الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صديقي من ورق

عبد الغفور روبيل
طالب باحث من المغرب

(Roubil Abdelghafour)

2022 / 1 / 28
الادب والفن


نظر إليه وهو يردد قائلا، أين كنت طيلة هذه السنوات؟، لماذا كنت متواري عن الأنظار؟، أتحب الاختباء والتخفي؟.
ربما أنا الذي كنت تائها في عالم مليء بالضجر والرتابة، عالم سخيف وكئيب، كل شيء فيه كان بالنسبة لي مجرد تفاهة، كنت أضحك، وأبكي، وأصرخ، وأفكر، وأحب، وأكره بطريقة تافهة، نعم تافهة، عندما يضحك أصدقائي أضحك، عندما يغضبون أغضب، عندما يبكون أبكي، وإن كنت لا أشعر بذلك الشعور. ربما كان ذلك بحكم العادة وما تعلمناه في ثقافتنا البائسة، ثقافة الجماعة التي تجعل كل فرد مجرد نسخة مطابقة للأفراد الآخرين. المهم هو أن تضحك عندما يضحكون، وتبكي عندما يبكون، وأن تجلس أينما جلسوا، وأن تكرر ما يقولون، أو تتحدث بما يريدون هم لا أنت، وهذا بهدف تجنب ما سيقال وراء ظهرك، إن قلت ما هو مخالف لقولهم، أو عرضت كلامهم، أو تجلس بمفردك بعيدا عنهم، فالخوف من الكلام الجارح، والنظرات التي تفصح على شيء يطبخ في الغياب ضدك، وتقلل من قيمة الشخص، وتجعلك في مكان الشك والظنون. فكل هذا يولد الخوف والنفاق الاجتماعي.
لقد كنت تائها في مكان يجعل الذات فاقدة للخيط الرفيع، الذي يربطها بهذا العالم الغريب، والمجنون، والمتناقض في الآن نفسه، فهو يظهر في صورة عبثية مقصودة، لكن لا شيء يولد بالصدفة، هناك دافع ومحرك لكل شيء.
أذكر يوم التقينا على رصيف متهالك، نظرت إليه نظرة خاطفة دون اكتراس واهتمام في بداية الأمر، لكن هناك شيء جذبني وجعلني أعيد النظر إليه من جديد، بنظرة ثقيلة متأملة، ربما كان ذلك بدافع خفي جعلني أنجذب إليه، بيد أنه ليس من عادتي أن أعجب بكل ما هو موجود من النظرة الأولى، خاصة إذا تعلق الأمر بالكتب، لأنني كنت مجرد إنسان بسيط، لا يأبه إلا بالطعام، والشراب، والنوم، والعمل، وتبادل الأحاديث المبتذلة في آخر الليل، التي تزيد الإنسان أكثر اغترابا مع ما يقع في مسرحية الواقع.
لم يبتسم في وجهي، بل جعلني أقرأ على صدره كلمات، تجعل المرء يعيد النظر في كل شيء، كانت كلمات موسومة ب"الإنسان بين وجوده التافه وأمله في التغيير".
لم تكن كلمات مألوفة على مسامعي، مما أثار فضولي في معرفة ماذا يريد أن يقول هذا، حملته بمهل، ونظرت إليه في جميع جوانبه باستغراب.
يظهر من ملامحه الصدق والجد، فهو لا يشبه الآخرين الذين نصادفهم في نفس المكان، أو على موقع الفيسبوك، الذين يتزينون بعناوين براقة، والمحركة للمشاعر من غير محتوى يليق ببريقها. قلت لابأس سأخذك يا صاحب العمق.
جلسنا منفردين في غرفتي، التي أبني فيها أحلامي ليلا، ثم تندثر مع أول بزوغ للشمس، قلت له أرني ما في جعبتك. في تلك اللحظة تحدث بدون كلام، ترك بصري وتأملي في كلماته تنوب عن كلامه، كلما قرأت كلمة أو جملة، كلما زاد تلهفي للقراءة أكثر فأكثر، لم تكن متعة القراءة هي الدافع، بل حجم الأفكار والدلالات التي تنهال من كلمة إلى كلمة أخرى، كان يقول كلام يصعب على مثلي هضمه بسهولة، في تلك اللحظة، شعرت بالخجل من نفسي بسبب عجزي عن نفهم معاني جمل، وماذا يقصد من هذه الكلمة وتلك، إلى جانب سذاجتي التي كنت أعيش فيها.
في تلك اللحظة صرخت بلا صوت:
أين كنت أيها الرجل الورقي؟، لماذا كنت مختبئا؟، ما الذي جعلني لم أراك؟، أين كنت؟.
قلت لنفسي، "لا، لا"، الحق أنا الذي كنت مختبئا وراء الأشياء البسيطة، بين النمطية والتبعية، بين ما هو معروف لدى العامة والمشتركة بينهم، بين المألوف والمعتاد عليه، كنت أعيش حياة ينعدم فيها الفهم، دون أن أتساءل عن الأشياء التي حولي، والأفكار والتساؤلات التي تدور في هذه الجمجمةالصغيرة، فمثلا: "لماذا نفكر هكذا؟، ونعتقد أن الفضيلة تفوح من ثيابنا، وكلامنا مبني على الحقيقة؟ لماذا لدينا نفس التفكير؟...
عندما نجلس قرب هذا وذاك، عندما ننظر إلى ذلك، فعندما تمر بقربنا فتاة مثلا، وإن لم تكن جميلة، المهم أن تمتلك ما يعجبنا أن ننظر إليه، فأنظر، ثم أغير بصري إلى صديقي، فأجده ينظر إلى ذلك المكان الذي كنت أنظر إليه، فتلتقي عيوننا معا، فنضحك سويا، في تلك اللحظة أدرك أن صديقي يفكر مثلي، ليس هو بمفرده، بل الكثير من الأشخاص يفكر مثلي. عندما نتحدث عن العمل، والأصدقاء، والزواج، والحياة، والموت، والأكل، والشراب، والتدخين...، أجد نفسي أن الكل يفكر مثلي، أو مثلهم، عندما نريد التحدث عن السياسة "إن كانت هناك سياسة فعلا"، وعن الدين، كنا ننظر يمينا وشمالا، ونخفض صوتنا لكي لا يسمعنا أحد، أما عندما نريد الحديث عن الجنس وطقوسه، كان يسبقنا أحد الأصدقاء، الذي نطلق عليه لقب "العويق"، بالقول: "الجنس لا يحتاج إلى الحديث عنه، وإنما للممارسة والمشاهدة"، في تلك اللحظة نطلق ضحكة مدوية في المكان، والتي قد تطول دقائق، وذلك بهدف أن نمرر رسالة للجالسين بقربنا، بأننا نعيش السعادة إلى أقصى حد.
صمت قليلا، ثم قال:
"وأية سعادة تلك"، وهل الحديث عن الأكل، والشراب، والدراسة، والأساطير التي نؤلفها، والعلاقات الحميمية التي عشناها، أو كانت من ضرب خيالنا، هل فعلا تعد هذه الاشياء سعادة؟!.
نعم لم تكن حياة طبيعية، أو لنقول طبيعية بحكم ما أعتدنا عليه، أما الآن لم تعد كذلك، عندما التقيت بهذا الصديق، لقد جعل عيني تنفتح أكثر حول هذا العالم، وبصري يمتد أكثر على جغرافية الفكر، حيث أصبح ظل الجهل يتلاشى شيئا فشيئا، لم يعد قانون قبيلتي هو المتحكم في العالم والمحدد لمعالمه، كما كنت أعتقد من قبل، وأن الخوف ليس مرتبطا بالخارج، وإنما يجد بداخلنا، وأن الحياة ليست امتدادا في العمر، وإنما توجد في لحظات نشعر فيها، بالحب، والأمان، والرضى عن الذات، فالحياة لا ترتبط بما هو جميل، بل بالقبح، واليأس، والوحدة أيضا، لا شيء له لون واحد، أو يعزف على مقطوعة يتيمة، بل لا بد له من نقيض، مادام منطق الجدل يحكم أصول الأشياء، فيجعل لكل دائرة منطقها وقواعدها الخاصة بها، دون الاستغناء عن دوائر الأخرى.
لقد أدرك أن العالم يحتضنك، عندما تدرك جيدا العزف الذي يرقص عليه شيخنا -أي العالم- فهذا الاحتضان غالبا ما يكون مليء بالقسوة، والمرارة، والتعاسة، وبذلك يقدم هذا الاحتضان كأسا من الحب، الذي تحتفل به الذات مع العالم، على مائدة من هو الأقوى، ومن ينتصر في النهاية، حب بطريقة مختلفة، وبتصور آخر، مادام المألوف مجرد صورة مشوهة عن العالم الحقيقي.
وبذلك لم تعد الأشياء التافهة تبهرنا، بقدر ما ننبهر عندما نغوص في أدق الأشياء المرتبطة بأصل وجودنا، ونطرح أسئلة على ذواتنا، وعلى عالمنا الخفي المرعب الذي يعيش بداخلنا، فعندما نكتشفه، أو نريد مواجهته، نشعر بالضعف، و التوتر، والتشظي، والميل للانعزال، أو الهروب إلى الأمام، في محاولة لتجنوبه، وتأقلم معه وفق شروطه.
هذا ما قاله، وهو يحتضن الكتاب كما يحتضن شيئا ثمينا بين ذراعيه، كيف لا وهو يقف، في نقطة فاصلة بين ما كان يعتاد عليه، والغريب الذي قرأه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى