الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أي اشتراكية نريد؟

هيثم بن محمد شطورو

2022 / 2 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


لماذا نفكر في الاشتراكية وأي اشتراكية نريد؟
هل يمكن أن تنفتح الاشتراكية وبالتالي تخرج من مربع الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبورجوازية بمثل ما حدد ماركس اشتراكيته "العلمية"؟
والسؤال الأهم في هذا الإطار كيف يمكننا أن نفكر في الاشتراكية في تونس اليوم وفي الوطن العربي وفي العالم؟
لماذا كانت الاشتراكية في العالم العربي مطلبا ثوريا عاما، لم يشتغل عليه الشيوعيون فقط وإنما الحركة القومية العربية، بل بعض الأنظمة المائلة للغرب وفرنسا تحديدا مثل تونس بورقيبة في الفترة الأولى بعد الاستقلال، في فترة حكومة احمد بن صالح؟ لماذا كانت الاشتراكية برغم كل نقائص التطبيق وبرغم الاقتصار في بعض مناحيها من بناء القطاع العام وبعض الصناعات العامة والإصلاح الزراعي خاصة في مصر عبد الناصر، دون البناء الثقافي الاشتراكي ودون التركيز على البناء الثقافي العلمي الثوري ودون خلق مساواة فعلية بين الناس، ودون حتى خلق حالة من التقارب الطبقي، ودون شمول الفعل الحكومي لمختلف مناطق البلاد، ودون الاعتماد على اشتراكيين يؤمنون بالاشتراكية في البناء القاعدي الذي كان بإمكانه أن يكون صلبا وبإمكانه خلق حالة تحررية شعبية فعلية؟ هل هو ضيق أفق أم نمط حكم قائم على الاستـفراد بالسلطة والرأي والإرتجالية وانعدام العلمية؟
على كل، لا يفيدنا النقاش في هذه المسألة إلا من حيث تسليط الضوء على حقيقة حضور الفكرة الاشتراكية وحقيقة سحرها في العالم العربي وحقيقة نضالها سواء في المعارضة اليسارية أو في الحكم من خلال تجارب حزب البعث في سوريا والعراق وتجربة الحكم الناصري في مصر وتجربة هواري بومدين في الجزائر وتجربة اليمن الديمقراطي التقدمي في جنوب اليمن والتي تم إجهاضها بقوة السلاح في حركة رجعية لازالت آثارها إلى اليوم، بمثل الحركة الرجعية الانقلابية للسادات على الناصرية والحركة الرجعية لبورقيبة/ نويرة، على التجربة الاشتراكية التي بنت الأسس الاقتصادية المتينة لتونس في عهد حكومة احمد بن صالح..
واليوم يبدو بشكل واضح أن الثورة العربية الشعبية التي انطلقت من تونس، هي ثورة ذات مضمون اشتراكي تحرري ديمقراطي، ولكنها محاصرة بمؤامرات تـزيـيفها و تحييدها عن مسارها التاريخي هذا، من جهة، ومن جهة أخرى فهي تخضع إلى عملية تغيير جذري، هذا التغيير ابتدأ بدحر الرجعية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وبروز البديل الشعبي الذي يُعبر عنها بالمطلب الأخلاقي السياسي ومطلب العدالة الاجتماعية ومطلب التنوير وإصلاح التعليم والغضب من الإعلام الذي في غالبيته يتمعش من واقع الرجعية في زمن ثوري يطلب نخب حقيقية وحرية مسئولة..
اليسار المعمي عن رؤية هذا المطلب الأخلاقي الواضح عند الغالبية من الشعب والمتجسد بشكل غامض في شعار "الشعب يريد" ومحاربة الفساد وتطهير البلاد من اللصوص الناهبين لثروة الشعب. الفكر الذي يغيب ما وراء هذه الشعارات هو فكر قاصر معيب يعاني من خلل اتضح انه مزمن. هذه الشعارات واضحة الدلالة في تعبيرها حول مطلب واضح ولكن الشعب لا يعيه نظريا نظرا لقصور اليسار وأمراضه وزيفه في كثير من وجوهه وخاصة زعاماته. المهم، ألا تعني هذه الشعارات بناء اشتراكي ديمقراطي شعبي؟ حين تحمس الشعب لمقولة تغيير المنظومة ومقولة البناء القاعدي وسحب الوكالة وشعار الشعب يريد، أليست كل هذه التعبيرات ذات دلالة اشتراكية؟ الشعب يريد في كليته وهنا يعني برنامج اقتصادي وسياسي شعبي. قلب المنظومة أي منظومة اقتصاد التمييز والراسمالوية الفوضوية الاحتكارية، وهنا تـتـنـزل منعوتات التطهير من اللصوص. من الأكيد أن "الشعب يريد" لا يمكن تعقلها بمنطق أن الدولة تستجيب لكل ما يريده هذا الجزء من الشعب، لأن ما يريده هذا الجزء يتعارض مع ما يريده جزء آخر، وبالتالي فـ"الشعب يريد" في كليتها لا تعني سوى بناء نظام سياسي اقتصادي يحقق مصلحة الشعب في عمومه. ما هو هذا النظام الذي بإمكانه أن يحقق مصلحة الشعب في عمومه؟ مصلحته في التـنمية والشغل والصحة والتعليم والثقافة والرقي الاجتماعي الحضاري. كيف يمكن أن يتم تحقيق مطلب الشعب يريد في بلد من العالم الثالث؟ في بلد غير أوربي له ماضي من الحراك الاقتصادي وتراكم الانجاز العلمي والثقافي وماضي من الاستعمار وتخزين الثروة من العالم وماضي من تجارة العبيد عبر البحار والمحيطات وغير ذلك من استغلال المناجم ونهبها من العالم. أي تحديدا خلافا للإمبراطوريات الأوربية الاستعمارية والولايات المتحدة، كيف يمكن لأي بلد أن يحقق التنمية والرقي الحضاري العام لعموم الشعب دون منظومة تكتلية قائمة على التضامن بين جميع القوى الحية وبواسطة خطط قائمة على العلمية والإرادة الوطنية والأخلاقية الصادقة في النهوض بمجموع الشعب؟
أليس البديل هو نظام سياسي اشتراكي ديمقراطي شعبي؟ هل هذه مسألة معقدة لفهمها ببساطة وبالتالي صياغتها بألف وجه وتنويعها وتفريخها معنويا بكل لون ونوع؟ وهنا من باب الحرية والاستقلالية الذاتية في التفكير التي لا يمكن بدونها بناء بديل حر مستـقل، فهل من الصعب إيجاد مختلف الطرق للتوحيد بين مجمل القوى الموجودة واستـنهاض القوى الكامنة بواسطة برنامج فكري ثـقافي وسياسي من شأنه أن يقنع أن مصلحة الجميع متمحورة حوله؟
إلى متى هذا التـشرذم والتناحر وواقع الأخوة الأعداء ونحن في النهاية أبناء وطن واحد ومصلحتنا لا يمكن أن تتحقق إلا بوحدتنا؟ ألا يجدر بنا كأناس عاقلون حاملون لمستقبل أبنائهم والأجيال القادمة في شغاف قلوبهم والحاملين لهم الإنسانية المقهورة والنافرين من كل مظاهر البؤس والألم العبثية التي بإمكاننا القضاء عليها بضربة ساحرة مدوية لو نحتكم فقط إلى العقل. العقل الباحث عن الوحدة بدل التشرذم. عن إرادة التعايش بدل التـقاتل. عن بناء ما يمكننا بتـفكير علمي لأجل النهوض جميعا. لأجل خلق سعادتنا في مجموعنا وليس العيش لأجل التمايز الوهمي السخيف الذي يصل إلى درجة الحقارة عن الآخر الذي هو أخي في النهاية. أخي في الإنسانية وفي الوطن.
يقول المهاتما غاندي : "يجب أن نكون التغيير الذي نريد". وبالتالي فمن يريد المصلحة الشعبية يجب أن يكون هو شعبي، وقد فسر بعض اليسار الزائف ذلك بالشعبوية، ولكن الشعب في عمومه قد بدأ بالفعل يعرف ماذا يريد أو بدأ يتلمس بديله ما أن يوجد أمامه حتى وان كان باهتا وغامضا من الناحية الفكرية، إلا أن الشعب يتحسس طريقه.
واستحضار المهاتما غاندي هو استحضار للنضال السلمي الشجاع القائم على مقولة الشجاعة الذاتية بما تعنيه من مقاومة أو روح مقاومة مستعدة للتضحية بالذات ولكن في اتجاه المواقف الشجاعة بتعبير سلمي، لان هذه المقاومة قائمة على حب الإنسانية جميعا وهذا الحب يستلزم حب العدو كانسان ولكن مقاومة خطيئته وجهله ونزقه وغرائزيته وأوهام القوة بالمال أو العنف. بالنسبة للمقاوم السلمي الممتلئ روحيا بالإيمان بالله والإنسانية الحقة والأخلاق الحقة السامية والحكمة والمعرفة، فإنه يشفق على عدوه الوقتي هذا. يشفق على ضيق أفقه وعلى جحيمية داخليته النفسية وسط نيران العنف والكره وغيبوبة حقيقة الوجود الفعلية باعتبارها حقيقة روحية معنوية سامية متمثلة في الحب والامتلاء بنور الحق الالاهي..
كيف يمكن للاشتراكي أن لا يكون بمثل هذه الروحية العظيمة، وكيف تكون اشتراكية حرة أخلاقية سامية دون هذه الروحية؟ يبدو أن الشهيد شكري بالعيد كان متمثلا لهذه المنظومة الأخلاقية حين كان يدعو باستمرار إلى النضال السلمي الديمقراطي..
في نفس هذا الخط يتـنـزل قول تشي غيفارا القائل: " الاشتراكية الاقتصادية الجافة لا تهمني ونؤمن خاصة بالإنسان، الذي هو أساس كل شيء.. إن الاشتراكية الحقيقية هي حين يصبح ضمير كل فرد هو الضمير الجماعي، والضمير الجماعي هو ضمير كل فرد."
والاختلاف الموضوعي مع غيفارا فقط في قضية النضال المسلح، نظرا لعدة أسباب، وأهمها أن الشعب قام بالثورة وان الظرف السياسي لا يطلبه، خلافا لحقيقة أن الدولة الحديثة قامت بعدة انجازات للشعب بحيث أنها لم تكن مجرد أنظمة استبدادية استغلالية واستعبادية، بل إنها أفادت عدة شرائح وخدماتها استفاد منها قطاعات عديدة من الشعب سواء في العمل أو التعليم أو الصحة أو الثـقافة، والمرحلة الحالية أساسا هي مرحلة شعب في حالة مخاض ودولة في حالة مخاض تريد تحقيق قفزة إلى الأمام ليعم السلام الاجتماعي وفق الروحية الحرة الجديدة. هذا ما يجب أن يطرحه بكل عمق أي اتجاه نحو بديل اشتراكي فعلي.
أما بالنسبة للزخم الماضي من الأدبيات الاشتراكية فيجب طرح العديد منها لان الزمن غير الزمن، إلا انه وبشكل إجمالي، فالاشتراكية الماركسية القائمة على مقولة الصراع الطبقي والحقد الطبقي يتوجب التفكير بجدية فيها من حيث تـنسيـبها مع الواقع المختلف جذريا عن الواقع الذي ظهرت فيه تلك المقولات. فنحن لم نعرف رأسمالية تقابلها برولتاريا كبيرة بائسة، أولا، وثانيا فطبيعة ثـقافـتـنا العربية الإسلامية المتضمنة للتضامن والتعايش والتراحم بين الناس بمختلف سلوكياتها منعت وجود طبقية جامدة وجافة وقاسية، بل ذوبتها، فحتى العبيد تاريخيا أو الخدم كانوا في الأعم لا يعاملون كعبيد بل كأفراد أسرة في طعامهم وملبسهم ومخاطبتهم وانما الاختلاف في ان لهم دور الخدمة فقط والخدمة كان يشترك معهم فيها أبناء الأسياد وخاصة في الأعمال الزراعية. يعني يجب أن نفكر في الأمور بمنطق التنسيب وعدم الأخذ الجاهز للأفكار دون معاكستها مع واقعنا، إضافة إلى حقيقة أننا كعرب وكحضارة عربية إسلامية لنا زخم حضاري إنساني وأخلاقي مازال بعضه فاعلا إلى اليوم، وبالتالي فالقاعدة الأساسية لأي إمكانية تغيير هو خلق تواصل فكري حقيقي مع الأرض والشعب وليس الإنبتات عنه كروحية وثـقافة عامة وككينونة متـشكلة تاريخيا وأفق المستقبل في خطها التاريخي. لا يمكن الدفاع عن الإنبتاتية باسم عدم السقوط في الشعبوية، فحتى أكثر أشكال الشعبوية رداءة يكون لها إمكانية الفعل تاريخيا مثل الإسلام السياسي، أما التكبر على الشعب واحتـقاره والإنبتات عنه لا يحقق في نهاية المطاف سوى إقصاء الذات عن أي إمكانية فعلية للفعل التاريخي، فما بالك عن التغيير وتحقيق أهداف الثورة..
فالاشتراكية العلمية الوحيدة الممكنة عربيا هي التي تنفتح بصدق على محيطها المجتمعي أفقيا وتـنـفتح على العمق الشعبي روحيا في ثـقافته وكينونته التاريخية في اتجاه أفقها المستـقبلي الممكن..
يجب أن ننظر إلى الاشتراكية ليس كنموذج نستورده، وإنما كفكرة شمولية جوهرية نؤمن بها كيوطوبيا وحلم وإمكانيات تحقق في الواقع وفق منطق التوحيد وليس التفريق ومنطق الغفران وليس الحقد ومنطق المحبة وليس الكره. نؤمن بها كمجتمع أخلاقي متضامن يعبر فيه الفرد عن المجتمع ككل ويعبر فيه المجتمع عن كل فرد في إطار دولة عادلة رحيمة بأهلها تحترم إنسانية الإنسان. اشتراكية تحقق حديث رسول الله محمد القائل عن مجتمع المؤمنين كالبنيان المرصوص والقائل انه كالجسد إن اشتكى منه عضو تداعى له كل الجسد، وان المؤمن ليس من يبيت شبعانا وجاره جائع، أي أن يسال الناس بعضهم بعضا عن أحوالهم ويفكرون في بعضهم ويتراحمون.. كل تلك القيم العظيمة كيف تتشكل في نظام سياسي عام؟ نظام أخلاقي عام؟ نظام حضاري عام؟ هذا ما يجب أن يطرحه الاشتراكيون على أنفسهم بشكل عام.
اليوطوبيا الاشتراكية هي المجتمع السعيد المتعايش الواعي المتحضر. هنا حيث مجتمع السعادة الذي يؤمن ويجسد الحب والحب بما هو حرية ذاتية واحترام حرية الآخرين وهذه الحرية متعالية، من حيث هي أخلاقية عقلانية أساسا قائمة على كرامة الفرد في التزامه الذاتي الحر بأخلاق الرفعة والتضامن والعشق للجمال وإرادة تفهم الآخرين وليس الحكم الاقصائي لهم، وتمثل جميع إمكانات تحقيق الحرية وفق الاعتراف المتبادل والتواصل والانصهارية بين كل الأفراد. وهنا نكون في اتجاه تحقيق مجتمع المصداقية مع الذات والآخر ومجتمع الثقافة والحرص على حياة الروح وانفجار المعنى. مجتمع الانقلاب من عقلية الحرام إلى عقلية الإباحة الممكنة المعترف بها حرصا على المصداقية والنزاهة مع الذات والآخر..
حين تتكون هذه الكتلة الحضارية التاريخية فساعتها فقط يكون الحال الوحيد الممكن سياسيا هو الاشتراكية الديمقراطية في اتجاه السلام الذاتي والجماعي.. هذا ما يتوجب على الاشتراكي الذي يريد تحقيق أهداف الثورة أن يعمل عليه في كل الاتجاهات على أساس التواصلية وليس القطيعة وعلى أساس مقولة مركزية هي الحب.. الله محبة والحب هو الله. من هنا نتواصل مع جوهريتنا الحضارية التاريخية التوحيدية القرآنية المحمدية في ماهيتها الجديدة...هنا فقط تكون ثورة بحق...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تظاهرات في جامعات أميركية على وقع الحرب في غزة | #مراسلو_سكا


.. طلبوا منه ماء فأحضر لهم طعاما.. غزي يقدم الطعام لصحفيين




.. اختتام اليوم الثاني من محاكمة ترمب بشأن قضية تزوير مستندات م


.. مجلس الشيوخ الأميركي يقر مساعدات بـ95 مليار دولار لإسرائيل و




.. شقيقة زعيم كوريا الشمالية: سنبني قوة عسكرية ساحقة