الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا لهؤلاء -العراقچيين-!

آلان م نوري
(Alan M Noory)

2022 / 2 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


المتابع لتهافت القِوَى السياسية المتحكمة في إقليم كردستان على توزيع المناصب في المنظومة السياسية العراقية التي نتجت عن انتخابات فاشلة قاطعها أكثر من 80% من الناخبين العراقيين، يصاب بالدوار من قدرة هذه القوى في الرقص بين نقائض المواقف من العراق بلدا و مشروعا سياسيا. فبالأمس القريب كانوا بصدد فرض حدود جديدة "بالدم المراق" لإقليم كردستان الذاهب إلى الأستقلال، رغم انف النظام السياسي و المجتمع العراقيين، بل ورغم انف العالم كله. اما اليوم، فنرى الحزبين المتحكمين في الإقليم يتنافسان على من منهما الأكثر عراقية! و كانا إلى عهد قريب، و لايزالان ينعتان كل كردي يحلم بعراق مدني ديمقراطي يقوم على اساس المواطنة المتساوية بتهمة ومسبة سياسية جاهزة هي "عراقچي"...

كلمة "عراقچي" هي واحدة من مصطلحات قاموس غني في الهجاء السياسي، برع فيه، في الثمانينيات من القرن الماضي،حزب الإتحاد الوطني الكردستاني(أوك) في خضم حربه مع كافة الفصائل المسلحة في إقليم كردستان، و قمعه للمعارضة الداخلية في إطار تنظيمه نفسه. والكلمة مركبة من كلمة عراق + الملحق (چي) العثماني المتداول في اغلب انحاء الإمبراطورية القديمة للدلالة على مهنة أو مصدر رزق الشخص كالـ "عربنچي: سائق العربة" و الـ "قجخچي: المشتغل بالتهريب" و الـ "كبابچي: صانع الكباب"...الخ. و بهذا المعنى، فالعراقچي هو من يرتزق أو يعتاش من الهوية العراقية أو الإنتماء لوطن يسمى العراق، و الدليل على استخدامه بهذا المعنى للتحقير، هو أن مقابله في الثنائية المتصارعة المقترحة في أدبيات الحزب هو "كردستاني" و ليس "كردستانچي".

الاستخدام المكثف للكلمة بدأ في عام 1985، حين واجه أوك معارضة داخل تنظيماته، استقلت لاحقا بتنظيم اسمه راية الثورة، اتهمته قيادة أوك بالميل للتقرب من الحزب الشيوعي العراقي "المنحرف". فنعتت قادته بالـ عراقچيين.

ملخص الثنائية المتضادة (عراقچي/كردستاني) أن كردستان هي وطن بالمعنى المعاصر لـ (الدولة-الأمة Nation State)، لا ينقصه سوى الشق الأول من المصطلح الذي هو الدولة (!!!) و النقص هذا حسب صانع الرأي "الكردستاني" مرده، في الجزء الجنوبي من كردستان الكبرى، هو الاحتلال من قبل استعمار استيطاني عربي. و بهذا المنطق، يصبح مفهوم العراق، كوطن، أداة من أدوات الهيمنة الفكرية للاستعمار الاستيطاني التوسعي العربي. وهذا الاستنتاج المنطقي من هذه المقدمات ليس من عندي. بل أن المستمع لإذاعة صوت شعب كردستان التابعة لـ أوك، في الفترة ما بين 1985 و 1990، كان يسمع عبارة (الاستعمار الاستيطاني) هذه في خضم الحديث عن مظالم الكرد في العراق بشكل يومي. (و بما أننا بصدد قلب مواجع الماضي فمن المفيد ذكر أن هذا الخطاب عن الإستعمار الإستيطاني العربي جاء بعد عام من مفاوضات أوك الفاشلة مع الدكتاتور العراقي صدام حسين، و خُطْبة جماهيرية ألقاها جلال الطالباني، زعيم أوك، في نوروز عام 1984 أمام حشد من أهالي السليمانية قدر بأكثر من مئة ألف شخص، تباهى فيها بعراقية تنظيمه و تحالفه مع الجيش العراقي).

لكن بغضّ النظر عن الهدف الآني من التوظيف السياسي لثنائية (عراقچي/كردستاني)، فإن إعادة تأسيس "الفكر" القومي على أسس الجغرافيا(: كردستان)، بدلا من الإثنية (: الكرد)، لا يمكن اعتبارها إلا قفزة نوعية في تطور الفكر القومي الكردي. علما أن التطور المذكور لم يكن أبدا خطا مستقيما باتجاه واحد، فهذا الفكر غالبا ما يخلط بين اثنوية معروفة باللغة الكردية بـ (كوردايەتی: الكردوية) والكردستانية المنفتحة على فكرة المواطنة المتساوية بين الإثنيات في جغرافيا تجمعهم، اسمها كردستان.

و على الرغْم من شح الكتابات النظرية في الفكر القومي الكردي، إلا أن السردية التي يطرحها أصحاب فكرة (كردستان أمة ناجزة و ليست في طور التكوين) تتلخص في أن الاعتراف بشعب كردي بحدود جغرافية مميزة يرجع إلى عصر الإمبراطورية السلجوقية، و أن هذه الجغرافيا بقيت مميزة كأرض حرام في عهود الحرب بين الصفويين و العثمانيين، و هذا ما دفع الدول الاستعمارية التي قطّعت أوصال الامبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، إلى الاعتراف بتميز هذه البقعة الجغرافية و حقها في تقرير المصير أو في وضع خاص لها في الدول الحالية التي اُلحقت هذه الجغرافيا بها. و حسب هذه السردية، فإن عدم تحقق الدولة القومية الكردية (و لاحقا الدولة الكردستانية متعددة الإثنيات) يكمن في عدم قدرة القيادات السياسية القلبية الإقطاعية المتخلفة الكردية (حسب السردية) على قراءة الأوضاع الدولية و التفاعل مع أجندات القوى الكبرى لمصلحة تحقيق الطموح القومي عن طريق فرض وقائع جغرافية جديدة (غالبا عن طريق العنف المبرر بمقاومة الاحتلال).

تتجاهل هذه السردية أن التقسيمات الإدارية لإمبراطورية سبقت العصر الحديث لا تُفيد إلا بأن شعبا كان يسكن في هذه البقعة الجغرافية، سيتطور إلى اثنية معاصرة لاحقا، دون أن يُرتّب ذلك حقوقا فوق العادة لهذه الإثنية على حساب غيرها من الإثنيات التي شاركت و تشارك العيش في نفس البقعة الجغرافية. فالرومان مثلا كانوا يسمون كل الأجزاء الشاسعة من أوروبا التي لم يحتلوها بشكل دائم بـ (جرمانيا)، و قد وظفت الآلة الدعائية الألمانية النازية هذه التسمية من العصور القديمة لإدعاء حقوق تاريخية في أغلب أجزاء أوروبا الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية، دون أن يوافقهم في ذلك أيا من الشعوب الأخرى التي شكّلت دولا قومية بالمعنى المعاصر، غير آبهين بالتسمية الرومانية القديمة. أما اعتراف الدول الأستعمارية في الفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى بتميز هذه المنطقة جغرافيا و حق الكرد في تشكيل دولة قومية فيها، فقد تقاسم الكرد هذا الاعتراف بالتميز مع عدد من الشعوب الأخرى و على أجزاء شاسعة من نفس الجغرافيا؛ كالآشوريين (النسطوريين)، و الأرمن، و الآذريين و التركمان. جدير بالذكر أن ما سبق لا ينفي خصوصية كردستان الجغرافية، بل يؤكدها على أسس غير اثنية، غالبا ما يتجاهلها الفكر القومي الكردي! أما التجاهل الأكثر تأثيرا في مجرى الأحداث السياسة المعاصرة، فهو تجاهل التغييرات الكبرى في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. و جوهرها، فيما يخص الطموحات القومية الكردية، هو أن التفاعل، بل حتى التكامل، مع اجندات هذه القوة الكبرى أو تلك، ما عاد كافيا لتغيير الجغرافيا السياسية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية المبني على توازن الرعب النووي و مؤسسات دولية باتت تحرص على إنهاء آليات عمل الاستعمار القديم، و ترسيخ الحدود السياسية الدولية، إلا ما أُعيد رسمها سلما بآليات الديمقراطية الداخلية (مع استثناءات نادرة جدا، أغلبها في الفترة الإنتقالية بعد انهيار الإتحاد السوفيتي).

ادركت نخبة اليسار الكردي في العراق الأوضاع الدولية الجديدة و دورها في تغيير قواعد و آليات العمل السياسي فربطت منذ اواخر العقد الرابع من القرن الماضي مستقبل التطلعات القومية الكردستانية ببناء دولة عصرية مدنية ديمقراطية في العراق. و ترجمت هذا الإدراك عمليا بإندماج كبرى المنظمات اليسارية في كردستان تنظيميا في الحزب الشيوعي العراقي، حاضنة اليسار، بما فيه اليسار الليبرالي الديمقراطي، في عموم العراق، آنذاك.

هذا الوعي اليساري الكردي امتُحن امتحانا شديدا بعد حملة الأنفالات المجرمة عقب انتهاء الحرب العراقية-الأيرانية و من ثم بعد انتفاضة آذار 1991 و سحب كافة الدوائر الحكومية المركزية من إقليم كردستان، و الذي نجم عنه اتجاه المِزَاج العام في الإقليم بشكل حاد نحو النزعة الاستقلالية عن العراق، دون أن يرافق ذلك أي تغيير جذري في المناخ الدولي الذي، وإن أقر بوجود فراغ إداري يتيح استقلالا نسبيا من الحكومة المركزية، إلا أنه ظل يجدد في كل منعطف تمسكه بالحفاظ على الحدود السياسية للعراق كما هو. فشل اليسار الكردي إزاء هذا الامتحان فشلا ذريعا تحت طائلة قصف أيديولوجي مركّز مصدره القوى السياسية المتحكمة بمقدرات الإقليم، فتنكر لتراثه العقلاني و غلبته النزعة "الكردستانية" بنفس المنطلقات "الفكرية" الفجة التي أسس لها القوميين الكرد! بل و صار ملكيا أكثر من الملك في هذا المجال.

أما توظيف ثنائية (عراقچي/كردستاني) من قبل الأحزاب الكردية المتحكمة في الإقليم، فقد كان، بالأخص خلال العشرين سنة الماضية، نموذجا مخجلا لفصل الأخلاق عن السياسة. فقد تراجع منذ التسعينيات الخطاب الكردستاني لصالح الكردوية القديمة التي رجعت بقوة إلى النسيج الأجتماعي و إلى العلاقات بين الأثنيات المختلفة داخل كردستان. و بات من مسلمات الخطاب اليومي لهذه القوى الحديث عن كردوية معادية للتعايش الإثني في العراق موجها إلى الإستهلاك المحلي للمواطن الكردي من طرف الفم، و عن المصير المشترك و الشراكة في المسؤولية عن الوطن العراقي من الطرف الآخر من فم الماكينة الأيديولوجية المتحكمة في أنتاج الثقافة المجتمعية في كردستان. و من الناحية السياسية فقد أثبتت الأعوام منذ الاحتلال الأمريكي و إنهاء حكم الدكتاتور السابق، أن "الفاعل الكردي" المعرّف بالقوى المتحكمة في الإقليم يعتبر أن مصلحته العليا تتحقق في دولة عراقية مفككة غير قادرة على حصر السلاح بيد حكومة مدنية معاصرة، فينقسم البلد إلى مناطق نفوذ أثنو-طائفية تشارك الفاعل الكردي الكراهيَة للدولة المعاصرة، و للإثنيات و الطوائف المجاورة، فتتقاسم جمعيها الثروات العامة كغنائم بينها، لا يردعها أي رقيب. يجتمع "الفاعلون" و يتصارعون و يتصالحون كأمراء حرب من غابر الزمان. و يتيح هذا المشهد البائس لأمراء الكرد حماة "العرض الكردي"، مع كل دورة سياسية، المشاركة في نهب الإقتصاد الوطني مع عين الأطراف التي يسوّقونها إلى الشارع الكردي كأعداء وجوديين لبقاء الكرد. فيشحنون المواطن الكردي بالكراهية و يعيدون عرض انفسهم حماة حمى المجتمع الكردي من الذئاب الـ"عراقية" المحيطة. ويلهث وراءهم يسار كردي متنكر لإرثه الـ"عراقچي"، فاقد لاستقلاله الأيديولوجي، و متقزّم في الشارع السياسي الكردستاني، و مختزل إلى كيان هامشي و طفيلي يعتاش من عطايا القوى المتحكمة في مقدرات الإقليم.

موسم الرقص العراقچي الجديد للقوى المتحكمة في إقليم كردستان بدأ. و يتصارع فيه أمراء الحرب الكرد على كعكة رئاسة العراق و غيرها من غنائم الدولة العراقية، و عراقچيتهم هي الآن على عينك يا تاجر. لكنها لا تنطلي على احد. فهم و معهم كل أمراء الطوائف المتحكمين في المشهد السياسي العراقي، يقدمون نموذجا مقيتا للـ "عراقچية" يعادي تطلعات كل العراقيين ببلد حر كريم مبني على المواطنة المتساوية.

يدرك المواطن الكردستاني بفطرته، لا بفضل كياناته السياسية المعتاشة على تشويه وعيه، أن خِيار المساهمة في انهيار العراق ككيان سياسي لن يكون إلا نذير شؤم على كل المجتمعات العراقية، و طريقا سريعا نحو حروب لا تكف عن التوالد بين مناطق النفوذ المشحونة ضد بعضها. و بقى لهذا المواطن الكردستاني أن يطور هذا الفهم إلى اعادة اكتشاف فكرة أن الضمانة الوحيدة لممارسة حقه في تقرير المصير هي دولة عراقية مدنية ديمقراطية تنهي تنمر أمراء الحرب و نهبهم للثروات الوطنية، و آن له أن يقبل سُبّة العراقچي بفخر… فقد أتته المذمة من ناقص!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحليل رائع و استشراف رأئي و لغة منعشة
حسين علوان حسين ( 2022 / 2 / 2 - 07:17 )
الأستاذ الفاضل الدكتور آلان م نوري الورد
تحية حارة
لقد أنعشني هذا الصباح مقالك الرائع في كل شيء هذا و اتطلع للمزيد .
كل الاعجاب و التقدير و الحب .


2 - بحث جدير بكل إعجاب
عبدالله عطية شناوة ( 2022 / 2 / 2 - 22:46 )
شكرا جزيلا للأستاذ آلان نوري على هذا الجهد التحليلي الرائع، للواقع الكردستاني والعراقي.

اخر الافلام

.. واشنطن تعتزم فرض عقوبات على النظام المصرفي الصيني بدعوى دعمه


.. توقيف مسؤول في البرلمان الأوروبي بشبهة -التجسس- لحساب الصين




.. حادثة «كالسو» الغامضة.. الانفجار في معسكر الحشد الشعبي نجم ع


.. الأوروبيون يستفزون بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال الق




.. الجيش الإسرائيلي ينشر تسجيلا يوثق عملية استهداف سيارة جنوب ل