الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضرورة الفصل بين العلم والدين

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2022 / 1 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


على الرغم أن البشرية تقلد في عمومها ثلاثة فئات هم (الأنبياء والفلاسفة والمُصلحون) إلا أن هناك قناعة راسخة بحدود ذلك التقليد، فالأنبياء مثلا كان البعض منهم يرتدي عمامة فهذا لا يعني أن نرتدي جميعا عمائم، وجميع القدماء كانوا يتغوطون في الصحراء والبراري وبمناطق ليست نظيفة وهذا لا يعني أيضا تقليدهم في ذلك، حتى في محاولات التشبه بالآلهة توجد خصائص إلهية لا يمكن تقليدها كمسائل العرش مثلا في الإسلام وهو لا يعني أن كل مسلم يجب أن يكون له عرشا..

حتى في مسألة التخاطب فليس معنى أن القرآن مكتوب باللسان العربي الفصيح أن تكون الدعوة دائما بالفصحى، فهناك دعوات بالمصرية والأمازيغية والعراقية والشامية المحلية..إلخ، وكذلك في الكتاب المقدس ليس معنى أن تُكتب التوراة بالعبرية أن خطاب العبرانيين دائما يجب أن يكون بالعبرية، ولا أن يُكتب الإنجيل باليونانية والآرامية أن يتحدث المسيحيون جميعا بتلك اللغات، ويمكن استقصاء الفارق بين هذه الممتنعات وبعضها وبين العلم أن الوجود المادي مختلف بشكل كبير عن النظريات والعقائد الذهنية، وبالتالي حدوث الفارق بين المقدس العقلي وبين الواقع هو الذي يُنتج تلك التعارضات التي صارت بدهية يؤمن بها أشد المؤمنين تمكسا بحرفية ذلك المقدس..

هذا التعارض منشأه في الحقيقة أن ما ينتجه الذهن من أفكار ومعلومات مختلف بشكل كبير عن الواقع الحسي، وهو ما أدى لمشكلات النظرية والتطبيق التاريخية، وأنه ما من سبيل لمكافحة تلك المشكلات إلا الاعتراف بضرورة الشك والنقد الذاتي لكي تتسق معلومات الفرد وسلوكياته على الأقل، فالدولة التي يؤمن بها في مشروعه السياسي أو الديني يجب أن تكون واقعية يتطابق فيها الفكر مع الوجود المادي والواقع المحيط، وهو شرط لصدقية الأفكار بشكل عام أن تكون واقعية ، إنما الذين يهجرون الشك ويُقبّحون كافة منتجاته من العقل النقدي والإصلاح الذاتي يفشلون دائما وتكثر صراعاتهم على التفاهات ، وبالغالب تكون اهتماماتهم مختلفة عن اهتمامات الناس في مجتمعهم، وأصدق مثال على هؤلاء هم الجماعات والأحزاب الدينية..

هذا الفارق بين النظرية والتطبيق هو الذي يجعل دعوات الإصلاح نسبية ، فكل دعوة إصلاحية كانت نبوية أو ثورية دينية وسياسية منشأها الاعتقاد بإطلاقية الدعوة وأهليتها للتطبيق، فتكثر الصراعات والانشقاقات بين المتدينين والسياسيين باتهام كل منهم على أنه عدوا للإصلاح، فبرغم أن كلاهما يرفع شعار الإصلاح لكنه ومثلما كان الشعار مشتركا بين الطرفين هو أيضا مصدرا للافتراق بينهم، أو بصيغة أخرى ما اجتمع عليه الناس سيفترقوا عليه أيضا والتاريخ يؤكد تلك الحتمية أنه وكلما اجتمعت احزاب دينية وتنظيمات مسلحة على أهداف نجد أن انشقاقات وصراعات تلك الأحزاب والتنظيمات على هذه الأهداف أيضا، ومثلما اجتمع فقهاء المسلمين على الإسلام انشقوا أيضا لمذاهب تُكفّر بعضها بعضا أيضا على الإسلام بدعوى أن لكل منهم إسلامه الخاص هو المطلق وما دونه الكاذب والمدعي..

بالتالي نفهم أن مسار الدين والسياسة بشكل عام في التاريخ محكوم بالإصلاح، لكنه وبالتراكم ينحط ذلك المسار أو يصعد وفقا لقدرات الفرد والجماعة في الاستجابة لتحديات الواقع وفقا لما صاغه "أرنولد توينبي في نظريته التحدي والاستجابة" فالإنسان قاصرُ بذاته وموضوعه ، أي هو كائن ضعيف لا يحيط بمدركات الحياة والكون بالمطلق ويجهل أكثر مما يعلم، حتى أن عقله موضوعيا قاصر وكثيرا ما يُخطئ ويضطر فيها للتصويب، بالتالي سيكون محاكمة الدين هنا بشكل عام وشمولي (ظلم وطريقة غير علمية في النقد) فالممارسات الدينية مثلما تنحط - وفقا للتصور أعلاه - هي أيضا تصعد وتتهذب من الخرافات والعنف وفقا لنفس التصور، ولا يتوقف ذلك على دين دون آخر فالتجارب الدينية متشابهة إلى حد كبير لكنها بالطبع ليست متطابقة ، مما يعني أن طريقة تصور المؤمن لدينه وإلهه واحدة في الأعم الأغلب ، بينما يختلف المؤمنون في إسقاطاتهم النظرية على الواقع النسبي المختلف في الزمكان، وهو الإسقاط الذي ينتج الفوارق بين الأديان تبعا لثقافات وأجواء وتباينات كل مجتمع.

ثم نستنتج من ذلك أن مسار الأديان في صفحة التاريخ (مُتعرّج) كضربات القلب، أحيانا يحدث بشكل تصاعدي وأحيانا أخرى ينخفض، فعندما يصعد ذلك المسار تحدث الحضارة غالبا ويرتقي ذهن المتدين ويُنقّى من الخرافات والعنف..ليس بشكل مطلق لكن هذا النقاء العلمي يكون هو السائد المهيمن على الدولة ، وله قبولا وسط الملوك والأعيان والنُخَب المثقفة.

من جهة أخرى نجد أن العلم مختلف عن هذا السرد، فمسار العلوم بصفحة التاريخ تصاعدي..فإذا كان الدين مساره (مُتعرّجا) فالعلم ليس كذلك لقيامه على حقيقة بدهية وهي (الاكتشاف)..وبعامل التراكمية نجد أن تراكم الاكتشافات يؤدي لتطوير العلوم، لأن الاكتشاف يحدث لما هو قائم بالفعل من مواد وواقع نجتهد في بيان العلاقة بينهم وهو ما اصطلح عليه في الفلسفة ب (العلم التحليلي) أي تحليل ما هو قائم بالفعل وجودا ، ولا دخل للإنسان في التأثير على طبيعته ونشاطه الذاتي، بينما يمكن له أن يؤثر في العلاقة بين المواد عن طريق تحويلها بالتعدين وخلافه لكن البدهي أنه لا يمكن للإنسان أن يُحوّل عنصر الحديد لماغنسيوم مثلا وإلا ما كان حديدا بالأصل، فجدلية الأصالة بين الوجود والماهية لا تخدم ذلك التحوّل مما يعني أن الاكتشافات محكومة برؤية الإنسان عن طريق اللحاظ والاعتبار ، وما دامت البشرية تملك عقلا وبصرا تُلاحظ بهما وتعتبر سيظل الاكتشاف قائم والعلم يتطور..

هذا لا نجده في الدين..لأن العلم القائم عليه (تركيبي) وليس (تحليليا) فالعلم التركيبي هو من صياغة الذهن باستقراء العقائد والطقوس والمعلومات، بمعنى أن الدين لا يكتشف شيئا بل الإنسان هو الذي يفعل ذلك بالغوص في ما وراء المحسوس من علم باطني وميتافيزيقي يريد بهما الإنسان أن يتواصل مع إلهه..ولم يحدث أبدأ ان وضع الإله شروطا للتواصل معه أن يكتشف المؤمنون موادا ومعادن كالذهب والفضة والحديد وخلافه ، أو أن يصل المؤمنون للنسبية وميكانيكا الكمّ..بل لا يتطلب الأمر أكثر من سلوكيات كالصدق والأمانة والشجاعة..إلخ، وهي صفات كافية عند المؤمن لاتصاله بربه ومن ثم قراءة وفهم كتابه المقدس، وتلك الأجواء مختلفة تماما عن اكتشاف الحقائق العلمية مما أوجد فروقا جوهرية بين العلم والدين تمنع الخلط بينهما ابتداء، وأي محاولة لإنكار الدين بناء على العلم ستكون محاولة غير علمية، والعكس صحيح أي أن محاولات إنكار العلم بناء على الدين هي محاولة غير دينية..

والصحيح أنه يوجد تفاعل بين الاثنين أحيانا وفقا لعقائد وأيدلوجيات الناس، فالمسلم الذي يريد هدم الهندوسية من العلم سيفعل ذلك ولكنه سوف ينكر حدوث نفس الأمر على دينه، والملحد الذي يريد هدم الإسلام من العلم سيفعل ذلك ولكنه سوف ينكر أي نص ديني إسلامي متوافقا مع العلم وسيلجأ لتأويله، بالضبط مثلما يفعل دراويش الإعجاز العلمي بمحاولات التوفيق بين الدين والعلم عن طريق التأويل والتلفيق، فيكون التصور الصحيح برأيي تجاه العلاقة بين الدين والعلم هو (الفصل) نظرا لاختلاف الطبيعة بينهما والفروق الجوهرية بين وظائفهما بالحياة وطرق الاستدلال والنتائج..ثم مسار كلا منهما في التاريخ

حتى التجربة تدعم ذلك..فكافة مزاعم نهاية الدين مع تطور العلم لم تكن واقعية حيث ثبت في التاريخ أنه وكلما تطور العلم زاد الإيمان بالأديان في بعض المجتمعات أو ظل على حالته مع تغير طفيف لم يصل لحد الظاهرة على مستوى العالم، وأظننا قد وصلنا الآن لقمة الهرم العلمي ومع ذلك لم يُقضى على الأديان ، برغم أن التعليم في كافة دول العالم منذ قرون في أوروبا وحوالي 100 عام بالشرقين الأوسط والأقصى قائم بشكل كلي على العلم لا الدين، ولا زالت نظريات داروين والنسبية ثابتة وراسخة في مناهج العلم المختلفة برغم تعارض كثير من جزئياتها مع الدين الشائع، وانتهت تقريبا ظاهرة الكتاتيب ومراكز حفظ وترديد الكتب المقدسة ، وانتهى كذلك التعليم القديم الذي كان محصورا على الدين ورجاله..وبرغم كل ذلك ظل الدين راسخا في المجتمعات يضعف ويقوى وفقا لسلوكيات أتباعه ومدى الاستقرار النفسي والاقتصادي والسياسي الذي يعيشه المجتمع..

وتفسير ذلك برأيي أنه مع كل محاولات الهجوم على الدين ظل هناك معيارا يحكم به الناس على المُثُل العليا ورؤيتهم العامة للكون..ذلك المعيار في الحقيقة له اتصال ديني قديم فسره علماء عصر الأنوار ب (اللاهوت الطبيعي) ووصفته في كتابي "الدين والعقل" ب (الدين الوجودي) وهو الذي يبحث في معنى الحياة ومصير الظلم وعالم ما بعد الموت المترتب عليهما، فالحقيقة التي يفر منها اللادينيون أن الدين ظاهرة عقلية بالأساس نتج عن حاجة الإنسان لتفسير الكون ومعنى الحياة وأن تشبعه بالخرافة طبيعي في ظل القصور الذاتي والموضوعي للبشر، وليس أدل على ذلك من أن ظهور الحضارات كان مرافقا للتدين وأن الإنسانية لم تعرف الحضارة قبل ظهور الدين وطقوسه، ووفقا لمسار الدين في التاريخ –كما شرحناه عاليه – ذو طبيعة متعرجة يصعد ويهبط أحيانا، فيكون الحكم عليه وقت هبوطه ظُلما وتعصبا، وأن وصف المؤمنين بالغباء غير علمي ويُصادر على قناعات البشر وأدلتهم في النهاية..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
ابو ازهر الشامي ( 2022 / 2 / 2 - 17:44 )
شعار كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
هو الشعار الذي عادة ما يستعمله السلفيون الوهابيون لكي يحطموا اي محاولة اصلاح او اي مراجعة للتراث
او اي مراجعة لاي شيء
ايضا يستعملونه في تحريم كل شيء تقريبا اضافة طبعا الى قواعد اخرى مثل
1 وجوب مخالفة المشركين
2 حرمة التشبه بالمشركين
3 حرمة تقليد المشركين
4 قاعدة رد المفاسد مقدم على جلب المصالح
المهم
ومن الاسباب التي تجعل الاحتفال بالمولد النبوي حرام بل شرك بالله تعالى !
هو انه بدعة لم يعرفها الصحابة ولا التابعين وأول من بدأها هي الدولة الفاطمية
حسنا
بقية الطوائف السنية مثل الاشاعرة والماتريدية يقسمون البدعة الى بدعة حسنة وبدعة سيئة
والبدعة الحسنة عندهم ليست حراما
ابن باز وبما انه شيخ شيوخ السلفية الوهابية في القرن العشرين اضافة الى ابن عثيمين والالباني
قد بين بفتوى طويلة له ان هذا التقسيسم للبدعة غير سليم بل بدعة بحد ذاتها وان البدعة لا تكون حسنة ابدا وان اسحسناها
هنا نأت للاعجاز العلمي في القران
اين ذكر الرسول او الصحابة او التابعين او علماء الاسلام من القرون الثلاثة الأولى الاعجاز العلمي
!
اذن هو بدعة والبيب يفهم المقصد


2 - القران كتاب هداية وليس كتاب علمي
ابو ازهر الشامي ( 2022 / 2 / 2 - 17:47 )
القران الكريم كتاب هداية عن الله تعالى فقط
وربطه بالعلم الحديث سيضره
والحقيقة ان اي محاولة ولو بسيطة لدراسة موضوع الاعجاز العلمي في القران
اذا كانت المحاولة حيادية طبعا
ستوصلك الى خلاصة خطيرة
وهو ان موضوع الاعجاز العلمي كذبة كبيرة ليس لها اي دليل
بل الحقيقة
ان الاعجاز العلمي بحد ذاته هو نوع من انواع التناقض والتدليس
كيف ؟
لان من يمارسه نفسه لا يقبل ان نخرج عن تفسيرات الصحابة على فرض انها فعلا للصحابة
ولكنه في موضوع الاعجاز العلمي يخرج هو عنها
ونحن نتساءل
كيف لم يعرف الصحابة هذا الاعجاز
؟

اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53