة منذ آواخر السبعينيات مع صعود البترودولار الخليجي، خاصة السعودي منه بفكره الوهابي المنتج للإرهاب، وهو ما يفسر قوة التيارات الدينية المتطرفة التي كانت وراء الإرهاب في هوامش المدن والأحياء الشعبية الذي كان من المفروض أن يكون العكس، وأكثرمن هذا، فقد أنتج هذا الإرهاب هجرات أخرى، فمثلا من أهم نتائج إرهاب الجزائر في التسعينيات هو تزايد الهجرات إلى المدن، فتضخمت أكثر مشاكل المدينة بتزايد السكان، كما تريفت المدينة بدل ما يتمدن الريفيون الذين هاجروا إليها لأنهم أصبحوا الأكثرية على عكس أصحاب الجذور المدينية أو الحضرية، فكل مشاكل المدن الكبرى اليوم هي نتيجة لذلك، وهذا ليس في منطقتنا فقط كالقاهرة أو الجزائر أو تونس، بل نجده أيضا في مدن كبرى كثيرة مثل نيومكسيكو أو ريوديجانيرو في البرازيل وغيرها، فقد عجز المسيرون على حل هذا المشكل العويص الذي عقد المشاكل أكثر، فأزدادت مظاهر التلوث والإجرام والإرهاب وعدم القدرة على تلبية أحتياجات السكان، مما يتطلب اليوم إنشاء علم جديد يهتم بتسيير المدينة التي تعقدت مشاكلها أكثر، وتنذر بإنفجارات إجتماعية حادة في المستقبل.
لكن لانعتقد ان هذا الحل كاف لمواجهة كل هذه الأخطار، بل يجب التفكير في إعادة التوزيع للسكان مرة أخرى بخلق مدن جديدة حول الأرياف كإستثمار مستقبلي، ويتم ذلك ببناء مصانع حولها وإقامة علاقة وطيدة بين الزراعة والصناعة، وممكن حتى التركيز في البداية على الصناعات التحويلية التي من شانها حل مشكلة التغذية.
فقد كانت لأوروبا تجربة في ذلك بخلق مدن جديدة معروفة في انجلترا حول الأرياف مثل ليفيربول على سبيل المثال لاالحصر كنتيجة للثورة الصناعية، ويمكن خلق مدن جديدة وكبيرة في المناطق الصحراوية كما وقع مع دبي في الإمارات مثلا، فكل هذا سيؤدي إلى عدة نتائج، ومنها إعادة توزيع السكان والتخفيف على المدن المكتظة، مما يسهل عملية التسيير والقضاء على المشاكل التي خلقتها الهجرات الريفية سابقا من جهة، وكذلك القيام بعملية تمدينية للريف والبدو في الصحراء، وهو ما من شانه التخلص تدريجيا من ذهنية العصبيات والإنغلاق الذي تحدثنا عنه آنفا، كما أن القيام بثورة صناعية بشكل مدروس ومنظم، سيؤدي إلى تغيير قوى الإنتاج التي بدروها، ستغير الثقافة والذهنيات ونشر الأفكار الحداثية والديمقراطية والمواطنية وغيرها الضعيفة جدا في مجتمعاتنا بحكم عدم إحداثنا قطيعة مع العصر الخلدوني بكل تخلفه وعصبياته، كما أننا بذلك سنقوم بخلق أغلبية مدينية وحضرية مستعدة لبناء الحضارة، كما أن الإستثمار الفردي والجماعي في القطاعات الصناعية المنتجة بتحويل الكمبرادور أو المستوردين ووكلاء الرأسمالية العالمية إلى برجوازية وطنية منتجة تدور حول الذات بدل ماتكون تابعة، سيسمح لنا بالدخول في مرحلة رأسمالية وطنية تفك إرتباطنا بالرأسمالية العالمية التي تعد السبب الرئيسي لبقاء تخلفنا وبؤس وفقر شعوبنا بحكم التبادل اللامتكافيء الذي تحدث عنه أصحاب نظريات التبعية، ومنهم المصري سمير أمين، لكن كل هذا المشروع يحتاج إلى أموال ضخمة نعتقد انه بإمكاننا توفرها بحكم تحويل الكمبرادور إلى الإستثمار المنتج وجلب إستثمارات أجنبية منتجة للثروة ومناصب الشغل وكذلك توظيف أموال الطاقة والمواد الأولية في هذا المشروع الذي يحتاج إلى بضعة سنوات فقط لتحقيقة، مما سيحدث نقلة كبيرة ليس فقط في المجال الإقتصادي، بل أيضا في المجال الثقافي بإنهاء ذهنية العصبيات التي هي وراء عدم إستقرار دولنا وتعرضها المزمن للحروب الأهلية وأخطار التفتيت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزير الخارجية التركي: يجب على العالم أن يتحرك لمنح الفلسطيني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي عيتا الشعب وكفر كلا جنوبي لبنان




.. بلومبيرغ: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائف


.. التفجير الذي استهدف قاعدة -كالسو- التابعة للحشد تسبب في تدمي




.. رجل يضرم النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترمب في نيويورك