الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متلازمة الإستبداد السياسي والفساد في الوطن العربي

عزالدين معزة
كاتب

(Maza Azzeddine)

2022 / 2 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


يوجد في العالم العربي من محيطه إلى خليجه ما يكفي لسد كل حاجات الإنسان فيه، ولكن ليس ما يكفي لإشباع جشع المستبدين والفاسدين.
ما يؤدي للفساد بشكل حتمي هو اجتماع الدكتاتورية السياسية مع الجشع الاقتصادي معا في النظام الحاكم، وهذه هي الحالة المسيطرة للأسف في معظم بلاد عالمنا العربي. وعلى الرغم من أن معظم البلاد العربية غنية بالموارد، إلا أن هذه الثنائية أدت إلى تراكم ثروات هذه البلاد في أيدي قلة قليلة من المتنفذين الجشعين. هذه الثروات المكدسة في يد الأقلية القليلة، لا يتم استخدامها في غالبيتها الساحقة لدفع أي عملية تنموية في البلاد، بل يكون مصيرها إما التهريب لتوضع في بنوك خارجية بأسماء وهمية، حتى لا ينكشف أمرها، تماما كما يفعل اللصوص وتجار مافيا المخدرات والجريمة المنظمة العابرة للدول، أو يتم دفعها لنيل رضا وقبول "ضباع العالم" لضمان دعمهم في البقاء والاستمرار في السلطة أو يتم إهدارها ليلا ونهارا بشكل مستفز ومثير للاشمئزاز أمام أعين الشعوب المسحوقة.
في هذه الحالة يصبح انتشار الفساد حتميا كالمرض المعدي من رأس السلطة نزولا إلى كافة أعضاء الجسم السياسي والإداري للدولة. فالنظام الفاسد لا يمكن له أن يحيط نفسه بأشخاص ليسوا فاسدين، وهؤلاء بدورهم لا بد من أن يحيطوا أنفسهم بدائرة من المعاونين الفاسدين، وبهذه الطريقة تماما تتوالى دوائر الفساد وتتشعب وصولا إلى أدنى المراتب الإدارية، فيضطر الناس للتعامل معها وتتحول تدريجيا بالتالي إلى ثقافة شعب إلا من رحم ربي. ويضيف السعيد بوطاجين قائلا: " إننا نعيش مرحلة مأسوية، ما يشبه غيبوبة في ظل انمحاء أي مناعة تجنب هذه الأوطان انقسامات وصدوعا وشيكة. لا شيء يؤطر حراك الشارع العربي سوى الجوع والشعور بالمذلة، وهو شعور أنتجته زعامات قائمة على التوريث والتأليه، وثقافات لا تعرف حقيقة الشعوب."

إن محاربة الفساد في مثل هذه الحالات تتحول في كثير من الأحيان إلى مسرحيات كوميدية مضحكة ومبكية في الوقت ذاته. فبينما يصيح رئيس إحدى الدول العربية مخاطبا شعبه بأنهم "فقراء جدا" وأن عليهم التحمل والصبر وشد الحزام الذي قارب على الانقطاع أصلا لكثرة الشد، يقوم هو بوضع السجاد الأحمر ليسير موكب سياراته عليه لعدة كيلو مترات. أما في بلد أخر وبينما يقوم القائد المقدام بحملة شرسة لمحاربة الفساد والمفسدين من أكابر القوم في دولته، يقوم هو شخصيا بشراء يخت فاخر أو لوحة فنية بمئات ملايين الدولارات دون أن يرف له جفن ودون أن يخشى المحاسبة، بينما يرزخ الكثير من مواطنيه تحت خط الفقر. كتب أحد المدونين العرب في منصات التواصل الاجتماعي: " الموظف البسيط، عندما يقبض راتبه الشهري، الأسبوع الأول منه يأكل الدجاج، والاسبوع الثاني يأكل بيض الدجاج، والاسبوع الثالث يأكل ما يأكله الدجاج، والاسبوع الأخير من الشهر يصبح هو دجاجة "
على مر مئات السنين، تنازعت العرب بموروثهم الديني والفكري وواقعهم السياسي المتردي، نظرتان متضادتان، إحداهما تحمّل الرعية "المواطنين" مسؤولية استبداد الحاكم وظلمه وفساده، لكونه يجسد ظلمهم وفساد أخلاقهم أو لكونه نتاجاً لضعفهم وتخاذلهم، والأخرى ترى أن السلطة الاستبدادية أصل كل فساد ومنبع كل بؤس، وأن ما أصاب المواطنين ما هو إلا نتاج قمع الحاكم.
فهل أفسد استبداد السلطة السياسية المواطنين وأنزل بهم الفقر والمعاناة؟ أم أن الاستبداد السياسي نتاج فساد الشعب وظلمه؟ وهل الإصلاح يبدأ بتغيير رأس السلطة السياسية أم أن التغيير يجب أن يبدأ من القاعدة الشعبية؟
لقد نجحت أنظمة الاستبداد السياسي في منطقتنا في تحويل مجتمعاتنا إلى مجتمعات ميتة سياسيا وفقيرة اجتماعيا واقتصاديا، ولذا فقد غدت قليلة الفاعلية والأثر ليس فقط في أحداث العالم بل في قضايا العرب المصيرية إلا على نحو سلبي وعقيم. كما نجحت هذه الأنظمة على امتداد كل هذه السنوات الطويلة منذ عهود الاستقلال حتى الآن في سحق إرادة شعوبنا العربية وإفشال وقتل معظم القيم الإيجابية فيها.
دراسة حديثة صادرة عن منظمة العمل العربية إن الخسائر المتراكمة للدول العربية نتيجة هجرة الأدمغة العربية تصل الى نحو 200 مليار دولار، وتحدثت الدراسة عن أسباب هجرة الأدمغة العربية موضحة أن أبرزها يتمثل في الاستبداد السياسي في الدول العربية، ونظم التعليم الفاشلة والعقيمة، وعدم رعاية الموهوبين. وقالت الدراسة إن هذه الأسباب مجتمعة تدفع العقول والكفاءات العلمية للفرار من الوطن العربي، الى الدول الغربية التي تحتضنها وتوفر لها كل أسباب النجاح والتقدم. وأشارت الدراسة الى أن ما نسبته 75 في المائة من العقول العربية المهاجرة تتركز في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا، وتتوزع ما بين 60 في المائة للعلماء المصريين، و10 في المائة للعراقيين واللبنانيين، و5 في المائة لكل من الأردن وسوريا وفلسطين،
وفي الجزائر، عشرات الآلاف من الأطر والباحثين والمهندسين والأطباء الذين كونتهم الدولة الجزائرية في جامعاتها، يغادرون البلاد كل سنة بحثا عن مستقبل أفضل في الخارج، ما يُشكل نزيفا حقيقيا لاقتصاد الجزائر ولمستقبل التنمية فيها.
تحت عنوان "هروب العقول متواصل باطراد في الجزائر" كتبت صحيفة "ريفليكسيون" الجزائرية الناطقة بالفرنسية في عددها الصادر اليوم (الخميس السابع من فبراير/ شباط 2019) "الجزائر فقدت ما لا يقل عن مائة ألف شخص من حاملي الشهادات العليا منذ عام 1990، وهو ما يعادل عشر مليارات دولار يتعين استعادتها من البلدان التي تشغل الجالية الجزائرية".
في فرنسا وحدها يعمل ما لا يقل عن خمسة آلاف طبيب جزائري.
يركز الأكاديميون على العوامل السياسية كأهم عامل طارد للعقول، ويقولون إن قمع الأنظمة السياسية الحاكمة وكراهيتها لأصحاب العلم والمعرفة يدفعها لاتخاذ إجراءات قمعية ضد المثقفين والعلماء والمفكرين والأكاديميين، من أجل طردهم تحت مظلة الهجرة الطوعية.
فالحاكم الطاغية عقاب إلهي للرعية على فسادها وظلمها، وجاء في حديث نبوي أن الله يقول: " أنا ملك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم " أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" 8962
اما تفسير القرطبي فينقل لنا مقولة لابن عباس فيها: "إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم، وإذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم".
وفي الخبر عن النبي صلى ﷲ عليه وسلم: (من أعان ظالماً سلطه ﷲ عليه)

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِـمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]
ويقول الرازي رحمه الله تعالى: « أن الرعية متى كانوا ظالمين، فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم»،
إن طباع الرعية نتيجة طباع الملك، فالعوام إنما يبخلون، ويركبون الفساد، وتضيق أعينهم اقتداء منهم بملوكهم، وفي كل زمان تقتدي الرعية بالسلطان ويعملون بإعماله". تلك الكلمات جاءت ضمن رسالة كتبها أبو حامد الغزالي للسلطان محمد بن ملك شاه السلجوقي والتي قال فيها "إن صلاح الناس في حسن سيرة الملك، ومتى كان السلطان بلا سياسة، أفسد سائر أمور بلاده"، وذلك وفق كتاب "صلاح الأمة في علوم الهمة" لسيد حسين العفاني.
وجاء في الأثر حسب ما أورده ابن الأثير في كتاب "النهاية في غريب الحديث والأثر" :"إذا صلح الراعي صلحت الرعية"، و"إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ذلك أن القرآن يدعو للعدل والسلطان يقيمه على الأرض.
ثمة رؤية تحمّل مسؤولية الاستبداد للنخب وعلماء الدين، فإذا نظرنا إلى فساد الرعية وفق ما يقوله ابن النحاس في "تنبيه الغافلين"، وجدنا سببه فساد الملوك، وإذا نظرنا إلى فساد الملوك وجدنا سببه فساد العلماء والصالحين، وإذا نظرنا إلى فساد العلماء والصالحين وجدنا سببه ما استولى عليهم من حب المال والجاه وانتشار الصيت ونفاذ الكلمة ومداهنة المخلوقين.
واللبنة الأولى في صناعة الطغاة تتمثل في النخب الكسيحة التي تخضع للاستبداد، وتروج للطاغية، وتتماهى مع أفكاره الشمولية وقراراته السلطوية، وتصمت عن تعسفه وبطشه، وتتمنى ألا يصيبها بعضٌ من رذاذه.
ويعاني العالم العربي من نخبة سياسية متخندقة، إذ خلقت الأنظمة هذه الطبقة من المجتمع لدعم حكمها، وصنع القادة أنظمة ريعية، واشتروا الولاء عبر تقديم الخدمات
يربط البعض الاستبداد بطبيعة الأنظمة السياسية العربية، في مرحلة ما بعد استقلال الدول العربية الحديثة، إذا استلمت الحكم أنظمة عسكرية انقلابية جمّدت الحياة السياسية وهيمنت على مؤسسات الدولة وعظّمت دور الأجهزة الأمنية، ملغيةً المجتمع المدني.
وثمة تفسيرات وتحليلات أكثر عمقاً من ثنائية الحاكم والمحكومين، كشفت عن ماهية الاستبداد العربي الحديث.
تحدث المفكر السوري برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السوربون، في كتابه "المحنة العربية: الدولة ضد الأمة" عن "الدولة التحديثية العربية"، وهي نموذج مختلف عن الدولة الحديثة"، فهي ليست دولة وطنية (دولة-أمة)، ولا دولة ديمقراطية"، ويرى أن "في وظيفة هذه الدولة وتصورها ومفهومها الأصلي عن نفسها ودورها التاريخي تكمن كل عناصر السلطة المطلقة الحديثة".
ويعتبر أن أصل الاستبداد الحديث هو هذه الدولة التحديثية ذاتها. وبرأيه، "ليس من الممكن فهم الأزمة الكبرى التي تعيشها المجتمعات المتأخرة اليوم، إلا بإدراك إفلاس هذه الدولة، وما نجم عنه من تجيير السلطة الاحتكارية التي طورتها لصالح الفئة المتحكمة بها، وبالتالي إضافة الفساد الشامل إلى الاستبداد المطلق".
ويؤكد المفكر السوري أن "الدولة العربية منذ ولادتها كانت تحمل بذور الهيمنة على المجتمع الذي تولت الحكم في إطاره". فقد قوّت سلطانها على حساب المجتمع وجيّرت إنجازاتها لصالح الفئة الحاكمة فيها "ثم أضيفت الشعارات القومية والأيديولوجية وتوحيد الأمة وبناء المجتمع الاشتراكي في مواجهة الرجعيين والنفعيين بهدف التنظيم المحكم للمجتمع، وارتبط ذلك كله بتطوير المؤسسات الحديثة من إدارة وجيش وأمن ومخابرات لتحصين نفسها بعدد من الأجهزة ذات الطبيعة القسرية والقمعية".
النظام المجتمعي العربي، وفق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة الدكتور سعيد صادق، يمثل "دائرة قمع جهنمية، فالأب يقمع الأسرة والأم تقمع أبناءها والأخ الأكبر يقمع الأصغر منه، والطبقات الاجتماعية العليا تقمع الطبقات الأدنى منها، وكل فئة مهنية تحتقر الأخرى".
فالكل يلوم الآخر، ويحمّله نتاج التخلف والاستبداد والفساد والفقر، فـ"الشعوب تلوم الحكام والعكس صحيح، والتيارات السياسية تلوم بعضها البعض فالإسلاميون يحملون العلمانيين أسباب الاستبداد والفساد، والعلمانيون يرون الإسلاميين رمزاً للتخلف".
الجميع على خطأ. ولا يقدم أي منهم حلاً شاملاً لا يقصي الآخر، كما لا يمكن تحميل الحكام وحدهم إرث التخلف والاستبداد، فعلى التعصب والقبلية المسيطرين على الشعوب العربية مسؤولية أيضاً.
ويرتهن الخروج من دائرة الاستبداد، بنشر الوعي ورفع كفاءة النظام التعليمي ووجود إعلام حر، وقيام منظمات المجتمع المدني بدورها كسند للشعب في مواجهة الاستبداد السياسي والفساد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم


.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..




.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية


.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها




.. -أحارب بريشتي-.. جدارية على ركام مبنى مدمر في غزة